إعداد وتقديم: حمود الدغيشي
أكاديمي عُماني
تعيش الأممُ والشعوبُ عمليات مخاض فكرية في كل مرحلةٍ من مراحل التاريخ، بوصف تلك العمليات، ضرورة وجودية في مسيرتها الحضارية في الارتقاء بالنوع الإنساني، وتقدّمها في شتّى مجالات الحياة، ولا يمكن القول إنَّ ما أنتجه الإنسان القديم لا يمتّ بصلة إلى الإنسان الحديث الذي سيُصبحُ قديمًا يومًا ما؛ فالفِكرُ الإنساني مرّ بمراحلَ فكرية متعددة ومختلفة في أطوار نشأته وبحثه عن الحقيقة. وما الإنسانُ الحديثُ في حضارته الشمولية، بأدواته ووسائله التقنية المتسارعة، إلا امتدادٌ لتلك الثقافة التي كان يؤمن بها الإنسانُ القديم بأدواتها البسيطة ووسائلها المتواضعة، والتي كانت تمثِّل في مرحلتها تقدُّمًا حضاريًّا. لقد كانت السماءُ فوقه مُرَصَّعةً بالنجوم والكواكب، وكانت الطبيعةُ مِن حولِه تُحيطُه بالمياه، والحيوان، والطير، والنبات. ولم يكن الإنسانُ القديم ليقفَ عاجزًا عن تفسير ظواهر الكون، ومظاهر الطبيعة من حوله، بل سعى جاهدًا -في رحلة الحياة- إلى وقف النزيف الفكري تجاه حركة الكون واضطراب الطبيعة؛ من ظهور الشمس وغيابها، وسطوع القمر، واختفائه، وحركة النجوم والكواكب، ومن مظاهر البيئة حوله بمياهها وأشجارها، وحيواناتها، وقمم الجبال التي تطاول السماء، وما تحتضنه من طيور على قممها.. وولادة الحياة في بكاء مولود يخرج من رحم أُمِّه، ومصير الحياة وهو يشاهدها تتهاوى أمام عينَيْه حينَ المَوْت. تكدَّست في مخياله كثافةٌ من الصُّوَر دفعته دفعًا -تحت ضغط متلازمة الخوف والرجاء- إلى الرَّبط بين ما يعلوه في السماء من مشاهد يومية وما تموج به الطبيعة حوله من حركة مستمرة. دهشة الإنسان القديم من أحداث الكون من حوله جعلته يبتكر أسطورته ليُوقِف بها نزيفه الفكري، ويفسِّر بها متعالقات هذا الكون، اتّخذ آلهته السماوية، ومثّلها من بيئته، فأقام الصّلاة، ومارس الطقوس، وقدَّم القرابين، تضرَّعَ لها، وبكى من أجلها، وتوسَّل أن تمنحه بركتها، فارتبطت الأسطورةُ بالدِّين عند الإنسان القديم، فهي ليست مجرد حكاية مرتبطة بالخيال، بل هي واقع، وعقيدة تتمثل في شعائر معيشة يرتبط بها قصص مقدَّس، يقوم بعملية توضيح هذه الشعائر وربطها بالاعتقاد.1 فكانوا يفسرون بها ظواهر الكون، ومظاهره، ويعلّلون وينظّمون حياتهم وفق أفكارهم الأسطورية، بالرغم من أنّ الأسطورة لا نصيب لها من النجاح في منح الإنسانِ قوّةً ماديّة للسيطرة على البيئة، لكنها مع ذلك تمنحه وَهْمَ القدرة على فهم الكون وأنه فعلا يفهم الكون.1
