امرت ثمانون عاما على ظهور الفيلم السوري الأول «المتهم البريء»، ومع ذلك فإن حصاد السينما السورية بكافة جهاتها المنتجة لم يتجاوز المائة وتسعين فيلما روائيا طويلا، وعلى الرغم من تنوع تلك التجارب شكلا ومضمونا، فإن معدلات الإنتاج المنخفضة مازالت واحدة من الأزمات المستعصية التي لازمت مسيرة هذه السينما منذ بداياتها وحتى اليوم، فإذا كانت وتائر الإنتاج السنوي قد انتعشت وشهدت ارتفاعا ملحوظا في سبعينات القرن العشرين، حتى وصلت ذروتها عام 1974، وبلغت ثمانية عشر فيلما ما بين القطاعين الخاص والرسمي، غير أنها مالبثت أن انخفضت تدريجيا لتستقر على فيلم أو فيلمين في العام، ولعل السؤال الأهم الذي تطرحه المتغيرات التي أحدثها دخول التقانات الرقمية الحديثة إلى الساحة السينمائية في سوريا مع بداية الألفية الثالثة، هو ذلك المتعلق بإمكانية استثمارها لحل أزمة الإنتاج والتمويل، على اعتبار أن أفضليات هذه التقنية تنحصر في خفض التكاليف والجهود الإنتاجية، وعلى اعتبار أن المبادرة جاءت بجهود خاصة أولا، ثم انتقلت إلى المؤسسة العامة للسينما، وأن الكاميرا الرقمية لم تستهو فقط المخرجون الجدد، بل أيضا استقطبت إليها عددا من المخرجين الكبار، فما الذي يمكن قراءته في تضاعيف هذه التجربة الوليدة، وأي الآفاق والرؤى ترتسم في فضائها؟…
ملاحظات أولى
لم يعد خافيا على أحد من المهتمين بالشأن السينمائي أن الثورة الرقمية أحدثت اتجاها جديدا في العالم، بات يُعرف بـ«سينما الديجيتال» وهي سينما بدأت بالظهور في أمريكا وإنكلترا أولا، ثم انتقلت إلى أرجاء المعمورة، وجذبت إليها الكثير من المخرجين، لأنها السينما التي خفّضت من تكاليف الإنتاج إلى ما يعادل الربع، ذلك أن التصوير بات يتم من خلال كاميرا الفيديو التي أُدخلت عليها ثلاثة تعديلات لتغدو الصورة الرقمية بنفس مواصفات الصورة السينمائية، فصورة الفيديو التي كانت تبدو غير واضحة لأنها تُلتقط بحوالي 625 خطا، باتت تعمل بنظام «هاي دفشن» مما جعلها تصل إلي 1980 خطا، وهي نفس خطوط الكاميرا السينمائية، ووصل نظام الديجيتال إلى 24 كادرا في الثانية، كذلك تم التغلب علي نظام العدسات، وبات من الممكن إنجاز المونتاج بجهاز «سموك» أو «فير»، بحيث يمكن نقل المادة المصوّرة إلى شريط سينمائي، ويمكن بسهولة إدخال المؤثرات عليه، ومن ثمة عرضه بنظام الإلكترونيك.
على المستوى السوري كانت جهود القطاع الخاص هي الأسبق لاستثمار التقنية الرقمية مع بداية الألفية الثالثة، ومع أننا لا نملك أرقاما دقيقة حول حصيلة هذا الجهد، غير أن المعلومات التي جمعناها بواسطة السبر الميداني تفيد بأن الأفلام القصيرة والمتوسطة قد شارفت على حوالي الأربعين، من بينها فيلم «إنهم كانوا هنا» سيناريو وإخراج وإنتاج عمار بيك، «ع الشام» سيناريو وإخراج وإنتاج نبيل المالح و«حجر أسود» سيناريو خالد خليفة، إنتاج وإخراج نضال الدبس.
في المقابل بلغ عدد الأفلام الطويلة الخمسة بين روائية وتسجيلية، ففي عام 2002 كان المخرج نبيل المالح أول من بادر إلى إنتاج فيلمه الروائي السادس «غراميات نجلاء» بتقنية الديجيتال، وفي عام 2003 أنتج نضال حسن فيلمه الروائي الأول «البشرة المالحة»، وبعد عام أنتج محمد ملص فيلمه الروائي الثالث «باب المقام»، وفي عام 2005 أنتجت شركة الشام الدولية فيلم «العشاق» من إخراج حاتم علي وسيناريو أمل حنا، وفي تجربة أولى لها أنتجت هالة العبد الله بالاشتراك مع عمار البيك الفيلم التسجيلي الطويل «أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها» عام 2006، ويشير واقع الحال إلى أن معظم الأفلام السابقة الذكر لم يجر نقلها إلى شريط سينمائي، ولم تُعرض على الجمهور بعد، مع أن بعضها انتقل بين عدة مهرجانات، وحصد بعض الجوائز.
