لم يتبادر لمستشرق كتب في ألف ليلة وليلة، أو لمستعرب أو لعربي باحث شغفه المحكي، ان الطعام لا يظهر في الحكايات مكونا حياتيا اعتياديا. كما أنه لا يظهر فيها من مواصفات الحياة الواقعية فحسب : أي أنه ليس اللذة بمعناها الاجتماعي، على الرغم من مثل هذا الحضور. وانما يشتغل في أصول تكويناتها بصفته الدافع المسردي في أغلب الأحيان، فهو عندما ظهر اعتباطا في الحياة اليومية يجوز فيه ما قيل وما يقال، لكنه عندما يدخل في أصل الدوافع والأفعال يكون بنية سردية، تشتغل بطاقة ليست اعتيادية تقرب نتائجها من الموت. وكلما احتدم حضوره بطاقته الكبيرة اكتسب صفة الانساق. لكنه في حضوره الأوسع يشتغل في ألف ليلة وليلة بأكثر من دافع ووجه.
ولربما تفوت بعض قراء حكايات ألف ليلة وليلة طبيعة العناية بالأطعمة، والتي تتكرر في كل حكاية فيها المجالسة واللقاء فعلى الرغم من الدلالة الاجتماعية لمثل هذا التكرار، ثمة أعراف خاصة تشتد في عصر ما بخصوص الطعام وأدابه مرهونة بـ(الترف ). أي أن الرواة الشعبيين يشبعون مستمعيهم بما يعرفون من طعام ويغذون فيهم هذه الرغبة من بين الرغبات الأخرى في الجنس والشهوة والمال فيقدمون لهم في الكلام تعويضا عما يحرفون منه وينظرون اليه أو يتشوقون من بعيد له على أنه من (مزايد المجتمع الخاص )؟ لكنهم أي الرواة يستعينون على ذلك بما يسمعون أيضا أو يقرأ ون عنه على أنه من (آداب ) ذلك المجتمع وحياته وسلوكه. ولهذا كان كشاجم المتوفى في ( 360 هـ) يخصص الكثير لباب الطعام والمنادمة في أدب النديم بينما تجتمع معلومات مفصلة عن ذلك في كتاب الطبيخ للبغدادي محمد بن الحسن المكتوب سنه (623هـ) (1). وبينما تعمر الموائد وتكثر وتتعدد وتأخذ عن المجتمعات الأخرى كتلك التي حال ذكرها دون اقدام الحجاج على ولائم في زواج ابنه لم يسمع بها ولم تجر لأحد قبله، كان المأمون حريصا على (صحة ) الأكل لا تنوعه. وعندما تفدي عنده بعض الفقهاء كان يقول في كل
لون من الطعام هذا يصلح لهذا، ومن عنده (بلغم ورطوبة ) مثلا فليتجنب كذا. أي أن مجتمع الخاصة شهد الاسراف من جانب والمعرفة الدقيقة بالطعام من جانب آخر في اتجاهين مختلفين يؤكدان شدة الترف.
ويورد ابن النديم في الفهرست وكذلك المسعودي في مروج الذهب وأخبار الزمان أسماء مؤلفات وكتابات كثيرة في أدب النديم والمسامرة والطبيخ : وإذا كان الوراق قد أفرد كتابا للطبيخ والأغذية، وذكرت كتابات أخرى ليوسف بن ابراهيم الكاتب وللخليفة ابراهيم بن المهدي ولجحظة البر مكي وغيرهم، فإن مثل هذه الاهتمامات تعرض لترف آخر يرافق الحياة الحضرية وتعقيداتها وشفف المعنيين بتفاصيلها اليومية وبما يدور في المجالس بشأنها، وإذا كانت آداب ان يم والطعام تفرد ما هو خاص بطرائق الأكل وآدابه ومستوياته وعلاقة ذلك بالقائمين عليه والداعين له، فإن تفاصيل الأطعمة ومحاسنها ومضارها ليست قليلة هي الأخرى.
وكان البغدادي محمد بن الحسن بن محمد بن الكريم البغدادي قد أفاد من هذه في كتابه الطبيخ (623هـ)، فكان معنيا بآداب المائدة وبأنواع الأطعمة مستعيدا في بعضها ماجاء عند الوراق وكشاجم. ومن الواضح أن المجتمعين الخاص والعام كانا يتسابقان في تكوين آداب المائدة وأنواعها، واذا كانت الخاصة تستعين بالقديم والجديد والآتي من الأمم الأخرى افرادا وجماعات في تكوين مفاهيمها وعاداتها وأنواع طعامها، فإن العامة كانوا يتوقون أيضا الى الصعود والتخلق بما درجت عليه الخاصة. ولهذا كانت الجواري والقيان ينفردن بعناية خاصة بالطعام وأماكن إعداده. والأهم من ذلك أن الانهماك في الطعام كان يجاري ترفا خاصا واسعا من جانب الخاصة، كما أنه كان يعبر عن قلق هائل يجري التعويض عنه وحرفة بالطعام الذي شغل مساحة واسعة من اهتمامات الناس.
واذا كان الناس على دين ملوكهم يشاكلون ازمانهم، فإن البهجة في الطعام والشراب أصبحت عند بني العباس غاية لذاتها، حتى كان الأدب غارقا فيها، يتجسد فيها المأكول والمشروب والمشموم والمحبوب، إذ تجتمع هذه جميعا بين المنادمة والجماع، ويروى عن الرشيد انه مر بدير مران فاستحسنه وأعجبه اشرافه على بساتين حسنة، ورياض مؤنقة بهجة، فنزله وأمر أن يؤتى بطعام خفيف، فأكل وشرب، ودعا بالندماء والمغنين وخرج اليه صاحب الدير،وكان شيخا كبيرا هرما، فوقف بين يديه ودعا له، واستأذنه أن يأتيه بطعام الدير، فأذن له في ذلك فاتاه بأطعمة لطيفة مختصرة في أنية نظيفة، فكان ذلك في نهاية الحسن والطيب، فأكل منها كثيرا واستطابها، وأمر الشيخ بالجلوس فجلس بين يديه. فأقبل عليه الرشيد بوجهه وسأله فحدثه، واستظرف حديثه، ثم قال هل نزل بك في هذا الدير أحد من بني أمية قال. نعم أصلح آتو مولاي أمير المؤمنين، قد نزل بي ها هنا الوليد بن يزيد ومعه أخوه الغمر، فجلسا في هذا الموضع الذي جلس فيه مولاي أمير المؤمنين، فقدمت اليهما طعاما، فأكلا وشربا وغنيا وطربا، فلما أخذ الشراب منهما، وثب الوليد ال ذلك الحوض، وكان مملوءا شرابا، فكرع فيه، وفعل مثل ذلك أخوه الغمر، حتى سكرا وناما مكانهما، فلما أفاق الوليد من سكره أمر بالحوض فمليء لي دراهم (2) أما تعليق الرشيد فهو هاجس الحكم عندما ينبني وجاهة على المقارنة بما سلف، إذ قال.
(أبى بنو أمية إلا أن يسبقونا الى اللذات سبقا لا يجاوزهم فيه أحد).
لكن الخلفاء الذين جاءوا بعده سعوا لمثل هذا التجاوز، حتى فاضت الكتب بمظاهر الترف ونشدان اللذة كما فاضت له ولسابقيهم بنشد ان تثبيت أركان الحكم وتصفية الخصوم الفعليين والمحتملين حسب ما يرد من سعايات(3).
ويشتغل الطعام في ألف ليلة وليلة على أنه من دلائل العيشة الرغيدة، فهو يسبق الشراب والجماع في بعض الحالات، إذ تقول الصبية البغدادية في ليلة زواجها في حكاية الحمال والثلاث بنات (فأخذت صحبته بمجامع قلبي وقدموا لنا السماط فأكلنا وشربنا حتى اكتفينا ودخل علينا الليل فأخذني ونام معي على الفراش وبتنا في عناق الى الصباح _ الليلة 17، ص 48).
وعندما تصف الليلة 24 الخياط في بلاد الصين وهو (مبسوط الرزق يحب اللهو والطرب.. ويخرج هو وزوجته – ص 73) فإن واحدة من علامات (انبساطه ) هو الطعام (فاشترى سمكا مقليا وخبزا وليمونا وحلاوة ).
وهذا الشاب التاجر (الليلة 29، ص 78) لم يمكث طويلا عند لقاء العشيقة الصبية حتى (قدمت له سفرة من أفخر الألوان من محمر ومرقق ودجاج محشي )، ولم يتحقق الاضطجاع الا بعد الطعام والمدام (فاذا هي حضرة كاملة فشربنا الى نصف الليل ).
لكن الطعام في مجالس اختبار العشق يختلف عما هو عليه في مجلس الجماع ولهذا كانت ابنة دليلة في حكاية عزيز وعزيزة مثلا (الليلة 112، ص 241) تضع له الطعام في البستان وتراقبه عن بعد لمعرفة أيهما يشغله صعدته أم قلبه : (فلما وصلت الى ذلك المكان واطمأنت نفسي بالوصال فاشتهت نفسي الأكل فتقدمت الى السفرة وكشفت الغطاء فوجدت في وسطها طبقا من الصيني وفيه أربع دجاجات محمرة ومتبلة بالبهارات وحول ذلك الطبق أربع زبادي واحدة حلوى والاخرى حب رمان والثالثة بتلاوة والرابعة قطائف ).
وانتبه عدد من قراء ألف ليلة وليلة ودارسيها من الغربيين الى انهماك الرواة في وصف الأكل، ولربما لحان صحيحا أن المستمعين يحرصون على مثل هذا الوصف لما فيه من تعويض لشهيتهم التي تتوق الى ما خلف الجدران والأسرار حيث هناك ما يتصورونه من الحياة الأخرى المترفة الفنية الباذخة. وهكذا كلما وصف الراوي مشهدا بالغ في تعداد الأكلات وأنواع ما يدخل في تكوينها. وحتى عندما لا يكون بصدد جلسة الطعام نفسها يبالغ في مثل هذا الوصف، فثمة عالمان، فقير مدقع وغريب شأن عالم العبد الأسود في حكاية الملك المسحور، وآخر غني مترف جميل وغامض هو الآخر شأن عالم البنات في قصة الحمال والصبايا الثلاث : ففي القصة الأولى كانت الأكلة لا تعدو (بقية عظام فيران مطجن )، أما في الثانية فإنها اشتملت على ما يلي
1- مروقة زيتونية.
2- فاكهة، كالتفاح والسفرجل والخوخ والياسمين
والخيار والليموني و(اترنج) وعرسين وريحان وتمر حنا واقحوان و(منتور وسوسان ) وزنبق وشقايق النعمان، وبنفسج وبهار ونرجس وجلنار، مع أنواع من كل صنف.
3- لحم ضأن.
4 – (الة السكريات) عصفور مالح وزيتون مفشوخ وزيتون مكلس وطرخون وقنبريس وجبن شامي ومخللات مملاة وغير مملاة.
5 – قلب فستق وزبيب وقلب لوز وقصب عراقي وملبن بعلبكي وقلب بندق وحمص.
6- حلوى قاهرية ومشبك بيلقانية وقطا يف بالمسك محشية ودلالات أم صالح (سرخية ) و(سكب عثمانية) ومقرضة وصابونية وأقراص ومأمونية وأمشاط العنبر وأصابع (بانيد) وخبز الأرامل وبسندود ولقيمات القاضي و(كل واشكر) و(قميعات الظرفا وكشيكات الهوى).
7- عطاريات : ماء نوفر (ابلوجين سكر) وماء ورد ومسك (وحصا لبان ) وعود وقطع عنبر
وفانوسيات شمع وطوافات ( 4).
