تظل اليابان الحديثة، بالنسبة إلى الأجانب، ولاسيما أبناء الثقافات الدينية التوحيدية، عصية على الفهم في كثير من الميادين . فالمنطق الذي يحكم داخل الديانات السماوية المعروفة وداخل البنى الفلسفية المتوارثة عن اليونانية، لاعلاقة له إطلاقا بما حدث ويحدث في اليابان. لذلك مايراه الغربي، والعربي ضمنا، تناقضا، سيكون «منطقيا» في نظر الياباني . ومن هنا صعوبة نقل، أو تعميم التجربة اليابانية إلى الخارج، حتى إلى أوروبا المتقدمة والتي تعتبر نفسها أم هذه التجربة : كل مادخل إلى هذه الجزر تيبْنن، وكل ماتيبننَ يتعذر خروجه، ليس لأن الياباني لايريد، بل لأنه لايعرف كيف يعيد . والأوربيون يدركون ذلك جيدا، كما يدركون حاجتهم إلى الكثير من تفاصيل تجربة الحداثة اليابانية .
لذلك لم تكف اليابان، حضارة وثقافة، قديما وحديثا، عن إثارة فضولهم . هكذا انتشرت أقسام اللغة اليابانية في غالبية الجامعات الأوروبية، وامتلأت المكتبات بأمهات الكتب اليابانية المترجمة، ولاتكاد نشرة دورية تخلو من مادة دسمة حول هذا البلد- الأحجية .
…..إن الأجانب، الذين عاشوا أو يعيشون في اليابان، يتقاطعون في انطباعاتهم عن هذا البلد وفي أسئلتهم حوله . ولي تجربة خاصة على هذا الصعيد، نقلت بعضها في حواراتي مع قسم من شعراء الحداثة اليابانيين (انطولوجيا الشعر الياباني الحديث، ط٢، 2005، دمشق، دار التكوين)، ودونت بعضها الآخر في كتاب مستقل (غابة المرايا اليابانية، مقدمة ذاتية، ط١، 1998، بيروت، دار الكنوز الأدبية)، ولايزال بعضها مخطوطا أو في إطار التكون، لأنني مازلت أعيش هنا . إن الأسئلة التي تطرحها جولي بروك، في هذا الحوار، على كاتو- شوإيتشي، تبدو وكأنها تتمة لحواري مع الشعراء اليابانيين، أو لحوار أي أجنبي «توحيدي» مع مثقف ياباني، أو حتى مع ياباني عادي . أعني أن هذا الأجنبي لايستطيع إلا أن يطرح هذه الأسئلة، لأن اليابان بما هي عليه، بوعي أو بدون وعي، لاتتيح، كثيرا، الإختلاف في الأسئلة . من هنا تأتي أهمية نقل هذا الحوار إلى القارئ العربي . ولاسيما أنه حوار مع أحد ألمع المثقفين اليابانيين المثيرين للجدل، وأحد ستارات الشاشة الصغيرة، إضافة إلى أنه أحد أهم المخضرمين الأحياء، الذين عايشوا اليابان، حبا ونقدا، منذ ثلاثينات القرن الماضي وحتى اليوم .
ولد كاتو- شوإيتشي سنة ١٩١٩ بمدينة طوكيو، وتخرج طبيبا من جامعتها. مؤرخ ثقافات. رئيس تحرير موسوعة اليابان الكبرى . اشتهر في الإعلام الياباني بمواقفه النقدية واستقلاله الفكري .
E تساءلت، وأنا أكتب اسمك في أعلى الصفحة، كيف أقدمك للقارئ الأجنبي. لأنك، وفي آن، متخصص بارع بالتاريخ والأدب، ورحالة لايكل، وصاحب مؤلفات مرجعية للبحوث الراهنة باليابان وعن اليابان. ولكن إذا كان لابد من إيجاز الأمر بكلمتين:
فهل أنت متخصص بالأدب الياباني، مؤرخ للأدب، فيلسوف، ناقد، باحث، مدرّس، أو…. صحافي كما يقول بعضهم ؟
?552; سأقول إنني في الجوهر مؤرخ أفكار. لكنني أيضا مارست كتابة ونشر الرواية والمسرحية والشعر. يمكن أن يقال في الأخير إنني صحفي،لأنه عندما يتاح لنا أن نخاطب عددا كبيرا من الناس، فذلك يستدعي مسؤولية أكيدة على الصعيد الإجتماعي ولاسيما في اختيار وتحديد الموضوعات. لنفترض أنني قادر على نشر ماأريد في الصحف، وبالتالي أستطيع الكلام في الفن وليس في السياسة : وهذا يعني في نظر الجمهور أن الفن أهم من السياسة. لكن لنقل إن الموضوع هو السياسة تحديدا : إذا توفرت فرصة التعبير ولم نعبر، فذلك يعني ضمنا أننا مع الحالة السكونية الثابتة. مثلا عندما تفكر الحكومة بتغيير الدستور ويطلب منا التعبير عن رأينا في الصحافة، فنحن أمام ثلاثة خيارات :
الأول هو الوقوف إلى جانب الحكومة لأن التغيير يبدو لنا صحيا، والثاني هو الوقوف ضد الأمر لسبب أو لآخر، والثالث هو الصمت أو الكلام على موضوع لاعلاقة له بالدستور، وفي هذه الحالة نبرر للحكومة ماتقوم به دون الإفصاح عن ذلك.
طبعا، هذه المشكلة لاتعني من ليست لديهم فرصة الكتابة في الإعلام، لكن مادام الأمر متاحا لي وأطالب بالتعبير فإنني أشعر بواجب الإفصاح عن رأيي. وإن لم أفعل، فالأمر يعني أنني إلى جانب الأقوى ومتفق مع الأغلبية على ترك الأشياء تتابع مسارها، أو على تحويلها توافقيا، أي من دون تغيير حقيقي. شخصيا لا أستطيع الصمت، ليس لأنني ميال إلى التدخل في السياسة، بل لأنني أعتبر إبداء الرأي في المشكلات الطارئة، جزءا من مسؤوليتي الإجتماعية.على أية حال، عندما نكتب في الصحافة، حتى وإن كان حول الفن، هناك دوما شيء من السياسة. ينبغي أن نفهم ذلك قدرالإمكان ونتصرف على هذا الأساس.
وهناك دوافع أكثر من شخصية للكتابة في الصحافة: لأنه أيام الدراسة الجامعية استدعي أغلب أبناء جيلي إلى الجيش، وذهبت غالبيتهم تقريبا إلى الحرب ولم يعد جلهم من هناك. لماذاماتوا فيما لاأزال أنا على قيد الحياة ؟ أعتقد أنها المصادفة لاغير. لو كان بإمكانهم العودة إلى الحياة، فماذا كانوا سيقولون عن الحرب ؟ على الأقل كانو سيقفون ضدها، أليس كذلك ؟ ولهذا عندما تفكر اليابان بالعسكرة والتعسكر أكثر، لاأستطيع الصمت. أشعر بخيانة أصدقائي الذين لم يعودوا إلى هنا للإحتجاج والرفض. أتكلم عنهم وبلسانهم، إنها في نظري مسألة أخلاقية. بهذا المعنى، يمكن القول إنني صحفي، وبهذه الصفة أعبر عن رأيي بالمشكلات المعاصرة.
E عندما نشر كتابك «تاريخ الأدب الياباني» بترجمته الفرنسية، كتبت المترجمة جاكلين بيجو تقول إنه ليس تاريخا للأدب بالمعنى الخاص للكلمة، بل هو تاريخ للأفكار، للثقافات ولطرق التفكير، فما رأيك ؟
?552; فعلا، أذكر جيدا ذلك المقال، وأعترف صادقا أنني سررت بقراءته آنذاك….. إن مفهوم الأدب في الغرب وفي الولايات المتحدة يحصر، كما نعرف، ضمن حدود ضيقة جدا. لنأخذ حالة باسكال أو روسو بفرنسا مثلا : إن المزايا الأدبية لمؤلفاتهما لاتحول دون الاعتراف بهما كمفكرين أو فيلسوفين في مجاليهما المعروفين، التيولوجيا والتربية، أو السياسة. لكن إذا اقتصرنا على المعايير الأكاديمية الدقيقة، فلن نستطيع دراسة جان جاك روسو أدبيا إلا من خلال «هيلانة الجديدة» وليس من خلال «العقد الإجتماعي» أو « إميل».