وحيث يعيش الإنسان العربي القديم في جزيرة ممتدّة بفضاء صحراويٍّ مكشوف الغطاء، يرقبُ السماء، ويتأمّلها كلّ ليلةً لِيَعْبُرَ نجومَها وكواكبها، فقد أثَّرت هذه الحياة اليومية بالغ الأثر على تصوّراته الخاصة، وعلى حياته العقلية؛ إذ ربط الصُّوَر بعضها ببعض؛ فإذا نظر إلى بعض النجوم تصوّرها الراعي وكلبه، وتصوّر معها الظباء تقفز، والأسد يثب، فضلًا عن قصصه التصورية في نجوم الدّبران والعيّوق، وسُهيل والغميصاء..2 وقادَه تفكيره إلى أنَّ ثمَّةَ قوًى خفيّةً وراء هذا الكون الممتدّ تتميّز بصفاتٍ وقدراتٍ خارقة تفوق قدرته البشرية. كانت هذه المعرفة بمثابة كشفٍ خطير لإنسانٍ يعيشُ متلازمة الخوف والرجاء في محيطه المجهول. دفعت به هذه المتلازمة إلى الإيمان بهذه القوى الخارقة، وسعى إلى استرضائها واتّقاء خطرها. ولعلَّ أبرزَ هذه القوى التي أُحيطت بهالة من الغموض والخوف عند الإنسان العربي القديم، وخضع لها في جوانبَ كثيرة من حياته، وآمنَ بها أيّما إيمان هم الجِنّ. وقد ذكر القرآن الكريم ما كان يمارسه العرب من استعاذة بمعشر الجنّ إذا ما نزلوا مكانًا وخافوا فيه من الجنّ: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾ [الجن:6]. لقد قام هذا الصّنف من المخلوقات بدور كبير وخطير في الحياة العَقَديّة لدى الشعوب،3 وتكاد الميثولوجيا العالمية لا تخلو من هذا الاعتقاد الذي حافظ على بقائه منذ أن خشيَ الإنسانُ خوافي الطبيعة، ولِكُلِّ أُمَّةٍ جِنٌّ وشياطينُ تقوم بدور مهمّ في حياتها، لا يقلُّ أحيانًا كثيرة عن دور الآلهة.4 وقد ربط العربُ في الجاهلية بين الإبل الجِنّ، إذ لم تكنِ الإبل رفيقة دربِهم في السِّلم والحرب، وفي التجارة والنزهة فحسب، بل قامت بدور خطير في حياتهم الدينية في الأساطير والطقوس، وذُكِرَ أنَّه من مذاهبهم فيها اعتقادهم أنّ أعطان الإبل خُلِقت من أعنان الشياطين. وأنَّ الحوش من الإبل قد ضربت فيها فحول إبل الجنّ. والحوشيّة من نسل إبل الجنّ، والعِيديّة، والمَهْريّة، والعَسْجديّة، والعُمانيّة قد ضربت فيها الحوش كذلك، كما جاء عند الجاحظ.5 ويذكر الأعشى مكانًا موحشًا تسكنه الجِنّ، يقطعه بناقته السريعة، يقول:6
وبَلْدَةٍ مِثْل ظَهْرِ التُّرْسِ مُوحِشَةٍ
للجِنِّ باللَّيْلِ في حافاتِها زَجَلُ
وكان من طقوس العربِ في الجاهلية ممارسة التطيّر والزّجر والعيافة، وهي أن تعتبرَ بأسمائها ومساقطها ومَمَرِّها وأصواتها فتَتَسَعَّد، أو تَتَشأَّم،7 ولابن رشيق قولٌ في الفأل والطيرة، إذ يقول: وبين الفأل والطيرة فرقان عند أهل النظر والمعرفة بحقائق الأشياء؛ وذلك أنّ الفألَ تقويةٌ للعزيمة، وتحضيضٌ على البَعْثَة، وإطماعٌ في البُغْيَة. والطِّيرَةُ تكسر النِّيَّةَ، وتصدُّ عن الوجهة، وتثني العزيمة، وفي ذلك ما يعطِّل الإحالة على المقادير.8 وهذه الثنائيّة المتضادّة موغلةٌ في القِدَم منذ أنْ تعرَّفَ الإنسانُ على سِحْر اللغة، وحاول بها أنْ يُخضِعَ الطبيعةَ من حولِه، وهي لا زالت باقيةً ومستمرة عند الشعوب حتى يومِنا هذا، وقد تطوّرت أدواتُها ووسائلُها، لكنَّ الفكرة لا تموت.
