لم يكن الذهاب إلى « ايتزر» سفرا عاديا يبدأ من ساحة بطحاء وينتهي في بلدة غبراء . كان رحلة سيزيفية تبدأ بامتناع السيارة المشؤومة عن الانطلاق ولا تنتهي تحت خيام الكرم الأطلسي . وبين المبتدى والمنتهى ركام متواتر مكن اللعنات ، وطريق جهنمية تمتد كأفعى حقود تلتف حول أعناقنا وتجرعنا ما تبقى من سراب الأمس .
كنا خمسة رؤوس معبأة بالرغبة في تفقد المنفى والبحث للتاريخ عن معنى دقيق ، ترافقنا موسيقى ال Dire Straits وينعش مخيلاتنا هواء الخروج من مدينة منذورة للدسائس العظمى ، نتآزر على سرد الطرائف والنوادر ، ونسعى إلى قهر الحرارة باجالة البصر في خضرة السهول وتحاضن الأشجار على جانبي الطريق . وكان «أبو الهدى» يطلع قريبه على «مفاتن» السيارة ويرشقها بالغول المر و«السعيد» يضحك ويحدق في قفا «البلبلة» الذي كان يدخن السجائر الزرقاء واحدة تلو الأخرى ويصفع لوحة الإضاءة كي تشعره بقرب نفاد الماء . وكنت أحاول ألا أطاوع حدسي ، وأتحاشى الندم على عدم الذهاب في نزهة آمنة إلى «عزابة» رغم أني أعرف أن مرافقة «البلبلة» لا تخلو من أبدا من متاعب وطوارئ كارثية ، حتى ول تعلق الأمر ، مثلا، بقطع الطريق في اتجاه كشك الجرائد أو المخدع الهاتفي أو بائع «السكود» . لكن لابأس مادام ( الموت بين الأحباب نزاهة) كما يقولون.
غير أن للموت ضروبا وأشكالا لا تخطر ببال ، ففي غمرة انهماكنا في التمازح والتهاجي تضبب زجاج السيارة ولفحت وجوهنا حرارة مباغتة وتصاعد الدخان من المبراد . فأوقف «البلبلة» المحرك وخرجنا متراكضين ، وبدأ مسلسل التوقف والدفع .
كانت ايموزار ترنو إلينا من بعيد ، ضاحكة من تبلهنا ، لأننا كنا نعرف أن السيارة معلولة كصاحبها ، ومع ذلك جازفنا بركوبها ولم يمض على وقوفنا في نفس الموضع أكثر من شهر ، يوم كنا نسعى برفقة «فتاح » والكردي «كوكسال» إلى حديقة «افران » و»عين فيتيل» هربا من صهد «فاس» الخانق .
قل أبو الهدى :
– هي ذي اللعنة لا تفارق صاحبنا .
غير «البلبلة» وجهة السيارة نحو المنحدر ، وبحثنا عن الماء في السواقي القريبة ، ثم انتظرنا أن يستعيد المبراد هدوءه ونواصل المسير. قال «البلبلة» بنبرة جنائزية:
– لقد احترقت وصلة المغلاق .
وعم الصمت ، ولم يعد للموسيقى موطن أذن في هدا الحداد الطارئ ، لكن أبا الهدى ظل يستفز السيارة بغزله الجارح ، والبلبلة ينظر إليه شزرا ويلتهم السجائر بمرارة ويتوسل إليه أن يصمت ،لأن للسيارة آذانا حساسة وصدرا يضيق بالتعاليق . وكان علي أن أتوسط في الأمر ، فذكرته بأنشودة السجناء التي أجبرتنا على العودة في المرة السابقة وقد أشرفنا على قرية الشهوات العابرة ، من غير أن نتفسح في حديقة أو نشرب من عين.
وعند مدخل «افران» داهمت وجوهنا العرقانة نسمة هواء نقي ، وانتابتنا غبطة طفولية أنستنا كل ما حدث ، وقال أبو الهدى بأستاذيته المعهودة :
– هذه مدينة حقيقية .
أما السعيد فقد صاح مهللا:
– أوه ، إنها قطعة من فردوس .
وجد الضيف القنيطري نفسه مضطرا للإدلاء بدلوه في هذا المناخ البهيج ، فقال وهو يغرس عينيه السنجابيتين في مورد مشذب :
– كأننا في مصطاف سويسري .
