ملعونة هذه الكتابة.. هذا المستحيل الذي نتكسر على صخوره.. الدوار الذي جعلنا ندور ولا يدور.. الزئبق الذي نقضي العمر في مطاردته، وحين نظن اننا أمسكنا به نكتشف أننا نمسك بالسراب..
اتوق إلى لغة لا تشبه اللغة.. إلى حروف لم تستهك بعد تسمعني صوت تكسر الأشياء الثمينة داخلي.. في هذه الساعة المتأخرة من الحزن أمسك بالقلم الذي يتثاءب في يدي كعصفور مقصوص الجناحين، أحاول أن أخط به شيئا يخرجني من حالة الإحباط التي تسكنني منذ فشل روايتي الأخيرة.. تري هل صحيح ما يقوله هنري ميلر إن على الكاتب أن يكتب ويكتب حتى ولو كان جميع من على الأرض ينصحونه بالعكس؟!.. لماذا فشلت « شمعة واحدة لكل هذا الليل ؟! ».. الأنني أردت أن أقول فيها كل شيء دفعة واحدة فهرب مني كل شئ دفعة واحدة ؟!.. الأنني حين نسجت الشخصيات نسيت أن أخترع لها شهيقا وزفيرا فماتت الرواية اختناقا !.. الأنه يحدث أحيانا كثيرة أن نجلس لنكتب شيئا فنكتب شيئا أخر ؟!.. تخل زوجتي قادمة من أعماق الفراغ لتقتحم علي عزلتي الجميلة.. هذه المرأة التي علمتني أن أرسم المطر في أحلامي لئلا يقتلني القحط، ترى هل ستصب في رعودها هذه المرة أيضا؟!
– حبيبي.. وافق أبي على أن تمسك الحسابات في مصنعه.. أرجو أن تذهب اليه غدا.
– لم أستقل من وظيفتي الحكومية لأعمل عند أبيك.
– ولكننا بحاجة ماسة إلى المال.
– سأكتب رواية جديدة وسنعيش من دخلها.
– كفاك وهما أيها المغرر به.. من خدي وقال إنك كاتب.. خس سنوات منذ استقلت من وظيفك لتتفرغ للكتابة كما تزعم وأنت تكتب الرواية تلو الرواية لتواجه الفشل تلو الفشل.. أربع روايات فاشلة في خمس سنوات.. ولولا أبي الذي الجأ اليه حين تفشل هذه الروايات لما استطعنا الوفاء بمصاريف البيت ومستلزمات المدرسة لولدنا.. أنا ما عدت قادرة على التحمل أكثر.. هذا القلم الذي يعربد في يدك الأن كالفضيحة أحري بك أن تقذفه في أقرب سلة للمهملات..
صفق الرعد الباب وراءه دون أن يتيح لبروقي الفرصة لترد.. لحظتها كانت أشياء تشبه الأشواك تتغلغل في مسامات قلبي الحافي.. رأيت دمعة تتساقط من عين القلم.. سألته:
– لماذا أنت فاشل ؟!
– انت السبب
– أنا؟!
– الكتابة تحليق في فضاءات الجنون..
إبحار في تخوم المستحيل عكس التيار.. لا تحب الأجوبة التقليدية على أسئلة مستهلكة.. هذا الذي لم تستطع أن تعيه حتي الآن كلما حاولت أن أسترسل في جنوني تقمعني..تتدخل في كل ما أكتبه بداعي العقل والمنطق.. ولهذا تفشل رواياتك.
– تعني أنني إذا تركت لك مطلق الحرية ستكتب شيئا ذا بال ؟
– بكل تأكيد.
– وبدون أن أقترح عليك شيئا ؟
– اقترح ما شئت، واستفسر عما أردت.. لكن لا تفرض رأيك علي.
– سأفعل ما تقول.. ولكنني أحذرك إن فشلت الرواية القادمة فليست زوجتي التي.سترميك في سلة المهملات.. بل أنا كل حكاية / أسطورة /حريقة تبدأ برجل وامرأة.
المرأة: جميلة حد الموت.. وردة تتسربل من مدن الصقيع والخيبة، جذابة كالحزن، تحترق في دمها زقزقة العصافير ورفرفة الفراشات.. عيناها المغرورقتان بالنجوم تهيمان في بحر الزرقة ( رغم أنهما لا ترتديان عدسات لاصقة ).. عصبية.. سريعة الغضب لدرجة أن صديقاتها يلقبنها بالعاصفة. الرجل: دميم حد الرعب.. يحمل على كاهله أربعين سنة، ومثلها من الأحلام، وعشرة أمثالها من الخيبات.. بيد أنه لم يفقد بريق الضحك في عينيه الذي ينسي المرء أنه دميم، وضخم الجثة.. هو في النهار رجل عادي ينطق إلى وظيفته بروتينية رصاصة تخترق الأفق دون أن تدري في أي قلب ستستقر.. لكنه في الليل شاعر حزين يدرك أن قلبه نافذة مكسورة وأن خارطة ما قد يفرحه تحمل عناوين قابلة للضياع.. ذكي جدا لدرجة أن أصدقاءه يلقبونه بالثعلب.
