مقدمة خارج المقال :
تظهر الثقافة العربية في نهايات القرن في أشد حالاتها شحوبا وبؤسا . والمقارنة البسيطة بين مطلع القرن ونهايته يمكن أن تظهر هذه النتيجة بصورة أكثر جلاء، لاسيما بعد تهافت النظريات القومية والماركسية وانحسار اتجاهات الحداثة في الفكر والتعبير . وقد أدت هذه الحالة الى تفكيك وحدة الثقافة العربية وضرب بنيانها الموحد، ولولا عمق التراث الموحد للأمة العربية وقوة اللغة العربية لأصبحنا اليوم نتحدث عن ثقافات عربية لا عن ثقافة عربية واحدة . ومع ذلك نستطيع اكتشاف بعض علامات مميزة داخل هذه الثقافة الواحدة ، تبعا للخصوصية الجغرافية والتاريخية للمجتمعات العربية إلا أن هذه الخصوصية لا تعني انها ثقافات قطرية أو اقليمية ، بل هي تعبير عن التنوع داخل الثقافة العربية الواحدة . وهذا الأمر لا يقلل من وحدة الثقافة العربية ولا´ ينتقص منها.
وفي هذا الاطار أضع في هذا المقال ، قضية للنقاش ، تهمنا نحن – المثقفين – في الجزيرة العربية ، أو لنقل انها تهم جميع المثقفين العرب ، لاسيما في ظل المتغيرات الدولية الجديدة ، وفي ظل الحديث عن نظام شرق أوسطي، بكل ما تعنيه هذه المتغيرات السياسية من عملية تذويب للهوية العربية ، وبالتالي زحزحة مركز الصراع في المنطقة ، بتفكيك الشخصية العربية وتحويل الاسلام من دين للتسامح والاخاء الى مجرد حركات ارهابية .كل هذه العوامل تضع أمام المثقفين العرب مسؤولية كبيرة . وبديهي انني لا أدعو المثقف العربي الى أن يتحول الى شهيد، فالواقع الراهن يدفع فعلا الى الانتحار ،وأذكر هنا بحادثة انتحار الشاعر اللبناني خليل حاوي التي تزامنت مع الاجتياح الاسرائيلي لمدينة بيروت . حينها أحس الشاعر المسكون بالفجيعة ان بعث العازر ، الحلم الذي طالما غنى له ، لم يعد ممكنا. وأن الأحياء انفسهم بات عليهم أن يموتوا، فوجه رصاصات قاتلة الى رأسه ، مشيرا بذلك الى تاريخ آخر يتشكل في أرض العرب ، ولا يستطيع المثقف بحسه التاريخي العميق أن يكون مجرد شاهد عليه .
أما القضية التي أود طرحها في هذا المقال ، فتتعلق بالبحث عن دور متميز للمثقفين العرب داخل جز يرتهم العربية ،كيف يستطيع هؤلاء المثقفون أن يعملوا ككتلة تاريخية واعية ، ويحددوا دورهم ومهدمهم . ولنتذكر أن أهوال النفط العربي أسهمت الى حد ما في انحسار وضعف الفكر القومي، واليساري منه على نحو خاص ، حيث اصطدم المثقف العربي الملتزم بمتغيرات اقتصادية واجتماعية صعبة جعلت مستحيلا العيش بالمباديء والقيم وحدها.
والمهمة الأولى في رأيي هي الخروج من أسر المحلية والاشتباك مع القومي والعالمي في خطاب متبادل ومنفتح يقوم على ثنائية الاخذ والعطاء.أو لا ينبغي أن نظر محكومين بعقدة التأخر، لأن تجربة النهضة العربية في انكسارها الراهن ، جعلت جميع العرب في مستوى واحد.فلم يعد ثمة ما يميز أسبقية النهضة في مصر أو الشام ، لأننا في زمن انكسار المسار النهضوي العربي ولولا معرفتي بأن التاريخ لا يرجع الى الوراء لأنه يحمل تقدما وتغيرا مهما كانت مؤشرات ذلك التغير نسبية وضئيلة ،لولا هذا الخط المتدرج والمتثسر لقلت اننا في نهايات القرن العشرين نكاد نكون في حال أسوأ مما كنا عليه في نهايات القرن الماضي، على الأقل في المستوى الفكري والثقافي .
