عندما نهضت لمى في صباح يوم اجازتها، كانت تشعر بالضيق على غير عادتها. ولم يكن خافيا عنها سبب ذلك. فقد بدأت علاقتها بمارك تأخذ بعدا جديدا. لم تكن أعماقها تسمح به, سيما بعد تجربة زواجها التي منية بالفشل والتي خرجت منها بآلام نفسية احتلت جزءا كبيرا من ذاتها.
بدأت لمى تهيىء نفسها للخروج دون خماس كأي يوم آخر من أيام عملها. بقي على موعد وصول مارك نصف الساعة. فتحت باب خزانة ملابسها، ما تحتاجه لهذا ليوم الحار ثوب خفيف ومريح يلائم الشاطيء.
تنظر نفسها في المرآة وتحدق طويلا.. تتساءل ( هل هي حقا تعقد حياتها بإرادتها.. هل الحياة بسيطة وهي تبالغ على الدوام في محاكمة الأمور والتدقيق في التفاصيل ؟؟) تصر على المواجهة أكثر.. تنظر الى صورتها في الركن بالقرب منها تتأمل وجهها بإمعان.. تبتسم بأسى تعترف في أعماقها بأنها تتمنى لو أن علاقتها هذه كانت مع رجل عربي. غير أن العقل يرفض اعترافها.. يهزأ منها.. تتحددها عيناها في الصورة.. وهل تمكنت هي من تحقيق ولو نصف ما حققته في علاقتها بمارك مع أي
رجل عربي سبق وعرفته وبنت علاقة أو مشروع علاقة معه.. ألم تبتر جميع علاقاتها في السابق لأسباب هي أدري بها!!
يرهقها الحوار.. تدير ظهرها للصورة تتجاهلها.. تشغل نفسها بجمع احتياجاتها, تتحدث بصوت مرتفع ملابس البحر.. الكتاب.. الكريم.. إلا أنها تفشل في قطع الحوار مع نفسها. نعم انها تعترف أنها منذ معرفتها بمارك وحوارها لم يعد منحصرا مع ذاتها.. الحوار على الدوام مفتوح.. معه تترجم أفكارها وآراءها ببساطة.. تعطيه وتأخذ منه بسلاسة وعفوية.. أبدا لم يلجم الحوار بينهما.. لم يحجم في حدود معينة مغلقة معتمة.. الحوار على الدوام منطلق حر يتجاوز الكلمة يتجلى في الفعل والروح, غير أن لمى تهز رأسها.. كل ذلك لا يبرر قبوله الدائم في حياتها.
يشدها من استغراقها رنين الجرس. كان مارك قد وصل. وفي الطريق ساد بينهما صمت ثقيل حتى بادر مارك ببتره:
هل هناك ما يزعجك:؟
رسمت لمى ابتسامة على وجهها وهزت رأسها بالنفي (كيف لها أن تجرحه.. كيف لها أن تعبر عن رفضها لفكرة الزواج دون أن تسبب له ألما.. كيف تقول لا وأخر ما ترغب به أن تراه حزينا!! كيف يمكن لها أن تقنعه بأن رفضها له ليس سبب اختلاف الجنسية واللغة بل بسبب الخوف المزمن في أعماقها.. كيف له أن يصدق بأنها على الرغم من حبها العميق والهاديء له تجد نفسها عاجزة عن قبول الفكرة أو مجرد التفكير فيها).
ورغم معرفتها العميقة لمارك إلا أنه فاجأها بقوله:
– أريدك ايتها العزيزة الا تقلقي، أدري أي صراع يجول في ذهنك والذي ينوى به هذا الجسد الصفير. فكرة الارتباط ليست بدافع امتلاكك أو لربط مصيرنا.. بل للعيش معا.. وذلك لا يتحقق في مجتمعكم الذي يسمح للرجل ما.. (تهز لمى رأسها بعصبية, تهم بالكلام إلا أنه لا يمنحها الفرصة ) أنا لا أسعي لمناقضة ذلك مجددا، بل أود أن أوضح لك بأن لدي الكثير لأمنحه لك.. ربما لا تكون أحوالي المادية تسمح بالكثير. لكنا معا سنزلل الكثير من الصعاب, ولك دائما المساحة التي تحتاجينها لتكوني نفسك.. لدي الكثير من الأحلام التي أتمنى أن تشاركيني إياها ولدي رغبة صادقة في مشاركتك جموحك نحو الأفضل.. أرجو أن تنسي هذا الأمر وما من داع للدخول في صراع مع نفسك يكفي ما أنت عليه من ألم وارهاق.. أنا راض بعلاقتنا كما هي عليه الآن, وسأبقى معك حتى لو لم نتمكن من العيش معا.
تأملته لمى بدهشة وحدقت في عمق عينيه ثم قالت بانفعال: هل تعني أنك لن تنسحب من حياتي ان رفضت الارتباط ؟..
