لعله كان قد أشيع في وقت من الأوقات، ولعله مازال يشاع حتى الآن، أنني كاتب "ذاتي" (أيا كان معنى ذلك..!) وأنني معني بدواخل النفس، وربما "رغباتها المقموعة" كما قيل، وانني سيريالي النزعة (مع قصور وخطل واضحين في فهم السيريالية عند من يشيعون تلك الاقوال إذ يتصورونها خيالات وشطحات فانتازية فقط ولا يعرفون أنها أساسا ثورة اجتماعية في عقيدة وممارسة أصحابها) ومن ثم فانني "غير ملتزم".
وهو كله غير صحيح، وربما كان مبنيا لا على سوء فهم فقط، أو سوء قراءة، بل على سوء نية أيضا. والحال ان قراءة، حتى لو كانت سريعة غير متأنية، سادامت سنزهة عن الغرض، لأعمالي القصصية منذ "حيطان عالية" حتى "تباريح الوقائع والجنون" ولكتاباتي النقدية، بل الشعرية أيضا تنبئ بوضوح عن التزام حقيقي.
لست أعفي نفسي، ولا يمكن أن أعفيها (ولا أعفي أحدا) من تبعات الالتزام، ليس هناك بالقطع اية فسحة من نفض عبء التزام ما. كل منا ملتزم، على أن الالتزام فكرة خاض فيها الكثيرون، ولا أظن احدا وصل الى الشاطئ، ولعل المفهوم قد تقادم به الزمن، لكنه، في جوهره، لا يبلى قط، نعم انني ملتزم، وأظنني قلت في أكثرهن موضع ان التزامي ليس بأيديولوجية محددة، ولا بنظام فكري محدد، ولا بفلسفة محددة، حتى هذا، اذا صح، فهو التزام محدد بمعنى من المعاني.
لست مشتغلا بالسياسة ولا بالفلسفة، ولا بالمسائل الاجتماعية قصرا، ومع ذلك فلا يمكن أن أزعم أنني لست مشغولا بل مهموما بها جميعا.
هذه الحيرة المستمرة بين هذه الامور كلها، التي أشغل (بضم الألف) بها، ولا أشتغل (بفتح الألف) بها، ليست، بطبيعة الحال، الفوضى، ولا الضياع، ولا التنصل من التبعة، بل هي، على العكس تماما، محاولة لا يخف عبؤها بأقصى قدر ممكن من الالتزام والحمى بالمسؤولية.
ما أريد أن أقول هو أن في كل نظام، وفي كل فلسفة، وفي كل منهج، شفرة وفجوة وشرخا، لا يغيب عني، ويؤرقني، ليس هناك اذن، بطبيعة الأمور، كمال مطلق ولست استطيع أن آوي الى كون مغلق على ذاته وكامل الاستدارة، لان هناك، في كل سماء شرخا تطل منه نجوم مؤرقة لم أعرف أبدا لا سلام الايمان المطلق، ولا سلامته، في كل تفاحة اودتها فلم أعرف متعة القضم منها بعين مغمضة.
وليس هذا الموقف أو "اللا-موقف" عبثيا، أو عدميا، أونكوصا، هو، في إحساسي، الالتزام الذاهب الى أقصى ما يستطيع بمسؤولية ما يمكن أن نسميه رفض الخداع، وقبول النقص في الانسان وفي المفهومات، مع نشد ان المطلق، وانفتاح العين على قصور الكون، وخلل أي نسق فكري مسبق مفروض، مع التسليم بالمجد الانساي الذي هو، في الوقت نفسه الضعف الانساني.
حتى المسيح وهو على الصليب يصرخ: "الهي، لماذا تركتني" وحتى ماركس قال انه ليس ماركسيا، بما يعني أن الالتزام المفلق او الانتماء المفلق ليس إلا أداة في يد البيروقراطيين المحترفين، وحدهم.
أما الذي يعرف ما هو الصدق، فلعله، أيضا لا يعرف المحدودية، أي أنه يعرفها ولكنه في معرفته هذه يتجاوزها، ولعله يعرف، أيضا لوعة التفتح على التناقضات بلا نهاية، في سياق نوع معقد من الانسجام الجياش المتفاعل.
مع ذلك كله فان الالتزام هو أساسا التزام بالفن وليس التزاما مفروضا من عل لا من سلطة حزبية ولا من سلطة علوية، لا من سلطة "أخلاقية" اجتماعية ولا من سلطة عقيدة سياسية أو دينية أو غيرها، اذا اتخذت شكل "السلطة".
الالتزام بقيم الفن ومتطلباته القاسية يعني بالضرورة التزاما بقيمة الحرية، حرية الفنان وحرية الآخر، فما من حد على الحرية الا الحرية نفسها، وما من قيد على حرية "الذات" الا حرية "الآخر" في الحوار، لا "حرية" روع أو راغ أو قمع.
ومعنى ذلك ان الالتزام الأمين في الأدب هو بالضرورة التزام بقيم العقلانية والديمقراطية والحرية. هذا التناغم الفذ بين الالتزام والحرية هو في تصوري لب الفن الحق.
ولعل روبين اوستل، استاذ الأدب العربي في كلية القديس يوحنا، اكسفورد، قد أدرك ببصيرة، موقفي من مفهوم الالتزام عندما قال في كلمة احتفالية:
"ذلك يفضي بي الى الخصيمة العظيمة الأخرى في أعمالك، ولعلها جديرة بالاعتزار والتقدير فوق كل شيء، فعلى الرغم من الالتزام السياسي الواضح الذي وسم بميسمه حياتك وعملك، وهو التزام أجله وأشاركك فيه الى حد ما، فانك لم تقيد عملك الابداعي بأية أيديولوجية معينة، ومع ذلك، وسواء أحببت ذلك أو رفضته، فأنت صوت جماعتك. ان جماعتك، بشكل حاسم، تشمل وتجمع، ولا تنحي ولا تفرق، ان عالم أدبك هو عالم المصريين القداس والاغريق والرومان والأقباط واليهود والمسلمين، هو في الحقيقة عالم كل من واتاه حسن الحظ بأن ضرب بجذوره في أرض مصر الخصيبة، هي الجماعة الوحيدة الممكنة في بلدك المباركة، هذا ماضيها وهذا مستقبلها، هذه هي رسالتك".