وللخروج من عقدة المحلية ، تحدثت عن أهمية عبور الربع الخالي ، الذي لم يعد أرضا صحراوية خالية من الحياة وحسب ، ولكنه أصبه حاجزا جغرافيا وتاريخيا، يفرض علينا شرو ط العيش بنمطها البدوي ، بينما نعلم أن تلك الحياة ، أصبحت جزءا من ميراث الماضي الذي لا نرفضه ولكننا حتما لا نستطيع العيش بقيمه وحدها:
عبور الربع الخالي :
في تقديمه لكتاب ادوارد سعيد "غزة _اريحا" تحدث الكاتب العربي محمد حسنين هيكل عن الربع الخالي في الثقافة العربية ، قائلا :
"على جسور الانتقال من ألف ثانية بعد الميلاد الى الف جديدة ثالثة ، يعيش الفكر العربي حالة تيه على أرضية فيها الكثير من فراغ ووحشة الربع الخالي وكثبان الرمال المتحركة .
والعالم العربي في هذا التيه ليس ساكنا أو ساكتا مثل فيدفي الصحراء. وانما تظهر مسالكه مسدودة بأكوام وتلال من الكلمات تحجب بدل أن تكشف وتسد بدل أن تفتح .
ولكن الكلمات في صحراء التيه ليست حوارا مع العالم والعصر ، فالكلام بعيد عن الاثنين لا يعرف كيف ومتى يصل اليهما، ومع ذلك فان صوت الكلام وصداه في حالة تداخل كأنه حفيف وطنين أسراب جراد تفعلي وجه الشمس ملهوفة على خصب تأكله وتعيد "الى الرمل مرة أخرى".
هذه الاشارة العميقة الى الربع الخالي ، موطن العربي وجذره الأول ، الجذر المتحول والمتبدل ، حيث الاعرابي صانع العلم والمعرفة . فيها أنشأ تأملاته الأولى في الكون ، في الحياة والموت ، على خطوط رمالها المتداخلة تشكلت حضارة ألفها الكلام ، ونسج عراها الوثيقة الشعر. حينها كانت الكلمة حدا فاصلا بين الحق والباطل ، كما كانت لسان الكون الذي شكه العربي وبنى بواسطتها فكره وديانته وأدبه .
ومن سواحل بحر العرب انطلقت تجارة وحضارة ، نحو الساحل الافريقي القريب ،وبعيدا نحو بلاد الهند. كان البحر وسيلة أخرى للعبور الثقافي . وكانت سواحل المحيط الهندي في جميع اتجاهاتها، ممرات وأمكنة لقاء للثقافات والحضارات .
لم تكن الصحراء متاهة العربي، بل كانت مكان تأمله وموقع حضارته . على رمالها خط امرؤ القيس وطرفة بن العبد وعنترة ومشات الشعراء الجاهليون ، خطوا برؤوس سيوفهم أجمل الأشعار. تعقبوا آثار الحبيبة فيها، وقفوا واستوقفوا ،بكوا الاطلال في لحظة شعرية كانت لحظة تأسيس للشعرية العربية .
لهذه المقدمات كلها، فان الاشارة الى الربع الخالي ونحن على عتبات الألف الثالثة بعد الميلاد، تبدو معبرة عن الحاجة الى بلورة رؤية فكرية لاستراتيجية الثقافة العربية ، لا تنظر الى الصحراء كموضع للحنين ، بل كلحظة انقطاع ، ولكنه انقطاع يمكن معالجته بطريقة مقارنة . فحين كان المشروع الحضاري العربي في طور ازدهاره ، كانت تلك الصحراء مكانا للتواصل مع العالم ، منها عبرت رحلات التجارة الشهيرة ، ومن اطرافها المطلة على البحر العربي ، في بئر علي ومحار نشأت طريق البخور التي كانت شريانا حضاريا يوازي في أهميته طريق الحرير.
الربع الخالي بالنسبة لنا ، ذاكرة وذكر. موقع تأسيس ومكان للعبرة والتأمل . يبست عودتنا الى الصحراء ضربا من الثقافة المنشطرة أو ثقافة الانشطارا لداخلي التي تحدث عنها عبدالله العروي في كتابه الايديولوجية العربية المعاصرة ، حين قال :
"لكي تكون هذه الثقافة حقا وفعلا قائمة عل الحنين ينبغي أن ينتقل اليها الشخص برقة جناح واحدة ، وأن يموت بالنسبة للحاضر المنحط ورجل الثقافة الذي يقرر أن يعيش فيها يكف عن أن يمارس مع اليومي سوى صلات سلبية فنباتات شبه الجزيرة العربية هي وحدها الحقيقية وانسان الصحراء هو وحده الجدير بالاعجاب (الميت يمسك بالحي) . الماضي هو المقر الحقيقي للروح ، والحاضر ليس سوى مطهر لجميع اللحظات ،وموضع نشاط مفتعل أو فاقد اللون ".