والمعيار لايزال أكثر حصرا في اليابان : ففي عصر إيدو الذي يمتد تقريبا ثلاثة قرون من 1600إلى أواخر القرن التاسع عشر، مع أن عصر ميجي يبدأ رسميا 1867 لكن للثقافة حساباتها الخاصة. فقد احتل الكونفوشيون أهمية كبرى، فهم الذين كانوا يقررون ماهو من الأدب أو لا، وذلك وفق معايير سياسية وأخلاقية بالدرجة الأولى. ولم يكونوا يثمنون جيدا أعمالا مثل «كانجي – مونوغاتاري» { حكايات أو سيرة كانجي… أحد أهم الكتب التراثية اليابانية القديمة. } كان موتوري – نوري ناغا } 1081 -0371 { أول من برهن على أن قيمة العمل لاتتعلق بالمعيار الأخلاقي، بل وبقيمته الجمالية أيضا. ويرى أن «سيرة كانجي» تدخل في إطار الأدب، كما ويعطي للشعر قيمته الحقيقية. لكن ماينبغي الإلتفات إليه، هو أنه يميز مظهرين في الأدب : أحدهما سياسي وأخلاقي، والآخر أدبي محض أو جمالي.
إن وجهة نظر نوري ناغا، وضمن سياقها التاريخي، توضح أن ورثته، الذين تابعوا الدراسات الأدبية وفق المعيار الجمالي، اشتغلوا على نصوص اللغة اليابانية، مستبعدين من مجال الدراسة الكتابات الكونفوشية. كانت جميع الكتابات الفلسفية والأخلاقية، والعلمية، وحتى نهاية عصر إيدو، أي نهاية القرن التاسع عشر، مكتوبة باللغة الصينية القديمة، أي الكان- بون – كما هو الحال في العصور الوسطى الأوروبية حيث كان كل شيء باللاتينية – بينما كانت توجد في موازاة ذلك اللغة الشعبية، أي اليابانية، التي كانت تستخدم للمسرح والشعر والمراسلات….إلخ. إن استبعاد الكتابات الكونفوشية المكتوبة بالكان- بون أدى إلى غياب نصف الأدب الياباني من مجال الدراسات الأدبية. وأفترض أن الظاهرة نفسها حدثت في البلاد الأوروبية، حيث تقدمت اللغات المحلية على اللاتينية بالتدريج. تقود هذه الظاهرة إلى تأكيد الأدب الياباني كما هو، لكنها تقود في الوقت نفسه إلى إفقار التراث الأدبي إذ تستبعد قسما كبيرا منه. وخير مثال على ذلك كاتب من عصر إيدو هو أراي – هاكوسيكي (1657- 1725) الذي كتب ثلث أعماله باليابانية والثلثين الآخرين بالكان- بون. وينطبق الأمر ذاته على أوغيو- سوراي الذي كتب جميع أعماله، ماعدا المراسلات، بالكان – بون، أي 90٪ من إنتاجه. ولهذا لاينتمي سوراي إلى التاريخ الأدبي الياباني، وليست هناك أية دراسة حوله. إن الأنتليجنسيا في القرن التاسع عشر هي بشكل أساسي كونفوشية. وإذا حذفنا نتاجاتها من التاريخ الأدبي بحجة أنها غير مكتوبة باليابانية، فإن مايبقى لايعدو كونه أدبا عاطفيا أساسه الشعر والملاحم. وإذا قرأنا مثلا النماذج الأدبية الجمالية المكتوبة باليابانية كمسرحيات تشيكاماتسُ – مونزايمون (1753- 1724)، أو أشعار الهايكو، سوف نفضي إلى أن اليابانيين لم يطوروا أي فكر ثقافي، فلسفي أو موضوعي. لكن ذلك غير صحيح أبدا، لأن مثقفي عصر إيدو أنتجوا كثيرا من المؤلفات الفكرية، لكنها باللغة الصينية القديمة، أي الكان- بون.
بعد عصر ميجي، وبفعل التأثير الغربي، سيضيق حقل الأدب أكثر بحيث لايبقى شيء مهم يمكنه أن يشكل تاريخا للأدب جديرا بهذا الاسم. ولذلك ألحُّ كثيرا على ضرورة توسيع مفهوم الأدب. أعتبر أنه ينبغي أن يشمل ليس فقط الأعمال المكتوبة بالصينية القديمة، بل لا أعرف لماذا ينبغي، على صعيد المحتوى ايضا، أن نحصر مجال الأدب بالشعر والرواية والمسرح. فالأعمال الفلسفية أو السياسية يمكن أن تكون ذات قيمة أدبية يعترف بها إذا كانت مكتوبة بشكل جيد. لهذا، وكما تشير المترجمة جاكلين بيجو، يدخل في كتابي «تاريخ الأدب الياباني» عدد كبير من المؤلفين الذين لم يذكروا إطلاقا في أي كتاب لتاريخ الأدب الياباني.
لكن أعود الآن إلى السبب الذي أملى ضرورة هذه الخطوة كما أرى. عندما نتحدث عن تاريخ الأدب، نتحدث أولا وقبل كل شيء عن التاريخ. غير أن التاريخ ليس مجرد إحصاء لأحداث الماضي وفق التسلسل الزمني. هناك رابط بين ماحدث من قبل وماحدث من بعد، وإذا انعدم هذا الرابط يكف التاريخ ان عن يكون تاريخا ! لأن التاريخ يفترض أن المصادفة ليست هي التي أنتجت هذا الترابط والتسلسل في الزمن. وإذن، فاعليته، وبإدخال منطق سببي، هي البحث عن علة جريان الوقائع وفق نظام معين. إذا كان الإحصاء أداة لابد منها للمؤرخ، فإن صعوبة عمله الحقيقية هي الوقوف على محصلة تبدو بفضلها كل واقعة وكأنها نتيجة لأخرى. والإجراء هو هو نفسه في حالة التاريخ الأدبي. لماذا يسبق هذا العمل الأدبي أو يلحق عملا آخر؟ من الصعب تكوين فكرة حول الموضوع . إن التعريف الضيق جدا لمفهوم الأدب، والذي يتجاهل قسما كبيرا من الأعمال، يجعل المهمة أكثر صعوبة، لأننا سنفتقر إلى عناصر التثمين كي نحكم على تطور الفكر المبثوث داخل الأعمال. حول هذه النقطة بالتحديد تتمحور إشكالية كتابي «تاريخ الأدب الياباني». ماكان يشدني في هذا البحث هو الكشف عن الروابط التي من خلالها تداعى الكتّاب فيما بينهم وتجاوبوا ليطوروا، بتتابع مؤلفاتهم، فكرا نستطيع تسميته فكرا يابانيا.
ثم هناك شيء آخر لاحظته جاكلين بيجو جيدا، وهو اهتمامي بالثقافة التي تتجلى في الأدب.
أعتقد أن كل ثقافة، مأخوذة في مكان وزمان معينين، تنعكس داخل الأعمال الأدبية. لكل مجتمع ثقافته الخاصة، وكل ثقافة تصدر عن منهج من التفكير، عن منظومة فكرية معينة، وعن شكل من أشكال البلاغة، سواء على الصعيد السياسي أو الإقتصادي أو غيرهما. وإذا تطور المجتمع، فإن الثقافة تتطور معه ضرورة، وفي الوقت ذاته يتطور الفكر الذي يترجم نفسه داخل الأدب. إن تاريخ الأدب، بالنسبة لي، يشترك مع تاريخ الفكر بالمعنى الواسع للكلمة ويشمل التطور الإجتماعي والثقافي معا. وهذا هو سبب إلحاحي على ضرورة توسيع مفهوم الجنس الأدبي.
E تشير جاكلين بيجو في المقال نفسه إلى أنك قدمت من خلال هذا الكتاب عملا موسوعيا ضخما. بإيجاز، ماذا كانت أهدافك الأساسية آنذاك عند إنجاز هذا المشروع ؟
?552; كما قلت لك، الفكرة الجوهرية التي أود الدفاع عنها هي ضرورة توسيع مفهوم الجنس الأدبي. ولذلك ينبغي التفكير أولا بالمكانة التي يراد إعطاؤها للأعمال المكتوبة بالصينية القديمة. هل سنستمر في تجاهل أفضل مبدعي عصر إيدو أم سنقرر ضمهم إلى تاريخ الأدب الياباني ؟ ثانيا، ينبغي التساؤل حول المكانة التي يراد إعطاؤها لأعمال اللهو والتسلية (راكو- غو) التي غايتها إضحاك الجمهور. هناك قليل من الوثائق التاريخية المكتوبة باللغة المحكية في عصرها، غير أنها موجودة. في تواريخ الأدب الياباني التي نشرت حتى اليوم، لم تؤخذ بعين الإعتبار المؤلفات الفكرية الموضوعة بالصينية القديمة ولا المؤلفات الشعبية المكتوبة بالمحكية. مانال الإهتمام من الأعمال هو المكتوب بالتحديد في السجل «الأدبي» للغة. وللحديث حول عصر غين- روكو (1688-1704) نجد أن كتّابا مثل تشيكاماتس، المذكور أعلاه، وسايكاكو (1642-1693)، وماتسو- باشو (1644-1694)، كانوا يكتبون في هذا السجل للغة. باستثناء هؤلاء، كان الكتاب الآخرون والأكثر تمثيلا وأهمية يكتبون بالصينية القديمة، كما كان الكتاب الشعبيون يسطرون كتاباتهم بلغة الشوارع المحكية. وعليه، كان هدفي الأول هو أن تشمل أبحاثي هذين النموذجين من الأعمال التي لم يعترف بها أبدا على أنها أدبية.