وخرج البلبلة من شروده الكئيب ونظر إلي في المرآة الارتدادية سائلا :
– ألا تشبه المدن الألمانية ؟
ورأفة بحاله قلت من دون تفكير :
– ربما ، فجمالها يضاهي بهاء القرى الألمانية ، لولا أنها تخفي خلفها مساكن من الصفيح يندى لرؤيتها الجبين .
وسمعته يقول لنفسه : « لقد شيدوا مكانها تجزئات نموذجية » .
كنت أخاف من أحرم بصري من التنعم بمرآى العرائش والشرفات المزهرة ، فلذت بالصمت وتلافيت أن أتورط في سفسطة صيفية لا خير فيها ، وتمنيت أن تكون الأحلام قد وجدت لها مستقرا ، واقترحت عليهم وقفة قصيرة نحتسي خلالها سائلا منعشا ، ونختبر قدرتنا على المشي ، غير أن أبا الهدى أعادني إلى الصواب حين قال :
– لعلك قد اشتقت إلى اللعنة .
فتذكرت عقوبة الدفع وتراجعت عن رغبتي .
ولما وصلنا إلى مفترق طرق حول البلبلة المقود صوب وجهة «أزرو» ، لكن أبا الهدى أمره بما لا يقبل الجدل أن يسلك الطريق المستقيم لأنه أقرب . أما نحن فلم يكن لنا رأي ، كنا نتمجد اليقين . وبعد مسافة طويلة يصعب تقديرها في وضعنا الملتبس ، التبس أبو الهدى إلى البلبلة وقال وكأنه يناجي نفسه :
– أظن أننا زغنا عن الطريق الصحيح .
غير أن البلبلة بعناده الأصم لم يعر كلامه أدنى اهتمام ، وضغط على الدواسة ، فانطلقت السيارة بسرعة متآمرة ، واخترقنا عتبة التيه الأعظم : خلع القنيطري قبعته ومسح قطرات العرق التي نزت من صلعته ، وتبادلنا- أنا والسعيد- ضحكة عارمة ، وأشعل البلبلة سيجارة دخنها في انتشاء مكابر ، وانطوى أبو الهدى على نفسه كقنفذ مطارد . والطريق تمتد ، والأحجار السوداء على جانبيها تلفح أعيننا بحرارتها الحارقة ، والعقبات الخبيئة تفتح لنا أذرعها وتعبئ ترقبنا بالحيرة تلو الحيرة . وبدا لي أن أسال أبا الهدى كي أمتحن يقينه المهزوز :
-هل جزت هذه الطريق من قبل ؟
– بالطبع ، من هنا مررنا أنا وبائع الخشب ، قبل أسبوع ، لكننا لم نشعر بمثل هذه الحرارة ، لأن سيارته مكيفة الهواء .
وحدج البلبلة أبا الهدى بنظرة معاتبة ، وقال وهو ينفث دخان السيجارة في وجهه :
– لعنة الله عليه وعلى سيارته . وأنت أين درست الجغرافيا ؟
ران الصمت من جديد ، وتصاعد دخان المبراد ، وأوقف البلبلة السيارة ، واندفعنا خارجها ، ولاحت لنا من بعيد سيارة صغيرة كانت تشق الطريق خلفنا ، فأوقفها السعيد وهب صوب السائق يستفسره وجهة»ايتزر» ، ثم عاد راكضا وهو يمسك بخريطة مفصلة بسطها أمام أعيننا الغبشاء ، فلا نتبين سوى خطوط متعرجة ونقطة دقيقة تشير الى القرية المقصودة ضمن المدار الذي نوجد فيه .
أفرغنا ما تبقى لنا من ماء المبراد ، وتابعنا السير على جناح المجازفة ، وعيوننا متشبثة بمؤشر الحرارة .
– هاهو هبط .
– الحمد لله . أتمنى أن تكون هذه آخر عقبة.
أطللنا على «بولمان» . كانت تتدثر بعرائها مثل غجرية منبوذة يلفها الغبار من كل حدب . وكنا نشفق عليها قليلا ، ثم نتذكر تيهنا وننسى كل شيء . لم تعد الأشجار مجرد عناصر طبيعية محايدة ، إذ تحولت في مستتب الذهول إلى كائنات حية وعاقلة تكيد لنا المكائد وتورطنا في التيه السرمدي . وكنا نرى الأشجار اليابسة من بعيد فنحسب أنها علامة على مقام خصيب ، وحين نبلغها نكتشف أنها من بقايا واحة محروقة تحف بها أطلال خربة ، فيقول أبو الهدى بما يشبه اليقين :
– إنها قلاع المولى إسماعيل .