ومثل هذه (تتكامل ) جميعا لايجاد مجلس طعام لا ينسى الراوي أن يعززه بما لذ وطاب من الأكل والشراب المتوافر في مثل هذه البيوت.
صنعة الطبيخ هوية في المحكي:
ولم تكن (زبدية حب الرمان ) التي يقدمها حسن بدرا لدين في سوق دمشق لابنه عجيب وخادمه أكلة غريبة، مادام الوراق وغيره قد أفردوا أبوابا للحماضيات والرمانيات أي الأطعمة التي يساق فيها ماء الرمان مثلا فتكتسب طعمها الخاص الذي جعلها تقترن بأسماء بعض الخلفاء ورغباتهم كالمأمون (الباب 58 عند الوراق )(5).
لكن مثل هذه الوصفة قد تصبح خاصة جدا لدرجة الامتياز، وهو ما كان متداولا في حينه ازاء بعض الأكلات، فكما عرفت بدعة خادم ابراهيم بن المهدي بالسكباج يمكن أن تعرف أم حسن بدر الدين بالرمانيات، والأهم في الحكاية المذكورة (الليلة 23، ص 67) هو أن عجيبا يرى ما تناوله من طعام أحسن بكثير مما تعده له جدته. ولما كانت وحدها صاحبة السر والصنعة عرفت انه لا يوازيها غير ابنها في ذلك. أي أن الأكلة المذكورة أصبحت حافزا في الفعل، ولأنها كذلك ساقت الفاعلين نحو الحدث، وحققت مشهد التعارف الذي لربما يبقى بعيد المنال جراء تباعد الأمكنة بين مصر والبصرة ودمشق. ومثل هذا الحافز، أي الأكلة الموصوفة المقرونة باسم دون غيره، لا تكتسب قيمتها السردية بصفتها حافزا دون مثل هذا الوعي بفضاءات الطعام والعناية به في العصر الوسيط. وقد تبدو بدون ذلك مجرد حافز مصطنع، لكنها في سياقها التاريخي تكون أكثر فاعلية.
وتظهر أكلة حب الرمان في الحكاية المذكورة باللوز والسكر (ص 67)، وتصحب بشراب فيه الثلج والسكر أيضا فتنافس طبيخ جدة عجيب وتتقدم عليها، حتى انها عندما أرسلت الخادم للمجيء بزبدية رمان جاءتها مختومة (بالمسك وماء الورد) ~(ذاقتها ونظرت حسن طعمها وجودته فعرفت طباخها فصرخت ثم وقعت مفشيا عليها – ص70).
وبينما يظهر الطعام في الف ليلة وليلة من مواصفات العناية والاكرام والجاه ومن شروط الراحة ومستلزماتها، فإن الكتب الكثيرة المكتوبة فيه طيلة المرحلة العباسية والقصائد التي قيلت بحقه تدعو المرء الى التأمل، فهذا مجتمع مترف يرى في التفنن ضرورة، وله من الوقت وراحة البال ما يتيح مثل هذا التفنن الكثير. ولهذا يقول البغدادي بعدما ينتقد سابقيه ممن كتبوا في الطبيخ (ان ملاذ الدنيا تنقسم ستة أقسام وهي المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح والمشموم والمسموح. وأفضل هذه الأقسام وأهمها المأكول. إذ كان هو قوام الأبدان ومادة الحياة ) (6). وبينما كان الواثق معروفا بالعناية بالأكل، فإن الخلفاء كافة كانوا يحرصون على انتقاء الطباخين ومعرفة الأكلات المفضلة ومتابعة ما لدى الأمم الأخرى في هذا الباب. واذا كان المأمون حريصا على التدقيق فيما يناسب الصحة والبدن من الطعام، فإن الآخرين يتباينون في الرغبات،.و كان الرشيد يتابع نظافة المطبخ بنفسه، والتصقت بعض التسميات والاهتمامات بالخلفاء العباسيين، كما يذكر الوراق، ويعود سبب ذلك اما الى شيوعها في حينه، أو لرغبتهم فيها، أو لوجود طباخين لديهم يتقنونها دون غيرها، فهذه بدعة طباخة ابراهيم بن المهدي تتقن السكباج (من اللحم البقري والغنمي والدجاج ) بنسب دقيقة جدا بعدما كانت هذه أكلة كسرى أنوشروان المفضلة، كما يقول الوراق في الباب 49. وكان ابن المعتز يبالغ في وصف الكوامح ويتلذذ بذلك كثيرا، بينما أعدت أرزية ساذجة للواثق وأخرى باللبن للمتوكل (الباب 51).
ولابراهيم بن المهدي ولع بالطعام، وهو موصوف بهذا الولع حتى كانت سمنته مثار تندر المأمون الذي يرده بعيدا عن العشق وهو عل هذه الحال. فهو يتقن ( المضلية ) من لحم الحمل (الباب 70)، وله في المدققات الكثير الذي تفرد له الصفحات. وهناك ما أعد للمعتصم في اللوز ينج (الباب 99). والمهلبيات للمهدي، وللمكتفي أكلة خبيص بالجوز(96)، وسميت أكلة فالوذج بأكلة الخلفاء ( 93) حسب ما ورد في ترصيفها. وعرفت طريقة شي الحملان في التنور ليحيى بن خالد (الباب 87)، فتميزت وشاعت. بينما أعدت (الطباهجة ) له أيضا، وكذلك بطريقة أخرى من قبل طباخة الواثق (86). وهناك قلايا من اللحوم والالبان أعدت للمعتما ( 84)، ومقلوبات ومدققات من اللحوم أورد صفتها اسحق بن الكندي (78). ولا سحق بن ابراهيم الموصلي شأنه في هذا الميدان، فله في صناعة السوادج والمخللات الكثير ( 74)، وله أيضا نباطية بلحم الدجاج، ونارباجة (67). وعملت للمأمون حماضيات ورمانيات (58)، وعملت له زيرباجه من فروج وصفت باسهاب وأناة. وهناك مشروبات كمشروب التفاح الذي خص به المتوكل ( 124)(7).
ولا يمكن أن تبدو المكانة الكبيرة للطعام في حكايات ألف ليلة وليلة محض ردة فعلى على الجوع فعلى الرغم من صدق ذلك، إلا أن الانهماك في الطعام يتجاوز هذا الحد فيصبح ولعا لحاله، وبينما يعرض المغربي لجودو بن عمر المصري أن يختار له ما يشاء من أدوات السحر العديدة كالمكحلة والخاتم والسيف والخرج وغير ذلك، كان جوار يتذكر أمه في تلك اللحظة، مرمية على قارعة الطريق تستجدي،. فيطلب الخرج المسحور الذي تتلقف الكف الداخلة فيه كل ما تشتهيه الأنفس. وهكذا كان المغربي يقول له (مسكين هذا ما يفيديك بغير الأكل )، الليلة 615، ص 95ج 2، لكن جوار يصر على ذلك حسب، فكان أن عبث قليلا بطلبات أمه البسيطة ليريها كيف تأتيها الأطباق الشهية المختلفة.
تقول الأم : يا ولدي أريد عيشا ساخنا وقطعة جبن.
فيجيبها : أنت من مقامك اللحم المحمر والفراخ المحمرة والأرز المفلفل ومن مقامك المنبار المحشي والقرع المحشي والخروف المحشي، والضلع المحشي والكنانة بالمكسرات وعسل النحل والقطائف والبقلاوة.
أي أن الخيار يصبح مناسبة للتلذذ بذكر الأطعمة والحلوى التي يشتاق اليها الحكاة والمستمعون.
أكلات العرب
أي أننا بإزاء واقع متمدن جديد يتنفس لذاته في المشروب والمأكول والمشموم والمحبوب. كما يكتب السري الرفاه في كتابه قبل وفاته (362هـ)، فيحقق له الجاه هذه الرغبة وتأتيه الثروة بهذا الاسراف، بينما يطل الرواة على الواقع المترف فينقلون ويضيفون ويبتكرون لتغذية ذهن العامة والامر طري وجديد مقاربة بما عرفته العرب في القديم.
فأطعمة العرب معدودة، قليلة الكوين، فهناك :
الرشيقة من اللحم (اغلاءة )
الصفيق (القديد)
الربيكة (بر وتمر مطبوخ )
البسيسة (المخلوط بغيره وبالسمن أو الزيت )
العبيثة (مطبوخ مخلوط فيه جراد)
البغيث والغليث (طعام مخلوط بالشعير)
البكيلة (دقيق مخلوط بالسويق مبلول بماء أو سمن )
الفريقة (من اللبن)
المضيرة (مطبوخة باللبن الماضر الحامض)
الهريسة (الطعام المهروس )
العصيدة (طعام معصود من الدقيق والسمن )
الرعدة (اللبن الحليب المغلي المخلوط بالدقيق )
الحريرة (الحساء من الدسم والدقيق )
السخيفة (حساء)
العكيس (دقيق عليه ماء)
الفالوذج (البر والعسل والسمن )
المصوص (لحم منقوع في الخل ومطبوخ )
وهناك ما كثر وتلون وتنوع من السمك والطيور(8) لكن اختلاط العرب بغيرهم قاد الى تنوع المائدة وكثرة صفوفها، وهو ما يرد في ألف ليلة وليلة. وعندما قيل لشويح القاضي (أيهما أطيب اللوز ينق أو الجوز ينق : فقال. لا أحكم على غائب ). فإنه لم يكن يشير الى ما يريد في تلك الأثناء فحسب. فالنادرة تشير أصلا الى غرابة هذه الأكلة وجدتها وندرتها، كما هو شأن أنواع عديدة من الحلوى والمطبوخات. ومثله سؤال بن شاهك عن طبخ الكر لحي، فقال الحجام : سكباجا، والسكباج طبخة من اللحم والخل والتوابل كانت شائعة ومعروفة في بغداد في العصر العباسي.
ولم يكن الحكي في ألف ليلة وليلة يتخل عن انساقه في ذكر الطعام، اذ تمتد هذه في مكونات كلام العامة، مختلطا بغيره مرويا أو منقولا أو متخيلا، ولهذا تجيء القرائن مكتنزة وضاجة بالحياة وبكل ما تتشكل منه هذه في حياة العامة. وكان الطقطقي من بين المتأخرين الذين يرون انشغال الملك بمثل هذه التفاصيل شائنا، اذ يقول في الفخري (ومما لا يليق بالملك الكامل، الافاضة في مجلسه في وصف الطعام والنساء لئلا يشارك بذلك العامة، لأن العامة قد قنعوا من عيشهم باليسير واقتصروا عليه وتركوا الأمور الكبار، فإذا أرادوا أن يفيضوا في حديث لم يكن لهم الا وصف أنواع الأطعمة ووصف اصناف النساء(9). وللعامه كلام يتجنبه الخاصة، ولهذا كان الفضل بن يحيى سريعا في رد الأصمعي عندما قال للرشيد (سقطت على الخبر يا أمير المؤمنين ). "أسقط الله أنفك وعينيك، ما هكذا يخاطب الخلفاء"(10).
قصف الخليفة: من (لهو ولذات):
لكن الخلفاء كانوا يشاغلون أنفسهم بذكر الطعام والنساء، كما يروي المسعودي، وكانوا يتمددون في الاستماع والاصغاء كلما انتهوا من مهمة ما. بينما كان آخرون منهم كالمستكفي يطلبون من الندماء وصف الطعام شعرا، ويتبارى آخرون أمام الأمير في وصف الجواري والغلمان، وتنتعش في أيام المتوكل ضروب الغزل بالغلمان والجواري والمحظيات، لكن الطعام ازداد حضورا في الحياة، كما هو الكلام، كما تدل الكتب والقصائد المؤلفة التي يرد ذكرها في كتاب السري الرفاه وغيره، بحيث لا تبدو انهماكات القلندري الثاني في وصف الطعام غريبة أو طارئة على الرغم من أن المأكولات الواردة فيها (والبقول والفراخ) هي من اهتمامات العامة. ولا تقترن بحياة البلاط ضرورة. يقول في القصيدة التي أوردتها طبعة (لايدن، برل، الليلة 49، ص 173).