في عام 2005 بدأت المؤسسة العامة للسينما بإدخال نظام الديجيتال إلى مكوناتها التقنية، ومن خلال ذلك تم في أواخر العام الماضي تصوير فيلمين روائيين طويلين: «حسيبة» إخراج ريمون بطرس، و«سبع دقائق إلى منتصف الليل» إخراج وليد حريب، وهناك فيلمان آخران قيد التصوير لم يعلن عنهما بعد، وإذا اكتملت المسيرة فسوف يكون إنتاج المؤسسة للأفلام الطويلة قد تضاعف خلال العام الحالي عنه في السنوات الماضية.
وفي كل الأحوال يمكننا القول إن تقنية الديجيتال سوف تضاعف من معدلات الإنتاج السنوي في المدى المنظور، كما ان هذه التقنية قد أطلقت في الأفق ما يمكن تسميته بأفلام «المخرج المنتج»، وهي ظاهرة ليست بالجديدة على تاريخ السينما السورية، فقد عرفت هذه السينما تجربة مشابهة حين بدأت خطواتها الأولى، ومن بعدها في فترة الستينات والسبعينات والثمانينات مع بعض نتاج القطاع الخاص في أفلام زهير الشوا وخلقي سانر وإغراء، لكن هذه التجارب المبكّرة جاءت على يد المغامرين والهواة وبحد أدنى من الحرفية، وهي لم تعبأ كثيرا بالسوية الفنية، بل إن معظمها غازل شباك التذاكر إلى حد كبير.
على خلاف ذلك فقد جاءت معظم أفلام الديجيتال الجديدة على يد المحترفين والأكاديميين، وحاورت جملة من الموضوعات المنوعة التي تتعلق بالشأن العام والقضايا الإنسانية، كما هجست بالقيمة الفنية والجمالية للمنجز السينمائي، وسعت وراء بصمتها الإبداعية الخاصة، وإن تباينت مستويات التحقق ونجاح المسعى، وسوف نترك جانبا الأفلام القصيرة والمتوسطة الطول التي قدمها القطاع الخاص، والأفلام الطويلة التي تعمل المؤسسة العامة على إنتاجها، لأنها لم تنجز بعد، ونعاين عن كسب خصوصيات تجربتين رائدتين من تجارب الأفلام الروائية الطويلة التي تنتمي إلى اتجاه «المخرج المنتج».
غراميات نجلا
في عام 1987 أسس المخرج نبيل المالح شركته الخاصة «إيبلا» ومن خلالها قدّم حوالي تسعين فيلما تسجيليا، وفيلمه الروائي الطويل السادس «غراميات نجلا»، وهو فيلمه الثاني الذي ينتمي لجهة القطاع الخاص بعد «غوار جيمس بوند» عام 1974، والأول في تجربته الذي تم تصويره بواسطة كاميرا الديجيتال، ولم ينقل بعد إلى شريط سينمائي.
يبدأ الفيلم بلقطة بانورامية تصوّر إحدى القرى السورية المهملة، ثم ينفتح المشهد الأول على جنازة ومقبرة تجمع سكان القرية، بعدها تتجول الكاميرا في الأزقة الضيقة المتّربة، والبيوت الطينية البائسة، وتتابع حيوات بشر بسطاء يعيشون خارج مكتسبات الحضارة المعاصرة وتحت خط الفقر، وفي غفلة من الزمن يختلط هذا العالم المنسي بعالم النجوم والمظاهر البراقة، حين يأتي من العاصمة فريق فني، ويستأجر بيت المختار لتصوير فيلم تموله محطة أجنبية، وهي لحظة انقلابية في حياة سكان القرية الذين يتجمهرون حول الفريق الفني صغارا وكبارا ليتابعوا عن كتب تفاصيل الحدث الأهم في حياتهم حالمين بالظهور في أية لقطة مخصصة للكومبارس، ومن خلال مشاهد التصوير وعلاقة النجوم بأهل القرية تتشابك الأحداث، وتتبلور معالم الشخصيات، ويرتسم الفضاء الإشاري الذي ينهض على حدود التماس ما بين مستويين متناقضين من أنماط التفكير والحياة.