والواقع في تاريخ الأدب، هو أن بعض الأجزاء تظل ثابتة لاتتغير وتبدو غير قابلة للتغير.
بصدد هذه الأجزاء لايمكن الحديث عن تطور. أعتقد أن هناك توترا بين الجزء الثابت على حاله وبين الجزء الذي يتعرض للتغير. هذا التوتر هو ماكان يهمني الكشف عنه بكتابة هذا الكتاب، وذلك بغاية إدراك الفكر السياسي إن أمكن، والتقاط «روح» المجتمع التي تهضم الأعمال الفنية والأدبية. قد يبدو لك الحديث عن «الروح» الأدبية والثقافية أو Zeitgeist الإجتماعية عتيقا بعض الشيء. أستخدم كلمة «روح» بالمعنى نفسه لكلمة الألمانية. هنا كان هدفي دوما، ولهذه الغاية كان عليّ أن أربط الأدب والثقافة والمجتمع عبر خيط التاريخ ذاته.
وكان هدفي الأخير هو تناول الأدب الياباني باستخدام مفاهيم مشتركة بين الدراسات اليابانية والدراسات الأوروبية. طبعا، نضطر أحيانا إلى استخدام مفاهيم يابانية للوقوف على مظاهر خاصة للجمالية اليابانية. وفي هذه الحالة وجب علي أن أضيف بعض التفاسير والشروحات. لكن الجوهري، كما أعتقد، هو أن كتابي يحتوي على مفاهيم تستخدم أيضا في الغرب بشكل عريض. كنت أريد التأكد من الدليل، أو تأكيد الدليل إن أمكن، على أنه بإمكاننا تناول التاريخ الأدبي لبلد ما، يدعى فرنسا أو اليابان أو الصين، باستخدام أدوات ومفاهيم مشتركة.
لكن وبما أنك تسألينني عن رأيي بنقد المترجمة جاكلين بيجو، اسمحي لي بإضافة تفصيل صغير. لاشك أنها محقة بملاحظة غياب ذكر (ريوجين- هيشو)، «كتاب الأغاني القديمة والجميلة» الشعبية في النصف الثاني من القرن السابع عشر. لكن أذكّر فقط بأنني نشرت كتابا كاملا مكرسا حول هذه الأغاني سنة ٧٩٩١ عن دار إيوانامي بعنوان «ريوجين – هيشو، كيونشو» (سلسلة كيف يقرأ الأدب القديم ؟ «الغيوم المجنونة» في كتاب الأغاني القديمة والجميلة. م).
E هل توجد كتب أخرى لتاريخ الفكر باليابان؟
?552; تاريخ الفكر، والذي يدعى في بلدان أخرى التاريخ الثقافي أو تاريخ الأفكار، هو فرع جديد تماما في اليابان. هناك مؤلفات قليلة جدا على هذا الصعيد. كتب ماروياما- ماساؤو (١٩١٤- 1996) تاريخ الفكر في عصر توكوغاوا بالعودة إلى تاريخ الأفكار الكونفوشية { تاريخ الفكر السياسي في اليابان، منشورات جامعة طوكيو، سنة 1953. م. } قبل هذا، لايوجد على حد علمي سوى «تاريخ الفكر عبر الأدب» (1916-1921) لصاحبه تسودا- سوكيئتشي (دراسات في الفكر الوطني من خلال الأدب، طوكيو، دار إيوانامي، 1978. م) ماعدا ذلك لاتوجد أشياء أخرى كثيرة.
E كنت رئيس تحرير «الموسوعة الكبرى» من سنة 1971 إلى سنة 1984 ؛ هل لك أن توضح أهداف سلفك السيد هاياشي- تاتسوؤ(1896-1984) رئيس تحرير الطبعة الأولى ١٩٥٩ ؟ وهل تتقاسمان الأهداف عينها، وإلاّ بماذا تختلف أنت عنه ؟
?552; فعلا، الموسوعة الأولى هي لهاياشي- تاتسوؤ، ونشرت لدى دار هيبونشا. أصبحت، كما هي عليه، قديمة بعض الشيء وأراد الناشر طبعة جديدة. كان هاياشي آنذاك بصحة جيدة وكان يعرفني فاقترح اسمي رئيسا للتحرير. كانت تربطني به علاقة صداقة قوية، لكن بما أنك تسألين عما يميز بين الموسوعتين فسوف أجيب بأن هاياشي سعى إلى تناول مشكلات العالم انطلاقا من أوروبا، ولم يعمق المعلومات والمعارف حول اليابان Laraousse بما يكفي. من جهتي، اتكأت جيدا على قاموسين أساسيين: اللاروس عند البحث عن معلومة دقيقة حول فرنسا أو حول اللغة الفرنسية، Britannica وبريتانيكا نستخدم اللاروس، وفي المجال الإنكليزي سوف نستخدم بريتانيكا. لكن في هذين القاموسين سنجد قليلا جدا من المعلومات حول آسيا ولاسيما حول اليابان. وبما أن المشروع كان يهدف إلى وضع موسوعة يابانية، فإنني انتهزت الفرصة لتطوير وتعميق المعلومات الخاصة باليابان. بعبارة أخرى، ليس من الخطأ القول إنني أردت تقليد القواميس الأوروبية. والواقع أن بريتانيكا مفيدة جدا وعملية في ما يخص جميع المعلومات المتعلقة بالعالم الأنكلوفوني، والأمر نفسه ينطبق على اللاروس في مايخص العالم الفرانكفوني. القاموسان يهدفان إلى إعطاء معلومات حول العالم كله، لكن يتمحور أحدهما حول إنكلترا والآخر حول فرنسا. كنت أريد لقارئ اللغة اليابانية والباحث عن معلومات حول اليابان أن يستطيع، وبالطريقة نفسها، الإكتفاء بالموسوعة التي كنت سأتولى إدارتها.
على العكس من ذلك، كان هاياشي مع وجهة نظر عصره القائلة بغربنة اليابان، ولذلك مال إلى تقديم أكبر كم ممكن من المعلومات حول الغرب للقارئ الياباني. من جهتي تركت هذا الأمر جانبا لأضع اليابان في مكان الصدارة. وأعتقد أن موسوعتي موثقة جيدا حول اليابان.
E هل مفهومك للمعرفة كوني كمفهوم الموسوعيين الأوروبيين في عصر الأنوار ؟
?552; ديدرو عاش في القرن الثامن عشر ؛ وفي فرنسا ذلك العصر، كان المفكرون يعتقدون بكونية العقل المنير للعالم. كان هذا المفهوم للفكر يتمركز في باريس، عاصمة فرنسا، لكنها أيضا العاصمة الروحية لأوروبا ومركز إشعاع العقل الكوني في العالم. أما أنا، ليس لأنني أردت وضع اليابان في مكان الصدارة داخل موسوعتي، كنت أنوي جعلها بالمقدار نفسه مركز العالم. وحتى لو شككتِ بنيتي فعل ذلك، فلن أستطيع أن أجد في اليابان أية إيديولوجيا ولاأية قاعدة فلسفية لدعم هذه النية والدفاع عنها. بالنسبة إلى ديدرو الوضع مختلف؛ لأنه مقتنع أن عاصمة العالم الثقافية موجودة في باريس. واستنادا إلى هذه النقطة استطاع أن يكتشف شمولية العالم وأن يبني فلسفته العقلانية انطلاقا من ذلك. لا أستطيع أن أقارن نفسي به، لسبب بسيط هو أنني لا أنتمي إلى عصره. في عالم اليوم نعي أن هناك، وفي آن واحد، ثقافات مختلفة في أمكنة مختلفة من العالم ولايمكن لأية وجهة نظر ادعاء الشمولية ؛ أو بالأحرى ادعاء التعددية- الثقافية. ومن هنا، فإن طريقتي في التفكير هي خاصة بالنصف الثاني من القرن العشرين.
E بإيجاز شديد جدا، هل لك أن تحدد مفهوم تاريخ الأفكار باليابان، أن تذكر علاقتك بماروياما- ماساؤو أو بأسلاف آخرين مهدوا لك الطريق، وأن توضح لنا كيف استفدت من تعاليم أسلافك وماهي خصوصية الدرب الذي اخترته ؟
?552; لم ألتق ماروياما- ماساؤو خلال الحرب، لكن مباشرة بعدها. وبسرعة أصبحنا أصدقاء. كانت علاقتي به قوية جدا، وكنا أقرباء جدا. نشرنا بالتعاون كتبا عديدة وأشرفنا بالتعاون على منشورات عديدة. مثلا كتبنا معا الجزء الخاص بالفكر في بداية التحديث ونشر عن دار إيوانامي (بنية الفكر الياباني الحديث، جزء 15- تأملات في الترجمة، طوكيو، ١٩٩١. الترجمة والحداثة في اليابان، طوكيو، إيوانامي شوتين، 1998 م).