ويبادره البلبلة بالقول :
– قد تكون أستاذ تاريخ مهم ، لكن إلمامك بالجغرافيا ضعيف جدا .
ومن باب الدفاع عن النفس يقول أبو الهدى في هدوء :
– أنا أدرس الجغرافيا العامة ، لا جغرافيا الشعاب والمناطق المهجورة .
وصاح القنيطري وهو يحدق في نؤشر الحرارة بعينين جاحظتين :
– ها هو طلع .
واستبد بنا الخوف من أن يجف ماء المبراد ونضطر للوقوف في هذه الفيافي المقفرة ، حيث لا شيء يتحرك سوانا نحن المطوقين من كل صوب بالسرابات الملتهبة والأحجار المحمومة . وتذكرت على سبيل الاستئناس فيلم برتولوتشي الشهير
» شاي في الصحراء » ولمحت وجه بول باولز يطل بجهامته المأتمية من بين الأحجار السوداء ، والممثل الرهيب جون مالكوفيتش يعفر وجهه بالتراب ويصرخ في وجوهنا : « عودوا من حيث أتيتم ، لا تسلكوا هذا السبيل الذي يفضي الموت أو إلى الجنون » .
لكن إلى أين وقد قطعنا مسافات طويلة ، وليس في مبرادنا ما يكفي لمقاومة هذا الحر الصحراوي ؟ ومن بين مخالب الترقب لاح لنا ما يشبه بناء صغيرا قائما في عراء . أوقف البلبلة المحرك فتدحرجت السيارة من تلقاء نفسها صوب منحدر قريب ، ونحن ننقب في حناجرنا الناشفة عن قطرة ماء نصارع بها هول المفاجأة ، ثم وجدنا أنفسنا فوق قنطرة مهدمة والى يمينها انتصب حائط رملي كتبت عليه بحروف زرقاء العبارة الرحيمة
( ماء السبيل) …صرخ البلبلة بحته الهستيرية :
– الماء ، الماء . لقد نجونا .
حملنا قنينات البلاستيك السبع واقتفينا الوجهة التي يشير إليها السهم ، كما لو أننا نعلم علم اليقين ( الذي قادنا إلى ما نحن فيه) أن كاتب ذلك العنوان محسن عاقل يدرك خطورة هذا السبيل ، ولربما كان هو الآخر قدسلك نفس الجحيم ولنذم يقو على مواصلة السير فحط الرحال بهذه الأرض القاحلة وبحث في جوف الآبار عن مياه تساعد السابلة وترأف بأحوالهم …ولم نفكر ، ولو على سبيل المزاح ، في أن يكون كاتب العنوان مجرد محتال مخبول أراد أن يشمت بالعابرين . التفت إلي أبو الهدى وسألني :
– هل تعتقد أننا سنعثر على الماء ؟
قلت :
– ولم لا ؟ فأنا أستبشر بالخط الجميل .
أطللنا على البئر الأولى : كان بها ماء وليس بها دلو . تضاحكنا في حذر ، ثم رأينا بئرا أخرى على بعد خطوات : كان بها ماء والدلو راس فوقه . ورأينا ثالثة : نفس الخيبة . وقفنا نفكر في حل حين بدا لنا شيخ بعيد يشق الأرض بفأس . قرأنا عليه السلام بصوت عال ولوحنا له بأياد يائسة ، ثم خطونا في اتجاهه . كانت بالقرب منه طفلة صغيرة حملها وتقدم منا .
– نريد ماء .
– انه هناك ، خلف تلك الشجرة .
شكرناه وسألناه عن طريق «ايتزر» ، فقطب جبينه ثم نفث تلك الجملة الغامضة التي لم ندرك فحواها إلا بعد فوات الأوان:
– هذه الطريق تمتد حتى الصحراء .
ملأنا القنينات وشربنا وغسلنا وجوهنا ، ودعونا لطفلته بطول العمر ، وعدنا الى السيارة . كان البلبلة صامتا ، وأبو الهدى يبحث بعينيه عن بقايا قلعة إسماعيلية ، والسعيد يضاحك ظله . سألته :
– ما بك ؟
التفت إلي وهو يغالب ضحكه :
– صنبور ماء في قلب الصحراء. يالها من لوحة سوريالية .