ويعتمد سيناريو الفيلم الأحداث والصراعات الخارجية محركا أساسيا لبنيته الدرامية من خلال حكاية تسير على مدار خطين رئيسيين، في تشابكهما تحتدم بؤر الصراع المفترضة، وفي انفصالهما تبلغ الحكاية ذروتها، خط ترسمه أسرة نجلا، أسرة الفلاحين الفقراء، أسرة الظل والهامش، وخط آخر ترسمه شخصيات الفريق الفني من مخرج وأبطال وباقي الأعضاء، أو فلنقل أسرة الفن، الأضواء والنجومية، وتشير السمات النفسية والتربوية التي تعكسها الشخصيات إلى ملمحين: الأول اجتماعي يعبر عن سلوكيات وأخلاقيات سائدة لدى شرائح اجتماعية معينة، والثاني ملح رمزي تنعكس على مداه أبعاد سياسية واقتصادية.
ونبدأ من الأسرة الفقيرة: الأب الصارم والمتديّن الذي لا يقطع فرض صلاة، ويحلم أن يذهب إلى الحج ذات يوم، ولذلك فهو يحرص على إعداد الزينة من أشرطة كهربائية ولمبات إلى أن يتحقق الحلم الموعود، هذا الأب الذي يعنّف بناته حين يشاهدن الأفلام والمسلسلات الأجنبية بحجة أنها مفسدة للأخلاق، نجده يتسلل في الليل بعد أن تنام العائلة ويقبع أمام الشاشة ليشاهد نفس الأعمال التي يمنعها عن بناته، نجلا البنت البكر، القروية الجميلة التي تقضي نهارها في فلاحة الأرض، وترفض بشراسة شبان القرية المعجبين بها، بينما تدور أحلامها حول الأستاذ الفقير عمر القادم من المدينة وأبطال المسلسلات المكسيكية التي تشاهدها وأختها خلسة عن عيون الأب، ثم الأخت الصغرى سلمى، الفتاة الكسيحة التي تتبادل رسائل الحب مع أحد الفتيان، وتتعلم كيف تدخل الكومبيوتر على كيبورد من ورق، وتحلم بأن تفوز بسباق المعوقين الدولي الذي سوف يقام في دمشق، ولذلك فهي تتدرب يوميا بأن تسابق الحمار بمقعدها المدولب البطيء، وفوزها في هذا السباق يشكل قمة الأحلام التي وصلت إليها هذه العائلة وربما القرية بأكملها، في حين تبدو الأم مشغولة دوما في أمور الطهي، تتعاطف ضمنيا مع بناتها دون أن تبدي ذلك، وكأنها صورة منسية على جدار.
في مقابل هذه الأسرة القروية المتواضعة، تقوم أسرة الفن، أسرة معولمة السمات، بلا أسماء، لكنها تُعرف بسلوكها الفوقي وألقابها الرنانة: الأستاذ المخرج والنجم والنجمة: المخرج المتعجرف الذي يريد أن يعكس صورة عصرية عن حياة الريف السوري تختلف عن واقعه وتنسجم مع متطلبات المحطة المموّلة، وبطل الفيلم المغرور الذي يعيش ازدواجية في علاقته مع العالم تسمح له أن يرتدي العديد من الأقنعة ليخفي قبحه الداخلي، انتهازيته وغيرته من زميلته البطلة التي لا تتعدى كونها دمية جميلة.
نجلا تنضم طبعا إلى فريق الفلاحين المتجمهرين حول أسرة الفن، وتهيئ لها الظروف فرصة التعرّف على البطل الساحر، وبضعة كلمات وابتسامة ولمسة يد منه تكون كفيلة كي تغرق في حبه، وتدخل جنان أحلام اليقظة معتقدة أنه يبادلها الشعور، تبدأ بالاهتمام بنظافتها ومظهرها، لكنها تكتشف خديعتها، وهي تحمل له سلة الخضار إلى بيت المختار، حين تراه وهو يحاول تقبيل شريكته البطلة واسترضائها بعيدا عن العيون، وما إن يكتشف البطل وجود نجلا حتى يطردها من البيت، وكرد فعل منها على طعنة الغدر ترش نجلا المازوت على نافذته في الليل وبواسطة الأسلاك الكهربائية تقدح الشرارة، وتندلع النيران في بيت المختار، يحترق الفيلم ويلوذ الممثلون والمخرج هربا، وفي الصباح يغادرون القرية التي تعود إلى سابق عهدها، وبهذا تنتقم نجلا لنفسها وتحرق ذاكرة غرامها، ونجدها في المشهد الأخير تدفع بكرسي أختها سلمى كي تسبق الحما،ر وتفوز بمسابقة المقعدين.