ثم نشرنا حوارا عن الدار نفسها. وبما أن هذه المنشورة تمحورت حول الأربع وعشرين سنة الأولى من عصر ميجي، فإننا تملينا طويلا في مشكلات الترجمة. كما نشرنا لدى دور أخرى حوارا حول موضوعة الوعي التاريخي، تسبقه مقدمة كتبناها معا. ويمكنني الإستشهاد بأعمال أخرى كثيرة أنجزناها معا، لكن سأضيف أننا تمتعنا جيدا. التقينا غالب الأحيان في اليابان، لكن حدث والتقينا ذات يوم في برينستون بأمريكا.
E وكيف كانت علاقتك بهاياشي – تاتسوؤ ؟
?552; كان أيضا أحد أصدقائي، أكبرمني سنا وأكبر من ماروياما بقليل. أعماله الكاملة ممتعة جدا، وهي مؤلفة من ثمانية أجزاء نشرت عن دار هيبونشا. وكنت مسؤولا عن نشر أحد الأجزاء ضمنته تعليقا حول المؤلف. كنت أعرفه جيدا جدا. لكن علاقتي به لم تكن كعلاقتي بماروياما. كانت تصوراتهما متناقضة كليا، ولاسيما حول المسألة اليابانية.
ماروياما كان استاذا في كلية الحقوق بجامعة طوكيو، يدرّس الفكر السياسي الذي كان متخصصا به على صعيد آسيا واليابان تحديدا. كما قلت آنفا، إن تاريخ الفكر فرع من العلوم جاءنا من أوروبا. إذن، كان قد اطلع على كثير من المؤلفات حول الفلسفة الأوروبية وحول تاريخ الأفكار بالذات. أنجز تأريخه للفكر الياباني بعد الإطلاع الكبير على مؤلفات أوروبية كثيرة. أما هاياشي، فكانت لديه معرفة واسعة جدا بالآداب والتاريخ والفلسفة الأوروبية. لكن بالمقابل، لم يكن يعرف جيدا آداب وتاريخ بلده اليابان. كان يعتقد في شبابه أنه إذا اهتم بالثقافة والفن اليابانيين، فإن هذه الحمولة سوف تعيقه في دراساته حول أوروبا. كان يريد معالجة المعارف الأوروبية وتناولها من دون أحكام مسبقة، بغية الوصول إلى التفكير كأوروبي ومن وجهة نظر أوروبية. لماذا كانت أوروبا عزيزة عليه إلى هذا الحد؟ يمكن القول بمعنى ما إن تحديث اليابان يقف وراء الأمر.
وهذا التحديث كما تعرفين هو مرادف للغربنة ؛ وفي الفكر الياباني لاتوجد مفاهيم الديمقراطية أو حقوق الإنسان، لذلك كان هاياشي يعتقد أن إدخالها إلى اليابان يشكل أهمية من الدرجة الأولى. ولأن الفكر الياباني كان يبدو له ناقصا جدا وغير كاف أبدا، كان مستعدا للتضحية به كاملا. كلية الشخص، حقوق الإنسان، الديمقراطية، الجمهورية، هذه المفاهيم وغيرها لم يكن يجدها إلا في الخارج. اليابان الحديثة إمبراطورية، وقبل ذلك كانت حكومة عسكرية. ومنذ بداية تاريخها، هناك بنية عمودية حيث تأتي الأوامر من فوق. في مثل هذه الظروف، كيف يمكن إقامة علاقات أفقية، هذه المسألة واحدة من المشكلات الجوهرية لليابان الحديثة. على هذا الصعيد، كان ضروريا الذهاب إلى أوروبا والبحث عن الدلائل والمخارج. هاياشي كان متخصصا بعلم الجمال من جامعة كيوتو ويعرف بشكل خاص جدا النهضة الإيطالية، ويولي اهتماما بالغا لمسألة الحداثة الأوروبية.
ولذلك كانت لديه معرفة موسعة جدا حول أوروبا. ماروياما كان قد درس الفكر السياسي الياباني كمتخصص وباحث ؛ وهذا سؤال لايعرفه هاياشي. ماكان يكتبه هذا الأخير هو مقالات حول النهضة الإيطالية، أو مقدمات لتاريخ الفكر الأوروبي، مقدمات رائعة ؛ لكن إذا ترجمت ليقرأها الأوروبيون، فإن هؤلاء لن يتعلموا شيئا ذا أهمية من مؤلفات هاياشي- تاتسوؤ ولن يشعروا بأي ميل خاص نحوه. والأمر ليس كذلك بالنسبة إلى ماروياما، الذي لديه أشياء كثيرة يلقنهم إياها. على أية حال، لو لم يكن هناك هاياشي- تاتسوؤ، لما كان هناك ماروياما أو كاتو- شوإتشي! إن الأجيال السابقة، من وجهة نظر التاريخ الثقافي،تنتج دوما أعمالا ضرورية، وإن لم يكن، كما أرى، إلا من أجل مناقضتها وتجاوزها.
لكي أوضح ماأقول أكثر، أعطيك مثالا في مجال الهندسة المعمارية. يبدو لي أن مانراه في حديقة أوينو العامة يلخص جيدا حكاية الحداثة اليابانية. يوجد هناك متحف هيوكيئي كان الذي بني أولا (في سنة 1900 : هدية من سكان طوكيو إلى ولي العهد بمناسبة زواجه، وسوف يكون الإمبراطور تايشو). إنه محاكاة خالصة للهندسة الغربية. والذي بناه مهندس ياباني، لكن تصميمه من التقاليد الغربية الخالصة. كذلك محطة طوكيو التي بنيت سنة 1914، فهي صورة طبق الأصل عن محطة أمستردام المركزية. ومع أن طريقة بنائها رائعة على الصعيد التقني، لأنها صمدت جيدا في وجه الزلزال الذي ضرب طوكيو سنة 1923، لكن تظل بوضوح وبساطة تمثل الهندسة الغربية في القرن التاسع عشر. وللعودة إلى حديقة أوينو العامة، نجد أن لدينا متحف طوكيو الوطني الذي بني سنة 1938 : هو الآخر تقليد غربي أيضا. تعرفين أن ثلاثينات القرن العشرين مشهورة بتصاعد القوموية اليابانية: وعليه فإن البناية صممت كبناء غربي بالإسمنت المسلح، لكن غطيت بسطح من الباغود (هيكل متعدد الطوابق) على الطريقة الشرقية. يعني شيدنا بناية من الإسمنت المسلح، وعدنا من أجل الرمز إلى البناء الياباني التقليدي الذي هو من الخشب. أعتقد أن أجمل الإبداعات المعمارية تسوِّغ نفسها من خلال الضرورة التي تلبيها. لكن أية ضرورة في إقامة أبنية على الطريقة اليابانية باستخدام التقنيات وإعادة إنتاج النماذج الغربية ؟ مثلا، لامبرر إطلاقا لسطح الباغود هذا فوق بناية من الإسمنت المسلح وعلى الطراز الغربي، ثم لاأرى فيه أي شيء جميل. والمثال الثالث هو المركز الثقافي بإوينو الذي شيد سنة ١٩٦١، إنه من أعمال المهندس ماإيكاوا- كونيو (1905- 1986). يشبه قاعة للموسيقى. ولن أذهب إلى حد القول إنه ذو تصميم ياباني خاص، لكن المهندس تمثل بوضوح تقنيات أسلافه. فهو يستخدم مثلهم الإسمنت المسلح، الزجاج والفولاذ، لكن بحرية وتوازن خاصين به وحده. ولذا أرى فيه شيئا يابانيا. فأعماله ليست أبنية منجزة بسرعة لإظهار» اليابانية «، لكن يبدو لي أنها تحتوي على شيئ ما ياباني بامتياز : ليس لأن المهندس ذو ميول قوموية، بل لأنه ياباني ببساطة. والحالة هذه، لو لم يكن لدينا مهندسون اكتفوا، في بداية القرن العشرين، بتقليد الهندسة المعمارية الغربية واستعارة تقنياتها وأشكالها، لما كان لدينا مهندسون أكثر تطورا بعد الحرب. وأعتقد أن هذه الظاهرة ليست معمارية فقط ؛ بل تنسحب على تاريخ الفكر أيضا. ولهذا فإن هاياشي- تاتسوؤ يشكل مرحلة هامة جدا بالنسبة لتطور الفكر في اليابان. تكمن أهميته في أنه تعلم لغات وعادات وتاريخ وطريقة تفكير الأوروبيين. وفي مجال الهندسة المعمارية، فعل تاتسونو- كينغو(1854- ١٩١٩) الشيء نفسه.