عج بالغرانيق في ربع المسكابيجي
واندب لفقد القلايا والطباهيج
واندب بنات القطا مازلت أندبها
مع الفراخ المطجن والفراريج
يالهف قلبي على لونين من سمك
على رغيفين من خبز المعاريج
وقد تقلت عيون البيض من كمد
على المقالي بتصريم وتوهيج
لله در انشوا ما كهن أطيبه
والبقل يغمس في خل السكاريج
ما هزني الجوع الا بت معتكفا
على الهريسة في ضو الدماليج
يا نفس صبرا فإن الزهر ذو غير
إن ضاق يوما غدا يأتي بتفريج
لكن تحفظات مؤلف الفخري لم تكن تسندها حياة البلاط على الرغم من أن الترف الشديد أوجد آدابا خاصة معروفة نقلت عنها كتب التاريخ ودعها كتب التهذيب وآداب الطعام والشراب والمائدة. اذ كانت هناك قصائد في وصف الطعام لابراهيم بن المهدي، الخليفة المغني ولغيره. ويمكن أن تؤخذ هذه في سياق نقده لبني العباس، انهماكهم في الدنيا والملذات، وما يعنيه ذلك من تحولات في اللغة. كما يمكن أن تؤخذ هذه في سياق ثان، عندما نعرف عنهم سعيهم لبلوغ أفكار العامة وحياتها، بطرا مرة وتفننا سياسيا مرة أخرى، وصهرا كان الأمر فإن لابراهيم المهدي قصائد عديدة في الطبيخ، يصف في أدناه منها طبيخا سماه النرجسية:
يا سايلي عن أطيب المآكل
سألت عنه اليوم غير جاهل
خذ ياخليلي أضلعا من لحم
ولحم فخذ بعده وشحم
فاقطع من اللحم السمين الرطب
واغسله بالماء القراح العذب
واطرحه في الطابق فوقا النار
ثم أقله بالرب والابزار
حتى اذا ما صار فيه احمرا
قطع عليه بصلا مدورا
وبصلا رطبا طريا أخضرا
والق عليه سذبا وكزبرا
واسقه مريا وزنجبيلا
وفلفلا من بعده قليلا
وأضف عليه بعده هليونا
وافقص عليه بيضه عيونا
مثل نجوم الفلك المنيرة
وزهرة النرجس مستديرة
وأدر عليه قطع السذاب
وبعضه قد قام بانتصاب (11)
ولم تغب عن الرواة أوضاع الترف والتوتر السياسي في آن واحد، فالأخير يولد القلق، ويدفع الى التسلية والترفيه المؤقت، فيكون الانهماك في مظاهر الترف مبالغا فيه، فتكثر هذه وتصبح واقعا في (العالم الخاص) الذي لا علاقة له بعالم العامة ضرورة.
وينقل المسعودي في مروج الذهب مثلا عن أبى اسحق ابراهيم بن اسحق المعروف بابن الوكيل (13). كان المستكفي في سائر أوقاته فازعا وجلا من المطيع يلي الخلافة، ويسهـما إليه فيحكم فيه بما يريد، فكان صدره يضيق لذلك، فيشكو ذلك قي بعض الأوقات الى من ذكرنا ممن كان يألفه من ندمائه فيشجعونه ويهونون عليه أمر المطيع، الى أن قال لهم في بعض الأيام. قد اشتهيت أن نجتمع في يوم كذا كذا فتتذاكر أنواع الأطعمة وما قال الناس في ذلك منظوما، فاتفق معهم على ذلك، فلما كان في اليوم الذي حضروا أقبل المستكفي فقال. هاتوا ما الذي أعده كل واحد منكم 5 فقال واحد منهم قد حضرني يا أمير المؤمنين أبيات لإبن المعتز يصف سلة فيها سكارج كؤامخ، فقال. (ها تها، قال)
أمتع بسلة قضبان أتتك وقد
حفت جوانبها الجامات أسطار
فيها سكارج أنواع مصففة
حمر وصفر، وما فيهن إنكار
فيهن كامخ طرخون مبوهرة
وكامخ أحمـر فيها وكبـار
أعطته شمس الضحى لونا فجاءبه
كأنه من ضياء الشمس عطار
فيهن كامخ مرز نجوش قابله
من القرنفل نوع منه نحتار
وكامخ الدار صيني فليس له
في الطعم شبه، ولا في لونه عار
كأنه المسك ريحا في تنسمه
حريف في طعمه والريح معطار
وكامخ الزعتر البري إن له
لونا حكاه لدينا المسك والقار
وكامخ الثوم لما أن بصرت به
أبصرت عطرا له بالأكل أمار
كأن زيتونها فيها ظلام دجى
في الجتب منه من الممقور أسفار
إذا تأملت ما فيهن من بصل
كأنهـن لجـين حشـوه نـار
وسلجم مستدير القد خالطه
طعم من الخل قد حازته أسطار
كألى أبيضه فيه وأحمره
دراهـم صفـفت فيهـن دينـار
في كل ناحية منها يلوح لها
نجـم إلينا بضـوء الفجر نظار
كأنها زهرة البستان قابلها
بـدر وشمس وإظـلام وأنـوار
وليس مهما أن يكثر الوصف ويتعدد، لكن استدعاء الخليفة المستكفي لهذه (الجوخة) و (بعينها على هذا الوصف) يعني ضربا من الرفاه والتفكه الذي يعالج وضعا نفسيا لدى المستكفي كما جاء من قبل. أما أصحاب الوصف فلا ببشغلهـون بهذا التفصيل ليكونوا أهلا للمجالسة والمنادمة فحسب، ولكن لأنيم يحيون هذه الفضاءات وينتمون اليها، ويسعون الى الاستزادة في المعرفة بخصائصها. وما تحتويه النصوص من تفصيل بشير الى أن إلشعر بات مكملا للطعام، يستدعيه اليه ويقدمه تانية الى الآكلين الراغبين المستمعين، عدة تستكمل أخرى يذوب فيها الواحد قي الآخر. وهذا هو محمود بن الحسين كشاجم يضع معرفته بـ (الجونة) شعرا، وكأنه يخلط المأكول بالمسموع في وصفة تتناغم مع تلك الفضاءات وتكون عدتها الخاصة التي تأتينا سردا، عارضة للموجود، ومستدعية للرغبة، ومثيرة للشهوات ( 13).
متى تنشـط للأكـل فقد أصـلحـت الجونة
وقد زينـها الطـاهي لنا أحسـن مـا زينـه
فجاءت وهي من أطيـ ـب ما يؤكـل مشحونه
فمن جـدي شـوينـاه وعصبنـا مصـارينـه
ونضدنا عليه نعنـ ـع البقـل وطرخونـه
وفرخ وافـر الزور أجـدنـا لـك تسمينـه
وطيهوج وفروج أجـدنا لـك تطـجينـه
وسنبوسجة مقلو ـة فـي إثر طـردينـة
وحمراء من البيض الـى جـانب زيتـونـه
وأوساط شطيرات بزيت المـاء مـدهونـه
يولدن لذي التخمة جـوعـا ويشـهينـه
ترنج بكور النـ ـد بالعنبـر معجـونـه
وحريف من الجبن به الأوسـاط مقـرونـه
وطلع كاللآلي في سموط الغيـد مكنـونـه
وخل ترعف الآنا ف منه وهـي مختـونـه
وباذنجان بوران بـه نفسـك مفتـونـه
وهليون وعهدي ب لك تستعذب هليونه ولوزينجة في الدهـ أن والسكر مدفونة لكن (الجونة! لا تستكمل عدة إلا وقد اقترن الطحام يصنوف اللذة الأخرى، فكان كشاجم يقيم هذه الصلة بين المأكول والمسموع والمرئي، من غناء ورقص وخمر:
(وعندما لك رستيجـ ـة مطبوخ وقنينة)
وساق وعدت بالوصـ ـل منه عطفة النونه
لـه شـدة ألحـاظ وفـي ألفـاظه لينـه
وقمـري يغنيـك لحوناغيـرملحونـه
ألايا من لمخزون نأي عن دار محزونه
فماعذرك فـي أن لا ترى من سكره طينه
ولابدى للخبر الذي يأتي به المسعودي في مروج الذهب من أن يتموضع بين تعليقات الخليفة، لكي يكون استناده قائما داخل خطاب اللذة والمنادمة الذي هو خطاب السلطة الآن، فيضيف:
فقال المستكفي أحسنت وأحسن القائل فيما وصف رم أمر بإحضار كل ما يجري في وصفه مما يمكن إحضاره، تم قال هاتواء من معه شيء في هذا المعنى؟ فقال آ!خر، في هذا المعنى لابن الرومي في صفة وسط
ياسائلي عن مجمع اللذات سألت عنه أنعت النعات
وتمضي القصيدة في تقديم وصفة كاملة تؤكد انصراف الشاعر الى المشاركة في طقوس الحياة
خـذ يا مـريد المأكـل اللـذيـذ جردقتي خبز من السميد
لـم تـر عينـا نـاظـرمثليهمـا فقشرالحرفين عـن وجهيههـا
حتـى إذا مـا صـارتا طفـاطفـا فاضـف علـى احـداهأ تفايفا
مـن لـم فــروج ولحـم فـرخ تـذوب جوذاباهمـا بـالنفـخ
واجعـل عليهـا أسطرأ مـن لـوز معارضات أسطرا مـن جـوز
إعجامهـا الجبـن مـع الـزيتـون وشكلهـا النعنـع بـالطرخـون
حتـى تـرى بينهمـا مثـل اللبـن مقسـومة كأنهـا وشـي اليمـن
واعمـد الـى البيفر السليق الأحمـر فـدرهــم الوســط بـه وذر
لكن الوصف لا يستقيم بدون التشديد على القصد من وراء الوصف، فالشعر هنا يبتغي العرض بما يعني الحضور، ومتى ما حضر الموصوف استحق الفعل. أي أن الوصف هنا استقدام للرغبة ودعوة لها:
ومتـع العيـن بـه مليـا وامسك بنابيك وأكدم كدما
وأطبق الخبـز وكـل هنيا تسرع فيما قد بنيت هدما
وكلما جرى استدعاء أكلة موصوفة بدت القصيدة معنية بالمخاطب، داعية إياه الى الفعل، فلا خطاب بلا شريك، وهكذا يذكر صاحب الخبر ما يقول اسحق بن ابراهيم الموصلى في صفة سنبوسج:
يا سائلي عـن أطيـب الطعـام سألت عنه أبصـر الأنـام
أعمد الى اللحـم اللطيف الأحمر فدف بالشحم غيـر مكثـر
واطرح عليـه بصـلا مـدورا وكرنبا رطبا جنيا أخضـرا
والـق الـذاب بعـده مـوفـرا ودار صيني وكف كزبـرا
وبعـده شـيء مـن القـرنفل وزنجبيل صالـح وفلفـل
وكف كمون وشـيء مـن مري ومـلء كفين بملـح تدمـر
فـدقـه يـاسيـدي شـديـدا ثم أوقد النـار لـه وقـودا
واجعله في القدر وصب المـاء من فوقه واجعل له غطـاء
حتـى إذا المـاء فنـى وقـلا ونشفتـه النـار عنـه كـلا
فلفـه إن شمئـت فـي رقـاق ثم احكـم الأطـراف بالالزاق
أوشئت خذ جزءا مـن العجيـن معتـدل التفريـك مستليـن
فابسطـه بالسـويق مستـديـرا ثم اطفـرن أطرافـه تطفيرا
وصـب في الطـابق زيتا طيبا ثم أقله بالزيت قليـا عجبـا
وضعـه لا جـام لـه لطيـف ووسطـه مـن خردل حريف
وكلـه أكـلا طيبـا بخـردل فهـو ألـذ المأكـل المعجـل
لكن وصف الطعام لا يقل ترغيبا عن استدعاءات المشروب، فقوة تأثير المأكول معترف بها، لكن هذه القوة قد تنتهك خطاب الشريعة الظاهر فتنافسه أو تتمنى إزاحته. وهكذا جاء في قصيدة كشاجم في وصف هليون:
كـأنه من فوقه حين لبـد شراك تبر أو لجين قـد مسـد
فلو رآها عابد أو مجتهـد أفطـر مما يشتهيهـا وسجـد
وكلما جرى مثل هذا الترغيب صعب الاحضار، وتعالى الخطاب على الموصوف. فيقول المستكفي:
هذا مما يتعذر وجوده في هذا الوقت بهذا الوصف في هذا البلد، إلا أن نكتب الى الإخشيد بن طفج يحمل إلينا عن ذلك البر هن دككلشق، فأنشدونا فيما يمكن وجوده.