ابتسم مارك وقال لها:
– ربما لم تدركي بعد كم أحبك.. أنت المرأة التي طال بحثي عنها.. ولن. ابتعد عنك الا إن أردت أنت ذلك. حينئذ تنفست الصعداء وعادت الى طبيعتها ومرحها. ومضى الوقت سريعا وهي تسأله عمن سيأتي من أصدقائه.
وصل الجميع الى المنتجع في وقت متقارب وكان أغلب الأصدقاء إما بصحبة زوجاتهم أو صديقاتهم من عدة جنسيات ورغم أنها سبق والتقت بالعديد منهم الا أن مارك أصر على أن يعرفها على الجميع وهو ممسك بيدها.
– جون وصديقته آنا.. صديقتي لمى وتابع مارك تعريفها على البقية, ثم انشغل في حديث جانبي مع أحد الأصدقاء في حين بقيت هي مع جون وآنا وصديقة أخرى.
حاولت لمى التغلب على شعورها بالغربة من خلال مشار كتهم في الحديث. وبعد لحظات انسحب جون لتبقى هي مع السيدتين. وفجأة وجدت لمى نفسها وحيدة بعد أن أدارت آنا لها ظهرها متابعة حديثها مع صديقتها تحاول مرة أخرى أن تخفي شعورها بالحرج. بحثت عيناها عن مخرج لها في مجموعة أخرى تنضم لها. ترى صديق مارك العربي ياسر يتحدث مع بعض الأصدقاء. تلتقي نظراتهما تبتسم له وتتجه نحو مجموعته غير أنها تحجم عن التقدم حينما تدرك بأن ياسر كان ينظر اليها وكأنه ينظر عبرها الى بعد آخر.. تحاول مداراة اضطرابها تتوقف في مكانها.. تتلفت حولها. لم يكن أحد يلاحظ وجودها حتى من باب المجاملة. تبتلع صمتها وتحاول أن ترتد الى ذاتها, تحاور نفسها "انه يوم اجازتي أي يوم عزلتي, وعلي أن أهون كما أريد أنا، أي مع نفسي ومع ما يحقق راحتي" وبعد لحظات تستغرق في تأمل البحر أمامها.. ولم تعد بدورها تشعر بوجودهم أيضا.
– لمى لم تقفين بمفردك.. لم لا تنضمين الينا تنتفض لمى وتنتبه لوجود مارك بجانبها – أين الجميه (تسأله بهدوء)
– هناك يتناولون المشروبات.. تعالي لننضم اليهم
– أفضل البقاء وحدي.. سأذهب الى الترأس عند الشاطيء.. لا داعي للقلق معي كتابي (وتبتسم له بمودة ) يبتسم مارك:
– سأعود اليك بعد حين.. هل أطلب لك شيئا.. أحقا لا ترغبين في الانضمام الى الأصدقاء بإمكانك التحدث مع ياسر وصديقته بربارا.
– أفضل الهدوء والقراءة.. وأرغب في إنهاء الكتاب.. أرجو أن تطلب لي كوبا من الشاي وكأسا من الماء المثلج.
ينظر اليها ويحاول قراءة تعابير وجهها
– أرجو الا تكوني نادمة لقدومك.. أنا سعيد لكونك معي.. أحبك أحبك كثيرا ولا أريد أن أفرض عليك شيئا.
تتجه لمى نحو الترأس وتختار الطاولة الأقرب الى الشاطيء. تضع حقيبتها وتأخذ كتابها ثم تسير جهة اليسار وتنزل الدرجات الخمس الفاصلة بين الأسمنت والرمال, وتسير بمحاذاة الترأس لتستلقي على الرمال قبالة طاو لتها بحيث تتمكن من إبقاء رأسها في ظل الترأس. وبعد قليل تستغرق في كتابها وتنسى العالم من حولها.
أصوات خطوات عديدة, صرير حركة الكراسي يخدش عالمها الساكن. رواد جدد وصلوا الترأس أيضا.
– قلت لك ألف مرة الا تنسى إحضار الكريم.. دوما تنكدين علي يوم اجازتي.. أتمنى مرة وحداة فقط أن تسير الأمور على خير.
– كيف لا أنسى وأنا منذ الصباح أحضر لذهابنا.. أعددت الافطار.. أطعمت الأولاد.. غيرت ملابسهم وقبلها قهرتك والجريدة.. مساجك وحده استغرق ربع ساعة.. كل هذا وأنت مازلت في سريرك تتمطى.
– انظري الى تلك المرأة هناك (يتنهد بحسرة ) ما أجمل قوامها.. كم هي ساحرة.. فاتنة.. كم أنت مهملة في حق نفسك.. كم تغيرت منذ تزوجتك لو كنت أعلم أنك ستكونين في يوم ما بدينة لما كنت..