E نشرت سنة 1955 مقالا بعنوان «نغولة الثقافة اليابانية» ؛ لكن ربما كنت تفضل كلمة تهجين على كلمة نغولة ؟ (الفكر، طوكيو، دار إيوانامي، 1955. وانظر أيضا أعمال كاتو – شوإتشي الكاملة، طوكيو، دار هيبونشا، ١٩٧٩)
?552; في العلوم الطبيعية، نطلق صفة النغولة على النباتات الناتجة عن صنفين مختلفين، أما الناتجة عن نوعيتين من الصنف ذاته، نقول عنها هجينة. غير أن هذا تفصيل سيمنتيكي. ماأريد الإشارة إليه هو أن الأمر لايتعلق بتطعيم، فالتطعيم يقوم على قطع رأس الغصن حيث نزرع غصنا آخر مأخوذا من شجرة أخرى مختلفة. والنتيجة تشاهد بالعين المجردة، هذا ويمكن قطع الطعم أو تركه في مكانه. أما في حالة النغولة، لايمكن التمييز بين الجزئين اللذين جمعا منذ البداية، ولانستطيع رمي أحد النصفين. هذا ماأود قوله عند الحديث عن النغولة أو التهجين. والآن، في مايتعلق بالتفصيل السيمنتيكي، أترك لك حرية اختيار الكلمة المناسبة في لغتك.
E تفترض في هذا المقال وجود ثقافات تتسم بـ«النقاء» وتعارضها مع الثقافة اليابانية ذات الطابع الهجين ؛ هل رأيك بالنقاء الثقافي تغير منذ كتابتك هذا المقال حيث كان عمرك ستا وثلاثين سنة؟
?552; في الواقع كان لابد من إجراء بعض التعديلات. ماأردت قوله عندما نشرت هذا المقال كان موجودا بالإنكليزية والفرنسية حيث توجد مفاهيم تشكلت منذ عصور قديمة جدا. وهذه المفاهيم هي بالأساس مستوردة، لكن مستوردة منذ وقت طويل جدا بحيث تأصلت وأصبحت تقريبا محلية. مثلا مفهوم «الحق» ؛ لايوجد فرنسي واحد يعتقد أن الأمر يتعلق بمفهوم مستورد من الخارج، وأنتم على قناعة أن الكلمة فرنسية : تحددت في اللغة عبر قرون. وكذلك الأمر في ما يتعلق بكلمة حق بالإنكليزية. إن تعبير «الحقوق الإنسانية»، في انكلترا وفي فرنسا، ارتكز على مفهوم للحق قديم جدا وشبه محلي. لكن ماذا عن الموضوع في اليابان ؟ لقد صيغت كلمة كينري «حق» في نهاية عصر إيدو وبداية عصر ميجي، يعني عمرها مئة وخمسون سنة فقط، وهذا تاريخ قصير جدا. للكلمات المخترعة حديثا رائحة الجدة ! ونشعر باللاوعي أنها مستوردة. ولن يكون الشيء نفسه إذا تناولنا كلمة موجودة منذ قرون غابرة ككلمة «كوكورو» (القلب، مركز المشاعر الإنسانية). غير أن لكلمة كينري تاريخا قصيرا جدا ! وأي ياباني سيقولها لك : كلمة «كوكورو» يابانية، أما كلمة كينري فهي مترجمة عن لغة أجنبية.
عندما كتبت هذا المقال، كنت أريد من خلال النعت نقاء – صفاء الإشارة إلى المجتمعات التي نحتت هذه المفاهيم في البداية. لماذا هذه الكلمة ؟ لأن بعض المفاهيم، كمفهوم الحق، ينتمي إلى اللغة الفرنسية من زمن طويل بحيث أن الفرنسيين أنفسهم مقتنعون بأن هذه الكلمات هي كلمات فرنسية «صافية». في اليابان، لاأحد يعتقد أن كلمة كينري هي كلمة يابانية «صافية». حتى الذين لم يدرسوا يشعرون بالأمر : إنها المعرفة باللاوعي. وليست هذه هي الكلمة الوحيدة والمثال الوحيد؛ فالقاموس المفهومي كله تقريبا ينتمي إلى هذا الجنس من الكلمات. إذا كانت اللغة اليابانية لم تنحت كلمات مفهومية إلا في العصر الحديث، فهذا يعني أنه لم يكن هناك مايبرر وجودها عمقيا داخل المجتمع التقليدي. ولا أزال أعتقد، بشكل ما، أن اليابان تختلف على هذا الصعيد عن فرنسا وإنكلترا كما أشرت إلى ذلك في مقالي سنة 1955.
E معذرة للإلحاح على الموضوع، لأنه يبدو لي مهما: من الواضح بالنسبة إليك أن جميع الثقافات هي نتاج التهجين ؟
?552; بالتأكيد، إنها معاينة كونية شريطة العودة إلى الوراء بعيدا في الزمن. لكن عندما كتبت هذا المقال كان عمري ستا وثلاثين سنة. والخطأ الذي ارتكبته هو أنني لم آخذ جيدا بعين الإعتبار الجانب التاريخي للأشياء. هكذا تجد الإنكليزية والفرنسية جذورا مشتركة في اللاتينية. ونجد بين هذه الكلمات ذات الأصل اللاتيني غالبية المفاهيم الأكثر أهمية على الصعيد الإجتماعي. في اليابانية أيضا، إذا عدنا إلى عصر ميجي فإننا سنجد عددا كبيرا من الكلمات ذات الأصل الأجنبي. وفي العمق، يمكن القول إن جميع ثقافات العالم هجينة أو نغلة بالمعنى الذي تتكون فيه اللغات دوما عبر الإستعارات من لغة أخرى. لكن إذا نظرنا، بعد مرور الوقت، إلى كل لغة، وإلى كل ثقافة، وإلى كل مجتمع بذاته، سنجد أن كلا منها قد أنتج توليفا للإستعارات المختلفة التي قام بها سابقا، و قام هكذا بصياغة منظومة ذاتية مستقلة مكتفية بنفسها. والحقيقة إن ماوصفته بـ«النقاء» داخل الثقافتين الإنكليزية والفرنسية هو المنظومة اللغوية التي تبدو لي أنها أكثر استقلالا ذاتيا من المنظومة اليابانية. لكن أعترف أن كلمة «نقاء» لم تكن موفقة جدا، ولو استطعت لمحوتها. على أية حال لم أعد أستخدمها اليوم، وقد أستخدم بالأحرى كلمة استقلال ذاتي، مارأيك ؟
E إذا كنت أفهمك جيدا، فأنت تعتبر أن التنغيل هو دخول ثقافة إلى ثقافة أخرى في مرحلة معينة من تاريخ هذه الأخيرة. وبعد هذه المرحلة الخصبة، تتكون تقاليد ما مع مرور الزمن. ثم عندما تقوم هذه التقاليد بدمج وهضم العنصر الغريب إلى حد ذوبانه في الثقافة المحلية، آنذاك تعتبر أن الثقافة أصبحت مستقلة ذاتيا…
?552; نعم هكذا. لكن مفهوم الإستقلال الذاتي – كي لاأقول الصفاء – خطر لي عندما كنت شابا وأكتشف هذه الثقافات المستقلة لأول مرة. بعبارة أخرى، كنت أنظر إليها ليس من زاوية تاريخها، بل من زاوية معاصرة. وللعودة إلى دوافع هذا المقال حول التهجين، في اليابان من القرن السادس إلى القرن الثامن، نلاحظ أن أول تنغيل كان مع الثقافة الصينية ؛ حيث اكتشفت البوذية آنذاك بصفتها ديانة أجنبية. وفي القرون اللاحقة، سوف لن تخضع اليابان لأي تأثيرآخرذي معنى ماعدا الصيني والكوري. ثم تأتي مرحلة الإنغلاق حيث ستقل التأثيرات الأجنبية أكثر، كما توحدت الثقافة داخل البلد أكثر : وباعتبار أن تلك التأثيرات قد أصبحت قديمة جدا، فإنها ذابت تماما في الثقافة المحلية. وأخيرا حدث الإنفتاح في عصر ميجي وكان التأثير الغربي. إذا اعتبرنا الأمور من زاوية تاريخية، فإن هذه الظاهرة تعني المرحلة الثانية من التنغيل.
إن اليابان ثقافة نغلة – هجينة بشكل أساسي، ولهذا السبب تحديدا تميل القوموية إلى إقصاء العنصر الأجنبي. منذ مابعد الحرب، وأحيانا حتى الآن، هناك من يريد إسقاط نقابات العمال بحجة أن ذلك استعارة أجنبية ! من جهة أخرى، كان هناك في عصر ميجي من هم متحمسون للغربنة إلى حد أن بعضهم كان يقول بإحلال الإنكليزية محل اليابانية. كان هؤلاء عائدين من الغرب بقناعة أنه ينبغي غربنة اليابان على جميع الأصعدة. يمثل هذا في تاريخ اليابان الحديث صراعا معقدا. لكنه بالنسبة لي صراع عقيم لامعنى له، ولايمكن أن يؤدي إلا إلى طريق مسدود. من الجهتين تقترح أشياء مستحيلة….