قال آخر يا أمير المؤمنين، لمحمد بن الوزير المعروف نجالحافظ الدمشقي في صفة أرزية:
للــه در أرزة وافــي بهــا طـاه كحسـن البـدر وسط سمـاء
أنقى مـن الثلج المضاعف نسجه مـن صنعـة الأهـواء والأنــداء
وكأنهـا فـي صحفـة مقـدودة بيضـاء مثـل الــدرة البيضــاء
بهرت عيون الناظرين بضوئهـا وتربك ضـوء البــدر قبل مسـاء
وكـأن سكـرها علـى أكنافهـا نـور تجســد فوقهــا بضيــاء
فالوصف هنا يتطابق مع الموصوف، لا رغبه لدى الحافظ الدمشقي قائله في استقدام ما يتعالى عليه، ولهذا يسهلى تحويل الموصوف الى حاضر، بدون مشاكسة أو خرق كذلك الذي اندس في قصيدة كشاجم. ومثل قصيدة الدمشقي ما قيل في وصف الهريسة:
ألـذ مـا يـأكلـه الانسـان إذا أتى من صيفـه نيسـان
وطالت الـجديـان والخرفان هريسة يصنعهـا النسـوان
لهن طيـب الكـف والاتقان يجمع فيها الطيروالحمـلان
وتلتقي فـي قدرها الأدهـان واللحم والاليـة والشحمـان
وبعــده إوزة سمــــان والحنطة البيضاء والجلبـان
وبعد هـذا اللـوز والابـان جودهـا بطحنـه الطحـان
وبعده الملـح وخـولنجـان قد تعبـت لعقـدها الأبـدان
تخجل من رؤيتهـا الألـوان إذا بـدت يحملهـا الغلمـان
تضمها الصحفـة والخـوان وفوقهـا كالقـبو خيـزران
يمسكه سقـف لـه حيطـان مقبـب ومـالـه أركــان
أبرزهـا للاكـل الـولـدان تفتر مـن لهيبهـا العينـان
والمـرء فيهـا فـله ممـن يؤثرهـا الجائـع والشبعـان
ويشتهيها الأهل والضيفان لها على أضرابها السلطان
تصفو بها العقول والأذهان وانتفعت بأكلها الأبدان
والأبيات الأخيرة تأتي بالمأكل الى المقبول، حبت يجري تأكيد الفائدة، وهو ما لا بتنافى أو مع ما قيل في صفة الطعام والحاجة اليه، لكن وصف المضيرة يبتغي بلوغ القصد نفسه بطريقة أخرى:
إن المضيرة في الطعام كالبدر في ليل التمام
إشراقها فوق الموا ئد كالضياء على الظلام
مثل الهلال إذا بدا للناس في خلل الغمام
في صحفة مملوءة للناس- من جزع النهام
قد أكجبت لأبي هريـ ـر ة إذ أتت بين الطعام
حتى لقد مال الهوى بهواه عن طلب الصيام
ولقد رأى في أكلها حظا فبادر بالقيام
ولقد تنكب أدن يكو ن مؤاكلا عند الامام
اذ ليس ثم مضيرة تشفي السقيم مق السقام
لا غرو في إتيانها من غير اتيان الحرام
فهي اللذيذة والغربـ ـبة والعجيبة في الأنام
فالموصوف لا تتأكد هيبته وقيمته بدون موضعته داخل الخطاب المقبول، فالأكلة نافعة ومغرية لكنها خلو من احتمالات التأتيم. وهكذا تدخل في عدة المأكول وفي خطاب الطعام بيسر يرتضيه الجميع:
وحتى عندما يأتي وصفان لأكلة واحدة، فثمة ما ينشده القائل في كل واحد، فوصف محمود بن الحسين للجواذبة ينتهي بالتشديد على أثرها في الآكل لدرجة تستدعي مقارنة فعلها بفعل مقابل هو الأمن لدى المؤمن:
جواذبة من أرز فائق مصفرة في اللون كالعاشق
عجيبة مشرقة لونها من كف طاه محكم حاذق
نسيجة كالتبر في حمرة وردية من صنعة الخالق
بسكر الأهواز مصبوغة فطعمها أحلى من الرائق
غريقة في الدهن رجراجة تدور بالنفخ من الذائق
لينة ملمسها زبدة وريحها كالعنبر الفائق
كأنه في ص مها إذ بدت تزهر كالكوكب في الغاسق
عقيقة صفرخمها فاقع في جيد خودبضة عاتق
أحلى من الأمن أتى مؤمنا الى فؤاد قلق خافق
ويختلف وصف (بعض المحدثين) للجواذبة، كما يأتي في الخبر:
وجواذبة مثل لون العقيق وفي الطعم عندي كطعم الرحيق
من السكر المحض معمولة ومن خالص الزعفران السحيق
مغرقة بشحوم الدجاج وبالشحم، أكرم بها من غريق
لذيذة طعم إذا استعملت وفي اللون منها كلون الخلوق
(عليها اللآليء من فوقها تضم جوانبهاضم ضيق)
يرددها في الإنا نفخة وما في حلاوتها من مطيق
وسواء صحت مائدة المستكفي المارة الذكر أو لم تصح، فإن اششغال الشعراء بهذه الاستحضارات لا بتم في فراغ. وتظهر الفضا"ات الجغرافية والاجتماعية للحكايات من خلال المقاربة بين التارلخ ومدوناته وبين التفاصيل التي تتشكل منها متون الحكايات بتغييرات طف!يفة في هذه النسخة أو تلك:
فالمسعودي مثلا لا يفرد أبوابا معروفة للغناء والموسيقى فحسب، وانما يخص الطعام والشراب وآداب الطييخ بعنايته، كما أنه يعني بالمجالس والمنادمات، وكذلك الفروق في المجتمع المرتبي بين (التابع والمتبوع) و (النديم والمنادم) ويخصص للخمرة وأبوابها الكثير، مما بشير الى أن المجتمع العربي الوسيط كان مجتمحا متمدنا لدرجة النضج.
فكل عناية فائضة تدل على بلوغ (العمران) منها، وهو ما تظهره ألحكايات في المباذل والمقالب والمجالس والشكوى والتقلبات واللذات. ولهذا لا يمكن لاقتباس المسعودي عن العطوي آن يكون غريبا عن هذه الأجواء، إذ يقول:
حي التحية أصحاب التحيات القائلين إذا لم تسقهم: هات
أما انغداة فسكرى في نعيمهم وبالعشي فصرعى غير اموات
وبين ذلك قصف لا يعادله قصف الخليفة من لهو ولذات
فالمقارنة الأخيرة تحيل على ما يستوجب ذلك مما هو متداول ومعروف، ولولا أن تكون الخلا فة معروفة بما يتكرر في الأغاني لأبي الفرج، لكما قيل فيها ما قيل. لكن (قصف الخليفة) ليس متاحا للاخرين بيسر.
ندماء الخليفة:
وجرى امتحان الخلفاء للمغنين والندماء كلما أرادوا معرفة حدود هؤلاء ومقدار تجاوزهم للآداب، فثمة ما لا يطيقون عليه صبرا من تجاوزات، وهكذا كان الأمين يخلع على مخارق المغنى جبة وشي (كانت عليه صذهبة)، لكنه لسرعان ما يعرضه للامتحان وبلح عليه الله يشاركه في (مصلية) لحم (معقودة الساعة)، ويقول مخارق (فحين أدخلت يدي في الغضارة "القصعة" رفع يده ثم قال أف نغصتها علي والله وقذرتها عندي بادخالك يدك فيها، ثم رفس القصعة رفسة فإذا هي في حجري وودكها "دسمها" يسيل على المخلعة حتى مقذ الى جلدي) ( 14).
ومثل ذلك ما حل له مع المأمون وأمامه (مائدة عليها رغيفان ودجاجتان ) وهو يأمره بالمشاركة، لينغص عليه ذلك بعدئذ حتى عرف بالأمر، ورفض المشاركة ثانية فقال المأمون :
( _ تعال ويلك فساعدني
فقلت 0الطلاق لي لازم إن فعلت
فضحك ثم قال : ويلك، أتراني بخيلا على الطعام ! لا والله لكني أردت أن أؤدبك، إن السادة لا ينبغي لعبيدها أن تؤاكلها).
ولو كان قد فعلها ثانية لنال ما نال لكنه أصر على الا يضيع التأديب اياه.
ومثل هذا الامتحان للعادات أصبح من محفزات الأفعال في ألف ليلة يجري تطويعه في سياق المألوف في المجتمع المترف ؟ وكلما تورط المعنى في "عادات " لم يتقنها بعد، وجد نفسه في مصيبة، إذ كان الناس في ذلك الزمان يتهيبون مؤاكلة الملوك
وحاشيتهم، ولهذا يروي أبو منصور الثعالبي أنه دعي في مرة فقال لابن أبي علي أحمد بن محمد، (أنا إنسان سوقي لا أحسن مؤاكلة الملوك. فقال : يا أبا منصور، ليكن طرف كمك نظيفا وأظافرك مقلمة، وصغر اللقمة ولا تدسم الخل والملح، وكل ما شئت ) (15).
ويقترن الطعام بعادات وتقاليد بعضها اجتماعي والأخر شخصي، فهو قد يصبح مدعاة للملاطفة والاختبار، تلجا اليه الحكايات لهذا الفرض كما في حكاية الشاب البغدادي وعزيز وعزيزة وعلى نور الدين في دمشق، لكن الاختبار يتنوع ويتعدد أيضا، فلربما جاء بقصد امتحان معرفة المقابل (المتلقي) للمرسل، ولهذا تذكر الأغاني مثلا، ان عريبا الشاعرة المغنية قد بعثت الى اسحق بن كنداجيق (ن ) أن يبعث لها بنصيب من الدعوة التي عنده (وبعث اليها منه شيئا كثيرا) فجاءه رسول منها (ومعه شي ء مشدود في منديل ورقعة فقرأها، فإذا فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم، يا عجمي يا غبي، ظننت أني من الأتراك ووحش (الرديء) الجند، فبعثت الي بخبز ولحم وحلواء، الله المستعان عليك، يا فدتك نفسي، قد وجهت اليك زلة (ما يأتي من مائدة الصديق للصديق ) من حضرتي، فتعلم ذلك من الأخلاق ونحوه من الأفعال، ولا تستعمل أخلاق العامة، في رد الظرف، فيزداد العيب والعتب عليك إنشاء الله(16).