ثم أشار الى مبنى في طور البناء وأردف :
– كيف تكون حال الساكنة هنا عندما يسقط الثلج ؟
قلت بسخرية مستهجنة :
– لعلهم يقتنون الدائرات المروحية .
لم نضحك . تابعنا سيرنا ن وكنت أفكر في هذا العبث الذي لا ينتهي . كان القنيطري يقف فوق القنطرة وقد ازدادت صلعته لمعانا . ناوله أبو الهدى الماء فتهللت أساريره ، وأفرغنا في المبراد ما تبقى ، و دفعنا السيارة فانطلقت بشخير متقطع أشبه بضحك صموت ، ثم ركبنا وأسلمنا أقدارنا للصدفة . لم نعد نحصي المسافات ولا نعرف أين نسير . كانت العلامات الحجرية التي تشير عادة الى طول المسافة المتبقية قد تحولت الى شواهد قبور منهدمة بعد أن كشطت بعنف غريب .
لا أحد ، سوى بضع طيور سوداء تحلق في انتظار فريسة ما ، وأحجار مفحمة وهواء حارق .
كان البلبلة المعروف بثرثرته قد خبأ لسانه في جيبه ، وتمسك بالمقود ن وكأنه يقودنا الى حشر غير معلوم . آنذاك فقط أدركنا معنى النفي ولعنة الاحتلال . وبعد مسير طويل ، ظلت خلاله عيوننا على مؤشر الحرارة وأيدينا على قلوبنا ، بدا لنا ما يشبه نسرا كبيرا فوق شجرة . تبادلنا نظرات عمياء واحتوانا شرود رهيب . وحين اقتربنا منه رأينا وجها خشنا يقعي فوق بناء خرب. ماذا يفعل هذا النسر الآدمي هنا ؟ هل يتربص بفريسة ما ؟ هل يكون من عصابة «بولوحوش» ؟
– ها هو طلع .
أوقف البلبلة السيارة بجوار مبنى صغير رفعت فوقه راية ذابلة . قال أبو الهدى :
– الحمد لله ، فنحن مازلنا في المغرب .
سألنا شيخا يتكئ على حائط مهترئ عن موقع الماء ن فنادى على طفل وأمره بجلب الماء ، ثم جاءت امرأة رملية الملامح وقدمت لنا الماء وهي تحدق فينا فاغرة الماء ، مقطبة الجبين . شكرناها وشكرنا الشيخ وسألناه عن أقرب وجهة ، فأشار بيده المعروقة نحو الجبل وقال :
– خلف تلك الكدية .
ودفعنا السيارة ثم ركبنا . لكننا كلما اقتربنا من الكدية/الجبل ازدادت بعدا ، وتفاقمت خيبتنا . والطريق تمتد وتلتهب ، والجبال الجرداء تقمطنا ونحن نمضي ولا ندري سنتخلص من هذا القفر الذي تتخلله في أحايين متباعدة واحة مهجورة ومساكن رملية أقيمت فوق هضبة أو على ضفة واد جاف . وفجاة سمعنا شخير سيارة تحلق خلفنا . قال البلبلة :
– انه صاحب الخريطة . سنوقفه ونستعير منه الخريطة ، لنعرف أين نحن وأين المنفى.
لكن السيارة تجاوزتنا بسرعة خارقة حتى ارتطمت عجلاتها بالأحجار المتراكمة على جانبي الطريق ، وتوارت وسط الغبار الذي أثارته . أخرج البلبلة يده ولوح للسائق ، غير أنه لم يره ، أو لم يكن أن يرى أحدا . قال أبو الهدى :
– هل تبدو علينا سمات قطاع الطرق ؟
وقال السعيد :
– كل شيء ممكن في هذه الصحراء. ألم تر كيف ضاعف السرعة؟ انه خائف .
ولم يقل القنيطري شيئا ، كانت عيناه على مؤشر الحرارة وشفتاه تهتزان ، وكان المؤشر يهم بالصعود ثم يتراجع . أما أنا فقد فتحت الجريدة وحاولت أن أقرأ كي أريح بصري من الأحجار السوداء والأراضي الفلحاء . غير أني سرعان ما أعدت طي الجريدة وقذفت بها إلى الخلف . كان أبو الهدى يتحدث عن البركان الذي لفظ هذه الحمم ، وعن التحولات الجيولوجية وخصوبة الأرض . وكان البلبلة يرمقه بعينين كاويتين ويتمسك بالمقود ، ويفكر في أشياء كثيرة . وكنت أشرد في تأمل هذا الفضاء المنسي وأبحث عن راية ذابلة .