ماذا يمكن أن نفعل في هذا الريع الحال :
قد يبدو هذا السؤال غريبا بعض الشي ء، لاسيما بعد أن اشتعلت الصحراء العربية بحرائق النفط ، ولم يعد العربي ذلك الاعرابي الراكب على جمل ، بل تحول وتبدل وأصبح هو والجمل محمولين على العربات الطويلة التي تخترق الصحراء. لقد أبدع الروائي عبدالرحمن منيف في وصف تحولات الحياة في الصحراء العربية ، في خماسيته الرائعة مدن الملح .
علاقة العربي بالصحراء، بالرمل ، بالفضاء اللامتناهي ، كانت مثار أسئلة وجودية . ربما لم يعرف العرب الفلسفة كنص مكتوب كما كانت لدى اليونان ، لكنهم عاشوا الأسئلة الفلسفية الكبرى، تلك الأسئلة المتعلقة بالوجود والزمان والحياة والموت . كانت طبيعة الحياة تدفعهم الى التساؤل ، التنقل من مكان الى آخر وغياب الاستقرار والحاجة الدائمة الى الوقوف والتذكر العلامات والخطوط على الرمل فانت تثير في الذهن أسئلة
شتى. ربما لم تكن هذه الأسئلة لتسهم في حمل العرب على التفلسف ، فالفلسفة نشاط ذهني معقد يرتبط بالاستقرار ، استقرار الانسان واستقرار الأوضاع والدول . الا أن أسئلة الفلسفة علاقة الانسان بالوجود فلسفيا. يمكن أن تنشأ معه وهو يرحل من مكان الى آخر، وقد تضمن الشعر الجاهلي كثيرا من المعاني الفلسفية ، ولذا قيل أن الشعر ،"يوان العرب " ،بمعنى مجمع ثقافتهم وفكرهم . علاقتهم باللغة وعلاقة اللغة بالوجود والكون .
لن أستطرد كثيرا في هذا الموضوع ، ليس لأنه غير مهم ، ولكن لأن ما أريد مناقشته يتعلق بالحاضر، لا بالماني. يتعلق بنا نحن ، أحفاد سلالة من الشعراء العظماء، الذين عاشوا عند تخوم هذا الربع الخالي . من امري، القيس الى طرفة وعنترة وغيرهم . اجتاز هؤلاء المكان والزمان ، ربما ارتبه اجتيازهم للمكان بقدر من المأساوية . لنتأمل دلالات حكاية خروج امري، القيس الى القيصر، هذا الحس المرهف بمعنى الخروج من الصحراء ، بيت العربي أو بحره الذي لا يستطيع العيش خارجه :
بكى صاحبي لما رأىالدرب دونه وايقن أنا لاحقان بقيصرا
هذا البكاء الذي تفجر عند الخروج ، تبعته قصة موت امري، القيس الشهيرة ، التي تنوعت وتعددت أشكال روايتها، لكنها اجتمعت في شي ء واحد، أن امري، القيس الذي حاول أن يخلع جلباب الصحراء، مات مسموما بالثوب الذي أخذه هدية من القيصر.
الحكاية الأخرى الشهيرة هي حكاية طرفة بن العبد ورفيقه في السفر. ربما لم يغادر الشاعر ورفيقه الصحراء، ولكنهما تاها فيها، فكان الموت نصيب طرفة برسالة حملها بيده كقدر لا مرد له .
هذا الميراث الكبير الذي نحمله على ظهورنا، نحن – المبدعين – من ابناء الجزيرة العربية ، وتحديدا عل تخوم هذا الربع الخالي ، كيف نتصل به ونتواصل معه . بل كيف نجتاز هذا الربع الخالي ونجاوزه لنتصل بالعالم ، بثقافة العصر، لنحقق انتماء زمنيا ومكانيا بتحولاته .
تبدو الجزيرة العربية ملجأ للتاريخ ، متحفا مهجورا لمخطوطاته ودفاتره ، اذا استثنينا بطبيعة الحال أسواق الجزيرة التي أصبحت مركزا من مراكز العالم الأساسية في الاستهلاك .
لقد تساءل الشاعر سيف الرحبي عن علاقة الابداع بالمكان في افتتاحية العدد الثالث من "نزوى" في اشارة ثاقبة الى علاقة المكان بالابداع . ولكن هل المطلوب منا، نحن . المبدعين _في هذه الرقعة من الأرض ، أن تطل ثقافة الحنين تميزنا وتخط مسار ابداعنا، هل نطل ننشي ء متحفا متخيلا لزمن تغير وتحول وكنا نحن أكثر المنسحقين بتحولاته . بديهي أن هذا ليس المطلوب ، ولكنها اللحظة الطللية التي ميزت بداياتنا الأولى ، تفرض علينا الوقوف للتذكر والتزود، حتى لا ندخل متاهة العصر.