قد لا أكون مستحقا لذلك كله، ولكني أتصور انه يشير الى الاتجاه الصحيح.
ولعل هذا هو اتجاه التغير الذي طرأ في الفترة الاخيرة عند الحس الأدبي العام على مفهوم الالتزام، أما عندي فان هذا المفهوم الذي أسلفت تصويره بقدر ما يسعني من ايجاز وأمانة، لم يتغير قط، منذ أن بدأ الوعي- عندي- بمسائل الفن والمجتمع معا.
وحتى في عز اشتغالي بالحركة الثورية في اسكندرية الاربعينات كنت ددملتزمادد بما جاء في كتاب ليون تروتسكي "عن الأدب والفن":
"في مجال الابداع الفني يجب للخيال ان يتجنب كل قيد، لا يجب له تحت أية دعوى ان يبيح لنفسه الامتثال لأية قيود… اننا نؤكد عزمنا الحاسم على التمسك بمبدأ الحرية الكاملة للفن".
وقد كنت دائما على يقين من ان الحلم انما "يعني لدى الفنان – وهو يعني بشكل عام – ارادة التحرر من واقع يتزايد استلاها، ارادة تغيير الوطن الى الابد"، أي تغيير الذات والوطن معا الى الأجمل والأفضل والاعدل، في ي تناغم فذ- من جديد- بين الالتزام والحلم.
كان ذلك – ومازال، وأرجو أن يظل دائما- تصوري عن الحرية في الالتزام – او الالتزام في الحرية، لان حرية الفن عندي هي الشيء الذي يمكن ان يهدد بالفعل رسوخ قيم المجتمع التقليدي المحافظ، اذ ان الفن في الحرية يسدد بالضرورة نقدا راديكاليا جذريا للنظم الاجتماعية القائمة التي تستشعر منه الخطر على استمرار سطوتها.
مازال هذا التصور قائما وصحيحا عندي، مهما بدا من ترنح او تخاذل الكثيرين امام ضراوة التغيرات الكوكبية في سياق ما يطلق عليه "العولمة" وهو ما يعني هيمنة القطب الامبريالي الامريكي الواحد على مقدرات وثقافات الشعوب.
وما زالت الحاجة قوية بل ربما أقوى من أي وقت مضى- في الفن وفي الحياة معا- الى ان يكون العمل على النمو الفردي للمياة الروحية مواكبا بل مقوما من ضرورات العمل ضد سيطرة الايديولوجيات أيا كانت وضد النظم السلطوية أيا كانت.
ومازال تصوري قائما على أن الايروطيقية هي في الاساس ثورية على الصعيد الفردي وعلى الصعيد الاجتماعي معا، وان الفن في ذاتيته وايروطيقيته يمكن بل ينبغي (دون الزام علوي) ان يكون على نحو من الانحاء ملتزما، في حريته، بالمعركة الاجتماعية ضد البؤس والظلم الاجتماعي- بل ضد الجور الكوي نفسه – وان حق الحلم – في الفن وفي الحياة – هو نفسه فريضة الالتزام.
ومازلت أرى أن لكل انسان الحق في نصيبه من الخبز ونصيبه من الشعر، وكذلك نصيبه من الحلم.
وعلينا ان ننصت الى "الصوت الملهم الدافئ المتفجر من الينابيع الحارة الاولية، ينابيع الحياة، صوت الفن… الى الرمالات الهامة المنبعثة من مكامن النفس، من الاغرار البعيدة القريبة… التي تخفق بها الاجواء العميقة من القلب.. ان صوت الفن في المجتمع.. لا يمكن ان يكون الا قوة ايجابية دافعة" أي قوة اجتماعية في الاتجاه الصحيح.
ولكنني – مع ذلك – أتصور أن هذه الحماسة التي لعل فيها قدرا من البراءة أو البكارة – ولا أقول السذاجة أبدا- قد تعقدت الآن وان آليات عمل الفن في التغيير الاجتماعي، وهو لب مفهوم الالتزام – قد اتضح انها أكثر تركيبا وتعقيدا مما كان متصورا في الاربعينات الزاهرة، ولا أقول البائدة.
الآن يخامري شك كبير في أن عمل الروائي العربي الأصيل او الشاعر، أو المبدع بصفة عامة (ايا كان تحديد معايير الأصالة والابداع، ان كان لها معايير مسبقة) يستطيع أن يقوم بوظيفة، فعالة، مؤثرة على الآليات الاجتماعية، بشكل مباشر وملموس وعلى المدى القريب، وخاصة في المرحلة الواهنة التي سازالت فيها الأمية الأبجدية لا تقل في أحسن الفروض عن نسبة 50% وتكاد تصل عامة الى 70%، وما زالت الامية الثقافية، ان صح هذا التعبير، شائعة، وبشكل أخص بعد أن ارتفع مد وسائل الاعلام الجماهيرية وأصبحت فنون "بيع" المنتجات او السلع الفنية التي تتخذ مظهر الفن، أبرع وأدق وأكثر سطوة. أتصور ان الرواية او القصيدة المكتوبة والمطبوعة التي يمكن أن نعتبرها مما ينتمي الى الفن الرفيع، او الى الكتابة الجيدة على الأقل، أصبحت على هامش حياتنا الاجتماعية، جدا.