هنا تبدأ أولى المعضلات: امرأة جميلة ورجل دميم، كيف سيجتمعان ؟! لابد أن يكون للرجل مواهب خاصة تجعله جميلا في عينيها.. الا يكفي أنه ذكي، وشاعر، ولم يفقد بريق الضحك..كلا.. لا أظن أن هذه الصفات كافية لخطف قلب امرأة من نساء هذه الأيام.. لابد أن تدعم هذه الفصال خصلة أخرى: أن يكون ثريا.. إذن فهولا ينطق إلى وظيفته بروتينية رصاصة،فالثري لا يحتاج إلى الوظيفة، وإن كان يحتاج إلى الرصاصة..سيكون أيضا مثقفا له وجهة نظر براقة في الحياة والحب والسياسة.. ولأنه شاعر فلا بد أنه يحفظ كما لا بأس به من شعر الغزل لعمر بن أبي ربيعة وابن الفارض ونزار قباني سيستخدمه عند اللزوم حسنا.. يبدو أن الرجل والمرأة أصبحا مؤهلين ليبدأ الرواية.. ولكن أين سيكون اللقاء الأول أ!
على ضفة نهر تتوسد صمت الأشجار الخضراء المحيطة بها والتي سيزداد اخضرارها وصمتها بعد لقائهما أو في قطار متجه بعجلات واثقة الخطي ناحية مدينة لا تخضع لقوانين الجاذبية الأرضية أو في حديقة ملغمة بعشاق يبحثون من عطر منسي في وردته ليسكبوه في أوردتهم أو في سوق تعج بالسماسرة والنخاسين وباعة الأقمشة والكلام والضمائر والأشياء الجميلة لا.. كل هذه الأماكن تبدو لي تقليدية ومستهلكة.. لتكون رواية استثنائية لابد أن يلتقيا في مكان استثنائي.. لذا سيكون لقاؤهما الأول في بالوعة.. الرجل يسقط في البالوعة والمرأة تنتشله.. ولكنه ضخم الجثة.. إذن فالمرأة هي التي ستسقط في البالوعة والرجل هو الذي سينقذها.. هذا يعني أنه يعمل في المجاري، وهو ما يدحض نظرية ثرائه.. ليكن..حتى ولو كان فقيرا فستحبه.. أولن ينقذها من الموت ؟!
ولكن ماذا سيدور بينهما لحظة الإنقاذ )!:
– خذي يدي لأنتشلك
– لن أنسى لك هذه اليد
– لا تتكلمي حتى لا تخل القذارة فمك
– ليس فمي.. هذا قلبي الذي يتكلم
لا.. هذا حوار ساذج.. أريد حوارا أخر يفتح للقارئ أفق الدهشة:
عيناك زرقاوان
ربما لأنني أنظر كثيرا إلى السماء.. وأنت لماذا عيناك سوداوان ؟
. ربما لأنني دائم النظر إلى الأرض
. يا لسخرية القدر !.. سقطت لأنني لم أر الأرض، وها هو الذي ينقذني رجل لم ير السماء
. لا تستبقي الأحداث.. أنا لم أنقذك بعد..لا بد أن نتفق أولا. نتفق على ماذا ؟
.أنا رجل دميم قضيت أربعين عاما في البحث عن امرأة تحبني ولم أجد.. فهل تحبينني إن أنقذتك ؟
. وبعد أن أحبك
. نتزوج
. وبعد أن نتزوج ؟
أعلمك النظر إلى الأرض وتعلمينني النظر إلى السماء . موافقة
وسيلفهما الحب بعباءته الشفيقة.. يتدحرجان داخل غموضه المذهل.. يعيشان الفرح الطفولي والاندهاشات الجميلة.. هو يتمرغ في زرقة عينيها، وهي تغيب في هسيس قصائده الأخاذة ولكن هل ستمضي الرواية على هذا النحو؟!.. ألن يحدث شيء يحرك الأحداث ؟!..