وإذا كان المسار الفكري والحكائي في الفيلم قد استكمل دائرته بشكل لائق، فإن المسار الفني عانى من بعض المسالب، فقد اهتم المالح بتكوين كادره، وتوزيع بؤر النور والظل فيه، ليبدو في بعض اللقطات أشبه بلوحة تشكيلية، تنسج جمالها من أعماق البؤس والألم، لكن الصورة الرقمية لم يكن بإمكانها أن تصل إلى جودة الصورة السينمائية، كذلك ركز المخرج على الأداء التعبيري، لكن وجود عدد كبير من الكومبارس والوجوه الجديدة أدى إلى تفاوت ملحوظ في مستويات التمثيل، غير أن العناية بالموسيقى التصويرية التي تنوعت ما بين الشرقية والغربية، والتي استطاعت أن تخلق مناخات نفسية ذات بعد درامي خاص، غطت في بعض الأحيان على ضعف الأداء(1).
باب المقام
في عام 1998 أسس محمد ملص شركته الخاصة «دنيا فيلم» بالاشتراك مع زوجته السيدة انتصار صفية، وفي أوائل عام 2003 بدأت الشركة بإنتاج باكورة أعمالها «باب المقام» بالتعاون مع جهات فرنسية وتونسية، ومن إخراج ملص وتأليفه إلى جانب خالد خليفة وأحمد بهاء الدين عطية، وهو الفيلم السوري الروائي الطويل الأول الذي جرى تصويره بكاميرا الديجيتال وتحويله إلى شريط سينمائي عام 2004، وحظي بعرضه الأول في مهرجان بونس ببلجيكا أوائل عام 2005.
وإذا كانت أفلام ملص السابقة قد انشغلت بخزين الذاكرة الشخصية والجمعية، فإن سيناريو «باب المقام» استقى مادته الأساسية من جريمة شرف وقعت في سوريا، فكما جاء في التيترات الأخير: الفيلم مهدى إلى روح تلك المرأة التي قُتلت في 25 يونيو (حزيران) عام 2001، وفي اليوم التالي كتبت الصحف «إن شغف امرأة بالغناء والاستماع لأغان أم كلثوم، كان دليلا كافيا لأسرتها على أنها عاشقة، ما دفع شقيقها وعمها واثنين من أبناء عمها إلى قتلها»، أما المادة الدرامية فقد صبغت ملابسات هذه الجريمة البشعة بأبعاد اجتماعية وسياسية وفكرية، وجعلت من مدينة حلب فضاء لها في زمن تطابق مع زمن تصوير الفيلم، أي في عام 2003، عام الغزو الأمريكي على العراق، والحملات الانتخابية لمجلس الشعب السوري.
وإذا كان ملص قد خرج من أطر الذاكرة واسقاطاتها المختلفة، ودخل مدار اللحظة الراهنة والحدث الساخن، فقد أبقى على سمة أساسية ميّزت أعماله، وهي جعل المرأة محورا لتفريعات الحكاية، وجعل وضعها مؤشرا لتحولات الوضع العام، فلطالما كان الصوت الأنثوي في أفلامه هو البوصلة التي تقود المشاهد إلى مواطن الحب والجمال والحق في متاهة الظلام، وفي الفيلم الحالي كان صوت إيمان (سلوى جميل) هو الحاضر والشاهد والراوي لتفاصيل جريمة القتل ببعدها الشخصي والعام، فمنذ المشهد الأول أطلت لتدلي بشهادتها الأولى: «كم كانت حلب جميلة، كانت مدينة الطرب والغناء»، ثم انسحب المشهد إلى لقطة تشبه السجن، تلتها بانوراما للمدينة، ثم انفتح باب الجامع، واندفع المصلون وتفرقوا في أحد أحياء حلب الشعبية، ومع هذه الفاتحة التي ترافقت مع موسيقى رائعة وضعها الفنان مارسيل خليفة كان الفيلم قد وضع العلامات الأساسية في طريق التحولات التي اجتاحت هذه المدينة العريقة في السنوات العشرين الأخيرة من تاريخها المديد، بعدها أتت التفاصيل وتقدمت الشخصيات لترسم معالم الوضع الراهن.