من الأفضل الإعتراف بالنغولة اليابانية، أو بالتهجين مع ثقافات أخرى واستغلال ذلك بصفته مصدرا للإبداع عوض الشكوى منه. هذا ماكتبته في مقالي سنة 1955 ومازلت على الرأي نفسه من دون تغيير… إنني إذ ألح جدا على نغولة الثقافة اليابانية، فذلك لأننا في اليابان الحديثة، يابان مابعد إيدو، أردنا دوما «تنقية» الثقافة سواء بمعنى الغربنة أو بمعنى طابع اليابانية. الشيء المهم في نظري، منذ خمسين عاما ولايزال حتى اليوم، هو الإعتراف أن الثقافة اليابانية ليست جوهرا من النقاء.
E لقد سبب هذا المقال، حسب معلوماتي، صدمة في الوسط الثقافي الياباني آنذاك وجعلك مشهورا على الفور. هل لك أن تستعيد جو تلك المرحلة لنفهم على أي صعيد ولماذا أثار ردة فعل بحيث نتكلم عنه حتى اليوم ؟
?552; أعتقد أنني أول من تكلم عن نغولة الثقافة اليابانية في اليابان. تعرفين ولاشك عبارة «واكون. يوساي» (روح يابانية. تقنيات غربية). إن الروح بالنسبة إلى الياباني موجودة في مكان عميق جدا يحول دون تأثرها بأي عنصر أجنبي. أما بالنسبة للتقنيات الغربية، فهي تنضاف إلى تلك الروح لصياغة بنية اليابان الحديثة. هذه الفكرة منتشرة جدا منذ عصر ميجي – ولاتزال قائمة حتى اليوم عند البعض – : أي إن الروح موجودة في مكان عميق جدا بحيث لايمكنها أن تكون إلا يابانية خالصة، سليمة ومحمية بجوهرها من أي تأثير أجنبي. غيرأني نشرت مقالا أقول فيه إن الروح اليابانية لاتوجد في أي مكان، وإذا كانت موجودة فهي مصبوغة بالثقافات الصينية والغربية. واليوم، لم يكن بمقدور الشباب الياباني الإندماج بالعالم المعاصر، لو لم يمتلك المفاهيم الأكثرضرورية مثل «الحق» و «العقل». إن كلمة «كوكورو» (قلب) الموجودة منذ القديم في اليابان غير كافية إطلاقا لترجمة معنى العقل الكوني مثلا ؛ لذلك أوجدنا كلمة ريسيئي (عقل). ترينا هذه الأمثلة أن تحديث اليابان، أوبالأحرى غربنتها، اخترق الثقافة اليابانية حتى الروح ! بعبارة أخرى، وصولا إلى الأمكنة العميقة التي يسميها اليابانيون وآكون. من المؤكد أن قراءة مقالي سببت لهم صدمة، وإلا لما كانت ردود فعلهم قوية بهذا الشكل ! على أية حال، تعرضت لنقد الجميع. حتى عند أنصار الغربنة كان يقال : «ذهب كاتو إلى فرنسا وعاد «قومويا». كانوا يستشهدون بي كمثال على اليابانيين الذين يسافرون إلى الخارج لبعض الوقت ثم يعودون بقناعة أن اليابان أجمل بلد في العالم. ومن الظواهر المألوفة جدا هي أن يعود الياباني من الخارج بأفكار قوموية. أذكر أنني نرفزت لأنني لست نوستالجيا إطلاقا.
E حتى أنت، هل فوجئت بردة الفعل هذه ؟ هل أدى المقال إلى حرب سجالية وكيف اضطلعت بها؟
?552; إذا بحثت عن كلمة نغولة في الدوريات المنشورة بعد ظهور مقالي، ستجدين أنها قد انتشرت بكثرة. كانت الصدمة قوية بسبب السياق الذي حدثتك عنه للتو. لكن لم أفاجأ أكثر مما ينبغي، وكنت أتوقع ذلك بشكل أو بآخر. كنت أعلم مسبقا أنني سأثير زوبعة وهيجانا، لأن الروح اليابانية مزار كما تعلمين ولايسمح تدنيسه بالأقدام. نستطيع الدوران حوله، لكن لاأحد يدخل حرمه. سمحت لنفسي بتجاوز هذا الممنوع ودخلت إلى المكان المقدس لأجلب منه مفهوم النغولة ! وهذا بالتحديد مابدا صدمة بالنسبة للجميع آنذاك : الجرأة على القول أن لاشيء يابانيا في الروح اليابانية نفسها.
لايزال في يابان اليوم كثير ممن يعتقدون أن لاعلاقة لليابان بالبلدان الأخرى، وأنها ثقافة مختلفة كليا عن الثقافات الأخرى، وأنها تكتفي بنفسها لأن جوهرها من العمق والنقاء بحيث لايمكن لأية مؤثرات بلوغها أبدا. طبعا هؤلاء واهمون. سأجلب لنفسي خصوما جددا إذ أعبر لك عن رأيي : أعتقد أن هذا «النقاء» هو جدار قائم في لاوعي ناس يسكنون الأرخبيل منذ زمن طويل. على أية حال، إذا كان اليابانيون يختلفون عن الآخرين، أتمنى أن يُوضح لي أين يكمن هذا الإختلاف.
E ألاتزال مقالاتك تثير هذا النوع من ردات الفعل حتى اليوم ؟
?552; يبدو لي أن النقد بين الناس العاديين أصبح أقل عنفا. وبين المثقفين، تبدو آرائي أقل عرضة للنقد من نشرها في الصحف. أما الدوائر الأكاديمية، فليست لها بشكل عام علاقات كثيرة بالجمهور العريض ؛ وهي تشكل عالما صغيرا مغلقا لااعتبار فيه يذكر لمن يتصرف بحرية كما أفعل. وهناك الألسنة الرديئة التي تتناول وضعي الهامشي. لكن ليس مصادفة أن أكون هامشيا ! بالعكس هذا خيار واع وإرادي من جهتي. ولطالما بحثت عن هذا الموقع حيث تكمن في نظري كثير من المظاهر الإيجابية. أولا، الهامشي لايعني الإقصاء ! أنتِ لست خارج المجتمع، أنت جزء منه، وبالتالي يمكنكِ فهم الأشياء من الداخل. الهامشي يعني ببساطة أنكِ بعيدة قليلا من مركز المؤسسة. الأمر الذي يمنحك مسافة منها، وهذا ضروري لمراقبة الظواهر المعاصرة. فأنت نسبيا حرة في النظر إلى الإتجاه الذي يروق لك، وفي تناول الموضوعات التي اخترت، وفي تحديد ماتريدين قوله والتصرف وفق وعيك الخاص ؛ فأنت لاتنافسين أحدا ولست بوارد تحمل أي ضغط. ولديك، إضافة إلى هذا، تلك المسافة التي تتيح لك رؤية الأشياء من بعيد. وأوكد أنك لن تجدي بسهولة مكانا أفضل ! كنت أعرف ذلك جيدا، ولذلك اخترت أن أعيش وأعمل على هامش جميع الدوائر ذات النفوذ والتأثير، وبالطبع ينبغي دفع الثمن ! وهكذا، مثلا، لست شخصية لها نفوذها وتأثيرها. للسياسيين ومسؤولي الإقتصاد سلطة التأثير، تماما كالمثقفين المتواجدين داخل النظام. ولأن هؤلاء يشكلون جزءا من النظام، فإنهم لايستطيعون الموضوعية دوما. إن أهم شيء بالنسبة لي، هو أن لا أخطئ في معايناتي، وأن أدون الوقائع وأصفها بأكبر قدر ممكن من الدقة، ثم أخضعها لتحليل منتظم، صارم ودقيق. السلطة لاتعنيني ولاتهمني، ما أهدف إليه هو رؤية واضحة وموضوعية للعالم الذي يحيط بنا والذي نعيش فيه. ولمراقبة تفاصيله دون ضغط أو أحكام مسبقة، أعتبر نفسي في المكان الأفضل. أعتقد أن هذا، وبمعنى ما، يجيب على السؤال حول دور المثقف.
الخطر الوحيد الذي قد أواجه هو الخروج من الهامش وبالتالي الإقصاء، هكذا أغامر بأن أفقد المنابع الثمينة لمعلوماتي. يميل اليابانيون إلى الإعتقاد بأنني لم أعد يابانيا تماما، وذلك لأنني عشت نصف حياتي في الخارج. وهكذا يفسرون عدم اتفاق رأيي دوما مع الرأي العام. يقال إن اليابان بلد عالمي، لكنه ليس مجتمعا عالميا. إطلاقا ! ولابد أنك تلمسين ذلك كمقيمة أجنبية، أليس كذلك ؟ حتى وإن كنت تعرفين اللغة والثقافة اليابانيتين جيدا جدا فإنك تعتبرين أجنبية دوما. وكلما خرجت، أنا، من اليابان أكثر، كلما أضعت من تأثيري على أبناء بلدي أكثر. لكن أتجاوز الأمر طواعية، طالما أنني بالمقابل أتمتع بحرية تعبير
كبيرة إلى حد ما.