وفي ا فتتاحية العدد الخامس يتخذ حديث سيف الرحبي مسارا أكثر تحديدا ووضوحا . فهو يتكلم عن تنوع وتعدد الأصوات وتناغمها داخل الثقافة العربية الواحدة ، مشيرا على نحو خاص ، الى الصوت المتميز داخل الجزيرة العربية . وبديهي أن التطور غير المتكافيء، والظروف المتفاوتة للنهضة القس بية ، قدمت مجتمعات وأخرت أخرى، الا أن هذا الوضع المتفاوت ، لا ينبغي أن يخلق مركزية ثقافية مصغرة ومشوهة في الاطار
العربي، فتظهر مراكز وأطراف ، ويجري الحديث عن الأطراف، بشيء من التعالي أو النظرة الفوقية . ومثل هذا الأمر ينافي الروح الواحدة للثقافة العربية ،ذلك أن هذه الثقافة لا تنهض ولا يمكن لها أن تنهض الا بصورة موحدة . والاعتقاد بأن مجتمعا عربيا يمكن أن يتخطى أو يقفز بصورة منفردة ، ليس سوى شكل من أشكال الوهم . ولكن في ظل غياب المشروع الثقافي العربي المعبر تعبيرا أصيلا عن الأمة العربية وآفاق التطور المستقبلي للمشروع القومي، في غياب مثل هذا المشروع سنظل نسمع ونرى مثل هذه المظاهر المشوهة التي لا تخدم الثقافة العربية بل تصب في اتجاه تحطيمها وتفكيك بنياتها الأساسية .
ولكي لا نكتفي باقرار هذا الواقع ، دون محاولة تأمل أسبابه وعوامل تكونه ، سنحاول استخلاص الدلالات الخاصة بتجربتين ثقافيتين في الجزيرة العربية ، في اليمن والبحرين ظهرتا في السبعينات ، واختيارهما لا يعني تميزهما عن غيرهما من التجارب ،ولكنهما مثالان يقدمان محاولتين مختلفتين لانشاء خطاب ثقافي متميز.
في مطلع السبعينات أصدر اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين مجلة الحكمة ، لتكون صوتا معبرا عن الثقافة والابداع ز اليمن ، الطرف القمي من الجزيرة العربية . وقد استمرت هذه المجلة أكثر من عشرين عاما ، ولا تزال تصدر بصورة غير منتظمة ، تمحورت جماعة الحكمة حول خطاب أدبي يبدأ وينتهي في اليمن مع محاولات محدودة في اتجاه الجزيرة العربية . لم تستطع الحكمة تجاوز الصحراء العربية والانتقال الى الضفة الأخرى من الثقافة العربية (بالتحديد المكاني ) ، أي الأقطار العربية المطلة عل حوض المتوسط والتي شكلت خطابا حدا ثويا في الأدب العربي. وعل الرغم من التأثيرات الواضحة لهذا الخطاب ، بين الأدباء اليمنيين ، الا أن المجلة لم تستطع أن تكون سفينة النجاة من طوفان الرمال التي تحاصرنا ، فتقوم بمد جسور للحوار مع ذلك الخطاب الحد اثوي المتقدم ، وينشأ شكل من التأثير المتبادل . على العكس ، ظلت قاعدة الأواني المستطرقة تسيطر على اتجاه التفكير والتأثير، واعتقدنا خطأ اننا ينبغي أن نتأثر بهذا الخطاب لأنه نتاج مجتمعات عربية سبقتنا تاريخيا، ولم نتبين أن الابداع فعل عبقري، ومضة خارقة تجعل امكانية التجاور والتجاوز واردة ، بصرف النظر عن الاوضاع التاريخية التي يعيشها المجتمع . لنتأمل تجارب الابداع في أمريكا اللاتينية وعلاقتها بالدولة الأم ، اسبانيا. لقد تطور الأدب في أمريكا اللاتينية ليصبح مؤثرا،ليس في اسبانيا وحسب وانما في أوروبا كلها.
لم تفلح الحكمة ´في تحقيق حوار ثقال مع العرب الأكثر تقدما كذلك لم تستطع في الاتجاه الآخر، أن تجمع الأصوات الثقافية في الجزيرة العربية ، على الرغم من محاولاتها المتكررة . كان العائق السياسي قويا ، والحدود السياسية قطعت كل امكانية للتواصل الثقال والابداعي داخل الجزيرة العربية.