لكن هذا لا يعني انه من المقبول او حتى من الممكن أن ننفي من البداية وظيفة الشعر والأدب والرواية. بل يعني ان هذا التهميش (المقصود ربما) ليس هو "الهاسثية" جوهر الفن ليس، بذاته، انه هامشي، بل انه في بؤرة الحياة الانسانية فردية او اجتماعية على السواء، صحيو أن ثمة احساسا يزداد في العالم العربي خاصة في الفترة الاخيرة، بأن المثقف عامة، والكاتب والروائي والشاعر خاصة، معزول عن المجتمع، وانه كم مهمل، وانه ليست له فاعلية، وليست له سلطة، وليست له فرصة المشاركة في اتخاذ القرار الذي يهمه كما يهم مجتمعه.
صورة تبدو قاتمة حقا، في الوقت الذي نكاد نتفق فيه جميعا على المظاهر الملموسة للأزمة التي يمر بها الأدب في البلاد العربية، على اختلاف الدرجة والمستوى: تمزق الكاتب وعزلته، انعدام الحرية تماما او جزئيا، سيادة القيم الاستهلاكية، مشكلة الامية، وقلة بل ندرة القراء، قصور التعليم، نزيف دم الكتاب والفنانين في مجاري العمل الاداري والمكتبي، طغيان التسلية السهلة التي تحمل تدميرا خفيا وقد يكون مقصودا للقيم الثقافية الرفيعة او الجيدة أو الكف ء على الاقل، سيطرة أجهزة الدولة وأجهزة الاعلام، وتسخير مؤسسات الثقافة لخدمة مؤسسات الحكم.. وهكذا. ومع ذلك فان مقاومة هذه الازمة والسعي الدائب الى حصارها والخروج من اسارها لم يتوقف في أي وقت من الاوقات.
ولكن أولا دعونا نفكر قليلا او ننظر قليلا: هل حقيقة اختفى دور الكاتب او الشاعر في المجتمع ؟ الا يمكن للأدب أن يجد لنفسه دورا في وسط مجتمع تزداد فيه سطوة الاجهزة الاعلامية التي تلعب فيها الصورة دورا سائدا؟ وفي مجتمع يخضع، أكثر فأكثر، لسيطرة مؤسسات صناعة العقول، أي أجهزة الاعلام الجماهيرية، أجهزة قمع، خفي او مضمر، لاستقلا لية التفكير، وحرية الابداع ؟
هل أصبحت هذه الاجهزة من القوة بحيث لا يملك أحد، كاتبا أو قارئا، إلا ان يكون مجرد ترس دوار فيها؟… أظن لا.. أظن أن استقراء الواقع يشير الى الاجابة في ناحية الامل لا في ناحية اليأس، ولكن هذا طبعا يتوقف على عوامل كثيرة جدا. من البداية لا أقطع بانه ليس للأدب عامة وللشعر خاصة دور- دور اجتماعي حاسم على الاقل – كما أنني لا اقطع بان له دورا: الاحتمالان مطروحان، أميل – على عكس ما قيل – الى ان له بالفعل دورا ما، على المدى البعيد. والاجابة تتوقف على عوامل عدة، أتصور أن هناك عند الكتاب والشعراء والروائيين والفنانين بصفة عامة ايمانا يتجاوز معطيات الواقع، أي انه يستمد من الواقع عناصر معينة ولكنه لا يسلم لها بشكل الحتمية التي تبدو انها تومئ اليها، ايمان بأن للأدب وظيفة، بأن الشاعر- والكاتب – ليس منفيا- تماما- عن التأثير في مجتمعه، وان كان هذا التأثير غير مباشر، وغير قريب المدى.
ويشارك جمهور القراء- ضمنا على الاقل – في هذا الايمان. يبدو لي من مجرد ان المشكلة مثارة باستمرار، وان الالحاح عليها وتقليب أوجهها لا يتوقف جيلا وراء جيل، انها تعكس عنصرا واقعيا، لو ان المشكلة كانت مجرد مشكلة تدور بين الكاتب ونفسه، لو كانت مشكلة تدخل في نطاق ما يصح ان نسميه "ذاتية بحتة" لما كان لها هذا التكرار، وهذا الالحاح، اذن فهذا كله يشير الى وجود احتياج قائم وحقيقي، حتى على المستوى الاجتماعي، احتياج يعبر باستمرار عن ذاته، لعله احتياج فطري يبحث دائما عن التحتية، أي ان هنا احتياجا فعليا ودائما لما يفعله الشاعر، الكاتب، المثقف.
فلنقل اذن أن هيمنة الصورة – من داخل هيمنة الاجهزة التقنية والمؤسسات الاعلامية والسلطوية – مازال موضع سؤال، وأظن انها ستظل دائما موضع سؤال، ولنقل ان الادب المكتوب مهما بدا مظهره عتيقا عفا عليه الزمن، سيظل فعالا، ومثيرا للخيال، وحافزا للمشاركة الايجابية وللجهد الخلاق من جانب القارئ.
دعك طبعا من الاشارة المفصحة التي تقول إن عدد كتب الأدب والشعر المطبوعة يزداد يوما بعد يوم في عصر السينما والتليفزيون والفيديو، حتى في بلادنا، وان عدد قراء الرواية بحكم آليات اجتماعية واضحة يزداد حتى شاع القول باننا في زمن الرواية، بل إن الروايات ودواوين الشعر بفض النظر الآن عن مستواها الفني، يزداد عدد صفحاتها ويكبر حجمها، ودعك من ان التليفزيون احيانا يسهم في اجتذاب القواء الى عدد اكبر من هذه الكتب، سواء بان يخدمها بالندوة والتقديم
والتعلية الخ، او بأن يحولها الى مسلسلات وأفلام، هذه الظواهر كلها جديرة بان تجعل هذه المشكلة موضع سؤال دائم.