فكشف المنديل فإذا طبق ومكبة من ذهب منسوج على عمل الخلاف، وفيه زبدية فيها لقمتان من رقاق، وقد عصبت طرفيهما وفيها قطعتان من صدر دراج مشوي ونقل وطلع وملح ): فالعامة حسب تصانيف العصر تهوى الأكل وكثرته لا رقته ولطفه ومغزاه.
واذا ما عرفنا أن أوائل القرن الثالث للهجرة (التاسع الميلادي) شهد آدابا عامة في الطعام والمائدة، وأن هذه ملزمة للفتيان لعرفنا كم أن المجتمع الوسيط قد حقق تقدما حضريا ولياقة سلوكية عالية : ومثل هذا الواقع وحده هو الذي يجعل من بعض مكونات الحكايات وأفعالها ومتوالياتها معقولة ومقبولة. فتناول أكلة ما دون غسل اليد بدا في بعض الحكايات دافعا للفعل وحافزا للسرد، وهو ما لا يتقبله الجاهل بطبيعة العادات والأخلاق السائدة. ويكفي أن يشار الى ما يذكره الجاحظ في آداب المائدة عند الفتيان في مطلع القرن التاسع الميلادي مثلا، إذ يقول في البخلاء (17).
"قيل للحارثي بالأمس : لم تبح الطعام لمن لا يحمدك ومن ان حمدك لم يحسن أن يحمدك ومن لا يفصل بين الشهي الغذي والغليظ الزهم ؟ قال يمنعني من ذلك أبو الفاتك.
فقيل له : ومن أبو الفاتك ؟ قال : قاضي الفتيان. قيل : فما قال أبو الفاتك ؟ قال. قال أبوا لفاتك : الفتى لا يكون نشافا ولا نشالا ولا مرسالا ولا لكاما ولا مصاصا ولا نفاضا ولا دلاعا ولا مقورا ولا مغربلا ولا محلتما ولا مسوغا ولا مبلهما ولا مخضرا، فكيف لو رأى أبوا لفاتك اللطاع والقطاع والنهاش والمداد والدفاع والمحول والله اني لأفضل الدهاقين حين عابوا الحسود وتقززوا من التعرق وبهرجوا صاحب التعشيش وحين أكلوا بالبارجين وقطعوا بالسكين ولزموا عند الطعام السكتة وتركوا الخوض واختاروا الزمزمة ".
ويقول د مصطفى جواد في تفسير تلك المصطلحات :
"والنشال في اصطلاح الفتيان في ذلك الزمن هو الذي يتناول الطعام من القدر ويأكله قبل النضج وقبل اجتماع الآكلين. والنشاف : الذي يفتح الرغيف هن حاشيته ثم يغمسه في رأس القدر ويشربه الدسم ويأكله وحده. والمرسال صفة لاثنين أحدهما الذي اذا وضع في فمه لقمة هريسة أو ثرياة أو غيرهما أرسلها في حلقة إرسالا وسوطها سرطا وهو المراد هاهنا. واللكام : هو الذي يلتقم لقمة فيلكمها بأخرى قبل إجادة مضفها وابتلاعها. والمصاص : الذي يمص قصبة العظم، بعد استخراجه مخه. والمقور الذي يقور الرغيف ويأخذ وسطه ويدع حواشيه لأصحابه. والمحلتم : الذي يتكلم واللقمة قد بلفت حلقومه. والمسوغ : الذي يعظم اللقمة فتقف في حلقومه ويغص بها، يسيغها بالماء
ولا يزال يفعل ذلك. والمبلهم : الذي يأخذ حواشي الرغيف ويغمزها في الزبد أو السمن وغيرهما لأنها تحمل من ذلك أكثر من الأوساط، أو الذي يغمز القمرة بابهامه لتحمل من ذلك أكثر من القمرة غير المغمورة، واللطاع : هو الذي يلطع أصبعه ثم يغمسها في المرق أو اللبن أو السويق. والقطاع الذي يعض على اللقمة فيقطع نصفها ثم يغمس النصف الأخر في الادام كالزيت والخل. والنهاش : هو الذي ينهش اللحم كنهش السباع. والمداد: هو الذي ربما عض على الغضروف الذي لم ينضج ويمده بفيه من جهة وبيده من الجهة الأخرى، فيقطعه بنشرة واحدة فينثر ما عليها على مؤاكله على المائدة، وقيل : المداد أيضا هو الذي إذا أكل مع أصحابه الهريسة أو الأرزة أو غيرهما أتى على ما بين يديه ومد يده الى ما بين أيديهم. والدفاع : هو الذي إذا وقع في القصعة عظم فيما يليه نحاه بلقمة من الخبز حتى تصير في مكانه قطعة لحم وهو في فعله ذلك يظهر للمؤاكين أنه يريد تشريب اللقمة هرقا. والمغربل : هو الذي يأخذ وعاء الملح فيديره إدارة الغربال ليجمع أبا زيره أي بهاراته ويستأثر به على أصحابه. والمحول : هو الذي اذا رأى كثرة النوى بين يديه احتال له حتى يخلطه بنوى صاحبه. والمخضر: هو الذي يدلك يده بالاشنان من الودك والغمر حتى اذا أخضر وأسود من الدرن دلك به شفتيه. والدلاك : هو الذي لا يجيد تنقية يديه بالا ثمنان ويجيد دلكهما بمنديل الغمر"(18).
ويبدو أن بعض حكايات الف ليلة وليلة درجت في السود على مذاهب الفتوة في مراحلها المختلفة، فهي تجمع بين الظرف واللطف والأدب والشجاعة مرة، وبين اللصوصية وتلفيق الفصيح وتمثل الهوى مرة أخرى، ولهذا يظهر فيها الكثير من الشعر الظريف والخاص بالعشق، كذلك الذي يقوله على بن الجهم في ذكر مسكن المفضل الكوفي الذي يألقه صحبه من الفتيان والقيان، أو كذلك الذي ينشده أيام الواثق اسحق بن خلف (أبو الطيب البهراني)، العيار المعروف.
وفي قصيدة عي بن الجهم التي ينقلها أبو الفرج الاصفهاني فضاءات الحكايات ء من ولع بالقيان والفناء والعام والضيافة والسهر والانهماك في الملذات ء إذ يقول :
نزلنا بباب الكوخ أطيب منزل على محسنات من قيان المفضل
فلابن سريج والغريض ومعبد بدائع من أسماعنا لم تبدل
فالمشروب والمأكول لا ينفعان كثيرا في غير فضاءات اللذة التي تتموضع في اعلان والزمان المعنيين. لكن هذا الاستدعاء للموقف أوالمضي في تذكره والاشادة به يمثلان مزاجا انهما كيا في استحصال اللذات، بما يعني التنكر _ يمكن أن ميسرا فلسفة نفعية مضادة، واذا كان الوراق والبغدادي، وكذلك كنز الفوائد يذكرون الكثير في الطعام وآدابه، فإن أمر العناية باطباخ شخصيا لم يكن قليلا، اذ أفردت له الابواب، ولهذا نقرأ عند كشاجم مثلا في وصف طباخ جمع من المعرفة ما يجعله مقبولا واتيا بالجديد ومكملا للزهو الاجتماعي وراحة البال والرفاه، كما ان هذا الذكر للطباخ الفقيد يفصح عما يعنيه الانهماك بالمأكول والانشداد اليه :
"بسم الله الرحمن الرحيم كتبت _ أعزك الله _ من المحل الجديد، والبلد القفر الذي أنا به غريب، عن سلامة الجوارح والحواس، إلا حاسة التمييز، فإنها لو صحت لما اخترت المقام بهذه المفازة، وأحمد الله عز وجل كثيرا على كل نعمة ومحنة، ومن مصائبي _ أعاذك الله عز وجل من كل مصيبة. وجنبك كل ملمة _ أن نوحا طباخنا توفي، فأومضتني مصيبته، وألمتني فجيعته، وكان عنوان النعمة، وترجمان المروءة، وواسطة القلادة، فلهفي عليه، فلقد كان قوام جسمي، وزيادة شهوتي، وممتع زواري وأضيافي، أحذق أهل صناعته، وأبينهم فضلا، وأرهفهم سكينا، وأعدلهم تقطيعا، وأذكا هم نارا، وأطيبهم يدا، ما أكاد اقترح عليه شيئا إلا وجدته قد سبقني اليه، معب للموائد ملبك للثرائد، مع كل حار وبارد، كأن مائدته رياض مزخرفة، أو برود مخوفة، مرتب للألوان، منظف للخوان، لا يجمع بين شكلين، ولا يوالي بين طعامين، ولا يعرف اللون إلا وضده، ينضج الشواء، ويحكم الحلواه، ويخالف بين طعام الفداء والعشاء، يكتفي باللحظ ويفهم بالاشارة، ويسبق الى الارادة، كأنه مطلع على الضمير من الزائر والمزور، فأودى فقيدا حميدا، ليس مثله موجودا طريفا ولا تليدا، فما ظنك – أعزك الله – بمبتلى تجمع عليه فقد مثل هذه العقدة النفيسة، وتطاول الأيام بهذه الناحية الممحلة الموحشة والله _ عز وجل _ لا أتقي الا الشماتة، ولست في شفر فأحتمل عاجل الضنك، ولا بإزاء عدو فيشغلني مقارعته وحلاوة الظفر به والنكاية فيه عن ملاذ الطعام، وأسأل الله عز وجل الكريم المنان أن يختار لي ويعجل مما أنا فيه راحتي، ويبدلني خيرا منه زكاة وأقرب رحما، بجوده ومنه. وكتابك سر أعزك الله – إذا ورد علي نفي عني هذه الوحشة، وأمن غب هذه الهفوة. فإن رأيت _جعلني التو فداك _ أن تهدي لي برا وصلة، ووصلة وانسة فعلت، إن شاء الله تعالى.(20)
فوصف الطباخ يفصح ضمنا عن وصف رغبات الآكلين والندماء، كم أنه يعرض لعادات الطعام ولترف المقبلين عليه الساعين الى الجديد منه. لكنه يجري التعامل معه على أنه (عقدة نفسية ) يتيح تملكها متعة ولذة وراحة بال.
الأكلات الموصوفة وتعلها داخل المحكي:
ويلجأ السرد في ألف ليلة وليلة الى التنويع على الطعام، مرة بصفته جزءا من (العدة الوصفية ) لايجاد فضاءات اجتماعية وجغرافية للنص، فيأتي مائدة يجتمع حولها عدد من الناس، ينشغلون بالأكل وبالحديث، ومرة أخرى يكون الطعام معدا لتعقيد الفعل وتوتير العمود من خلال ايقاف فاعل ما وتعطيله لاعادة تحويله الى متوالية جديدة منشقة عن الأولى يظهر فيها الفاعل البديل أو المزيف، كما هو في الليلة 313 (ص 490) عندما وضح برسوم البنج لتعطيل علي شار وتنويمه وخطف زمرد، كما أنه يمكن أن يؤدي دور» الغائب أو ينتج إيهاما خاصا لدى المستقبل لنسف التوقعات وتسخيف فضاءا ته : ففي الليلة 32 يمر النشار شقيق المزين بتجربة فريدة بعدما قتله الجرح، فإذا بسيد مقيم في دار عظيمة يستقبله،ويومي، للخدم باعداد المائدة والمضي في الأكل بينما يجري كل شيء تمثيلا وايماء فحسب، وجوع الضيف يشتد. ولولا ذلك لما اضطر الى تلبس الوهم والعيش فيه وإظهار نتائجه، أي العربدة، ومن ثم ايقاع صاحب الشأن في شرك الايماء والوهم، كم أن الرغبة في الطعام قد تأتي لاحقة لدور الفاعل المزيف، فالخليفة يرتضي بدور كريم الصياد عند مرأى علي نورالدين وانيس الجليس والشيخ ابراهيم في مقصورته سكارى يتناشدون غناء وشوقا. ولولا استدراج الجمال والطرب له لما قبل بمزاولة هذا الدور، وهو تنازل أول يقود الى دور الطباخ وهو يعد لهما السمك المطبوخ (ص 120).
