سبح الغائب
الى علي بن عاشور (كاتب جزائري مات مؤخرا في باريس)
يستطيع كاتب ما، أن ينهي عقد حياته بمراثي زمنه وربما أزمنة أخرى سابقة ولاحقة، لكن بؤرة وجدانه الممزق الذي أدى به الى هذه الخاتمة، تتركز على زمنه المعاش بشروطه وأبعاده المختلفة. واذا لم يقم – أي الكاتب – بهذه المهمة – مهمة سفر المراثي – لأنه أنجز ما هو أكثر حسما وصرامة في تاريخ اختياراته الحياتية، وكان بمثابة احتجاج دامغ أمام وجود لا قبل لمواجهته بالأساليب المتبعة، وجود جاثم مثل جبال أسطورية على الصدر والروح -فهناك من يقوم بالنيابة عنه من أقرانه الأحياء، أولئك الذين كانوا أصدقاء له وجزءا من مسيرة حياة وكتابة. او أعداءه الذين كانوا يتربصون به الدوائر فيما مضى، ولم يكن ينام لهم جفن جارحة عن قذف أي حركة أو كتابة يقوم بها ولعنها، حتى ولو كانت بالمقاييس الموضوعية بمنأى عن أي دنس يصطاده المخصوم، حتى لو كانت طاهرة ونقية.
الكل يتساوى في هذا المقام ويتبارى في تدبير المراثي وتبخير الجنازة بأطيب الذكريات والأشعار.. فهدف الهجوم والسباب لذلك الحي المقتدر، تلاشى وصار مشرقا في حتفه وجزءا من منظومة مثال يحتذى.
هذا ينطبق على سيكولوجية جزء من الأعداء والمخصوم فباختفاء الجسد والصمت المطبق للحياة فيه، يختفي شبح الخصومة ويتحول الى نقيضه. لكن الجزء الآخر يبقى مؤرقا بشبح الغائب ومواصلا رغبة السحق والامحاء؛ فلا حرمة لحي أو ميت لديه، وعلى رغبة قتل الآخر والتنكيل بجثته أن تأخذ مداها حتى لو استطاع أن يورثها لأجيال لاحقة.
***
يضر المكان العربي الواسع في ضيقه بأشكال متلاطمة من رغبات القتل والانتقام لهدف أو غير هدف، والاثنان بصمة واحدة لانحطاط شامل.
يمضي هذا المكان وحيواته البشرية المأزومة في التصدي لأعداء وهميين من عتبة البيت والحي الى البلاد وربما العالم بأكمله.. تتطاير السهام والعبارات مشحونة بطيش قدرها، من بوابة الى أخرى ومن جسد الى آخر، زارعة كل أنواع الفرقة والانحدار الى درك الغرائز التي لا يلجمها لاجم وعي وانسانية وجمال.
تحت أقنعة ويافطات شتى يخوض الفرقاء الشبحيون، حروب الثقافة العربية في أمكنة شتى من المعمورة، التي تستحيل بحكم روح الحقد والانهيار الى مكان واحد يأخذ هويته العربية بامتياز لم يأخذها (بالطبع) حقول أخرى.
هكذا تقذف الصحراء أحشاءها تحت شمس لاهبة. في الربع الخالي الذي استحال من بقعة جغرافية محددة الى كون رمزي يشيع القسوة والخواء والتيه حيث لم يجد الأبناء من مستقر عدا اللغة والسلوك المحمولين على حرب الأخوة وعلى تخييل العالم والوجود ضمن سياق خراب نفسي واجتماعي خاص.
***
يريدون أن يروك ميتا، بعيدا عن وجودهم بعيدا عن نومهم ويقظتهم وكوابيسهم، بعيدا عن الحضور البهيج لحياتهم الخاوية التي تقوضت منها قيم الانسان وسمو الروح. اختر طريقة اختفائك من حياتهم. المهم أن تختفي فمثل هذا الحضور يؤرق كامل وجودهم المستكين لآلية البؤس وشروط تكيفاتها المختلفة.
عليك أن تدفع ثمن انفصالك عن نمطهم القطيعي، وذلك ليس أقل من حياتك، غيابك التام والمطلق. عليك أن تزدهر تحت سماء أخرى، فسماؤهم مقفرة من النجوم، شمطاء وبليدة. هم راضون بها هكذا، شرط الا يعكر صفو حياتهم حضور الغائب ولا حتى أشباحه الهائمة في ليل الجبال المديد. عليك أن تقطع الآصرة من جذرها وترميها في هاوية طفولتك المبعثرة بين عُزلات ومدن وبحار.. أن تمني بالعزلة المحلوم بها خارجهم، فلم يعد من جدوى عزلة بين مضاربهم.. على القطار الا يفوتك هذه المرة، قطار الغياب الكلي الذي لا رجعة فيه.
***
أفكر في شؤون العزلة وبداهة تبنيها كأحد الحلول الممكنة لتجنب التفاهة وانحطاط الروح. الخبرة البشرية في هذا الحقل، حقل العُزلات الشامخة والمثمرة ابداعا وحياة، تمني بنا الى
الضفة الأخرى من هاوية المصير. تلك العزلة التي ينجزها الاختيار الحر والنمو الطبيعي للممارسة الاجتماعية.
عزلة وسط بحر من العلائق والاختيارات يمور بإيقاعات الجسد وفحوى حياة متدفقة، ربما هي العزلة المضيئة والمثمرة.
أما العزلة القسرية التي تمل عليك من الخارج وسط يباب لا حصر للمعان سرابه ومخلوقاته المحنطة، فهي عزلة قاحلة مثل الشروط التي انجبتها.