قاطعته المرأة ونادت أولادها بصوت لم تملك لمى معه سوى الشعور بغصة في حلقها – تتنهد بعمق – كم عاشت هي نفسها فيما مضى مثل هذه المواقف.. كم تكررت تلك الحوارات التي كانت وما زالت تشعر لدى ذكراها بما يشبا وخز الابر في جسدها.. كم تنتفض أعماقها وكم تفرق في هيجان داخلي يشدها رغما عنها الى متاهات الماضي الذي لم يبق منه سوى الخوف الى حد الذعر، والذي بالكاد تتمكن من السيطرة عليه والاقتناع بأن تلك المرارة لن تعيشها المرة تلو المرة.. لم تعد مجبرة على مثل تلك الاستنزافات الداخلية.. لم يعد محكوما عليها أن تقف على الدوام في قفص الاتهام, وتستمع لتهم المدعي العام.. هي حرة طليقة وقعت حكمها على نفسها بنفسها.
يعيدها الى حاضرها ايقاع خطوات رشيقة, وبعد ثوان ترى المرأة بجانبها. تفاجأ المرأة بوجود لمى وتدرك على الفور بأنها استمعت الى كل ما دار قبل لحظات. نظرت اليها بخجل وانكسار ثم تابعت سيرها باتجاه أولادها الثلاثة الذين كانوا يشيدون قلعة من الرمال. تأملتها لمى بإمعان كان في جسدها. رغم امتلائه – من الأنوثة والرشاقة ما يدير رؤوس العديد من الرجال. حاولت لمى دون جدوى التركيز على كتابها غير أن الذكريات كانت أقوى من ارادتها فوضعت الكتاب جانبا وجلست تتأمل البحر من جديد.
كانت الشمس قد بدأت تتجاوز محورها العامودي عندما نهضت لمى وسارت نحو الشاطيء ذهابا وايابا. وأخيرا وقفت تتأمل المدى ورنت الى الشمس ثم قررت أخيرا الاغتسال بمياه البحر. منحت جسدها للمياه علها تساعدها في التطهر من شوائبها. وحينما رأت مارك على الشاطيء يبحث عنها أشارت له للحاق بها.
خرجت لمى ومارك من البحر وهما يشعان بالحيوية. وحينما مرا قرب الأولاد كانت والأتهم بالقرب منهم تشيد لنفسها قصرا من الرمال. ابتسمت المرأة لرؤية ابتسامة حالمة صافية وعادت الى قصرها. وبعد أن وصلا الى طاولتهما تناولت لمى كأس الماء التي ذابت مكعباته الثلجية منذ زمن, وقدمتها الى مارك الذي شرب نصفها وأعادها اليها، ولم تتردد في ارتشاف الباقي حتى أخر قطرة لعطشها الشديد. وحينما انتهت من تجفيف جسدها, طلبت منه أن يعطيها الكريم من الحقيبة بجانبه. وبعد لحظات ندت عنها صرخة خافتة أفزعت مارك الذي سألها بقلق "ما الأمر" فأجابته بضق وحيرة:
-فقدت خلخالي الفضي
– أين
– في البحر حينما كنا نسبح.. أظن أنه انزلق من قدمي
– سأذهب للبحث عنه, فنحن سبحنا في مساحة محدودة _
– من المستحيل أن تعثر عليه.. لا يهم ربما كانت ضريبة البحر مقابل ما قدمه لنا من متعة.. لم يكن ثمينا على أية حال.. (ثم تابعت وكأنها تحدث نفسها) لن يكدر ضياعه يومي.. يكفي أنه لن يؤنبني أحد على فقدانه كما في الماضي.
وانهمكت في ترطيب جسدها بكميات سخية من الكريم.. وحينما انتهت, تناولت كتابها مرة أخرى دون أن تلحظ غياب مارك.
لا تدري كم من الوقت مضى، حينما رأت ظلا يخيم على كتابها. رفعت رأسها ورأت قبالتها مارك, كان يقف على بعد خطوات مبتل الجسد ويده تلوح لها بشيء يعكس بريق الشمس. نظرت الى ذلك الشي في بإمعان نهضت من مكانها واجتازت المسافة بينهما.. ثم أمسكت بذلك السوار المعدني وهتفت بصوت خافت:
– انه هو.. الخلخال.. ولكن ؟
أجابها مارك بعفوية:
– كيف لا أبحث عنه وهو جزء منك !!
نظرت اليه بعينين واسعتين ودقات قلبها تتسارع.. كانت عاجزة عن الكلام أو الحركة. ورغم أن المفاجأة لحانت ما تزال تسيطر عليها الا أنها أحست بأن قلبها يود أن يقفز من جسدها ويتبعها حينما فاداه أحد الأصدقاء لينضم اليهم. ورويدا رويدا استعادت توازنها.. غير أن شعورا جديدا هيمن عليها.. كانت تشعر بأن جسدها أشبه بالطائر.. وبأنها أرادت فبإمكانها التحليق عاليا في السماء.. أحست بأن عبئا ثقيلا قد زال من أعماقها.. وبأن ذلك الخوف المتأصل في داخلها قد غادرها من دون عودة.
رشا المالح (قاصة من سوريا)