وبعد مسير طويل تخللته عقبات صغيرة غير مؤذية لاح لنا منعرج ضيق وصفيحة صدئة كتب عليها اسم « ميدلت» لكنا لم نسلك المنعرج وواصلنا سيرنا حتى رأينا ما يشبه نسرا آدميا آخر معلقا بأقرب أفق . وحين اقتربنا تجلت لنا لوحة المسالك الواضحة ، ورأينا طرقا متفرعة واسم «ايتزر» يلمع تحت شمس وديعة فأحسسنا بانفراج مريح. سألنا دركيا وسيما عن المسافة المتبقية ، وابتسمنا قليلا ، تاركين اللعنة وراءنا. كانت بطوننا أشد فراغا من هذه الطرق التي شردتنا . قال أبو الهدى :
– سنلهي بطوننا بشيء ما في «ايتزر» قبل أن نتوجه إلى «أغبالو ادخيس» كي نأكل المشوي .
ولما وصلنا إلى «ايتزر» لم نجد سوى الغبار والناس هائمين على وجوههم ، كأنهم مدفوعون بريح خفية خبيثة . وكان علينا أن نسير ببطء حتى لا نوقظهم من هذا السبات العجيب . كان المركب الثقافي -الذي دشن هذا الصباح – مقفلا. ضحكنا قليلا من بعض المفارقات المخجلة ، ثم سألنا امرأة عوراء ، كانت تقود جحشا جميلا، عن وجهة أغبالو ادخيس ، لكنها غمغمت ببضع كلمات بربرية ،ه ونخست الجحش كي يستأنف سيره . وسألنا رجلا آخر فعدل من وقفته وقال :
ثم إلى اليسار . ( Tout droit يعني) – اذهبوا طرونطروا
شققنا الحشود الهائمة في هذا اليوم الحار وأيدينا على بطوننا . كنا ندعو الله ألا يضع في طريقنا عقبة أخرى حتى لا يجف ماء المبراد . غير أننا ما كدنا نعرج على اليسار حتى استقبلتنا علامة مشؤومة رسمت عليها منعرجات جبلية فتحركت آلامنا من جديد . سيكون علينا إذن أن نصعد كل هذه السلسلة . أكيد أن وصلة المغلاق ستحترق عن آخرها ، وستقف بنا السيارة الماكرة في منتصف الطريق. رأينا صبيا يتكئ على شجرة ، وكان المؤشر قد استأنف لعبته ، فسألناه عن أقرب نهر أو ساقية .
قال :
– ستجدون بعد ذلك المنعرج غينا باردة .
واصلنا السير وعيوننا على المؤشر ، لكنا لم نجد عينا . أوقفنا السيارة وكان المبراد ينفث دخانا كثيفا . أطل البلبلة على الوادي وصاح مهللا :
– العين هناك في الأسفل .
حملوا القنينات وانحدروا ، وبقيت أنا أرقبهم وهم يراوغون الأحجار والأشواك . كانت الشاحنات الضخمة تبزغ عند المنعرج كغيلان أسطورية تصفع الريح . حولت نظري صوب الجبال الصخرية المنحوتة بأناة عبر ملايين السنين ، ثم أطللت على الباحثين عن الماء في الأسفل : كانوا يبدون فرحين ، يشربون ويغسلون وجوههم ويلوحون لي بأياديهم . وحين عادوا محملين بالماء كاد البلبلة أن يذهب ضحية هذا النزول المضني . كان قلبه يخفق بسرعة وصعود الجبل يبدو له مستحيلا . أمسكت بيده وساعدته على الصعود . ملأنا المبراد وشربت بدوري من هذا الماء العذب وحلمت بإقامة بوذية في هذه الأعالي ، ثم سرنا إلى أغبالو ادخيس.