أظن أن أجهزة الاعلام الجماهيرية بذاتها، وأجهزة انتاج وتوظيف الصورة بشكل أخص بذاتها ووحدها، محايدة. كيف توجه ؟ ماذا تقول ؟ وماذا تفعل ؟ هذا هو السؤال. من الممكن ان نتصور ان ددالجهازدد، وحده، له سيطرته، كما نو كانت له حياة أخرى مستقلة، لكننا لم نصل بعد وأرجو الا نصل أبدا، الى عالم "الرواية العلمية" الذي تسيطر فيه الاجهزة، ويسود الروبوت والكمبيوتر دون منازع، قد يحدث هذا في مستقبل قريب أو بعيد لا ادري، ولكن أميل الى ان أنفيه.
هناك وراء الجهاز دائما عامل انساني، وهناك ايضا المؤسسة ذات السلطة، والمصلحة الاجتماعية، هناك التوجيه السياسي، هذا صحيح، ولكننا لا يمكن أن ننفي تماما ان هناك، وراء الجهاز، أيضا، الوجد والصبابة والنزوع نحو التواصل الانساني.
هل هذه مشكلة ستظل قائمة في المستقبل المنظور على الاقل ؟
هل وجه الاختلاف بين الحين والحين هو طبيعة "المعسكرالايديولوجي" الذي يملك هذه الاجهزة ويديرها؟ أظن أن هناك، في الواقع، تمردا أساسيا فنيا استمده من الاستبصار الداخلي كما استمده من استقراء التاريخ، بقدر الامكان: تمرد دائم خفي أو سافر على السواء على قمع الاجهزة، وعلى قمع المؤسسات، بل أضيف الى هذا انه التمرد على قمع "الواقع" نفسه، سواء كان هذا الواقع اجتماعيا او كونيا، هذه الحاجة الاساسية تكاد تبدو ثابتة، كأنها خالدة في وسط هذه الظاهرة العرضية أساسا، ظاهرة الانسان.
هل أرى في التاريخ ما يقول ان هناك قمعا مستمرا، ومحاولة دائمة لكسر هذا القمع ؟ وان كليهما يسيران جنبا الى جنب، وان هذه الجدلية: القمع واللاقمع، القمع والحرية، قد تكون هي التصور الذي لا يمكن أن ننكره ؟ لست بالطبع أتصور وجود "يوتوبيا" يتم فيها انتفاء القمع، فإذا وجد قمع اجتماعي او فكري او ميتافيزيقي، فلا يتصور أيضا أن تظل لهذا القمع – بكل مستوياته – الكلمة الاخيرة، لم يحدث هذا في وقت من الاوقات. ولا أظن أنه سيحدث أبدا، هناك في مقابل القمع، دائما، صرخة الحرية المحرقة، تخفت أحيانا، وتجلجل أحيانا، ولكنها لا تموت ولا تنطفئ.
هذا كله يشير الى انه يمكن بل يجب ان يكون للأدب وللشعر وظيفة، هذا كله يشير الى منطق هذه الحاجة، منطق هذا المتطلب الذي يبدو مستعصيا على الزمن وعلى التقلبات والتطورات الاجتماعية: انه يجب ان يكون للأدب، عامة، وظيفته، وانه يجب ان يكون للأدب عامة، وللشاعر دوره.
وفي هذا الضوء قد نستطيع ان نحدد هذه الوظيفة بأنها اجتماعية – في المدى البعيد- كما قد نستطيع ان نحددها بأنها وظيفة معرفية، هي وظيفة للسؤال المتجدد أبدا، دون اجابة نهائية ابدا.
×××
ان الظاهرة اللافتة هنا هي الدعاوي العريضة التي يرفعها عدد من الكتاب الجدد في سياق يرفض مفهوم الالتزام رفضا باتا، كما يرفض ما يسمونه الاهتمام بـ"القضايا الكبيرة" ويعنون بها القضايا الاجتماعية والسياسية او "الوطنية" و "القومية".
ان الحياد – الانقطاع – في هذه الكتابات هو في نهاية الامر موقف من المجتمع ومن الايديولوجيا- وخاصة بعد ما عانيناه جميعا من انهيار الشعارات والقيم التي جلجلت في الخمسينات والستينات ثم تكشفت عن خواء وخداع او على الاقل عن اخفاق مدر وانجازات قليلة.
كانت المغامرة في السابق، تبدو في أقصى صور تمردها هي الانضواء تحت منظومة ثورية يحكمها نسق فلسفي وايديولوجي متماسك – واحيانا مغلق – ضد النظام الرأسمالي ونحو يوتوبيا العدالة والحرية والكرامة.
أما الآن فان الغالب – في عصر العولمة او الهيمنة الاحادية القطب من قبل القوى العاتية التي تبدو، ظاهريا على الاقل، كأنها نهائية القوة والسطوة – هو الحس بانه لم تعد ثمة مرجعية عقلية مقبولة ولا تفسير منطقي لما يحدث كل يوم بل كل ساعة من عسف واقتتال وافتئات عنصري وتجويع مروع في افريقيا وآسيا والعالم الثالث مقابل التخمة المروعة في امريكا الشمالية واوروبا، الى آخر هذه الصورة، ولعل ذلك هو الذي دعا هذا "الجيل" الى اللواذ بما يكاد يقترب من اللامبالاة، والعدمية، والانكفاء فقط على ما يسمونه "واقعة الاشياء الصغيرة" وما يقولون عنه "نعرفه فقط معرفة مباشرة من "الجسد" و "المشهد" الماثل امام الحس". او لعل هذا الجيل قد نشأ في ظل الهزائم المروعة والاخفا قات الوطنية والقومية مما دعاهم الى اتخاذ هذا "الموقف".
فاذا كان تيار ددالحياددد الظاهري عند كتاب مثل بهاء طاهر وابراهيم اصلان ومحمود الورداني، في كتاباتهم الاولى- انما كان يعني في التحليل الاخير التزاما بل تورطا حتى العنق وانشغالا عميقا بهموم اجتماعية في المقام الاول، معبرا عنها بحيلة الرصد الخارجي البارد الذي من شأنه ان يثير الغضب والانفعال لانه نابع، بالضبط منهما، فانني أخشي ان يكون في هذه الكتابات الجديدة ما يشي برفض مفهوم الالتزام رفضا كاملا.