لكن الطعام يؤدي فعله السردي في ضوء الفضاءات الاجتماعية أو السياسية للنص.
ففي الليلة 321 كانت زمردة تمارس دور الملك، وجلست على رأس مائدة لترى الدخلاء الجدد علها تعثر على (علي شار) أو على خصومة، وصادف أن جلس أحدهم عند طبق الأرز الحلو، فسألته عن جرائمه وعاقبته، وكان أن اقترن الطبق ومكانه بالشؤم. وعندما كانت المائدة منصوبة ثانية ترك المكان فارغا، فجاء القادم الجديد اليه، ونال ما نال أيضا، وهكذا يتوالى الخصوم غير عارفين بالمكان المتروك. أي أن طبق الأرز أخذ يقترن في ذهن البلاد بالشؤم، وأصبح نذيرا يتطيرون منه ويبتعدون عنه واكتسب الالته في ضوء ذلك، وسر عان ما دخل المحرمات والممنوعات التي يعني خرقها تصعيدا للسرد. ولكن هذا الهنو التحريمي باطل ومؤقت، ولهذا سرعان ما تجري معاكسته بمجيء الحبيب الغريب لاشغال المقعد نفسه عند الطبق ذاته، فتنقلب الآية وتنتهي الحكاية بمشهد عجيب يبهت عنده (الطواشية ).
أما أكلة الزيرباجة (الليلة 27) فإنها تصبح من مكونات السرد لأن الفاعل فيها ينتهك أدأب المائدة وشروط النظافة، أي أنه يأتي الى عالم الخاصة بأخلاق العوام، وهو ما لا يرتضيه العالم المذكور ويعده استهانة به واستهتارا بتنازلاته، أي أن رد فعل الصبية جارية البلاط، كان حادا لأنها ترى في فعلها (المصاحبة والزواج ) منه (كواحد من أبناء التجار) تنازلا منها واعلاء لشأنه. أما دخوله الفراش معها دون الاغتسال فتراه بطرا واستهتارا.
ويقول البغدادي في وصف الزيرباج، انه من اللحم السمين، يقطع صغارا، معه دار صيني وحمص مقشور وقليل من الملح ويمضي قائلا:
فاذا غلي، تؤخذ رغوته، ثم يطرح عليه رطل خل خمر وربع رطل سكر وأوقية لوز حلو مقشر ومدقوق ناعم، يدان بماء ورد وخل، ثم يطرح على اللحم ويلقى عليه كسفرة مسحوقة وفلفل ومصطكى منحولة، ثم تصبغ بالزعفران (ومن أراده ثخينا جعل مع الزغفران نشاستجا)، ويجعل في رأس القدر كف لوز مقشر مفرد بنصفين، ويرش عليها قليل ماء ورد، وتمسح جوانبها بخرقة نظيفة، وتترك على النار حتى تهدأ، ثم ترفع، ومن أحب ان يجعل فيها الدجاج فليأخذ دجاجة مسموطة يغسلها ويقطعها على مفاصلها. فإذا غلت القدر عليه، ألقاها على اللحم تنضج بنضجه.
ومثل هذا الوصف للزيرباج يتكرر في كنز الفوائد في تنويع الموائد، ولكن بتفصيلات أوسع.(21)
لكن الزيرباجة يمكن أن تكون من لحم الدجاج أيضا كما جاء في وصفها، وهوما يظهر أيضا في حكاية الشاب البغدادي إذ يقول أنهم قدموا اليه في قصر القهرمانة المذكورة (خافقية
زيرباجة محشية بالسكر وعليها ماء ورد ممسك وفيها أصناف الدجاج المحمرة وغيره لكنه، من شدة انهماكه _ اكتفى بمسح يده ومكث جالسا دون اغتسال (الليلة 27، ص84) (22)
وتندما خلا بها في الفراش، كما يقول :
(وعانقتها وأن لم أصدق بوصالها شمت في يدي رايحة الزيرباجة فلما شمت الرايحة صرخت صرخة فنزل لها الجواري من كل جانب فارتجفت ولم أعلم ما الخبر)، فقالت (أخرجوا عني هذا المجنون فأنا أحسب أنه عاقل فقلت لها وما الذي ظهر لك من جنوني، فقالت يا مجنون لأي شي ء أكلت من الزيرباجة ولم تغسل يدك فو الله لا أقبلك عل عدم عقلك وسوء فعلك ثم تناولت من جانبها سوطا ونزلت به على ظهري ثم على مقاعدي، ص 84).
والحكاية المكيفة عن نادرة تاريخية أيام الخليفة المقتدر (سنة 321هـ) أوردها ابن الجوزي في المنتظم، وتقول الحكاية أن جارية شغب التي زوجها لها المقتدر شمت لحيته ورفسته.
(فرمت بي عن المنصة. وقالت : انكرت أن تفلح يا عامي يا سفلة. وقامت لتخرج فقمت وعلقت بها وقبلت الأرض ورجليها… فقالت : ويحك أكلت فلم تغسل يدك ) (23).
وقد تبدو حكاية الشاب البغدادي الذي قطعت يده (الليلة 27، ص 84) غريبة في تكو يناتها، ولربما اعتقد بعض القراء بأنها ضعيفة التسبيب، فعلها غير مبرر: لكن مثل هذه الحكاية ينبغي أن تؤخذ في ضوء فضاءاتها الحضرية، ففي العصر الوسيط كانت آداب الطعام والمائدة لدى الخاصة تحظي بناية كبيرة، لدرجة أن جواري الحاشية والقصور سعين الى تلقين أنفسهن والمقربين منهن مثل هذه الآداب،.. كما أن صبايا هز الفئة كن يسعين الى تعليم العشيق أو الزوج المرتقب ما ينبغي عليه معرفته على أساس أن هذا تشكل هويته الجديدة وجواز مروره الى مجتمع الخاصة. ويذكر الوراق عدم جواز مس شي ء باليد قبل الطعام ويذكر عن المأمون أنه اصطحب شخصا للمائدة، وعندما ابطأ الغلام على الرجل بعد أن غسل يده سبقته يده الى رأسه فقال المأمون أعد غسل يدك، ثم سبقته الى لحيته فأمره أن يحيد ثانية..
الطعام والمرتبية الاجتماعية :
وتصبح مثل هذه القضايا شديدة الحساسية عندما يكون المعنى من (العوام ) قادما نحو الخاصة، فالعوام كما يقول الوراق عجلون في استخدام الأشنان للاغتسال يدا وفاها مرة واحدة، بينما يرى أن يصار الى غسل اليدين وتدليكهما أولا. ثم تنظيف ما يتعلق بهما، ثم يلجأ الى الاشنان لغسل الفم، ثم يستعان بالسعد وغيره لغسل اليدين والفم، ومن ثم بالماء، ويستعان بماء الورد لغسل الوجه واليد.. الخ ولربما كان الرواة يستغربون بعض الاسراف والترصيف الدقيق في هذا الأمر فيدفعون بالفاعل أو الشخص المعروض للفعل أو الحدث الى موقف صارم أو معاند ازاء الطعام وغيره، ولكن هذه الآداب) كانت تمثل شيئا من مواصفات مجتمع أدركه من الترف الكثير.
وفي القصة التي أوردها ابن الجوزي على أنها واقعة في أيام خلافة المقتدر كان الشاب البغدادي (البزاز)، أجلس في بيت، بينما لحان أهل الدار التابعة لقصر هن قصور الأم.
(يدخلون ويخرجون ويذكرون أن هذا وقت زفاف فلانة على البزاز ويذكرون صاحبتي ففرحت فرحا أطار عقلي غير أني جعت جوعا أحرق أحشائي، واستطعمت الخدام فلم يطعموني لأنهم لم يعرفوني حتى جاء خادم يعرفني فشكوت اليه الجوع فقدم لي ديكا فأكلت وغسلت يدي غسلا ظننت معه النقاء. فلما خلوت بها رفستني وقالت عجبت كيف تفلح وانت عامي سفلة، وهمت بالخروج فتعلقت بها واخبرتها القصة، ثم قلت يلزمني صوم الأبد والحج ماشيا والطلاق والعتاق وصدقة مالي ان لا آكلها بعد اليوم إلا واغسل يدي أر بعين مرة فضحكت ) (24).
أي أن الأصل الوارد عن ابن الجوزي وغيره يؤك على وجود تفاوت شديد بين التجار وبين الجواري والمحظيات، فثمة ترف ولياقة عاليان لدى فئات الجواري والمملوكات يجعلان من حياتهن رقيقة شفافة جميلة مغرية لا تدانيها حياة التجار التي لا تتجاوز كثيرا حياة (السوقة ) أو (العامة السخلة ) حسب تعبير هؤلاء الجواري. ويبقى التاجر. شابا أو رجلا أو شيخا يحن حنينا شديدا الى هذا الترف ويسعى من أجل بلوغه، فكل فئة تحتاج الى بلوغ ما يعوزها مالا أو جاها أو وجاهة أو لياقة أو سلوكا عاما. ولهذا فشدة التعلق ليست عشقا ضرورة. عل خلاف الرغبة التي تحرك الجارية أو المملوكة : فهي تعشق ولهذا تشتري من السوق ما لا تحتاج، بقصد إدامة العلاقة وبلوغ المرام وتحقيق الرغبة. (إذ لم يكن بها حاجة من الأصل إلا العشق)، كما يقول الشاب البزاز في تعليقه على سبب قدومها المتكرر وشر ائها الكثير للأقمشة والملابس، لكن هذا العشق مؤقت، مرهون بالرضا اللاحق، ومتى ما شعرت بالتفاوت معه وعجزه عن بلوغ الرغبة واللياقة كانت مستعدة لهجرانه وطرده.
ويعول الراوي في حكاية (الشاب البغدادي وجا دية الست زبيدة ) على هذه الوقائع، فيقول في الجزء المقابل
للأصول الأولى للحكاية انهم..قدموا للشاب (خونجة طعام، من جملة الطعام خافقية فيها زيرباجة مخترة بقلب الفستق المقشر مجلبة بالجلاب والسكر المكرر) وانه بعد هذه الأكلة اكتفى بمسح يديه، وبعيد الزفة والدوران بالعروس في انحاء القصر (دخلت معها الى الفراش وعانقتها وأنا لا أصدق بوصالها، حتى شمت يدي ريحتها زيربانجة وهي صرخت صرخة أقبلت الجواري اليها من كل مكان وصاروا حواليها وارتجفت أنا وأخذني الفزع والرعب ولا أعلم سبب صرختها)، وطالبتهم باخراج (هذا المجنون)، وشرحت له السبب بعدما سأل عن خطيئته : (فقالت يا مجنون أليس أعلت الزيرباجة ولا غسلت يدك، والله لا قابلنك على فعلك، تدخل على مثلي وريحة يدك زيزباجة )، ثم طرحوه أرضا ونزلت على ظهره بـ (السوط المظفور)، وأمرت بقطع يده في (المدينة ل يده التي (أكل بها الزيرباجة ) لكنها لم تخالطه حتى ( قطعت (ابهاماته ) بنفسها) (25).
ولا يبدو قلق الشاب البغدادي آكل الزيرباجة مح جارية شغب أي المقتدر مسرفا في سياقاته : وبدون هذه السياقات يبدو رفضه للأكل وإصراره على الاغتسال أربعين مرة مضحكا لا معنى له. ولا يمكن للقمة أن ترد محكية على لسان حاك ومشارك أساسي لولا هذا الرفض الذي زاد من توتر الموقف وتساؤل الحضور عن سر ذلك وإلا اتهموه بـ (الاسواس).