لما أشرفنا عليها رأى السعيد عن بعد وصيفا يحمل صحنا كبيرا فانتابه فرح عارم . كانت هناك ثلاث خيام تكفي لإيواء المئات وسيارات مخزنية وصمت غريب يكسره اصطفاق الريح بالأعلام الجديدة . أوقف البلبلة السيارة على جانب الطريق ، حتى يسهل علينا دفعها وقت العودة . كان الضيوف قابعيتن تحت الخيام وعيونهم تستغرب ظهورنا في هذه الظهيرة الحارقة . جلسنا ، وفور جلوسنا جيء بالمشوي . قال أحدهم :
– انتظرناكم طويلا . لو تأخرتم أكثر لمتنا جوعا .
قال أبو الهدى :
– لقد تهنا عن الطريق ، لعنة الله على أستاذ الجغرافيا .
وانهالت لعناتنا على من ضيعنا بيقينه الرخو ، وصرنا نغرز أصابعنا في صدر الخروف ونصب على الأستاذ اللعنة تلو اللعنة ، ونضحك . وجاء الممون واعتذر عن التأخر غير المقصود في تقديم الأطعمة ، وقال إن الوزير المنتظر قد اعتذر عن الحضور في آخر لحظة . فقال السعيد بابتسامته الملونة :
– شكرا على التأخر .
وذهب الممون دون أن يدرك من مرمى قوله شيئا .
وبعد أن افترسنا الخروف وكنسنا قصعة الكسكس والتهمنا من الفواكه ما يؤهلنا لرحلة تيه أخرى ، همس البلبلة في أذني :
– انتهت أزمة الماء الآن ، وعلينا أن نتهيأ لأزمة المازوت .
أحسست بطعم الموز في فمي مرا ، وسألته :
– عمن ورثت كل هذه اللعنة ؟
عبأنا رئاتنا بهواء الجبل ، وتسلينا بالتفرج على المصور التلفزيوني وهو يهرب من مستجوب كان يحكي عن معاناة الزعيم الوزاني مع المحتل وعن الحيل التي كان يبتكرها كي يسهل اتصاله بالمقاومين . قطب أبو الهدى جبينه وقال :
– ياله من كاميرمان لئيم . هذه حقائق لم يعد الظرف يسمح بالسكوت عنها الآن وقد هبت نسائم التغيير.
قلت له :
– اهدأ يا بحر . فهو يمثل فصيلة من الصحفيين المخزنيين ليس من السهل تنحيتها في الحال.
وهزنا الشوق إلى كأس هاضمة فسألنا عن أقرب الطرق إلى فاس . لم نعد نفكر في الماء وسط السهول والأراضي المنبسطة . كان ذعري أقوى من ذلك . ماذا لو جف خزان المازوت ؟ كنت أداري خوفي بالتملي في انسياب الجداول وجمال المنازل القرميدية ورحابة الأفاق ، إلى أن بلغنا» تمحضيت» فملأنا الخزان وتفقدنا المبراد . كان هادئا على غير عادته . وشربنا المياه العذبة على مضض ، وقلت في سري :
– ما أحلى العودة من المنفى .
وفي طريق «يو» استعاد أبو الهدى يقينه المدمر وأخذ يتحدث نفسه عن التحولات الجيولوجية التي شهدتها المنطقة عبر ملايين السنين . كنا نصغي إليه مكرهين وهو يهذي ، وعيوننا على مباهج القرية . صادفنا وجها صبوحا أضاء الكون لنا : وجه صبية في ربيع العمر تمشي في هذا الخلاء باسمة وكأنها تناجي ملاكا ولهان. قال السعيد :
– نحن الآن في أرض البهاء الساحر.
ثم توالت الوجوه الحسان وارتاحت عيوننا من مؤشر الحرارة ، واستعدنا القدرة على الضحك ونحن نحملق في مشدات النهدين والتبابين المنشورة على نوافذ السطوح . سألت أـبا الهدى عن سر هذا الغسيل ، فقال : إنها دعوة مضمرة لهواة اللذة العابرة . وأتحنا للموسيقى أن تلج مسامعنا من جديد ، واختصرنا المسافات ، وتنسمنا عبير الأصيل ، ونسينا أتعاب الذهاب ، وارتاحت السيارة من الغزل المر ، ودبت الحياة في أوصال البلبلة فأخذ يقبل سيارته .
وعند مخرج المدينة الصغيرة قال أبو الهدى بهزئه البارد :
– ها نحن نغادر مدينة صفرو ونمضي الى قرية فاس .
أما أنا فقد كنت أحاول الهروب من السؤال الواخز :
– لماذا ذهبنا الى «ايتزر»؟
عزيـــز الحـــــــاكم
شاعر وكاتب من المغرب