E إن الشعور بالهوية عامل هدوء وانسجام داخل المجتمع، لكن يصير أحيانا عامل حقد وإلغاء، عامل عنف وتدمير بالنسبة للعناصر الأجنبية. والتاريخ يقدم لنا أمثلة كثيرة لهذه الظاهرة التي لانلاحظها نهائيا في اليابان. إذن، سؤالي سيكون ذا طابع عام : هل هناك فرق في درجة شعور انتماء الأفراد إلى ثقافة ما، وذلك حسب الأمكنة الجغرافية أو الأزمنة التاريخية ؟ وما هو شرط التوازن المستمر بين الشعور بالهوية وضرورة الإعتراف بالآخر، أو، إذا سمحت لي بسؤال طوباوي، ماهي شروط السلام في العالم انطلاقا من اليابان ؟
?552; أعتقد أن الحروب أشياء تحدث ! والمشكلات تبدأ بالظهور عندما يصبح الشعور بالهوية الوطنية قويا جدا. شخصيا، أميز بين نوعين من الوطنية : أحدهما يرتكز على الثقافة والآخر على الحضارة. الوطنية التي ترتكز على قيم الحضارة أسميها «فاعلة»، وتلك التي تبني نفسها على فكرة الثقافة أسميها «ارتكاسية». يبدو لي أن التمييز مهم، لأن الحرب هي منتهى الصراع الذي يشتغل في ميدان المشاعر قبل اندلاع العنف بزمن طويل. ففي حالة الاستعمار مثلا، ليس لدى الأمم شعور واحد بالذات وذلك حسب وضعها، مسيطرة أو مسيطر عليها. إذن، على الصعيد النفسي، وفي مرحلة استيقاظ شعور كل أمة بذاتها، ألاحظ فرقا. ستقولين لي : إذا كانت الوطنية تقود إلى الحرب فالنتيجة هي هي. لكن في بداية الحرب، ليس للأمم نفس الأهداف وذلك حسب درجة التطور على صعيد الثقافة والحضارة.
لنقل، على صعيد الشعور الوطني، بوجود فرق بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة ؛ سنسلم بأن هذا الفرق يشجع على بروز إحساس بالدونية لدى البلدان الأقل تطورا، البلدان التي تستورد كثيرا من التقنيات والوسائل المادية الأخرى أو الثقافية، لكن لاتصدر من هذا كله شيئا. بلدان تنتج الأسلحة والتقنيات، وأخرى لا. أعتقد أن الإنعكاسات ليست اقتصادية فقط. كيف نتجاوز عقدة الدونية إذا لم نظهر تفوقنا في مجال ما أيا كان ؟ خذي مثلا حروب نابليون في القرن التاسع عشر ؛ كانت فرنسا متطورة في ميدان الصناعة ؛ البنية الإجتماعية أعيد تأسيسها بشكل فعال ؛ على صعيد الفكر كما على صعيد المعامل وفي جميع الميادين، كانت فرنسا ماندعوه اليوم بلدا متقدما. لنقارن حالتها بحالة ألمانيا في العصر نفسه. منذ القرن العاشر وألمانيا تكدس تخلفا على جميع الأصعدة بحيث لاتستطيع منافسة جارتها. الفرق كبير جدا. وعندما يكون الأمر هكذا، يتحتم اللجوء إلى عنصر لايصلح للمقارنة من أجل خلق توازن للقوى. وهنا تبرز فكرة التفوق الثقافي.
قبل حروب نابليون، انتشرت الرومانسية في كل أوروبا، لكنها لم تنتعش وتزدهر إلا في ليست تحف أدبية وحسب بل تكشف أيضا عن اهتمام مؤلفيها Grimm ألمانيا. فحكايات بالتقاليد الشفهية والشعبية. وفي العصر نفسه تزدهر بألمانيا البحوث حول الثقافة المكتوبة باللغة الألمانية منذ العصور الوسطى، فيسلط الضوء على نصوص قديمة وتُكيف مع ذوق العصر، كما نشطت الدراسات ووضع القواميس. ونجد في الشعر والمسرح والأدب علامة هذه العودة للإهتمام بالماضي الذي يشكل المنبع الأساسي لإلهام الكتاب.
في ألمانيا ذلك العصر، يأخذ مفهوم الأدب معناه الواسع والدقيق : أي الذي يشمل كل الإنتاج الفني والأدبي، واللغة الألمانية هي الرابط بين مختلف العصور. ومن الأهمية بمكان ملاحظة أن اللغة – في هذه الحالة مثال اللغة الألمانية – هي معيار تقييم الثقافة.
وبالنسبة إلى شعب لايستطيع امتلاك قيمة في أي مجال آخر، هل هناك شيء أكثر طبيعية من ان يضع في الواجهة والمقدمة الجانب الذي يميزه، ويمنحه الأهمية والفرادة ويجعله بلا نظير في عيون العالم جميعا ؟ وبمقابل الثقافة، تغطي الحضارة مجالات قابلة للتقدم، كالسياسة والإقتصاد والمجتمع، التقنيات العلمية أو الصناعية، المعدات العامة والعسكرية.
أكثر أهمية وأكثر نبلا هي الثقافة التي يشكل زواجها مع اللغة الألمانية دليل استمرار وبقاء.
هل نستطيع المقارنة بين جمال اللغات ؟ لامعنى لذلك. إن الثقافة التي تحملها اللغة الألمانية تصير نوعا من المزارات، من الأمكنة المقدسة – كي استخدم الكلمة التي استخدمتها سابقا- وميدانا لايمكن دخوله، تحميه القوى الإلهية. هكذا يكون مفهوم الثقافة مقدّرا جدا، أو مقدسا إذا جاز التعبير، وتجد الهوية الوطنية في هذا الميدان وسيلة لتأكيد تفوقها على الهويات الأخرى. هذه هي الظاهرة التي أصبحت أساس الوطنية الألمانية. وقد ولدت هذه الأخيرة من عقدة نقص تجاه البلدان المجاورة ولاسيما فرنسا، التي كان تطورها على الصعيد الحضاري يشكل بالنسبة للألمان جرحا للكرامة والكبرياء. ثم جاءت غزوات نابليون : فانضافت الوطنية المجردة إلى الوطنية الثقافية، وهكذا تبلورت رغبة الثأر في الموجة الرومانسية.
هذا النوع من ردات الفعل ليس خاصا بألمانيا. فاليابان منذ انفتاحها، مثلا، وجدت نفسهافي مواجهة غربٍ يشكل تهديدا على الصعيد العسكري، ومتقدم أكثر منها بكثير على الصعيد الإجتماعي أو الصناعي. وللرد على هذه اللامساواة، هل يمكن أن نجد أفضل من الحجة الثقافية، يعني اللغة والثقافة التي تتكون من هذه اللغة ؟ لنأخذ الأمكنة المعروفة في اليابان، إنها لاتحتمل المقارنة مع الولايات المتحدة. وسواء تعلق الأمر بعلو ناطحات السحاب أو بطول الجسور، فإن الأمريكان يتجاوزون جميع الأرقام القياسية. لنقل إنهم يحبون ذلك ! إذا توقفنا عند مثل هذه الإعتبارات، فالأمريكان هم أبطال في كل شيء. وللتعويض، سنبحث في اليابان عن مكان رمزي، روحي، سنجعل منه مكانا مقدسا : الثقافة – الوطنية بالضرورة – بالمعنى الذي تجمع فيه المشاعر والضمائر كردة فعل تجاه الأجنبي.
ليست ألمانيا واليابان الممثلين الوحيدين لهذا النوع من الوطنية : فهو يوجد مستترا تقريبا لدى جميع الأمم التي لايترك لها السباق الدولي خيارا آخر سوى البحث في التقاليد الثقافية عن وسيلة لتعويض نقص أشكال الإنتاج الأخرى. وعلى هذا الصعيد، تبدو الثقافة سلاحا روحيا، لابل صوفيا، خارقا أو مقدسا، يفوق في هذا جميع قيم الحضارة. وفي الحالات المتطرفة جدا فقط، يتحول هذا السلاح الروحي إلى مولد للحروب.