في مناقشة مع بعض هؤلاء الكتاب، رفضوا هذا التصور، وارجعوا اسلوب التحييد هنا الى ما اسموه "تغييب الوعي" او تحويله الى المضمر المسكوت عنه، مما يعني في النهاية انكارهم لمقولة اللامبالاة او العدمية، وعودتهم في حقيقة الامر الى نوع من الالتزام المضمر، من باب خلفي.
ذلك ان الرصد الخارجي الدقيق لتفاصيل المشهد اليومي المبتذل العادي قد يحمل دلالة نفي الانسان عن العالم أي استئثار "الأشياء" و "الموضوعات" بالمركز وتنحية الحياة الداخلية تماما عن مواقع الضوء.
وقد يحمل دلالة متناقضة اذا رأينا فيه استعارة او مجازا حذف منه احد طرفيه – بحيث يومئ التحييد الى نزوع النصوص الجديدة نحو انكار هذه الآلية – وهو ما يطلقون عليه تقنية "تغييب الوعي".
ومما ينقذ هذه الكتابات من هوة العدمية او العبثية المطلقة ان فيها مقدرة على السخرية – بالنفس وبالآخر وعلى الدعابة التي قد تكون سوداء وقد تكون غير جارحة، وقد اجد في هذه الرؤية او "الرؤية – التقنية" نوعا من الوفاء لالتزام بقيم منيبة عن النص ولكنها قائمة وراء النص.
ينطلق معظم من يطلق عليهم كتاب التسعينات او الكتاب الجدد من التخلي عن "الالتزام" وعن دعوى الوقوف على اليومي الآني العرضي او المشهد الحسي او ما يقولون انهم لا يعرفون غيره مما يتعلق بهموم ومشاغل الحياة "الصغيرة"، تلك بالطبع دعوى عريضة تنقض نفسها بنفسها كما اكرر دائما، اذ هي الطرف النقيض لقضية كبيرة طرفها الغائب الآخر هو مضمر وقائم، أي باختصار هذه قضية فلسفية تنقض نفسها لانها بالتحديد تعني نقيضها، فالاهتمام بالحياة "الصغيرة" حضور ومحاولة نفي للحياة "الكبيرة". أي انه هو نفسه قضية كبيرة.
ان رفض الكتاب الجدد للا سقاط السياسي وما يتضمنه هذا من رفض مفهوم الالتزام، هو ايضا نوع من الاسقاط السياسي، فمن الوضوح بمكان ان رفض السياسة هو سياسة، أي هو موقف سياسي مثله في ذلك مثل موقفهم من كل ما يسمونه "القضايا الكبيرة".
الرفض الحقيقي للالتزام – وللسياسة – هو الكف عن الكتابة أصلا، أما رفض الايديولوجيات، كما اشاركهم فيه، ينطبق عليه الشيء نفسا، لانه هو نفسه بمثابة ايديولوجية، ومن الخير لنا جميعا ان نواجه المسألة بوضوح عقلي والا نفش او نخدع أنفسنا، أظن بل أكاد أوقن ان الكتاب الجدد لهم موقف سياسي وايديولوجي قوي لعل الكثير منا في حقيقة الأمر يشاركهم فيه، ولكن دون ان يتخفي وراء الاقنعة التي يضعونها أمامنا على كتاباتهم، بينما الكتابة نفسها تخون هذه الاقنعة، وتفصح عن ذاتها "بمواقف" او "قضايا" يمكن تحديدها عقليا ونقديا عبر تحليل هذه الكتابات.
في هذا السياق من البديهي أن العلاقة بين الاديب وبين المجتمع آليات معقدة جدا من حيث تحول الهامشي الى مركزي والعكس، ولكني في الوقت نفسه وفي هذا الميدان بالذات اترك للمبدع الفرد، ولحسا سيته الخاصة وتكوينه، دورا مؤثرا، ففي النهاية مازال للفن سره الذي لا يستباح، لا بوسائل التحليل النفسي وحدها، ولا بوسائل التحليل الاجتماعي، ولا بوسائل التحليل النصي وحدها.
ومهما كان جهد الآليات التي تقصد الى "تهميش" الفنان، فانه – في ذاته – لن يكون هامشيا ابدا.
فلنقل الآن ان الأدب عامة، والشعر خاصة، له دوره، بطريق غير مباشر، في التغييرات الاجتماعية التي تهدف الى تأكيد القيم الاساسية – الحرية، العدالة والحب والكرامة ونحوها- أي الأدب والشعر له دور حيوي بمحض وجوده، بمجرد الكشف عن حقيقة ما للانسان، بمجرد السعي الدائب نحو الوفاء بحقيقة ما، هي حقيقة له، هذا السعي قد يتخذ في المدى البعيد، وقيما نأمل، أشكالا اجتماعية مختلفة، تحددها ظروف اللحظة المتغيرة، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وفي ذلك ما يشير الى اهمية مفهوم الالتزام.
تسألني لماذا أكتب ؟
لماذا أكتب ؟ أكتب لانني لا اعرف لماذا أكتب.. مدفوعا الى الكتابة بقوة قاهرة، أعرف انني لا أملك الا الكتابة سلاحا للتغيير.. تغيير الذات وتغيير الآخر وتغيير الوطن وتغيير العالم، ربما، الى افضل ربما.. او ادفأ في برد الوحشة والوحدة.. او اروح في حر العنف والاختناق.. لانني أتمنى ان اقتحم مقدار خطوة في ساحة الحقيقة التي لا حدود لها، لانني أتمنى ان ترتفع معرفتي ومعر فتكم بالذات وبالعالم ولو كان ذلك مقدار قامة.. لانني لا أطيق ان أتحمل في صمت، جمال العالم وأهواله، فلابد من ان أقول.. لأنني أريد أيضا ان تظل العدالة حلما حيا لا يموت وصرخة لا تطفئها قبضة القهر.