ربما عزلة السجين الذي حسم شرط الاكراه البشري للدكتاتوريات المتعاقبة، أمره، يمكنه أن يصنع منه ملحمة حرية وابداع، أو يميل به نحو التحطيم الكل وهو الأغلب.
إنها مسألة تحد بالغ القسوة للإرادة المثخنة بجراحها أمام زحف التدمير. لكن ضمن مساحة أخرى من التحدي واختبار الذات. النوح الأول من العزلة القسرية ربما ينتهي إلى اهمال التحدي كمسألة مصير والاستسلام الى نوع من مصير مائع لا بريق فيه ولا ابداع.
***
يقول مفكرون إن حقول الشر والانحرافات البشرية، مصدر إبداع لا ينضب له معين.. التحديق دائما في مرايا الشر وشياطين الرأس المنفلتة من عقالها باتجاه الافتراس والفتك والرذيلة… هكذا شهد التاريخ أعظم إبداعاته في استبطان هذه الظاهرة وتناقضاتها الحادة.. في النبش المبهج في حدائق مقابرها ورفاتها ورميمها، تلك العناصر التي تطبع التاريخ بلون العار القاني وتطيح بادعاءاته الانسانوية.
في المستوى العربي، تزدهر حقول الشر عاما بعد عام ولحظة بعد لحظة وتجلجل حوافرها على كافة الأصعدة، لكن ليس من إبداعات عظيمة تواكب هذه المسيرة الجهنمية.
***
القلة يأتون من كل صوب واتجاه. تتسع دوائر القتل وجهاته بأشكال مختلفة، كأنما هو انتقام من كسل حياة خادعة، أو ايغال في أفق قهر وسحق لا نهاية لتخومها.. ميراث ثقيل على كتف الكائن الباحث عن دفئه وحريته وسط هذه الأنقاض.
ليس القتل المباشر والابادات الجماعية التي ما فتئت تتكفل بها وتواصلها الحروب والمؤسسات العارية من أي حجب وأقنعة والتي أصبحت من بداهات التاريخ المعاصر، وانما القتل بأشكاله الروحية والرمزية الذي يقدم على أطباق باذخة من الدعاية واللمعان وتسطير الفكر والمعرفة بحجب جوهرهما وتفريغه والايهام به عبر صور بصرية ولفظية خادعة. وما يستتبع ذلك من اقتلاع لذاكرة الشعوب ومنابت إبداعها الخاص باتجاه محوها من أي فعالية حياة أو موت كريمين. وهذا ما أنجزته التكنولوجيا وأوهام العقل الكوني بضراوة لا مثيل لها في مسار الخلق البشري، بإيقاع زمني بالغ الايجاز والنعومة والسخرية..
يأتي القتلة من كل صوب وبأقنعة مختلفة، حيث السماسرة ومخلوقات الاعلان أصبحوا دعاة فكر وتنوير ولا يرضون بأقل من أدب طليعي مقاتل.
وحيث التجارب العميقة في الأدب والحياة التي اجتاز أصحابها مشقات ومحنا لتكون دليل تميز وحياة، نهبت حتى القطرة الأخيرة كما تنهب الثروات.
أين تقف بقامتك النحيلة حد التلاشي، وسط هذا العماء الفائض على الكون، وسط بلادك المعددة مثل صرخة يتسلقها جلادون في ليل ذئبي المزاج.
طوال حياتك، لم تكن لديك شهادة ميلاد ولا أوراق هوية واقامة ولا دراهم. رحلت ولم تترك سوى أثرك الصاخب في المنافي وطرقات، من بيروت ودمشق حتى باريس وقبر غريب مجهول، أو العودة الى الرحم كما كنت تحلم بها.
أتذكر هذياناتك في المقهى الذي أضحى بعيدا ومعتما، أتذكر وسط الضباب الكثيف لشتاء المدينة التي تفخر بامجادها كثيرا، عباراتك القاطعة، ربما آخرها:
"كم استثقلت الفكر نفسه حين وجدت شيئا منه يتسلل إلى رؤوس الأوغاد".
لن أطيل عليك، فأنت ضجر أكثر من اللازم. لنا لقاء آخر أكثر حميمية، فقد آثرت في هذه العجالة أن أخبطك (هل خبطتك فعلا ؟) بهذا الذي يسمونه «العام» الذي هو نحن..
أصدقاؤك مازالوا ينتظرونك في المقهى.
***
نتأمل شجرة: نخلة أو عشبة أو شجرة سمر نابتة بين
مقاصل صخور بركانيه تشتبك بشفرة السماء في علوها.
مفاصل جبال هائمة وأليمة
مرابض صماء لوعول الأبدية
جبال اضاع العدم خاتمه
السحري
في مجاهلها وشعابها
نتأمل الشجرة النابتة في هذا الكون السديمي الذي يلد
الأرض ومن عليها من زفرة واحدة.
نتأملها وحيدة:
وسط موج قدرها العاتي
وسط العواصف والسيول وبنات آوى
وحيدة في مرآة نفسها وأحلامها
مثل استغاثة أطلقها حطاب في ازمان سحيقة
ربما حط عصفور عليها أو يمامة تشرب الماء
من يدها
ربما أضاء نيزك أغصانها
ربما حلمت بالرحيل الى أماكن أخرى
أو بفأس تنزل دفعة واحدة ومن غير رحمة
ربما أناخ بدوي في ظلالها، أيامه
ربما..
سيـف الرحبـي