فالشاب التاجر تواق الى التحلي بصفات الظرفاء، والتي يذكر الوشاء بعضا منها في الموشى أو الظرف والظرفاء، حيث يدخل الظريف (الحمام على خلوة.. ولا يترغ على حرارة أرض الحمام، فإن ذلك مما يفعله سفلة العوام )، وأن ينشف عرقه (بمنديل ) ويدعو (بالغسول، والأشنان المنحول )(26)، بينما يخصص صاحب كنز الفوائد للاشنان الذي يغسل به الخلفاء والوزراء بابا ولآخر يقل جودة عنه وكذلك لاآنواع الصابون المطيب. (27) ويعني تعدادها وجود عناية خاصة بهذا الأمر في مجتمعات الخاصة، بينما تفترض هز: في القادم نحوها من السوق (مجتمعات العوام ) الأخذ بآدابها وصفوف عنايتها بالنظافة والعطر.
وبقار ما يبدو الطعام حاجة ومتعة ولذة يزداد الانهماك فيه والتفنن بأنواعه كلما اكتملت حياة الحضر وازداد الرخاء واتسعت الفئات المرفهة، كما يصبح الخوض فيه طقسا من الطقوس أيضا له شؤونه ومشكلاته وتبعاته. ولهذا تكثر اقترانات الطعام بغيره، فهو تمهيد للجنس في ألف ليلة وليلة كما قيل من قبل، لكنه امتحان للآخرين أيضا، كما أن ردود الفعل ازاء قيمته وكتيته وأوقاته تحدد سمة الآخر، من الخاصة أو العامة، من العشاق والظرفاء، أو من الغلاظ،
فهكذا تقول زوجة الجوهري في رسالة تركتها في جيب قمر الزمان (الليلة 971ج 2، ص 561)، (يا علق كيف تنام وتدعي أنك عاشق لا بعد أن أكل وشرب وانهمك في ما هو جسدي، لكن عريبا الشاعرة المغنية تستضيف علوية المفني ليجدها. جالسة الى كرسي تطبخ، وبين يديها ثلاث قدور من دجاج، فلما رأتني قامت تعانقني وتقبلني، ثم قالت : أيما أحب اليك أن تأكل من هذه القدور، أو تشتهي شيئا يطبخ لك، فقلت : بل قدر من هذه تكفينا، فغرفت قدرا منها، وجعلتها بيني وبينها، فأكلنا ودعونا بالنبيذ، فجلسنا نشرب حتى سكرنا، ثم قالت : صنعت البارحة صوتا لأبي العتاهية، فقلت : وما هو، فقالت هو:
عذيري من الانسان لا ان جفوته صفالي ولا ان كنت طوع يديه (28)
دلالة الطعام في اللذة والجماع والتحذير:
وعلى الرغم من أن مشهد الأكل لا ينتهي بالجماع ضرورة إلا أنه يتصاعد دراميا الى موقع التنبيه والتحذير والشك مهما كان المقصود منه. واذا ما كان المعنى هو
العشيق الذىر لهجت بذ لحره فإن المفارقة الساخرة أعظم وأقرب الى حكايات الف ليله وليله. واذا اعتمدنا ما يقوله كشاجم عن آداب الظرف لعرفنا أن الليالي لم تكن تجنح بعيدا عن السائد، فثمة ارتباط بين الظرف والغناء، والطعام ما دامت كل هذه تشكل جانبا من حياة ترف الخاصة.
يقول كشاجم :
(رأيت الملاح من أهل هذه المطبقة يقولون إن من لم يسد عشرة أصوات، ويحكم من غرائب الطبيخ عشرة ألوان لم يكن عندهم ظريفا كاملا ولا نديما جامعا).
ويقول أيضا:
قال رجل من الأدباء 0إذا رافق السماع من الشراب ما ذكا عرفه، وعذب على اللهوات طعمه، وأخلص من شوائب العكر جرمه، وناب عن مرقص الألى شعاعه، وتحلى بزي العتبان لونه، وكان المنادمون عليه اخوانا الباء، وخلانا أدباء، مساميح الأخلاق، كرام الأعراق، قد أذكتهم المعرفة، وأدبتهم الحكمة، وكان الفرض في الشراب غير الإفراط المؤدي بإكثاره الى النوازل، لتعديل الطبائع وإيثار اهنافع ونفي الخلاف، وايجاب الائتلاف، وحسم السخائم، ونبذ النمائم، عي وجه سماء وصفو هواء، وصفو ماء، وخضرة كلأ، من كف بارع الظرف، ساحر الطرف فائق الوصف، مصيب الخدمة، ذكي الفطنة صادق الشمال، واصل الحبال، كأنه خوط بان، أو جدف عنان، كان نهاية الحبور وغاية السرور (30).
وبينما يترافق الطعام والشراب والغناء في مجالس الف ليلة وليلة، كما هو الأمر في حياة عصورها تلك، فإن الفواكه تصبح ذات معان ودلالة في تلك المجالس. وليس غريبا أن يجري ترصيفها بهذه السعة في عشرات الكتب، مثل كتاب السري بن أحمد الرفاه المتوفى سنة 362هـ،الذي يفرد لأقوال الشعرا0ف الورود والزهور والعطور والفواكه أبوابا كثيرة، يأخذ عنها اللاحقون : (31)
ويصبح التفاح لدى هؤلاء الشعراء مالكا لأكثر من دلالة بحكم انتمائه الميثي (الأسطوري) او الغواية والتحريم واللذة والشهوة، وكذلك بحكم ما يبدو عليه من ندرة وجمال ورائحة زكية، ومشاكلة للجسد، فهو في قول ابن المعتز:
كان فيهـا وجـنة تنقبـت بالخجـل
وفي قول ابن المعدل :
تفاحة من عند تفاحة بالمسك والعنبر ففاحه
وعند آخر
نسيمهـا يخبـرنـي أنهـا تسترق الأنفاس من نكهته
لما حكمت لونين من حسنه قبلتها شوقـا الـى وجنته
وبقول اخر:
(أعلم أن التفاح عند ذوي الظرف والعشاق، وذوي الاشتياق، لا يعدله شيء من الثمر، ولا النور والزهر، كيف وبه تهدأ أشجانهم، وبورواه تسكن أحزانهم، وعنده يضعون أسرارهم )
ثم يضيف في تفسير ذلك :
(لغلبة شبهه ) بالخدود الموردة، والوجنات المضرجة وهو عندهم رهينة أحبابهم ) (32).
وينقل عن شاعر قوله في حبيب غائب :
صيرته تفاحة بيننـا اذا ذكرنـاه شممناهـا
واها لها تفاحة أشبهت خل يه في بهجتها، واها
ويقول الوشاء : (التفاح أعظم.. قدرا، وأجل أمرا وأعلى درجة ) من الورد:
تفاحة تأكـل تفاحـة ياليتي كنت الذي يؤكل
فألثم الثغر لكي أشتفي بعلة الأكـل ولا أوكل
أما في الليلة 61(طبعة برل، ص 196- 197)، فإن القلندري الثالث يدخل بستانا كأنه الجنة، فيه الورود والأشجار والأطيار وتسبيحات الواحد القهار، وفيه الثمار والأزهار حتى قال في التفاح :
لكن التفاح في الف ليلة وليلة قد يستحيا دوره الأول في الغواية أو المقالب، ففي الحكاية التي ترد في الليلة 18 (ص 53 _ طبعة بولاق ) تكون التفاحة الدليل المزور لانتقام الزوج من زوجه الصبية بعدما كان ريحان العبد يكذب ويحتال ولا يذكر أنه سرقها من يد الصبي الابن. أما اذا اتجه دلاليا الى نسقه الأساس في العشق والوصل فإن التفاح هو السبيل نحو العلاقة بين اثنين، كما هو الحال في حكاية انس الوجود والورد بالأكمام في الليلة 371_، ج 1، ص 546، إذ تكون المبادأة بتفاحة ترميها الورد بالأكمام على انس الوجود ويبتديء العشق، كما يتدفق السرد الذي لن يتوقف إلا عند اجتماع الاثنين بعد المصاعب التي يولدها الحجر (الكبح ) عليهما.
لكن الشعر يتيح تنفيسا عاطفيا لمثل هذا المشهد بديلا للمغاهرة التي ينبغي أن ينطوي عليها انحباس المشاعر.
وينقل عن محمد بن عبدالله بن طيفور أنه كان عند رزين بن زند ورد العروضي مولا» عندما كانوا يشربون فرميت عليهم تفاحة من الجيران، فقال رزين :
أيـاتفاحـة زمـت فؤادي للهوى زمـا
لقـد ألقاك انسـان وألقـاك لأمـر مـا
لتهدي داعي الشوق الى من عض أو شما(34).
التطفل: الدخول على موائد الخاصة
وكما تعقدت أوجه الحياة المدنية وتداخلت، كثرت فيها الدعاوي والميول والرغبات، وتكررت المقالب ومظاهر الحيلة والنفاق والتسول والصعلكة والتطفل. وكما يظهر الظرف وآدابه يظهر التطفل وتصبح له حكاياته ومواصفاته، شأن ما قيل عن ابن دراج الذي كان ينوح عل أبواب الأعراس فيتطير الناس ويدخلونه، فتطفل عثمان بن دراج ينحصر في الطعام، حتى قال مداعبا في
الاجابة على سؤال عن الصفرة في لونه م من الفترة بين التصفين ومن خوفي كل يوم من نفاد الطعام قبل أن أشبع ). وتنبني حكايات أشقاء المزين البغدادي على مثل هذا التطفل وتأخذ عنه الكثير وتضفي اليه احتمالات الموقف، بينما تكتفي الحكايات المأخوذة عن التاريخ بالمبنى غير عابئة بالقرائن الشخصية والمناخية والسكانية.
والحكايات التي تدور حول أبي سلمة الطفيلي البصري كثيرة، فإذا ما بلغه خبر وليمة أصطحب ولديه وعلى رأسيهما القلانس الطوال والطيالسة الرقاق ولبس ملبس القضاة، وفاجأ أصحاب الوليمة بنقر على الباب وصيحة (افتح ويلك فإن أبا سلمة واقف ). فإن جهل به البوابون فتحوا الباب، والا تركوه عنده ينتظر مجيء آخرين، فيرمي ولداه بحجر في العتبة يحو ل دون دوران الباب وانفلاقا، وقيل انه تناول لقمة فالوذج حارة خبطت امعاءه ومات.
فثمة تطفل تكثر مقالبه، ويتندر به الناس ويكتب فيه الشعر من أمثال عبد الصمد بن المعتدل فيصبح نمطا سلوكيا شأن غيره، ويتناغم الحكاة مع اتجاهاته فيأخذون عنه ويضيفون اليه ويعدون عنه، فيصبح من سمات المجتمع ومن مقومات متون السرد أو مبانيه.
وبقدر ما يعنيه التطفل من (هامشية ) اجتماعية وتأرفكه من حياة باذخة يعجز عنها المتطفل، فإنه سرديا يعني مشاكسة الركود والاستقرار الذي يقترن بحالات الرفاه والرضا بالذات التي تفصح عنها موائد الأعراس والولائم الكبيرة. فالطفيلي كالثرثار بين الحلاقين له دوره السردي، لكنه فاعل أولا، يعني بالتحايل لبلوغ الطعام،أما الثرثار فله عناية أخرى تدفعه الى الفضول لدرجة المخاطرة بنفسه.
وما يرويه القاضي النتوخي عن نسخة عهد هازلة كتبها المتطفل عليكا الى علي بن عرس الموصلي أيام عز الدولة أحمد بن بريه تستحق الملاحظة في ضوء ما تعرض له من حيلة لبلوغ :لموائد والأشخاص القريبين اليها، اذا يقول في ما يلاد يصبح اتجاها حياتيا:
1- "ان يتعهد موائد الكبراء والعظماء".