لأنني أتمنى ان يكون في كلمة من تلك التي أكتب – أو في مجمل ما أكتب – شيء يدفع ولو قارئا واحدا ان يرفع رأسه في كبرياء، وأن يحس معي ان العالم ليس ارض الخراب واللامعني. لأن الكتابة حديث حميم أتكلم به الى أناس أعرفهم ولا أعرفهم، ولن يتاح لي قط أن أتكلم اليهم، وأنا أريدهم، هؤلاء المجهولين الذين لا أعرفهم كما لا أعرف أقرب الاقرباء. ان يسمعوني، وان نسمع معا عن ذات أنفسنا معا.
أكتب لأنني أتمنى ان أرى هذه الارض العريقة التي أعيش فيها وقد انجا بت عنها تماما غاشية الظلم والظلام وسحا بات الردة السلفية السوداء، هل هذا ممكن ؟ الكتابة هي الاجابة الوحيدة التي أعرفها: حتى ولو لم تكن اجابة.
أكتب مدفوعا بقوة الحب، بالكلمة التي شبعت ابتذالا وما زالت فضارتها لا تذوى.
مدفوعا بأن الشر عمود صلب موكوز في أرض الناس جميعا، فحسبي ان تنطفئ من تحته مواقد البخور ومحارق العبادة الوثنية، وحتى لو ظل الى الابد قائما، فليبق اذن في أرض مقفرة لا ترتوي على الاقل بدموع التماسيح.
لأن العالم لغز.. والمرأة لغز.. والانسان أخي لغز.. والكون كله لغز، احمله في حبة قلبي، وهو نواة صلبة في جمما العقل القلق الك ي لا يصل الى حل، وأنا بالكتابة مدفوع الى مناوشة هذه النواة أهاجمها من كل جانب، بلا أمل في أن أكسرها، ولا بأس من ان أحمل عليها مرة بعد مرة دون كلل حتى وان قصرت يدي وكل سلاحي، وسلاحي هو عنف الحب ورقته، أتمنى ان أكتب هذا، ولهذا أكتب.
×××
تسألني لماذا الأدب اليوم ؟
أرد على ذلك بتساؤل: كيف يحدد الاديب تجربته الفنية ؟ ما هو الهاجس الاهم في هذا الشأن ؟
من المداخل التقليدية للاجا بة على هذا السؤال انه يصعب جدا ان لم يكن مستحيلا ان يتحدث الأديب المبدع عن ملامح تجربته الابداعية بهذا الاسلوب التقريري التنظيري والا ما كان هناك من الأصل ضرورة للكتابة الأدبية، ومع ذلك فربما ناوشت هذا السؤال او طفت حواليه دون ان آمل على أية حال أن أجيب اجابة قاطعة.
أظن أن التجربة الفنية الحقيقية – بما فيها التجربة الادبية، الروائية أو الشعرية، على الاخص – انما هي سعي الى معرفة، او بشكل أدق قليلا، سعي الى وضع سؤال نحو المعرفة وضعا فنيا، بمعنى أن العمل الأدبي لا يريد لنفسه ان يكون موضوعا طبقا لقضية او تبشيرا بها، او دعوة لها، وليس هو بالقطع محاولة لما يسمى تصوير الواقع او نقل شريحة من الحياة او انعكاس للأوضاع الاجتماعية الى آخر هذه الدعاوي العريضة التي يصعب بالفعل الاقتناع بها عقليا، في السياق النقدي النظري، او في السياق الابداعي على السواء.
ومن ناحية أخرى فان التجربة الفنية الحقيقية في تقديري لا تقصد بل ربما كانت بالاصح تتجنب ان تكون تزجية للوقت او اثارة للتشويق او تفريجا لضائقة نفسية، او بوحا فقط عن شؤون ذات رومانسية او بكاء على كتف القارئ اذا صح التعبير، لا دعوة له ولا حضا ولا نجوى ولا مشاركة في تملق عواطفه، وانما هي دعوة للمشاركة في الخبرة، في سياق له جماليته، والجمالية ليست هناك بطبيعة الحال هي النسق المنتظم التقليدي "الجميل" بالمعنى المألوف، ربما كان في التشويه نوع من الجمال او العكس، ربما كان في التحريف أو الانحراف جمال خاص، وعلى أي حال فان النقد او التنظير أحيانا، في السنوات الاخيرة، كأنما يخجل من اللجوء الى مفهوم الجمال او مفهوم التجربة الروحية، ولكن أظن أن هذا ليس صحيحا، وان "الجمال" والخبرة "الروحية" والسعي الى المعرفة، ونشد ان التواصل مان الت مفهومات صحيحة.
فاذا كانت الكتابة عملية بحث عن المعرفة – من بين أمور أخرى- فهل هذه المعرفة مطلقة ؟
ما اقصده هو البحث عن معرفة وليس "المعرفة" بال التعريف أي السعي نحو حقيقة ما وليس «الحقيقة» المطلقة النهائية الحتمية ويهذا المعنى فهي معرفة نسبية دائما، ولكنها فيما اتصور تتضمن أيضا بذرة من المطلق دون أن تكون هي المطلق، أي انها تظل دائما نسبية بمعنى انها ليست "نسقا" مغلقا محكم التدوير على نفسه، كاملا، فلسفيا او معرفيا. ولا يمكن أن تكون اجابة شاملة ومحيطة بالحياة احاطة كاملة، بل هي دائما في تقديري، ذهاب الى أعمق فأعمق بدون الوصول ابدا الى حل، لست أظن أن من مهاو الفن والأدب الابداعي، بداهة، أن يضع حلولا أو ان يجيب على أسئلة، بل ربما كان مجرد وضع سؤال في السياق الفني هو كل ما يأمل الفن ان يحققه.
