كتب تشارلز ديكنز في العام 1848م (نسمع أحيانا عن دعوى التعويض عن الأضرار ضد الطبيب غير الكفء الذي شوَّه أحد الأعضاء بدلًا من علاجه، ولكن ماذا يقال في مئات آلاف العقول التي شوَّهتها إلى الأبد الحماقات التي ادعت تكوينها!). إن ديكنز هنا يشير صراحة إلى تلك الادعاءات الإصلاحية التي تظهر بين الفينة والأخرى، التي تروم إلى ما يُسمى بـ (إصلاح الثقافة)، الذي سيتوغل أثره إلى مؤسسات التعليم والمعرفة، انطلاقا من صميم الأزمات التي تجتاح العالم وتقلب جوهر الثقافة، وهو ما يسميه توما دوكونانك بـ (الجهل الجديد).
فهذا الجهل بوصفه ثقافة مغايرة، يفترض –حسب دوكونانك– وجود نظام ينشد (العودة الأبدية للتجانس والتبادل الدائم للمماثل مع ذاته)، فهو يعبِّر عن الثقافة ذات الشكل العمومي التي تقود إلى بناء علاقات ذات أبعاد مختلفة بين الاستهلاك، والمعرفة، والتكنولوجيا، التي تنتج نظاما حِرفيا بدلا من ممارسات للقيادة الفكرية القائمة على التفكير النقدي. إنه نمط من أنماط الثقافة المتغيِّرة في حقبة تحوُّلاتها بين ماضيها ومستقبلها، يتخذ من المتغيِّرات الاجتماعية أساسا للتعبير عن الأنماط الجديدة للثقافة، ويحاول التعبير عنها وفقا لمفاهيم تُسهم -كما تقول فيرجينيا وولف- إلى (إعادة تشكيل الفكر الاجتماعي).
لقد تعرَّض جيمس كليفورد في العام 1988 في كتابه (مأزق الثقافة)، المكوَّن من مجموعة من المقالات، إلى مناقشة تلك العلاقة المتأزمة عبر التاريخ بين الطرق المتباينة للحياة الاجتماعية، وعوالم التغيير التي يقررها الغرب، وأثر ذلك كله على مجموعة من الكينونات الاجتماعية الثقافية التي تتعاطى معها أو تتصادم مع تشاكلاتها المعرفية؛ فهناك تصادم قائم حتى اليوم بين تلك الكينونات والمهاجرين الذين يمثلون مجتمعات صغيرة ضمن عالم المجتمع الغربي، الأمر الذي جعل الثقافة والهُوية في حالة من الانصهار والتأزُّم، زاد من ارتباك تلك الثقافات وقدرتها على الصمود أو التماهي مع (تشكيل الذات الجماعية) –بتعبير كليفورد–.
إنها حرب كونية ثقافية مستمرة في العالم، لن تتوقف ما دام هناك صراع على التجانس الكوني لمحاولة إيجاد نظام جديد للتنوُّع، تم حفره أدبيًّا في اصطلاح (الإثنوغرافيا)؛ التي تجعل من الثقافة والهُوية حالة من حالات الصراع والانصهار، فالحدود الثقافية (ليست أكيدة وعرضة للتفاوض، وإن كافة المبتدعات الثقافية يجري نقاشها من الداخل)، كما يقول آدم كوبر في تفسيره الأنثروبولوجي للثقافة، إلا أن الاختلاف الثقافي أو التنوُّع له قيمة أخلاقية اجتماعية أو سياسية ثقافية، الأمر الذي يعني أنها فكرة قائمة على المعرفة التي كانت في الأصل أيديولوجيا؛ فمصطلحات مثل (الموضوعية والحياد والنزاهة تشير إلى مواقف في الموضوع كان قد أُسبغ عليها في مرحلة ما قدر كبير من السلطة المؤسساتية) –حسب كوبر–.
إن الثقافة في هذه الحرب المتغيِّرة تنضوي ضمن مرتكزات من التعقيد والتناقض في مساراتها التاريخية، فما نعيشه اليوم من تناقضات ثقافية مما يحدث في العالم، وردات أفعال الشعوب على المستوى الاجتماعي والسياسي، يجعل الصراع الثقافي مطَّردا بين قضايا الجبر والاختيار، التغيُّر والهُوية، وهي قضايا تعاني منها اليوم شعوبٌ كثيرة واقعة تحت الصراعات العنيفة خاصة في البلدان العربية كفلسطين، ولبنان، وسوريا، والسودان وفي بلدان أخرى مثل أوكرانيا ومناطق الساحل الأفريقي وغيرها؛ فالصراع الثقافي هنا يعتمد على النزوع النشط نحو البُعد التكويني العنيف القائم على الجبر.