ولم يكن هناك شيءٌ عند العرب في الجاهلية أشأمَ وأنكدَ من طائر الغُراب، وقد عَدَّ الجاحظُ الغُرابَ أكثرَ مِن جميعِ ما يُتَطيَّرُ به في باب الشؤم… فهُو المُقَدَّمُ في الشّؤْم.9 وقد وردَ عند الأعشى:10
ما تَعِيفُ اليَوْمَ فِي الطَّيْرِ الرَّوَحْ مِنْ غُرابِ البَيْنِ أَو تَيْسٍ بَرَحْ
وتَطَيَّروا بالصُّرَد، ومن أسمائه الأخيل (الشِّقراق).11 يقولون أَشأَمُ مِن أَخْيَل.12 وتطيّروا من البازي وأشياء كثيرة من جهة التسمية ويتيمَّن بها آخرون.13والبُومُ نذير شؤم عند العرب عامة. وغيرها من الحيوانات والطيور التي ما زالت تحافظ على مكانتها في باب التشاؤم والتفاؤل عند العرب حتى يومِنا هذا. ويمثّل طائر “البوم” في الثقافة الشعبية العُمانية علامة شؤم، ويُنْذِر نباح “الكلاب” ليلًا بمَوْتِ أحدهم، بينما ينظرون إلى العنكبوت الصغيرة في المنزل بالمحبّة والفرح؛ للمرجعيّة الدِّينية؛ حين سدّت بخيوطها فتحة الغار الذي احتمى فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من كفّار قريش.
وتُعَدُّ عُمانُ، بوصفها كيانًا ضاربًا بجذوره في عمق التاريخ، ومُتعالقًا في امتداده الحضاري الطويل مع مجموعة كيانات حضارية، بؤرةً ثقافيةً لكثير من الأساطير والخرافات والمعتقدات والحكايات الشعبية. وعلى الرّغم من الامتداد التاريخي الثقافي الطويل إلا أنَّ مساحة كبيرة من هذه الذاكرة الثقافية عفا عليها الزمن، واندثرت مع رحيل أجيال متعاقبة، وما تبقَّى في الذاكرة الإنسانية الحاضرة يَسِيرٌ مِن كثير، وقياسًا على قول عمرو بن العلاء، ما انتهى إلينا مما قالتْه الأجيال السابقة إلا أقلّه، ولو جاءنا وافرًا، لجاءنا تراث ثقافيّ غزير.
تتعدَّدُ بيئاتُ عُمان مِن بحرٍ وجبلٍ وسهلٍ وصحراءَ، وتختلف مصادر العيش فيها، وقد كان الإنسان العُماني يُدير نمط حياته ومعيشته، اعتمادًا على ما توفّره له بيئتُه من أدواتٍ ووسائلَ يطوّعها في سرد حكايته وصراعه مع الحياة، لكنّ هذه البيئات، وإن اختلفت في تضاريسها، إلا أنها قد تتشابه في بعض السمات الثقافية.
يسلِّط هذا الملف الثقافي الضوء على الحيوان والطّير من خلال أربعة أبحاث في التراث الثقافي العُماني غير المادي. تهدف إلى التعرّف على المعتقدات الشعبيّة لدى الإنسان العُماني، والحكايات والأساطير في بيئته، وتوضيح العلاقة بين البيئة الجغرافية والسكان، وتقوم برصد هذا المعتقدات وطقوسها التي يمارسها سكانُ محافظتي ظفار وشمال الباطنة، وقد اعتمدت الأبحاث في جمع مادّتها على الروايات الشفهية والمقابلات الشخصية.