والتفاصيل اليومية الراهنة التي اقترحها السيناريو أتت مشبعة بحس تجريبي سرى في كافة عناصر الفيلم، فكعادته لم يقدم محمد ملص حبكة تقليدية وشخصيات وأحداث بالمعنى المتعارف عليه، بل سعى نحو خلق حالة متكاملة رصدت المؤشرات الخطيرة التي أجهضت أفكار النهضة والتقدم، والتي عززتها الأقانيم الثلاثة الماثلة في التخلف والتعصب والقمع، فشخصيات الفيلم مثلا تقدمت على الغالب أحادية الجانب، لا لتفصح عن كينونتها الخاصة، بل لتزرع علامة من علامات الحالة المفترضة، لكن بتكامل تلك العلامات ارتسمت في الأفق شخصيتان جمعيتان: الشخصية النهضوية الحالمة بالتغيير، والشخصية المحافظة المتقوقعة في الماضي، وتبلورت معالم الصراع التناحري بين هاتين الشخصيتين الذي استند إلى مختلف الوسائل السياسية والفكرية والاجتماعية، وبمقتل إيمان كان الفيلم قد حسم الصراع لصالح الذهنية السلفية التي سوف تُدخل ليس مدينة حلب فقط، بل العالم العربي في نفق مظلم لا قرار له إن لم تحدث معجزة ما.
إيمان الشخصية المحورية، امرأة رقيقة ومحبة، وهي فنانة بالفطرة، تهوى الموسيقى وتغني أم كلثوم، وفي منولوجها الأول تقدّم الشخصيات التي تتقاطع مع عالمها الجميل، وبها تكتمل معالم شخصيتها، زوجها عدنان سائق التاكسي الذي يتابع نشرات الأخبار بانتظام، ويتضح من اهتمامه هذا ومن اسم ابنه عبد الناصر انتماءه الضمني إلى الفكر القومي الاشتراكي، ثم الأخ رشيد، اليساري المعارض، والمعتقل السياسي منذ عشر سنوات، الغائب فيزيولوجيا والحاضر عبر الصور وجمر الانتظار، جمانة ابنة رشيد التي تقوم بتربيتها إيمان وتغرس فيها حب الغناء، وينضم إلى هذا الفلك شخصية الست بديعة، المرأة المسّنة التي تتعرف عليها إيمان بالمصادفة في محل «شمس الأصيل» وهي تشتري شريط «رق النسيم» لأم كلثوم، وتنشأ علاقة ودودة بين الامرأتين أساسها إكبار الفن، لأن بديعة كانت مغنية شهيرة لُقبت بخوجة حلب، أي الفنانة التي تغني لكل الناس وفي كل الاحتفالات.
في المقابل تتقدم الشخصيات النقيضة لهذا العالم: عم إيمان أبو صبحي، العقيد الذي أحيل إلى التقاعد بعد سجن رشيد، والذي تحوّل إلى تاجر دجاج وحلويات شعبية، وهو شخص محافظ ومتسلط جدا يمثل الذهنية الذكورية بأبشع صورها، ويسعى لفرض رأيه بالترغيب والتهديد على جميع أفراد العائلة، ثم أب إيمان المسن والمريض، وأخيها جميل الطالب الجامعي والأصولي، وباقي أفراد العائلة الذين يرسمون صورة مصغرة للمجتمع الذكوري المتخلف بولاءاته وعقده وبطشه، مجتمع يعيش على النميمة والتجسس وقهر الحلقة الأضعف في سلم التراتبية.
ومع أن إيمان امرأة محافظة في سلوكها ومظهرها الخارجي، غير أن طبيعتها الرومانسية وذهنية زوجها تتيح لها أن تغني في بيتها، وتعبّر عن رأيها، وتتحرك بمفردها في الشارع لقضاء حاجاتها اليومية أو زيارة أهلها وصديقتها بديعة، وهي أمور تثير نقمة أبو صبحي عليها، لأنه يعتبرها من الفواحش، لذلك يجنّد من يتجسس عليها داخل منزلها وخارجه، ويبدأ معركته معها بانتزاع جمانة منها وإعادتها إلى بيت جدها بحجة أنها تسيء تربيتها، وحين لا تنصاع إيمان إلى سلطته يتهمها بشرفها، ويحكم عليها بالموت، وينفذ جريمته في نهاية الفيلم بعد أخذ موافقة رجال العائلة ودعمهم، لاسيما الشقيق جميل الذي يبادر إلى غرس سكينه في قلبها.