ولأن الثقافة كما يحدِّدها تيري إيجلتون دالة على (رفض مزدوج؛ الحتمية العضوية من ناحية، والاستقلال الذاتي للروح من ناحية أخرى)، فإنها رفض للمادية والمثالية، بوصفها خليطًا من الإرادة والصناعة؛ تلك الإرادة التي تنشأ مع معطيات المجتمع وأنماط حضارته وفكره وتطلعاته، والصناعة القائمة على العلاقة بين المصطنع من الحُرية والضرورة والحتمية، فالثقافة بهذا المعنى مفهوم يعتمد على الاختزالية المعرفية، التي تتجاوز قدرة تلك المجتمعات على الصراع الثقافي صعودا إلى مستوى الأزمة في تشكيل الذات وطبيعة الهلاك المقدَّر للنوازع الكامنة في الذات.
إن الثقافة هنا كما يقول إيجلتون (تستقطر إنسانيتنا المشتركة من نفوسنا السياسية، وتخلِّص الروح من الحواس وتنتزع الأبدي من الزائل، وتستخلص الوحدة من التنوُّع). إنها انقسام الذات وتصدعها بين فكرة الثقافة المحلية والهّوية، وبين صور الذاتية الكُلية في صراعها الداخلي في مواجهة العنف والتغيير الفكري، والأمر لا يقتصر على تلك البلدان الواقعة تحت وطأة الصراعات العنيفة، بل أيضا في بلدان العالم ومجتمعاتها التي تواكب تلك الصراعات وتتصادم معها وفقا لتاريخها الإنساني وصراعات الارتداد الفكري بين الأخلاقي والسياسي الذي ساد بلدان العالم، خاصة في مواقفها الخاصة من الإبادة الجماعية لشعب غزّة المنكوبة، أو حتى من موقف التهجير القسري.
لتصبح الهُوية في نزاع وصراع داخلي بين الذاتية والكُليِّة، الفرادة والتنوُّع. إنها تستقي القوُّة من علاقات القوة التي تضفيها الجماعة على الأفراد، فتهميش هُويات معينة أو الاعتراف بها يكون من قِبل الهُويات الأقوى بالمعنى الاجتماعي السياسي، أو حتى الاقتصادي، لذلك فإن سياسة الهُوية تتطلَّب الوعي بالصور النمطية التي تقدِّمها الهُويات المتصارعة عن بعضها ضمن سلطة الإعلام والتاريخ، وبالتالي فإن هُويَّات التنوُّع إذا لم تكن قادرة على إيجاد الوحدة الكلية العامة، فإن ذلك الصراع سيُسرِّع تجزؤها إلى هُويات مهمَّشة ما لم تكن قادرة على التوازن بين عاملي الدفع والجذب.
ففكرة الثقافة باعتبارها (أسلوب حياة)، يرتبط بالميول الرومانسية المناهضة لمجتمع (الإمبريالية)، و(يتعاطف مع المجتمعات المقهورة)، وهو وفق ذلك يعود إلى السطح بين عقد وآخر، إلا أن طغيانها في القرن العشرين مع نمو علم الأنثروبولوجيا الثقافية تحت مظلة ما يُسمى بـ (المودرنيزم) أو (ما بعد الحداثة)، جعلها تؤدي دورا تعبيريا تلقائيا طوباويا قائما على مراحل التطوُّر التاريخي للثقافة وعلاقاتها مع علوم الاجتماع والاقتصاد، مما أنتج ثقافة متأرجحة بين الحقيقة والقيمة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية؛ أي بين (الوصفي والمعياري)، فهي لا تمثِّل (بنية متجانسة أحادية التكوين) –كما يقول إدوارد سعيد–، بل هجين ثقافي متغاير الخواص.
إن فكرة الثقافة اليوم تواجه العديد من التحديات والتشاكلات من حيث تاريخ تنوِّعها الدلالي، وقدرتها على مواجهة المتغيرات الفكرية والاجتماعية والسياسية والتقنية التي تمثِل حالة من حالات الاغتراب، سواء في سياقات صراعاتها الذاتية وتفاعلاتها مع الطبيعة الكلية للقدرات الإنسانية في مجتمعها، أو مع تلك المتغيرات التي تطرأ عليها باعتبارها (تحسُّنا اجتماعيا)، يحاول عقد توازن بين التصورات الجماعية والرأسمال المعرفي، وبين ما يمكن أن نطلق عليه برمجيات المعايير الثقافية، التي تولِّد القواعد الجديدة للعلاقة بين التطور المجتمعي والثقافة باعتبارهما ممارسة معرفية.