الأطفال هم الذين سيلقون الأحجار في المياه الراكدة.. ولكنهم لن يحيئوا بسهولة.. سيقضي الرجل والمرأة ردحا من الزمن بلا أطفال ( ست سنوات مثلا ).. هو يظن أن العيب منها، وهي تظن أن العيب منه.. هنا تبرز الأهمية إلى وجود عراف يلجان اليه.. سيكون رجلا عاديا يومض الذكاء في عينه كسكين القصاب.. يرتدي بدلة رمادية جميلة وابتسامة صفراء أنيقه.. يحمل في يده بلورة مستديرة تشبه الجوهرة هي أداة عمله.. ورغم أنه رجل عادي إلا أنه يمتلك بعض القدرات السحرية كأن يستطيع التنكر على هيئة حمامة، أو كأن يستطيع نقل شجرة زيتون كبيرة من مكانها..
بنظرة فاحصة إلى بلورته سيكتشف العراف أن العيب منهما كليهما لكنه بنظرة فاحصة أخرى سيخترع العلاج فينتفخ بطن المرأة كبالون.. وما هي إلا تسعة أشهر حتى تنجب المرأة ستة أطفال دفعة واحدة (على عدد سنوات العقم ) ولكن كيف سيتوزع هؤلاء الأطفال ؟.. ستة ذكور ؟.. أم ست إناث ؟.. أم ثلاتة ذكور وثلاث إناث ؟.. وهل سيشبهون الأم الجميلة أم الأب الدميم ؟.. أم أن البعض سيشبهها والبعض الأخر سيشبهه ؟.. وهل سيفرح الأب الفقير بهذا العدد من الأطفال أم أنه سيلعن اليوم الذي ذهب فيه إلى العراف ؟.. وماذا سيكون موقف المرأة ؟.. هل سيؤثر الحمل بستة على جمالها ؟..
كل هذه الأسئلة سأؤجلها الأن لأنني لا أملك جوابا محددا عليها.. ولكنني سأستمر في السرد كي أجد الأجوبة في طي الحكاية..
سيكبر الأطفال ليصبحوا رجالا كبارا أو سيدات كبيرات.. أطباء أو طبيبات.. محامين أو محاميات.. معلمين أو معلمات.. ومن يدري فقد يصبحون سارقين أو سارقات.. مدمني مخدرات أو مدمنات.. بعد أن يكبر هؤلاء ويبلغوا أشدهم سيكتشف أبوهم الثعلب وأمهم العاصفة أن تفاصيل الحياة الصغيرة طحنتهما في طاحونتها وأنستهما تنفيذ ما اتفقا عليه في لقائهما الأول: أن يعلمها النظر إلى الأرض وتعلمه النظر إلى السماء، فيقرران تدارك ما فات..
ويبدأن الدرس الأول:
يقول لها: لتري الأرض
نكسي
رأسك
قليلا
وامشي
وامش
قليلا
رأسك
ارفع
وتقول له: لترى السماء
ولأنهما لم يكونا متعودين على تينك المشيتين فهما لم ينتبها إلى أنهما يعثر بان من البالوعة ( بالوعة اللقاء الأول ).. وهاهما يسقطان فيها.. من سينقذهما هذه المرة ؟!.. لا أحد.. فلم تعد الرواية بحاجة اليهما مادام الأولاد قد كبروا…
بالطبع سيترك الثعلب وصية لأبنائه.. لا بد أن تكون وصية مثيرة لتصنع أحداثا جديدة.. سيقول فيها:
أي أبنائي:
أعلم أنكم عانيتم كيرا من الفقر في حياتي.. ولكنني تعمدت ذلك لتشبوا رجالا أقوياء قادرين على الاعتماد على أنفسهم.. وها أنتم أصبحتم كذلك.. لذا فقد بات من الضروري أن يخب المخبأ من صدفته: لقد تركت لكم ستة أكياس متساوية من المال تكفي كل واحد منكم طوال عمره.. ستجدونها مدفونة تحت شجرة الزيتون الكبيرة القابعة خلف البيت.
أبوكم الذي يحبكم كثيرا
يا إلهي.. إذن فالثعلب كان ثريا رغم أنه يعمل في المجاري!.. إنها مفاجأة من العيار الثقيل.. لابد أنه كان يعمل أيضا في المخابرات.. قوله: " لتشبوا رجالا"، ومساواته في توزيع المال في الأكياس الستة يدل على أن أولاده جميعهم من الذكور..
طبعا سيفرح الأولاد بالوصية وسيهرعون من فورهم إلى شجرة الزيتون المقصودة.. سيحفرون.. وسيجدون خمسة أكياس فقط.. فأين ذهب الكيس السادس ؟!.. هنا يبرز دور العراف مرة أخرى.. سيذهبون اليه.. وبعد أن يمعن النظر في بلورته سيفجر القنبلة التالية: الكيس السادس سبقكم اليه أخوكم السابع..
يا لطيف !.. إذن فالرجل كان متزوجا على زوجته.. مفاجأة أخرى من العيار الثقيل.. حقا إنه ثعلب.. كيف استطاع أن يخدعها طوال حياتها ؟! يمتص أحد الأشقاء الستة الصدمة ويقول: سنذهب اليه ( يقصد أخاه السابع ) ونطلب الكيس.