إلى جانب الحوارات المقتضبة شكلت المونولوجات الداخلية وأغاني أم كلثوم ونشرات الأخبار حوامل البنية السمعية الأساسية التي أطلقت الفضاء الإشاري وعممت رموزه ووسعت من مداه، وعدسة المصوّر طارق بن عبد الله أفسحت المجال أمام المشاهد الخارجية كي تحتل الجزء الأكبر من الفيلم، وترسم لوحة نابضة عن روح المكان وطقوسه، كما اهتمت ببناء الكادر الجمالي وبحسه الداخلي بالاستناد إلى لعبة الألوان والظل والنور، وارتأى المخرج استخدام لقطات الأبيض والأسود كحل إخراجي للتأكيد على واقعية الحدث في تصوير جريمة القتل، وفي التظاهرات الجماهيرية المندّدة بالعدوان على العراق التي عمت شوارع حلب في تلك الفترة.
أما فريق التمثيل فلم يكن من نجوم السينما ولا التلفزيون، فقد اختار المخرج أبطاله من الوجوه الجديدة والأسماء المغمورة، ومع أن الفريق بذل أقصى جهده في أداء الأدوار الموكلة إليه، غير أنه لم يوفق في ترك الأثر القادر على تحريك المشاعر وخلق الحالة المرجوة، فكان إيقاع التمثيل بطيء تارة، وخارجي في كثير من الأحيان، وكان على المشاهد أن يغرق في بحر الحكاية والأفكار والصور والكلام، ويتجاهل أحاسيسه وردود فعله إزاء ما يجري تجسيده على الشاشة، وكانت هذه أولى الثغرات الفنية التي وقع فيها الفيلم، أما الثغرة الأخرى فهي تلك التي تعلقت بتكرار الأفكار عبر مشاهد مختلفة دون إضافة إليها تخدم المسار الدرامي، وهي ثغرات لم تعرفها تجارب ملص السابقة (2).
آخر الكلام
قد لا تكون النماذج المقترحة في الحصيلة النهائية هي الأفضل من بين أفلام المالح وملص، ذلك بسبب ضعف الإمكانات المادية الجلي في مكوناتها، لكنها على الأقل هي محاولة رائدة في سورية لتوظيف التقنيات الرقمية في السينما، ومحاولة أولى لأحياء اتجاه سينما «المخرج المنتج» في سياق وأفق جديدين، محاولة أولى تبعتها تجارب أخرى متفرقة لكنها في نفس السياق، فالمتتبع لتفاصيل المشهد سوف يلاحظ أن معايير الجودة التي كرستها المؤسسة العامة للسينما، هي ذاتها التي قادت الخيار الفني والفكري لمخرجي أفلام الديجيتال، ليس فقط بالنسبة للمخرجين الذين عملوا سابقا في إطار المؤسسة، بل أيضا بالنسبة للمخرجين الذين قدموا تجاربهم الأولى، فالمقاربة الجريئة للواقع الاجتماعي بأساليب فنية مميزة ومتباينة هي إحدى سمات هذا الاتجاه الوليد الذي إذا ما أُتيحت له فرص التشجيع والنضوج سوف يسفر بالتأكيد عن حلول ومقترحات هامة في المستقبل القريب.
هوامش
1-«غراميات نجلا»: إنتاج إبيلا للإنتاج الفني 2002، سيناريو وإخراج نبيل المالح، استشارة درامية قيس الزبيدي، مونتاج محمود يحيى، تصوير محمد العبادي، تمثيل: رنا أبيض، سامر المصري، نوال نجن، روعة ياسين، أمجد طعمة.
2-«باب المقام»: إنتاج دنيا فيلم، سيناريو محمد ملص خالد خليفة وأحمد بهاء الدين عطية، إخراج محمد ملص، تصوير طارق بن عبد الله، موسيقى مارسيل خليفة، مونتاج كاهنة عطية، تمثيل: سلوى جميل، ناصر وردياني، أسامة يوسف، محمود حامد، يارا شقرا، أميمة ملص.
تهامـــة الجنــدي كاتب من سورية