فالثقافة هنا تقوم على البُعد المعرفي باعتبارها مجموعة من التفاعلات الأخلاقية والسياسية للحضارة نفسها، وبالتالي فإنها تشكيل أو إعادة تشكيل وتجديد قائم على الفكر التاريخي المتراكم، والذي يقدِّم نفسه بوصفه (هُوية). إن الثقافة بذلك (تفتح وتغلق الإمكانات البيولوجية– الأنثروبولوجية للمعرفة. إنها تفتحها وتفعِّلها، وتمنح الأفراد معرفتها المتراكمة ولغتها ونماذجها وباراديغماتها ومنطقها وترسيماتها وطرق تعليمها واستقصائها وتحقيقها…) – كما يقول إدغار موران في منهجه–، وهي بذلك مصدر لتنظيم حياة المجتمعات، فإما أن تفتح آفاق المعرفة وتحررها من قيودها الجبرية، وإما أن تغلق مساراتها وتجعلها قرينة الامتدادات الخارجية الداعية إلى (الإصلاح الثقافي) تحت مظلة (العولمة).
إن تنظيم المجتمع يعتمد على تاريخه الثقافي، وامتداده الفكري ينطلق من الأفكار والمعتقدات والرموز وحتى الأساطير، فهي ذاكرة ثقافية ممتدة، تصنع الفكر الثقافي الحديث؛ ذلك لأن التراكم المعرفي يُنتج مرجعية تفاعلات المجتمعات مع كل ما يصلها من فكر وبرمجيات ذات عناصر تنافسية أو تعارضية، فالإدراك المعرفي عموما يخضع (لتضافر الترسيمات الفطرية والترسيمات الثقافية للمعرفة)؛ فحتى البرمجيات الجديدة في الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن تعمل دونما مرجعية معرفية تاريخية. إنها برمجيات تولِّد معارف قد تم توليدها سابقا ضمن تاريخ التفاعلات الإنسانية في أشكال وأنماط مختلفة.
يناقش كليفورد غيرتز في تأويله للثقافات (أثر مفهوم الثقافة في مفهوم الإنسان) نفسه، باعتبارها تشكيلا لدوافعه الداخلية ورغباته وعواطفه الإنسانية، وتُحدِّد معاييره الاجتماعية؛ فالبحث في (الإنسان)، بمعنى (الإنسانية) لابد أن يكون خلف أو تحت أو في ما وراء عاداته وتقاليده، وتاريخه الفكري الذي شكَّله وأسَّس كيانه الإنساني المتفرِّد والمتنوِّع، وإلاَّ فإنه سيصبح (ابنا وأسيرا بالكامل لعصره، أو أن يصبح جنديا في الخدمة الإلزامية في جيش عرمرم على شاكلة الجيوش التي كان يخلقها تولستوي) –حسب غيرتز–، الأمر الذي تكشفه الحتميات التاريخية التي تحدِّد الأنماط الثقافية للوجود الإنساني.
ولعل ما أطلقه كلارك ويسلر في بدايات القرن العشرين فيما أسماه بـ (النمط الثقافي الكوني الشامل)، يفسِّر نتائج الصراع بين (الكونية الشاملة)، و(الحركات الداخلية) للإنسان ونوازعه، التي تجعل الثقافة تجريبا شاملا متجذرا للمعرفة والتجربة الاجتماعية. إنها ليست استعراضا للإجماع الإنساني في مكان وزمان معيَّنين، بل قيمة كونية ترتبط بعلاقات ونظام اجتماعي له طبيعة بيولوجية ونفسية، تحدِّد سمات الكُلّيَات الثقافية المؤسِّسة لها، وهي كُليَّات قائمة على التجريب والشمولية، ولهذا فإن الجماعات الإنسانية لا يمكنها تحقيق الانتماء وتكوين الهُويات إلاَّ ضمن نطاق تلك السمات العامة التي تنضوي تحتها، فلا يمكن للجماعات المهاجرة مثلا تشكيل هُوياتها خارج سياقاتها التي تنتمي إليها تاريخيا وفكريا، حتى وإن استطاعت تشكيل هُوية جديدة مؤقتة.
إن مناقشتنا لمفاهيم الثقافة وحالات تجلّيها وتقلباتها اليوم، ينطلق من الحاجة إلى إعادة النظر إلى العلاقات الثقافية التي تعيد تشكيل نفسها بين عصر وآخر، بل بين مرحلة وأخرى، في محاولة بناء كُليات جديدة تتناسب مع ما يمُّر به العالم من متغيِّرات أحدثت تطورات وأنتجت أنماطًا ثقافية استطاعت توجيه سلوك المجتمعات أو تنظيم خبراتها في مجموعة من الرموز أسهمت في إيجاد هُويات ثقافية تحاول التفاوض على سياسة الهُويات المحلية ضمن حدود الابتداع أو التنظير الناقد أو حتى (الإصلاح الثقافي).
