يقول ابن عربي: «فلولا الشارع علم أن عندك حقيقة تسمى الخيال لهذا الحكم قال لك (اعبد الله) كأنك تراه ببصرك»
إذا ما استثنينا فن الخط والزخرفة فإن الفن التشكيلي ظل لقرون عديدة خجولا في الثقافة العربية الاسلامية مقابل سطوة اللغة بأجناسها المختلفة من شعر ورواية وخطابة هذا من ناحية ، و الخوف من الدخول بالمحرمات المتمثلة في التجسيم والتصوير التي ساهمت في اقصاء التشكيل من ناحية أخرى ، فكيف إذاً نتكلم عن علاقة غيب أحد طرفيها زمنا من الدهر؟!
منذ البدء حاول الانسان رسم الصوت وحفظه فما الكتابة سوى رسوم ذات دلالات رمزية ، بل أن التطور الجمالي للفظ والمعنى صاحبه طفرة حقيقية لفن الخط العربي بمتنه البصري الزخرفي وفي أحيان كثيرة احتل حضورا مستقلا عن سطوة المعنى ليسرق العين إلى ميدان تتنافس به العناصر التشكيلية بين زخرفية وهندسية متفردة ومتتابعة كسرد بصري مدهش تتماهى به اللغة اللفظية مع اللغة التشكيلية.
قد تبدو علاقة التشكيل بالنص علاقة شكلية لا ترتبط في جوهرها ، فكانت التصاوير غالبا ما تزج للشرح في مخطوطات شتى ككتاب الحيل الميكانيكية للجزري ، وصورا تزينية لتكمل الصورة اللفظية المتخيلة وتعبر عنها كما في رسومات الواسطي في مقامات الحريري وتصاوير كتاب كليلة ودمنة حيث كانت الرسومات تبدو مبسطة الحركة زخرفية الأداء وحبيسة لمجال البعدين فقط ، إذ تعمد الفنان الاسلامي إثارة الاعجاب بحرفيته لا إثارة الإنفعال.
بيد أن الصورة قد وجدت لها في الثقافة العربية الاسلامية منافذ كثيرة ، فالمشكلة لا تكمن في المعارضة بين التشخيصي والتجريدي كما أبرزها المستشرقين على خارطة التشكيل العربي أو البحث عن الصورة في الثقافة الاسلامية بقدر ماتكون تلك الصورة كل متعدد الاطراف ومزيج من المعقول والمحسوس إنها السطوة الشاملة لتحويل ما هو وظيفي كالحرف والزخرفة والكلمة إلى فن.
إذاً هل حملت اللغة باطن التعبير ومضمونه واكتفى الفن البصري بالثقافة الاسلامية على الظاهر والشكلي؟
إن ما يثير الإعجاب حقا هو بأن ذلك الفن لا يقصد به المحاكة كما كان سائدا في بقية الفنون البصرية للثقافات الأخرى بقدر ما كان يقصد به كمال التعبير الجمالي والتشكيلي وهي نفس النظرية التي يحتذيها التصوير المعاصر!
التصور الأسلامي للوجود ينهض على مجموعة من الثنائيات التي تجعل المفارقة واضحة بين الإلهي والإنساني ، بين المطلق والنسبي والحقيقة والخيال ، حيث المرئي يقود لللامرئي ونجد ذلك جليا في الفكر الصوفي ، إذ لن تصل إلى الحقيقة إلا بعوالم خيالية، فتلك العوالم هي حقيقة بحد ذاتها، تتسامى عن الحسي لتستخدمه كمفردات أولية وعناصر خام تساعد الرائي على بناء جسر بين الشكل المادي والصورة المتخيلة ، هنا نغوص نحو الباطن والمضمون إذ أن حقيقة الصورة (هي ما تمكِّن من رؤية مالا يرى رؤية العين وإنما عين الرؤية).
تلك البصيرة التي لا تحتاج لمحاكاة ما هو موجود أصلا بل البصيرة التي تمكنك من الولوج لفاتيح الخيال إلى عوالم أكثر كمالا وادهاشا ، تعتمد في حقيقة الأمر على المتلقي الباحث عن نفسه في كل ما يراه و لا يراه، لا من يبحث عما يراه فقط ، هنا يتحقق الإنسجام الكلي وتتبلور العلاقة الاصيلة بين كل أنواع الفنون والتعابير وإن اختلفت مفرداتها وأدواتها فالانسجام الذي يحس به العقل ويقدره الذوق والذي يبعث تأثيرا فاعلا في النفوس ذلك هو المفهوم الذي تنشده الفنون جميعا…. إنه الجمال ببساطة!