تقوم فرضيتي على أن هذه الظاهرة لهيجان الثقافة، تجد جذورها في الشعور الوطني المكلوم لعدم قدرته على التعاطي مع الآخرين على أسس تبادل أكثر تعادلا. وكردة فعل على هذا الجرح يتكون شعور بالهوية يستحث بقوته كافة أفراد الشعب الذين يشكلون وحدتهم عبر معارف تقليدية وطقوس دينية، وعبر منظومة فكرية ومفاتيح من السلوك يشتركون فيها جميعا، ولاسيما بفضل استخدام لغة واحدة. لكن هل كان الألمان الذين يضعون الثقافة الألمانية فوق جميع الثقافات، وهل كان اليابانيون الذين أرادوا فرض أساطيرهم وامبراطورهم على البلدان الآسيوية مقتنعين حقا بتفوقهم ؟ كان أولئك وهؤلاء متعصبين وهيستيرين. ونستطيع أن نجد في هذه الهيستيريا نفسها الدليل على عدم ثقتهم بنفسهم. عندما اعتقدوا بإظهار تفوقهم، أثبتوا العكس تماما : ثقتهم الضعيفة بأنفسهم وعجز الحجة الثقافية في نظرهم. حتى وإن كان الشعور بالنقص هو من وراء هذا المفهوم للثقافة بصفتها قيمة متشددة ومطلقة في مواجهة الخارج، نرى جيدا أن هذا المفهوم لايقود إلا إلى عدوانية هيستيرية، عبثية وبلا معنى.
E لكن لاتتشكل جميع الهويات الوطنية على قاعدة الشعور بالنقص !
?552; تماما ! لنأت الآن إلى الأمم التي تصوغ هويتها على قاعدة القيم القابلة للتبادل. إن هذه الأمم، سواء على صعيد التقنية والتجارة، أو على صعيد الأفكار، تعرف بنفسها عبر شعور بالهوية لايقل قوة عن السابق، ومهيأ مثله للعنف والحروب، لكن بلا هيستيريا، وبضمان مؤكد لكونية القيم التي تحمله. هذه حالة البلدان الأوروبية عندما بدأت باستعمار العالم. كانت هذه سياسة توسعية، مع فارق بسيط هو الإدعاء بنشر قيم الحضارة إلى جانب الدين المسيحي. للمسيحية تاريخ طويل، وفي طياتها قيم حقا كونية حتى أن كثيرا من الثقافات اصطبغت بها أو أصبحت مسيحية. جرب اليابانيون، إلى حد ما، السياسة عينها، لكن بآلهة محلية لاتمتلك قوة الإقناع نفسها ولا الكونية نفسها. بعبارة أخرى، كان لدى الأوروبيين، ومن خلال عقائد خلق العالم وخلاصه، وعي بامتلاكهم للقيم الأساسية للحضارة. كانوا يؤمنون بها أكثر بكثير من إيمان اليابانيين بالآلهة آماتيراسُ (الشمس)، وكان إيمانهم الديني، وهو يخدم مصالحهم العسكرية، مصحوبا بقناعة قوية جدا أن الحضارة هي فوق كل قيمة، وبخاصة القيم الثقافية. العدوانية تجاه الخارج هنا، مقنّعة باسم الحضارة، والتبشير تبرره كونية القسمة. يعني أن الأوروبيين يملكون القيمة الكونية الأكثر أصالة، وتهدف قوة التوسع لديهم إلى تعميم هذه القيمة بغاية منفعة مشتركة.
هذا في ما يتعلق بالمظهر الثاني من الهوية الوطنية الذي سأقول عنه إنه، واستنادا إلى تثمين الكوني، «فاعل» مقارنة بالمظهر الأول القائم على الشعور بالنقص والذي أصفه بـ«الإرتكاسي». الحرب التي خاضها اليابانيون كانت من جنس هذا الأخير. ماذا كان يمكن أن ننتظر من الهجوم على مرفأ بيرل هاربر سوى الحرب بجميع عواقبها؟ لم تكن لليابانيين أية مصلحة ولا أية منفعة. بعبارة أخرى، كانت الحرب بحد ذاتها تعتبر فعلا مقدسا وضحاياها شهداء كما في جميع الحروب المقدسة. أما في حالة أوروبا الإستعمارية،وبشكل عام من وجهة نظر الأمم التي تفكر على صعيد الحضارة، لم تكن الحرب مقدسة أبدا. لم تكن أكثر من وسيلة إلى المنفعة. وهكذا انتهت عندما هزمت الفاشية في ألمانيا واليابان. ولم تكن بالنسبة للولايات المتحدة سوى وسيلة لبلوغ السلام في العالم. ونرى الفوائد التي جنتها من وراء ذلك، مع أن هذه الفوائد لم تكن مبرر الحرب في نظرها، بل الديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام والحرية، أي جميع قيم الحضارة. ختاما، هناك من جهة الحروب المقدسة كتجل أخير من تجليات اليأس، والإذلال أو الإكراه، ومن جهة أخرى هناك التعبير عن توسع أو عن سيطرة حقيقين، يؤدي إلى استغلال الموارد البشرية أوالطبيعية، وذلك تحت غطاء الحضارة التي تبدو كهدف صار مقدسا.
E سؤالي كان حول شروط السلام…
?552; في ما يتعلق بالأمم المتقدمة، لاأدري ماهي الآلية التي يمكن أن تقضي على إرادة السيطرة لديهم، لكن لانعرف أبدا ! فالتاريخ يعيد نفسه دوما، ولسنا في منأى عن المفاجآت! والآن، للإجابة على السؤال من وجهة نظر يابانية، أقول إنه حان الوقت كي يتخلص هذا البلد (اليابان) من عقده تجاه بقية العالم. ولاأعتقد أن المشاعر القوموية قد انتهت بنهاية الحرب ؛ فهي لاتزال موجودة على شكل أية مشاعر إنسانية جدا وطبيعية جدا تربطك بثقافتك ولاسيما – ألح على هذه النقطة بصفتي كاتبا – بلغتك. فاللغة ليست وسيلة تواصل بين الناس وحسب، بل هي رابط يجمعهم في طريقة التفكير والتعبير وقول الأشياء. ولاأخشى من إعطاء صفة «الوطنية» لهذا الرابط الذي يربطك بالمجموعة اللغوية والثقافية التي تنتمين إليها بقوة الأشياء منذ الولادة، والذي غذاك بالمعارف الإدراكية وأيضا الحدسية والعاطفية. كل هذا يدعى وطنية، والمعنى الذي أقصده بهذه اللفظة هو أنها معطى من معطيات الوجود الإنساني، ينبغي الإعتراف به الآن واستخدامه بدراية.
أثناء بحوثي حول الثقافات الغربية، أدهشتني طريقة الفرنسيين، الصارمة والمنتظمة، في تقصيهم للغتهم الخاصة. لقد برهنوا على إرادة كبرى في التعمق والتحليل، وبخاصة في ميادين علم الدلالة أو علم الدلالة التاريخي، بحيث توجد اليوم بالفرنسية قواميس متقنة جدا تورد استخدامات متعددة للكلمة الواحدة عبر العصور، ومع أمثلة مؤرخة ودقيقة. بالمقابل، تبدو القواميس اليابانية فاحشة الأخطاء وبدائية جدا. أكتفي بهذا المثال للتدليل على وجود بقعة واسعة تحتاج إلى اكتشاف في حقل الدراسات اليابانية. وسيكفي توفير الوسائل ! لكن اليابانيين لايفعلون شيئا سوى إضافة كلمات جديدة بـ«الكاتاكانا» إلى مفرداتهم كل يوم.
كاتاكانا : اسم إحدى الأبجديات اليابانيات الثلاث، وهي شبه موظفة لاستيعاب جميع الكلمات الأجنبية التي لايترجم معناها، بل تكتب بالكاتاكانا كما هي بلفظها الأجنبي. أما المعنى، فيتم شرحه وتعميمه بسرعة مذهلة من قبل جميع وسائل الإعلام. وقلما تدخل هذه الكلمات إلى القاموس ؛ لذلك سرعان ماتختفي من سوق التبادل بعد استهلاكها خلال فترة تقصر أو تطول، ويكاد يكون دخولها بشكل يومي فعلا. وهم لايعون تماما ضرورة تعميق معرفتهم بالثقافة الوطنية، بتاريخ المجتمع، بالمؤسسات السياسية، بالأدب واللغة. إنني، شخصيا، من أنصار تثمين الثروات الثقافية. لنا الحق في حب الوطن، وحب لغته وثقافته، واقتسام اكتشافاتنا الخاصة مع الآخرين. وقد يكون هذا دواء ممتازا للشفاء من العقد !. بالمقابل، ماينبغي رفضه وما حدث مرارا في تاريخ العالم ولاسيما تاريخ اليابان، هو التدخل العسكري استنادا إلى الدراسات الوطنية. هذا ماأدينه بقوة، وأعتبر أن من واجبي قول ذلك، لأنه لا شيء سوف يضايقني أكثر من رؤية أعمالي مستعادة في المستقبل من أجل غايات عسكرية. هذه أشياء وقعت لكتاب آخرين، ولا أتمنى أن تقع لي !
جولي بروك ترجمة وتقديم : محمد عُضيمة