هناك بطبيعة الحال هموم وهواجس معينة بالنسبة لي وبالنسبة لمعظم كتاب ما نسميه العالم الثالث: هواجس الكرامة الانسانية، العدالة، الديمقراطية، العقلانية، الحرية، كل هذه القيم قائمة ملحة وضاغطة ليس فقط بسبب طبيعة اوضاعنا الاجتماعية والحضارية والثقافية، بوصفنا من العالم الثالث، فربما كانت هذه هواجس انسانية ليس بمعنى النزعة الهيو مانية وليس فقط انسانية بمعنى انها تغفل أو تهمل الاوضاع التاريخية المحددة: الطبقية والاقتصادية… انما المعنى انها تشتملها وتدركها ولكنها لا تتحدد بها تحددا كاملا نهائيا، لا تقتصر عليها بل تمتد الى تلك المنطقة التي أسميتها: منطقة "ما بين الذاتيات" وليست منطقة "الذاتية"، وليست منطقة التجريدات. أظن أن هذه المنطقة الغامضة والمضيئة معا هي ساحة العمل الفني.
أتصور انه ربما كان الأدب يدعي أحيانا أكثر مما له وربما كان يقوم بدور أكبر بكثير مما يدعي او ينسب اليه. هو طبعا ليس مرآة للواقع، او ما يسمى "الواقع"، أي مجموع الظواهر التي يصطلح أحيانا على تسميتها بالواقع. رغم انه يشتمل على ذلك كله، لعل الأدب في مراحل تطوره المختلفة قد فعل هذا، لكن أظن أن ما يرفع الأدب انه اذا كان قد فعل ذلك فقد تجاوزه أيضا في الوقت نفسه، الواقع في ظني كلمة أعمق وأوسع وأوثق اذ يشتمل على ما لا يمكن حده من الظاهر والخفي، من الحلم والصحو، من المرئي واللا مرئي من المدرك والذي لا يكاد يدرك، من المسمى والذي لا يمكن أن يسمى، هذه كلها أيضا، عناصر الواقع أو عناصر من واقع ما. وان كان قد أجرى المصطلح وفقا للتطور التاريخي للأدب والرواية، وخاصة في منتصف القرن العشرين، بأن ينسب الى الواقع نوع معين يتناول المشاكل الاجتماعية والاقتصادية ومشاكل المحرومين من الناس، قضاياهم وظروفهم وما هو حقير أو بنس او أرضى او ما هو صراع نحو التغيير.
وهو كله مشروع وجدير باهتمام العمل الفني، بداهة، ولكنه لا يستغرق الفن ولا يقتصر الفن عليه، فقد اصبحت للواقعية صفات كثيرة، وخرجت من نطاق الواقعية النقدية والاشتراكية الى الواقعية السحرية او واقعية الفانتازيا وتجاوزت المفهوم الذي كان سائدا عندئذ.
لا يمكن أن أتصور عالما بدون الأدب، بدون رواية، بدون شعر. ان عالما بدون أدب، هو عالم بدون مقوم أساسي من مقومات الحياة الانسانية، حياة الانسان الذي يقوم بالانتاج، أي بالابداع، سواء كان كاتبا أو متلقيا. للانسان تعريفات كثيرة يمكن أن يكون منها انه حيوان أدبي او حيوان فانتازي. يستحيل تصور العالم بدون رواية، كما يستحيل تصور الحياة بدون شعر، أي بدون أدب.
وبطبيعة هذا السيدة كله فان الأدب الذي يساعد القارئ على طرح تساؤلات، الأدب الذي يثير تفكيره، هو الأدب الحقيقي وليس الأدب الذي يعطي درسا في النهاية.
ولكن العلاقة الكبيرة التي ربما لم ندرسها حتى الآن حق در استها في العالم العربي، فيما أظن، هي علاقة القارئ بما هو مكتوب، قد تكون نظرة الكاتب للقارئ نظرة غير صحيحة وغير سليمة، ذلك ان الكاتب ليمي سلطة على القارئ ولا أبا ولا راعيا ولا عينا صاحية من عل تراقب كل شيء وتفرض فرضا على القارئ كيف ينظر وكيف يرى. الكاتب لا يوجه القارئ في تصوره، بالعكس، شاي شأن معظم الكتاب الآن، أدعو القارئ الى أن يكون مبدعا، ولا تتحقق كتابتي الا بإبداع القارئ ابداعا ايجابيا، لا أود أن يكون التلقي تلقيا سلبيا فقط، ولهذا فالأدب – كما قلت آنفا- ليس تسلية ولا تشويقا ولا دعوة ولا تبشيرا ولا حلا ولا اجابة. الأدب يشتمل على شيء من ذلك كله أو بعضه، وهو أمر مشروع، ولكن يجب أن يكون ذلك في سياق عمل فني مفتوح وليس شيئا مغلقا، ليس لؤلؤة مدورة، ليس جوهرة، جوهرة لامعة وناصعة بالتالي سعشية ومضللة.
القارئ أيضا ليس تجريدا وليس هناك ددالقارئدد في التعميم، هناك قارئ وقارئ. بعض القراء أسعدوني سعادة غير متوقعة، وبعضهم الآخر، معن اتصلت بهم مباشرة، شعرت انهم لم يدركوا اوانهم لم يحيطوا احاطة كاملة بكل الاشارات والأبعاد والتلميحات والمتضمنات والنصوص الخفية في كتاباتي، ولكنهم احسوا بشحنة من الطاقات، وهذا ما يكفيني ويزيد، مجرد أن الشحنة أو الطاقة حققت المشاركة التي كنت أسعي لها، ذلك ليس تجربة فردية بل ينطبق على عدد معين من الكتاب. ولكني لا أسعي في ظروفنا الحالية الثقافية الى ما يسمى بالقواء الجماهيريين، يعني القارئ "العريض" وان كنت لا أعرف بالضبط معنى هذه الكلمة، وان كنت أتمنى حقا أن يقرأي كل أحد، واتمني أن يقرأ كل أحد كل أدب حقيقي.