فالمجتمعات المعاصرة تشهد أنماطًا من الكفاح من أجل الحفاظ على هُوياتها بين التهجين والهيمنة الناعمة أو القسرية، في انزياح مزدوج ومتعاكس بين فقدان تلك الهُويات أو إعادة تثبيتها أو الاندماج ضمنها أو مقاومتها وفقا لمقتضيات الثقافة المسيطرة؛ وسواء أكان الصراع بين الشعوب وتسارع التقنيات أو بين صراعات عدائية عنيفة، فإن جوهر الثقافة في انزياح، وتحوُّل، بل في تطوُّر وتصدُّع، يحتاج إلى إدراك لقيم الاختلاف والتباين و مقاربة التنوُّع بما يحقِّق التمثيل المتفرِّد للهُوية، وإلاَّ فإن التماهي يدفعنا إلى القول مع فرانسوا جوليان بأن (الهُوية الثقافية لا وجود لها).
ولهذا كله فإن قدَر الثقافة هو التحوُّل والتغيُّر؛ ذلك لأن التحوُّل أساس من مقتضيات الثقافة في أي مجتمع وفي أي عصر، فخصائص الثقافة غير ثابتة وإن كانت مرتبطة بتاريخها الممتد،إلِّا أن انزياحاتها وتحوُّلاتها في ارتباطها بالإنسان وتطوُّره الفكري، يجعلها تتجاوز مفاهيم النماذج إلى إنتاج مفاهيم جديدة قادرة على بناء واقع اجتماعي يتناسب مع تنامي المعرفة الحديثة، وقابلية التكيُّف مع توليفات الفضاء الاجتماعي وحقوله المعرفية، وتشاكلات الإكراهات الثقافية الخارجية باعتبارها كليات فاعلة، تقدِّم نماذج ثقافية في توليفات قد تمثِّل قوة مهيمنة.
إن انزياحات الثقافة وقدرتها على التكامل والتغيُّر أو حتى نزاعاتها وصراعاتها تعتمد على الإدراك والتنظيم للسلوك العلائقي بين رموز الثقافة ككل، وبالتالي فإن منطق تكاملها يقوم على أثرها التجريبي وتفاعلها حتى مع نقائضها كي لا تقع فيما يسميه غيرتز (الانقطاع الثقافي)، بحيث لا تكون الثقافة عبارة عن (قصاصات ورُقع) غير متسقة، وغير متناسقة، فتشكُلات الثقافة اليوم تضع كُلًا منَّا أمام مسؤولية التغيُّرات التي تتَّخذ من أنظمة السُلطة السياسية والتقنية والاقتصادية قوة لفرض أنظمة للانزياحات الثقافية لمجتمعاتنا. إنها القوة الحاضرة في الإطار التاريخي عبر الحقب الماضية، والتي تتَّخذ في عصرنا أشكالًا عدة وتُنتج رموزا جديدة اعتمادا على أنماط التحوُّل.
لقد ازدادت مسؤولية المثقف اليوم وتنامت أهميتها في عصر الانفتاح والذكاء الاصطناعي، والحروب والعنف واجترار السلطة بأنواعها وأشكالها المتعددة، وأصبح (تصدير الإنتاج في الثقافة والحضارة، وشراء الحضارة… صفقة، -دائما وتكرارا- لا يعود على المشتري منها إلَّا أكاذيب متكررة خداعة…) – حسب رأي علي شريعتي–، ولهذا فإن المجتمعات التي تستورد هذه الحضارة دون ربطها بالأصول الحضارية الخاصة بها، ودونما (تغيير للتفكير والفكر)، ودون إرساء لها على ثوابت وأُسس (من أعماق ترابها الثقافي والتاريخي والقومي)، فإنها لا تبني حضارتها بل تساعد على جعلها مجموعة من الرقع والقصاصات المتفرقة التي لا يجمعها جامع اجتماعي وثقافي وبالتالي حضاري.