التجربة الثانية من البحرين ، الطرف القمي الآخر عند حدود الرمل والماء. ففي هذا المكان أصدرت أسرة الأدباء في البحرين مجلة "كلمات " . لتكون صوتا ابداعيا متميزا لأدباه البحرين . حاولت "كلمات " عبور الصحراء والخروج الى الاطار العربي في أكثر موجاته انتشارا، وهي الحداثة .
رفعت «كلمات » شعار الحداثة بكل ما تعنيه من التخفف من أعباء التراث والماضي، وجعلت التفانتها صوب المستقبل ، وفي غضون سنوات كانت مجلة " كلمات " صوتا متميزا من أصوات الحداثة العربية . ولكن ماذا كانت النتيجة ؟ هل استطاعت «كمات » تحقيق التواصل الثقافي العربي بين مثقفي البحرين وأخوانهم من المبدعين العرب ؟ لا أريد أن أصدر حكما نهائيا عل هذه التجربة المتميزة التي حاولت الخروج على السائد والمألوف . ولكني أتساءل ، ما الذي تحقق للا بداع في البحرين والجزيرة العربية من هذا الشكل المتمرد عل التراث ؟ اتساءل أيضا مع بيان أمين صالح وزملائه ، هل مات الكورس في ثقافتنا العربية ؟ أم أننا ارتادنا الى شكل من أشكال الصنعية والتبعية أكثر تخلفا. حاولت "كلمات " القفز فوق حصان الحداثة ، لعبور الصحراء أولا ، وعبور السائد والمألوف ثانيا. ولكنها لم تحقق سوى شكل هامشي من حداثة لم نتبين أعماقها الفلسفية ولم نمتلك بداياتها الحقة ولا مسوغاتها التاريخية . ليست هذه أزمة مجلة "كلمات " وحدها مع الحداثة ، ولكنها أزمة الخطاب الحداثوي العربي كله ،ممثلا بأشهر مجلات من حوار وشعر الى مواقف وغيرها من الأصوات العربية التي حاولت استبدال اتباع السلف بتبعية الغرب .
تكشف هاتان التجربتان ، اخفاق المسار في اتجاهيه المتضادين فلا "الحكمة " اليمانية المحاصرة بحدود الجغرافيا، استطاعت صياغة خطاب ثقاذ ابداعي في اليمن ، يضمن اتصالا حيا وفاعلا مع الثقافة العربية في الأ قطار الأخرى، ولا «كلمات » البحرينية التي سبحت في تيار الحداثة ، حققت ذلك التواصل الابداعي على الرغم من اختيارها أكثر الساحات انفتاحا للتفاعل بين الاتجاهات الحداثوية العربية .
والسؤال الذي بدأنا به هذا المقال لا يزال ماثلا: كيف نملأ هذا الربع الخالي ؟ كيف نقرأ خطوط بل ماله ونكشف دلالاتها ، بل كيف نهب هذه الخطوط تعابير ومعاني، من خلال علاقتنا بالمكان ، علاقتنا بالمحيط بأشياء الوجود من حولنا، هذه العلاقة التي تحمل بدون شك صورتنا في الأشياء ، وتحمل أيضا تعبير الأشياء ل كلماتنا. وهي العلاقة التي عبر عنها، عل نحو رائد، المفكر الفرنسي ميشال نوكر في الكلمات والأشياء. الذي بين أن العالم مغطى بشارات يجب فك رموزها، وان أشياء الطبيعة هي عبارة عن كتب واشارات سحرية .
كيف نملأ هذا الربع الخالي ؟ كيف نجتاز الصحراء؟ وأسئلة أخرى ضرورية نثيرها هنا، من أجل التفكير بتحقيق تواصل فاعل بين جناحي الثقافة العربية في المشرق والمغرب ، منوها الى اننا في الصدر من هذه العلاقة ، ولابد لهذا الموقع المحوري من حركة جادة ليستطيع التحكم في تنظيم عملية التحليق بجناحين .
هل نستطيع ، نحن _ المثقفين _ والمبدعين ، في هذه الرقعة من الأرض أن نقوم بهذه المهمة ؟ سؤال ينفتح لتعدد الاجابات والاحتمالات . اكتفي بإثارته متمنيا أن يتسع صدر "نزوى" لجعله موضوعا لنقاش وحوار بين المثقفين العرب ، لأن الموضوع يهتم أساسا بقضية وحدة الثقافة العربية وتناغمها وتنوعها.
هشام علي(كاتب من اليمن)