يقول أخر: قد يرفض إعطاءنا إياه ؟!..
يعض ثالث على أسنانه ويقول: سنأخذه عنوة..
وهنا يتدخل العراف: لا تحاولوا أن تؤذوه، فأمه ساحرة وأنتم لا قبل لكم بسحرها
يتوجه الأشقاء الستة إلى أخيهم فيجدونه يمسك حمامة في يديه ويلقمها حبات من القمح ثم يعيدها إلى القفص المليء بالحمام.. إذن فهو من هواة تربية الحمام..
سيقولون بصوت واحد: نريد كيسنا..
وسيرد ببرود: وأنا؟!.. ألست أخاكم:!.. أليس من حقي أن أرث مثلكم ؟!.. وعندما يفشلون في إقناعه يعودون إلى العراف الذي يستقبلهم بابتسامته الصفراء الأنيقة.. يقول لهم: كلوا الأمر الي، صباح الغد سأكون قد انتزعت منه الكيس، ولكن قبل ذلك ضعوا الأكياس الخمسة الأخرى هنا، أمه الساحرة علمت بأمر هذه الأكياس ولن تترككم وشأنكم مادامت معكم، ضعوها اليوم خمسة لتأخذوها ستة غدا..
يلقي الأشقاء الستة بأكياسهم الخمسة وينصرفون.. وفي المساء، وبعيد أن تذهب الشمس الى حتفها اليومي، يتنكر العراف على هيئة حمامة جميلة ما إن يراها الأخ السابع حتى يهرول خلفها كالمصاب بغيبوبة. يسير وعيناه مرفوعتان اليها كمن يمشي وهو نائم.. الحمامة تقترب من البالوعة وهو غير منتبه.. يسقط في البالوعة وهو غير منتبه..
في الصباح، وبعيد أن تلقي مصابيح الشوارع مصرعها، يعود الأشقاء الستة إلى العراف الذي يزف اليهم بشرى عودة كيسهم السادس: خفت أن تكون أمه الساحرة علمت أن أكياس النقود مخبأة عندي هنا، لذا فقد أمدت دفنها تحت شجرة الزيتون.. اذهبوا اليها وستجدون الأكياس الستة مدفونة هناك..
يذهب الأخوة الستة وهم لا يعلمون أن العراف نقل الشجرة من مكانها.. وما إن يشرعوا في الحفر تحتها حتى يسقطوا جميعا في البالوعة.. رائع.. يبدو أن الرواية تسير إلى نهايتها.. الكل سقط في البالوعة.. لم يبق إلا العراف.. لابد أن يسقط هو الأخر.. ولكن كيف ؟!.. أمامي عدة خيارات: اما أن تستخدم الأم الساحرة سحرها لتلقي به في البالوعة انتقاما لولدها، أو أن يذهب الى شجرة الزيتون ناسيا أنه نقلها من مكانها فيسقط في البالوعة بمجرد أن يضع رجله تحتها.. أو أن تنقر حمامة عينيا فيفقد البصر ثم في أحدى جولاته العمياء في المدينة يسقط في البالوعة.. أو أن يصاب بداء عضال فيصف له الطبيب أن يستحم في بالوعة ليشفى من مرضه والباقي معروف.. ترى أي هذه الطرق أنسب لأسقط في البالوعة هذا العراف الذي ينظر الي الأن ؟!.. ينظر الي؟ !.. يبدو أنني أندمجت مع الحكاية لدرجة أنني تخيلت العراف ينظر الي.. ولكنه يحملق في بالفعل.. بل إنه يقترب مني.. نعم يشرب.. هل يعقل أنني أتخيل ؟!.. يا إلهي.. أنا لا أتخيل.. ها هو يعصرني في قبضة يده.. ها هو يمشي وأنا في قبضة يده.. إلى أين يمضي بي يا ترى ؟!.
– هل دونت حسابات الطبية الجديدة " يسأل صهري »
– ليس بعد.. الأن سأدونها « أجيب "
يخرج صهري.. القلم أمامي الأن والألة الحاسبة خلفي فأين المفر.. أمسك بالقلم.. أبدأ بصب الأرقام على الورقة.. أنا الأن. بقلمي الجديد هذا. أصبحت زوجا مثاليا كما تقول زوجتي، لذا فانني لن أحاول أن أحزن على ( أو حتى أتذكر ) قلمي الأخر.. ذلك المجنون الذي هرب من سلة مهملات فكان مصيره السقوط في بالوعة من صنع يديه، على يد عراف من منع يديه أيضا.
سليمان المعمري (قاص من سلطنة عمان )