بخلاف المفهوم السائد، وكما ذكرنا سابقا بأن الفنون الإسلامية اعتمدت على جوهر الشكل لا محاكاته وهي الرؤية ذاتها التي تتبناها الفنون التشكيلية الحديثة ، لذا لم يكن صعبا على الفنان العربي خوض غمار التجريد بأصالة لا بتقليد… أصالة تنبع من الخبرات البصرية والمعرفية المتراكة لمجالات الإبداع المختلفة واصالة تنبع من حياة المبدع وتجاربه المتعددة لخلق لغات جديدة يمزج بها كل ماهو متاح من عناصر ومفردات شتى من التعابير وقنوات التواصل مع الآخر والذات..فلم يعد مستغربا أن يحتوي العمل التشكيلي على تقنيات سنيمائية وآداء مسرحي أو يطعمه بعمل شعري أو سردي لا حواجز بين اجناس الإبداع ولا قوانين باتت تحد الخيال الجامح للفنان .
إن ما يعطي علاقة التشكيل بالنص مرونة وسلاسة في علاقة تتكامل تارة وتترابط تارة أخرى بروح واحدة وبعلاقة متوازنة تزين الشكل وتثري المضمون، هي تلك الحساسية المطلوبة بين الفنان التشكيلي والنص ومدى استنطاقه واستكشافه لجمالياته والعكس صحيح بالنسبة للكاتب،
وعلى قدرة كل منهما على توظيف القوة الكامنة في كل مجال ليكمل بها مجال الآخر دون المساس بهويته فالتشكيل على سبيل المثال يمتلك خصوصية إلتقاط اللحظة بكل تفاصيلها بينما يمتلك النص الأدبي خط الزمان والتنقل على مساحات عديدة وشاسعة جغرافيا.
و من جهة أخرى للكاتب والتشكيلي الحق في تذويبهما تماما بروح واحده حين يقرر أحدهما إعادة خلقهما بهوية جديدة وهذا ما يستطيعه المبدع المجيد تماما لأدوات التشكيلي والكاتب في نفس الوقت.
لعل تجربة الأديبة والفنانة «إيتيل عدنان» في عدد من أعمالها الفنية المعروفة باسم ( الدفاتر) ، تتألف تلك الدفاتر من رسوم بمواد فنية مختلفة ومن خط مكتوب حيث حيث تستنسخ القصائد أو الفصل الروائي بصورة كاملة غير منقوصة ولتؤكد بذلك الاسلوب (عن وجود صلة بين المحمولات المعلنة والمضمرة للقصيدة وطاقة التحسس والفهم التشكيلي عندها) حيث تقودنا من المباشر والظاهر على سطح اللوحة والنص إلى الرموز المضمرة من تواجدهما معا في تلك الدفاتر.
أما تجربة الفنان اللبناني عارف الريس بكتابه «الايام الرمادية.. ألوان ، أحرف، صور» سجل فيه انطباعاته الذاتية بتوليفة كولاجية من قصاصات افكاره المطعمة بقصاصات الجرائد والصور وإن كانت السطوة هنا للون ومساحاته إلا أن قوة النص تبع من تمرد الكتابة الواضح على سكون الصفحة البيضاء،،، تجربة قد يقف أمامها البعض متحيرا إذ تبدو أحيانا كهذيان حروفي لوني لا أكثر ، وأحيانا أخرى كرسائل غاضبة عن السياسة والأوضاع الإجتماعية بفردات لفظية و بصرية .
على الصعيد المحلي والخليجي لن نستطيع اغفال تجربة جماعة الدائرة … إذ يحق لنا أن نطلق عليهم لقب السرياليون الجدد فكما تبلورت السريالية الأم بشعلة حملها كتاب وفنانين ، تنهض جماعة الدائرة منذ عام 2001 بتجربة رائدة لا لمزج النص الشعري والقصصي بالتشكيل بل لتفعيل انتاج العمل التشكيلي الأدبي وتنفيذه بآلية تشرك أفراد الجماعة
كما أن عمل (أول الإحتراق آخر الدخان) التي قمت بها بمعية الكاتب العماني علي الصوافي والعراقي طه حسين محاولة تحتل بها الفنون البصرية المعاصرة مساحة موازية للنص المقروء والقطعة الموسيقية الحاضرة بين اعمال الفيديو و خشبة المسرح ، وتجربة لاكتشاف صيغة حقيقية لخلق هوية عمل متكامل ضمن وحدة نصوص استنطقها بمجموعة تشكيلية تعكس بشكل متوازن المفردة الشكلية والموسيقية للنص..
وبالرغم من التخوف الحقيقي في بداية الأمر أن تكون تلك النصوص قالبا يحد من أفكار كل منا، إلا أن الكاتب يطرح نصوصا ثرية بالمفاتيح البصرية التي تفتح أبوابا جديدة وطرقا أعمق إلى ذات التشكيلي لا إلى عوالم وذوات الآخر فقط، كما أن الموسيقى جاءت محفزة وأصيلة تنبع من جوهر النص وتصب بسلاسة في قلب التشكيل…..
مراهنات متتالية على روح النص لا على متنه.
بدور الريامي
فنانة تشكيلية من عُمان