كانت في غرفتها تتكئ على مرفقها جالسة إلى مكتبها وتنظر إلى الخارج عبر زجاج باب الشرفة, كان الوقت عصرا والشمس إلى الغروب, والبحر مزيجا من الزرقة والاحمرار, تراءى لها من خلال الزجاج المغبش, كان نسيم جميل يلاعب أغصان الأشجار المحيطة والمرأة استرسلت في ذكريات- »لم أعرف يوما الحنان«, قالت له وهي ترشف الشاي في صالة الطعام في فندق متواضع.
نظر إليها وأسئلة كثيرة راودته في تلك اللحظة لكنه لجمها, لجم رغبة السؤال وكبت مشاعره, لم يكن مستعدا بعد للتبادل العاطفي, وعلى الرغم من شعوره العميق بأنه بدأ منذ فترة غير قصيرة يهتم بها, بشخصها, حتى أدنى التفاصيل.
– »الحنان لم نعرفه يوما« في البيت. كان الحنان دائما غائبا عن محيطنا. نشأنا وكبرنا في أجواء مسمومة, لئيمة, جافة, قاحلة, قاسية« عادت وقالت, وكأنها أخذت تبتعد أكثر فأكثر عنه لتغرق في تداعيات قديمة ولدت لتوها, خرجت الى الواقع, من رأسها ومن قلبها لما رأته.
كان قد أتى اليها بدون موعد مسبق, أراد أن يفاجئها, ان »يقبض« عليها قبل مغادرتها المدينة. فهي ما زالت بالنسبة له غامضة على الرغم من عفويتها, سرية على الرغم من صراحتها. أراد أن ؛يقبض« على سرها عند الصباح الباكر, في هيأتها الأولى, في عذرية يومها. أراد أن يلج عالمها.
كانت السماء غائمة والشوارع مقفرة ككل يوم أحد. غرفة الطعام كانت هادئة الا من قرقعة خفيفة للصحون والفناجين, أما هما فساد بينهما توتر خفي إذ كانت الساعة تقترب من موعد الرحيل ولم يكونا بعد تطرقا إلى ما يخالجهما ضمنا, ما يقلقهما حقا. كانت هي تتباطأ في تناول الشاي, تجرعه جرعات صغيرة وشبه هادئة, وكان هو يفتش عبر كلماته المتباعدة لكن المتواصلة عن مبرر لإطالة الوقت, عن حجة لإعاقة الذهاب.
كانت هي تعرف معنى تصرفاته, كانت تعي ماذا يحصل في داخله من لواعج وعذاب, أما هو فلم يكن على هذا المقدار من الثقة, لم يكن قادرا على سبر داخلها شبه المغلق, لم يكن يعرف, مثلما تعرف هي عنه, ان كان يعني لها شيئا أم لا.
وبقيت المواضيع العامة هي السائدة على حديثهما, بعيدا عن قلقهما الحقيقي.
أدارت رأسها فجأة وألقت نظرة من النافذة علها تحرك الجو المرتبك بعض الشيء, الا ان الدنو من الوقت النهائي أثقل أكثر فأكثر الحديث المتضائل, ولم يبق لديها سوى أن تضع بحزم, حدا لهذا الوضع الغبش. فنهضت فجأة عن كرسيها, وحاولت أن تودعه بلطف ولا مبالاة, اذ شعرت ان المكوث وقتا أطول لن يغير في موقفهما, وإذ تأكدت من انه لا يريد أكثر من فك رموزها, ومن انها لا تريد أقل من حب جارف, هائم, مستحيل.
في السيارة التي أقلتها من باب الفندق باتجاه مدينتها, مسقط رأسها, شعرت بحزن خانق, بكآبة لا توصف, لأنها رأت العدم يعتري حياتها. لأنها رأت نهاية الأشياء تتقدم نحوها. لأنها فهمت أن الرجل الذي تفتش عنه غير موجود.
فهمت انها لا تريد أن تعيش مع الرجل ولا تريده بعيدا عنها, فهمت انها تفتش عن الرجل في المطلق.
عبرت بالسيارة سهولا خضراء وهضابا غير مرتفعة, وبدأ رذاذ ناعم يبلل الزجاج الأمامي وأخذت هي, في غمرة شجوها, أخذت تتساءل حول معنى هذا اللقاء غير المكتمل, وهل كان من الأفضل ان يفاتحها هو بموضوع تلك العلاقة الناقصة. ولو فعل ماذا كانت ستقول له? هل كانت ستتجاوب ويبدآن علاقة نهايتها الفشل والفراق?!
هزت رأسها يأسا وأغمضت عينيها قليلا لتفكر بأغراضها وأوراقها وغرفتها الدافئة التي بانتظارها.
صباح زوين شاعرة ومترجمة من لبنان