العلاقة بين الكاتب والقارئ علاقة معقدة وأعتقد أنها سازالت في ثقافتنا العربية تحتاج الى تقص وسبر اجتماعي وعلمي وعلى أمس منهجية، لست أدري اذا ما كان أحد قد قام بذلك.
أصبحت الكتابة الآن متنفسا ومنطلقا ووسيلة للوضوح وللتمرد على القمع الذي أصبحت قبضته أشد أسرا.
الملاحظ لمن هو على معرفة بالأدب الأوروبي والأمريكي أن الكاتب لا يلعب الدور نفسه في الفوب، كما يلعبه أو يضطر اليه عندنا، بحكم الظروف التاريخية والحضارية التي نمر بها. وجود الكاتب في الغرب يشكل فقط ركنا في نتاج الثقافة العامة أو هو أحيانا للتسلية فقط، أما علاقة الكاتب بالحياة وعلاقته بالقارئ فهي قوية وموجودة في بلدان العالم الثالث وخاصة في العالم العربي، في الفوب هامش واسع من الحرية فهل لو حصلنا على هذه الحرية عندنا لتغير وضع الكاتب ووضع الابداع ؟
هناك ملاحظتان سريعتان في هذا الشأن: أولا، أن كتاب الغرب دفعوا الثمن: أوسكار وايلد سجن، د.هـ. لورنس روقب وحرم لسنوات لغاية ما بعد الحرب الأخيرة وكذلك جيس جريس، وفي فرنسا دفع الثمن فلوبير وبودلير وغيرهما وان كان السياق الحضاري، والثقافي والاجتماعي هو الذي كان يحكم تلك الأوضاع.
لعل الروائي أو الشاعر في الفوب قد أصبح غير مهم، غير فعال، الى حد كبير، اما في العالم العربي، فعلى العكس ما ينتظر من الروائي او الشاعر في العالم العربي كبير، فهو يقوم بأدوار أخرى فاعلة اجتماعيا وينتظر منه أن يحققها، شاء أو لم يشذ، بطوعه او على الرغم منه ولهذا فإنني عندما أعيد النظر في المسألة اجد ان العلاقة، في النهاية، وثيقة بين فعل الكتابة والفعل الاجتماعي، وعليه فإن حويته محدودة، لا مفر، لانه يقف في مواجهة السلطات وله تأثير وفاعلية مهما كانت محدودة او مقصورة على ما يسمى «النخبة» ولكنه مازال يسجن ويحظر ليس بالضرورة بسبب ما يكتبه فقط، إبداعا ونقدا أدبيا بل اساسا بسبب دوره السياسي والاجتماعي في الأدب أو في الحياة العامة، وهو ما حدث في القرن التاسع عشر في أوروبا.
المكبوتات التي يعالجها الكاتب عندنا كثيرة، وان كان ذلك التناول لا يأتي بالفوضى او الجموح، مازال انتزاع الحرية عملية معقدة ومركبة.
هل هناك رابطة بين الأوضاع الاجتماعية وبين ذلك، او انه يأتي نتيجة كثافة وتراكم النسيج الداخلي والروحي للأديب ؟ أظن أن الامر يرجع الى الاثنين معا، لكنها ليست ظاهرة فردية. الظاهرة تجمعت، أصبحت جماعية، هناك عندنا الآن هذا التوق الشديد لكسر المحظور وتحقيق الحرية. لكن الحريات سازالت منقوصة حتى الآن، ما من أديب يستطيع أن يستخدم الكلمات "ثلاثية الحروف"، واذا كتبها فإنه يعرف انها لن تنشر في السياقات العادية للنشي. لعل هناك أسبابا لدى بعض الكتاب العرب منها أسباب عائلية مثلا، اذ ان بعضهم يشعر بالحرج من الحديث عن أمور ايروطيقية أو وصفها بتفاصيل، الشعور بالحرج من الوالدة مثلا أو من الأخت أو الزوجة أو المجتمع ككل. هذا نوع من التحفظ أشد وطأة مما هو رقابة..!
لا أعتقد أن عندي هذا النوع من التحفظ على الاطلاق، بالعكس أعتقد أن الصدق والتكشف والاقحام في هذا السياق مطلوب وضروري، ولكن القيد الوحيد هو القيد الفني اذا كان قيدا، أنا أسميه قانونا وهو نابع من الحرية، هناك مشكلة حيال المقدس، عندي دائما احساس بأن المقدس يجب ان ينزل الى الارض. ليست هي فكرة تدنيس او تدليس المقدسات، ولكن ان يكون المقدس هو أيضا يوميا وأرضيا ومتاحا أي يكون انسانيا- وهو ذلك بالفعل – دون أن يفقد صفته كقدسية. هذا مسعى خاص وشاق وخطر لكن أحسه بالنسبة لكتاباتي ضروريا، ذلك أن العالم العربي فيه مساحات واسعة للمقدسات والروحانيات في الحياة العادية او في جزء فيها، ربما كان الفاصل ليس كبيرا جدا بين ددالقدسيدد وددالأرضيدد عندنا.
ما أعنيه بالمقدس ليس دينيا فقط وليس المسلمات المتوارثة والسلفية فقط وليس هو المعتقد الديني المسلم به، ما أعنيه أشمل وأعمق وأدق، يعني مثلا اذا كان جسد الانسان مباحا فهو مقدس بالقدر نفسه، الصوفية عندي هي الخاصة الحسية والخاصة الروحية معا. هذا معنى المطلق عندي، المطلق هو أساسا وبالقصر نسبي وانساني. ليس هناك شيء خارج الانسان هذه النزعة التي تريد أن تخرج عنه في الوقت نفسه لتتجاوز الشرط الانساني هي الوضع الانساني. هذا التناقض او التعارض الذي لا يرتفع ولا يمكن رفعه، هو ما أعنيه بالعلاقة بين المقدس والأرضي.
ادوارد الخراط (ناقد وأديب من مصر)