ولهذا فإن (المثقف الأصيل) –باصطلاح شريعتي–، يتحمَّل مسؤولية الصراع للعودة إلى الذوات، ولاتخاذ مواقف موضوعية وحاسمة من القضايا السياسية الكبرى، ومن الانفتاح الفكري غير المسؤول الذي يؤدي إلى حالة من التغريب تطول أصول المجتمع. إن على المثقف اليوم (منح بني البشر الوديعة الإلهية الكبرى أي المعرفة والوعي) –كما يقول شريعتي–؛ ذلك لأن الوعي هو الأساس الذي يشكِّل ما تُطلق عليه فرجينيا وولف (حالة الكينونة الثقافية)، المتمركزة على التجانس بين الأصول المعرفية والحضارية للمجتمع، وبين ما يكتسبه بفعل الانفتاح.
ولعل ما تقوم به مجلة منذ نشأتها في تسعينيات القرن المنصرم، يُعدُّ تأصيلا لمفاهيم الثقافة وقدرتها على التطوُّر والانفتاح وفق اتجاهات إنسانية قادرة على بناء علاقات ومُدركات وأنماط فكرية معتمدة على الوعي الثقافي، وفي هذا العدد فإن
تقدِّم ملفين يمثلان حالة من حالات الانزياح الفكري بين ملف محلي بعنوان (الحيوان والطير في التراث الثقافي العُماني)؛ الذي يركِّز على البعد الأنثربولوجي للدراسات الثقافية القائمة على الإنتاج المعرفي للمجتمع، والقدرة على تفسيره باعتباره (معرفة)؛ فهذه الدراسات لا تستعرض المفاهيم بقدر ما تُنتج علاقات بين المنظور الاجتماعي للثقافة والأنثربولوجيا بوصفها نقدا ثقافيا، انطلاقا من كون الهُوية الثقافية تشاكلا بين التنوُع والاختلاف والقدرة على الإنتاج المعرفي؛ فهي كما يقول كلود ليفي ستراوس (شحنة دلالية)، تدل على (تنافس بين «الطير والحيوان» والإنسان في إطار التماثل بينهما أو التقابل من ناحية تعاكس سلوكهما).
إنها حالات الانزياح التي تجعل من التماثل والتجانس قيمة للتنوُّع وتمنح منظورًا مغايرًا للثقافة يتأسَّس على الفكر الحضاري وإعادة استحضار الفكر الاجتماعي وفق معطيات التوازن ضمن (مسافة كونية) قائمة على التاريخ المتجانس للثقافة بين الماضي والحاضر، وهذا أيضا ما نجده في (حكاية نشأة صناعة النفط في عُمان) للمترجم بدر الظفري، وهي حكاية مستخلصة من كتاب (روابط راسخة لا تتزعزع للأبد) للكاتبين روبرت أتسون، وستيوارت لينغ، تستعرض جزءا من مكوِّنات ما يمكن تسميته تجاوزا (الثقافة المدنية) –بتعبير ألموند وفيربا–، فالنص يكشف تلك التحولات السياسية والاجتماعية التي عاصرت المؤشرات الأولى لوجود النفط في عُمان واستخراجه، وصراع الإنتاج والتملُّك، والانزياحات وحالات التوتر، وبدء تشكُّل الكينونات الثقافية الناتجة عن اكتشاف النفط والصراعات المصاحبة له.
كما تقدِّم ملفا عن (بوهوميل هرابال)؛ الكاتب التشيكي صاحب رواية (عزلة صاخبة جدا)، الذي يمثِّل ظاهرة ثقافية متفرِّدة، والذي عانت إبداعاته الكثير من الضغوط السياسية والفكرية منذ ستينيات القرن الماضي، وما واجهه من صراع مع النظام الشيوعي آنذاك وسياسته الرقابية، فهرابال أحد أولئك الكُتَّاب الذين يمثِّلون الصراع الثقافي والفكري مع السلطة السياسية والأنظمة الاستعلائية، وهو حالة من حالات التعبير عن الإنسان كونه وجودًا يعيش في (زمن فارغ متجانس) –بتعبير هومي بابا في موقع الثقافة–؛ إذ يمر بمتغيرات الحداثة والتقدُّم وتحولَّات الإنتاج الاجتماعي والثقافي في ظل التغير السلطوي.
إن ما تقدمه في هذا العدد يمثِّل منظورًا قائمًا على التعدُّد الفكري، استنادًا على إدراك الكينونة الثقافية للفكر العربي المعاصر، الذي يحاول القبض على المتغيرات والانزياحات الثقافية بالبحث في الأصول الحضارية والنبش في المتغيِّر الفكري لثقافة الآخر بغية الوصول إلى ما يسميه فرانسوا جوليان (المفهوم الكلِّي) للثقافة، وفق مجموعة من الانزياحات والإنتاجات التي تقدم من مسافات مفتوحة هُوياتها وكينوناتها المتجلية في النصوص تجليًّا واضحًا حينًا ومواربًا حينًا آخر.