حيث تحدَّثَ الباحث أحمد المعشني عن علاقة الإنسان الظفاري بالإبل، وارتباطها بجوانب الحياة في البيئة الظفارية، وتطرق في حديثه عن عجائبية هذا الحيوان، وارتباطه بالكائنات الماورائية؛ مثل الجِنّ، وسلالات الإبل التي عُرِفت بالكرامات والقوى الخارقة. في المقابل يتحدث الباحث محمد المهري عن المعتقد الشعبي في الحيوانات التي عرفها الإنسان الظفاري، سواءً أكان هذا الحيوان حقيقيًّا أم خرافيًّا، وما اقترن به في المعتقد من شؤم أو تفاؤل، أو خوف أو رجاء …
في الجانب الآخر، يكتب الباحث أحمد الشبلي عن حضور الطير لدى سكان البيئة الزراعية في منطقة الباطنة، حيث تعدَّد حضور الطير في هذه البيئة؛ منه ما ارتبط بالطعام، ومنه ما كان رمزًا للمحبوبة، وللأنوثة والجمال، فتغنَّوا به، وبالمقابل كان يُعتقد في بعض الطير نذير الشؤم، فيُفزعهم سماع صوته، ويُتوقّع منه مكروهًا قادما. أمَّا الباحث سعيد الفارسي فقد خصَّ بحثه عن الطيور البحرية في مجتمع الباطنة الساحلي، وعرَّف هذه الطيور بالطيور البحرية التي تعتمد في غذائها وتكاثرها على البيئة البحرية؛ مثل البلشون، والخطّاف، والنورس.. وقد تفاعل الإنسان البحري العُماني مع هذه الطيور، في كسب رزقه من البحر، حيث استدلَّ من تجمّع طيور النورس، على سبيل المثال، وتحليقها في مكان معين وسط البحر على توافر الأسماك في تلك البقعة؛ مما جعلها حاضرة في الأهازيج البحرية، والأمثال الشعبية، والحكايات الشعبية، والألعاب والألغاز.
الهوامش
انظر: الحجاجي، أحمد شمس الدين، الأسطورة والشعر العربي، المكونات الأولى، مجلة فصول، القاهرة 1984م. م4، ع2، ص42.
شتراوس، كلود ليفي، الأسطورة والمعنى، ترجمة، صبحي حديد، ط2، دار الحوار، سورية 1995م. ص27. وانظر: الأسد في الشعر الجاهلي، دراسة ميثولوجية، حمود الدغيشي، المجلة الأردنية في اللغة العربية وآدابها، جامعة مؤتة، الأردن 2016م. م12، ع2، ص ص 13 – 32 .
انظر: حسن، حسين الحاج، الأسطورة عند العرب في الجاهلية، ط1، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1988م.31.
انظر: الجن في الشعر الجاهلي، حمود الدغيشي، المجلة الأردنية في اللغة العربية وآدابها، جامعة مؤتة، المملكة الأردنية الهاشمية 2008م. م4، ع1، ص ص31–63 .
الحوت، محمود، في طريق الميثولوجيا عند العرب، ط3، دار النهار، بيروت 1983م. ص208.
انظر: الجاحظ، الحيوان، تحقيق، عبد السلام هارون، ط3، دار إحياء التراث، بيروت 1969م. ج1، 152 وج6، ص216.
الأعشى، ميمون بن قيس، ديوانه، تحقيق، محمد حسين، مكتبة الآداب، مصر. ص59.
الزبيدي، محمد مرتضى الحسيني، تاج العروس، تحقيق، مصطفى حجازي، مطبعة حكومة الكويت، الكويت 1987م. ج24، مادة: عَيَفَ.
ابن رشيق، أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني، تحقيق، عبد الواحد شعلان، ط1، مكتبة الخانجي، القاهرة 2000م. ج2، ص1030. والبَعْثَةُ: الإثارة والتّهيّج. الجمع: بَعَثَات .
الجاحظ، الحيوان، ج3، ص443.
ديوانه، ص237.
الزبيدي، تاج العروس، تحقيق، محمود محمد الطناحي، الكويت 1993م. ج28، مادة: خَيَلَ.
ابن رشيق، ج2، ص 1037.