2- "يتبع ما يعرض لموسري التجار".
3- "ان يصادق قهارمة الدور ومدبريها ويرافق وكلاء المطابخ وحماليها"
4 – "ان يتعهد أسواق المتسوقين "
5- "ان ينصب الارصاد على منازل المغنيات والمغنين " وكذلك (الابليات أي النائحات والمخنثين ) "أي الذين يلطمون في المأتم ويرقصون احترفا في الافراح "
6- "ان يحرز الخوان اذا وضع والطعام اذا نقل "
7- "لا يفوته النصيب من كثير" الطعام أو "قليله "، غير منتظر أو متأخر.
فالتطفل سلوك يمكن أن تظهر بنوده المذكورة كطرائق عمن مهما بدا عليها من هزل، لكن كثرة المتطفلين وشيوع أسمائهم تعني وجود اتجدد قائم متعارف عليه، يتحرك حكائيا لاسناد الروي بصفته فعلا مليئا بالقرائن ازاء المعنيين من القائمين على المائدة والطعام والمشاركين والمدعوين والمتفرجين. ولم يكن ظهور الحكاية المعنية بالتطفل فعلا وسلوكا مصادفة في ضوء ما نعرف عن المجتمع. والتطفل هو تمديذ للسرد أيضا، فالمتطفل قد لا يدفع بالفعل الى أمام، لكنه يمنحا التشويق، كما انه قد يعيد الحدث بديلا للحكي في تركيبة الف ليلة وليلة.
ولربما يبدو الطعام في حالات عديدة مماطلة وتسرينا للأحداث وايقافا مؤقتا مقصودا يلجأ اليه الفاعل، والسارد أيضا، لتجميد التوالي : ففي الحكاية التي تؤخذ عن مصادر فارسية كما يبدو من الأصول تلجأ الزوجة الى الطعام تأجيلا أولأ لتطورات الموقف : فالملك يبعث بوزيره أو بخادمه الى أصقاع بعيدة ليزو، الزوجة الجميلة ويغرر بها أو يأمرها بالنزول عند رغباته : فكان الطعام وقراءة الكتب سبيلا للمماطلة كما تفعل شهرزاد. لكنها أكثرت من عدد الأثلاث فبلفت تسعينا بطعم واحد، حتى استفسر الملك عن سر ذلك : فكان لها أن حدثته أنها تختلف عن غيرها شكلا: لكنها شأن غيرها من النساء كهذا الطعام فلا داعي للولع بها والطمع باستغلالها. وهي تقدر بهذا السبيل على الحيلولة دون مراد الملك، ولكنها ربما تتعرض لبطشا في غير ذلك.
أي أن الأكلات التسعين بطعم واحد عملت قصا رمزيا يأتي بالنتيجة التي يبتغيها الفاعل (أي الزوجة ) ودخلت في مكونات الحكي أيضا تسويفا لتوالي الأحداث الموضوعة من قبل الفاعل المقابل أو الملك. لكن انهماك الناس في الف ليلة وليلة بالطبيخ والطعام ينبغي أن يؤخذ في أكثرهن اتجاه. فإذ تعتمد الحكايات التقابل والتوازي في المفاهيم والأنساق، فإن حكاية رغيفي الخبز اللذين يتحبسدان في شكل آخر لاحقا (الليلة 342، ص 927)، يراد بهما الترميز الى التقشف الذي تبشر به العجوز في الحكاية المختلفة (الليلة 435، ص 613)، فما دام القليل هنيئا بعيدا عن الحكام المتجبرين أو متقلبي المزاج، فإن الكثير الفني الدسم يبدو مرفوضا من الجانب الآخر. أما موقف الرواة فلربما لا يتجاوز موقف النشار شقيق المزين (ص 103) وهو يحضر مجلسا رفيعا يتصدره رجل يقف عند اموته الخدم والحشم، فيخص القادم بالاكرام كلاما وتمثيلا، فيأتي الطعام متلاحقا على صحون وهمية وأشكال وهمية هي الأخرى، بينما يسارع المضيف الى ادعاء الأكل طالبا مز ضيفه سلوكا مماثلا،فما كان من الضيف الفارق في وحل الواقع تماما إلا أن يتجرأ فيقوم بصفعه على رقبته.
فصاح الرجل (ما هذا يا أسفل العالمين ؟ فقال يا سيدي أنا عبدك الذي أنعمت عليه وادخلته منزلك واطعمته الزاد واسقيته
الخمر العتيق فسكر وعربد عليك ).
أي أن الليلة (32، ص 104) تعرض رمزا لموقف الرواة مما يرونه، فكل شي – لاتقن أيديهم عليه يعدونه وهما يستحق الخرق والسخرية والمشاكسة، لكن الحكاية المذكورة تعرض أيضا ساخرة لمجالس الترف التي تعددت وكثرت، وتسعي لهدمها بهذه السخرية. فصاحب الوليمة المزيفة أكرم ضيفه الصفيق لأنه لم يجامله أو يجاريه كما فعل الأخر ون وهم يتعرضون لتمثيل مشابه، فثمة مسايرات مزيفة وكاذبة في مجتمع تشتغل في داخله أنواع العادات الملفقة والمساعي المنافقة، كما0تشتفل فيه الألفة والمجاملة والمسايرة والمعرفة.
وهكذا تبدو ألف ليلة وليلة وقد أشتغلت في أكثر من نسق وعلى أكثر من وتيرة لتظهر متجددة دائما مستدرجة لمزيد من القراءات، ولمزيد من الأفكار والآراء والاستجابات فضاء مفتوحا لا ينتهي عنذ حد.
الهوامش :
1- ويورد ابن النديم محمد بن اسحقن الوراق في الفهرست (نسخة طهران 6971 تحقيق رضا_تجدد) أسماء كتب الطبيخ الذائعة في زمنه، ومن بينها: كتاب الطبيخ للحارث بن بسخنر.
" " لابراهيم بن المهدي
" " لابن مساويه
" " لأحمد بن الخصيب الانباري
" " لابراهيم بن العباس الصولي
" " لعلي بن يحيي المنجم
" " لجحظة البرمكي
كتاب السكباج له أيضا
كتاب الطبيخ للمرضى للرازي
كتاب الأشربة للأهوازيين الحسن والحسين ابني سعيد (ص 277، 278- 279).
وهناك أيضا.
السكباج وفضائلها لعبدالله بن أحمد بن أبي طاهر ودفع مضاع الأغذية للرازي أبي بكر (الفهرست 358).
ولكشاجم محمود بن الحسين بن السندي بن شاهك (م 360هـ) أدب النديم الذي أصبح مصدرا منذ أيامه يستعين به التوحيدي وغيره، بينما ظهر للسري الرفاه بن أحمد الكندي المحب والمحبوب والمشموم والمشروب (م 362) في أربعة أجزاء (دمشق مجمع اللغة العربية 1986).
2- رواية اسحق الموصلي، المختار من قطب السرور في أوصاف الأنبذة والخمرر، طبعة تونس (1976)، ص 213- 21.4.
3- وفي المصدر نفسه معلومات مفصلة عن الانشغال في اللذة وطلبها..
4- طبعة بول، ل 23، ص 117، ول 28، ص 127- 128.
5- ويفرد كنز الفوائد في تنويع.الموائد للأكلات عن حب الرمان عدة فقرات فهناك رمانية مخثرة من لحم وحب رمان وورد مربى بالسكر وزعفران (ص 215). وهناك رمانية دجاج (ص29) من دجاج يداس معه رمان حلو وحامض ( من غربال )، وهناك نقيع حب الرمان ( 167)، ونقيعه مع النعناع (ص 168). وكتاب الوراق. أبي محمد المفضل بن نصر بن سيار، مخطوط الطبيخ واصلاح الأغذية المأكولات (مكتبة بواليان 187 Hunt) يعد من
المصادر الأساس للأغذية العباسية. ثم استخدام النسخة المصورة لدى مكتبة الجامعة الأردنية.
6- البغدادي، محمد بن الحسن، تحقيق داود الحلبي (الموصل 1934)، عن طبعة دار الكتاب العربي 1964، ص 9.
7- الاشارات الى الوراق عن كتابه الطبيخ واصلاح الأغذية والمأكولات مخرطة بواليان 187 -Hunt
8- ابن عبد ربه، العقد الفريد ( بيروت، دار الكتب العلمية، 1983)، ج 8 وكذلك في الاشارة التالية، ط 19873، ج 8، ص 3_ 5، 7، 147.
9- الفخري في الأحكام السلطانية، ص 47.
10- الجهشياري، الوزراء والكتاب، ص 189.
11- من الوراق في كتابه الطبيخ حيث ذكر لابراهيم بن المهدي ثلاث عشرة ورقة ص192.
12- مروج الذهب، ج 4، ص362 – 369.
13- هذه وما بعدها، مروج الذهب، ج 4، ص 363. 368.
14- الأغاني. ج 68( طبعة البيئة المصرية 1993)، ص 361-362، وكذلك ابن طيفور، كتاب بغداد، ص 173.
15- لطائف اللطف لأبي منصور عبدالملك بن محمد الثعالبي (بيروت : دار المسيرة. 1987) ص 50.
16- الأغاني، ج 21( طبعة الهيئة المصرية لأ 199) ص 74_ 75.
17- أورده، د. مصطفى جواد، كتاب الفتوة لابن المعمار ابي المكارم (بغداد : مكتبة المثنى، 1998) ص 17- 20، مطبعة شفيق.
18- المصدر نفسه، ص 20.
19- كتاب الفتوة لابن المعمار، 21،
20- أبو حيان التوحيدي، البصائر والذخائر، ج 2، ص 143- 144.
21- كنز الفوائد، تحقيق ما نويلا مارين وديفيا واينن (بيروت 1993)،
22- ودجاج زيرباج كما يصفه كنز الفوائد في تنف ين الموائد أكلة من دجاج مسلوق بالماء، والملح والمصطك والدارصيني) ويعرق بالكزبرة والزعفران والشيرج الطري) ومربي اللوز والنعناع الاخضر ( ص 26)، وغيره في (صفة زيرباج ) مع السكر واللوز والمقشر والكافور القليل ليحشى به الدجاج (ص 30) وغيره أيضا (صفة الزير باج ) من دجاج وجلاب ولوز وسكر وخل وزبادي ( 34)، أو من اللحم والبصل والمصطكا، والدار صيني والخل واللوز… الخ (36-38).
23- المنتظم، 12، ص 338.
24- تزيين الأسواق في أخبار العشاق، داود الانطاعي، ص 704.
25- محسن مهدي، طبعة بول، الليلة 128، ص 312_ 314.
26- الموشى أو الظرف والظرفاء، ص 221- 222.
27- كنز الفوائد في تنويع الموائد. ص 27)
27- وفي الفهرست إشارة لعدد من كتب "العطر" للكندي ابراهيم بن العباس وآخر لحبيب العطار وللمفضل بن سلمة وغيرهم (ص 378).
28- الأغاني، ج 21( طبعة الهيئة المصرية 1993). ص 75.
29- ورد الخبر أيضا عند ابن طيفور، كتاب بغداد، ص 177- 178.
30- البصائر والذخائر، ج 3، ص 112.
31- المحب والمحبوب والمشموم والمشروب، ج 3، ص 129- 131.
32 – الموشى، أو الظرف والظرفاء، ص 206، 207، 208.
33- الاماء الشواعر، ص 160.
24- وقيل لابي مسعود الأعمى، الورقة لابي عبد اهذ بن داود الجراح، تحقيق
عبدالوهاب عزام وعبد الستار فراج (دار المعارف بمصر1953 ) ص 35.
محسن جاسم الموسوي (ناقد واستاذ جامعي من العراق ويقيم في تونس)