محمد أركون صاحب واحد من اهم المشاريع الفكرية والمعرفية التي فتحت آفاقا واسعة للفكر العربي الاسلامي عبر تطبيقاتها لمنجزات العلوم الانسانية الحديثة على دراسة الاسلام وسعيها الى ترسيخ المنهجية التاريخية الحديثة في الفكر الاسلامي والتي تتخذ مكانة محورية في مشروعه العام "نقد العقل الاسلامي" حيث يرى انها السبيل الوحيد لتحقيق الفهم العلمي بالواقع التاريخي للمجتمعات الاسلامية وبالتالي اسقاط كل الاوهام الكبرى للذات عن نفسها والغاء كافة التعصبات المذهبية والعرقية بوضعها على محك الفهم العلمي الذي يسبر حقيقة واقعها التاريخي والظروف السياسية التي صاحبت تشكلها.
المفكر محمد أركون شارك مؤخرا في التظاهرة الثقافية الكبيرة التي نظمتها بلدية سقط ضمن احتفالات مهرجان سقط 2000 وذلك ضمن نخبة من أبرز المفكرين والأدباء والنقاد والشعراء العرب حيث قدم محاضرة هامة بعنوان "اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي" جاءت ضمن سياق مشروعه الفكري الكبير. التقيناه وكان لنا معه هذا الحوار:
يهدف محمد أر كون إلى بناء "إسلاميات تطبيقية" وهى عبارة مستمدة من كتاب روجيه باستيد "الأنثرومولوجيا التطبيقية" ومن هنا فإن هذه المنهجية التي تحاول تطبيقها على القرآن الكريم كانت قد طبقت على النصوص المسيحية وتتلخص في اخضاع النص الديني لمحك النقد التاريخي المقارن، والتحليل الألسني التفكيكي وللتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى وتوسعاته وتحولاته وانهدامه. سؤالي هو عن الاضافات التي ادخلتها والخصويات التي راعيتها في هذا المنهج باعتبارك باحثا مسلما؟
أركون: هذا مشروع بحث طرحته حتى يهتم به ويشارك فيه الباحثين العرب، والطلبة الذين يتخصصون في الدراسات الإسلامية،والمشروع متصل ببرنامج للبحوث عن النص الديني بصفة عامة، وليس النص الديني الخاص بالمسلمين فقط، لأن هذا المشروع مبني على التعرف على الظاهرة الدينية بصفة عامة، حتى تحل الظاهرة الاسلامية الدينية في أفق أوسع من الأفق الأسلامي الذي أعتني به دائما وبالتالي نكتفي بالنظر إلى تاريخ الإسلام كدين وتاريخ الإسلام كإطار فكري دون أن نراعى ما حدث ويحدث في الأديان الأخرى، وخاصة الأديان المتصلة من أصولها بالدين الإسلامي أعني اليهودية والمسيحية، لأن القرآن يذكر هذه الأديان ويحاور بني
اسرائيل كما يحاور بني إسرائيل على أساس ما يسميه "أهل الكتاب"، أي الشعوب التي تعرفت على ظاهرة الكتاب قبل القرآن، وهذا يفتح لنا بابا أوسع لتاريخ الأديان إذا انطلقنا من هذا المنطلق القرآني الذي يطرح قضية تاريخ ما يسمى في علم الكلام بـ "تاريخ النجاة،. النجاة تعني: كيف نعيش حياتنا كمؤمنين متلقين كلام الله تعالى حتى نطبقه في حياتنا، وحتى نكون في الجنة لا في جهنم بعد موتنا وانتقالنا إلى الحياة الآخرة، هذا ما يسمى بتاريخ النجاة.
لأن فكرة النجاة لها تاريخ غير موحى به في القرآن، فقط كانت موجودة في التوراة مع موسى ومع الأنبياء الآخرين الذين ذكرهم القرآن، ويجب أن نهتم بهذا. التاريخ الروحاني، الذي يختلف عن التاريخ السياسي والثقافي..الخ. فهنالك تاريخ روحاني يتعلق بوجود أو وجوب كلام الله على البشر، وحسب النظرة التاريخية، لهذا يمكننا أن ندرس هذا التاريخ، وتطور هذا التاريخ، والعبر التي يستنتجها القرآن من القصص التي يسردها عن ماضي الشعوب التي أرسلت لها رسل، ونزل عليها كلام الله، وهذا موضوع مهم ولكن يكون أهم إذا درسناه بهذا المستوى المتفتح، كما فتحه القرآن نفسه، إلا أن المفسرين والفقهاء والمتكلمين عدلوا عن هذه الآفاق الواسعة التي فتحها القرآن لنا، وإذا قرأنا القرآن بأساليب تاريخ الأديان، الذي لم نمارسه بعد، فستنفتح لنا آفاق واسعة، لكن تاريخ الأديان غير موجود لدينا. إن ما كتبه الشهرستاني عن الملل والنحل، وما كتبه ابن حزم عن الملل والنحل، تخلينا وأعرضنا عنه كذلك تجد أننا نركز كثيرا على ما ورد في تاريخ الاسلام أكثر مما نركز على ما ورد في القرآن نفسه إن هناك فرقا بين القرآن الذي هو كلام الله ونزل إلى جميع الأنام وما قام به الفقهاء المسلمون من جهد لإنتاج كتبهم التي نقرأها الآن ونستخرج منها صورا للإسلام وتفهما له، وهو بطبيعة الحال فهم متغير بتغير الظروف التاريخية والظروف الثقافية في المجتمع وخاضع أيضا للقوة السياسية العاملة في المجتمع وبالتالي يجب أن نتفهم هذا المستوى القرآني الذي هو كلام الله والذي يفتح لنا آفاقا للتدبر والتفكر والتفقه والتعقل " أفلا تتدبرون" "أفلا تعقلون" كم مرة يكرر القرآن هذا ولكن هذا النوع من التفكير المتوسع نسي، همش، وضيق حتى أصبح أقل كثير مما هو في القرآن حتى أننا أصبحنا لا ندرس حتى علم الكلام الذي كان يدرس ويتناظر فيه هذه هي الإتجاهات التي حاولت أن نتبناها كباحثين ومعلمين وأساتذه حتى يشارك فيها وفي البحث عنها وفي تنشيط الفكر فيها جميع المسلمين وحتى يشارك جميع المسلمين يجب طبعا أن ندرس بشكل أكبر العلوم الاجتماعية التي تزودنا بالآلات الفكرية وبالمناهج البحثية وتزودنا بالإشكاليات الجديدة والتي لا تزال تتغير تغيرا نحو الأفضل وبشكل فيه دقة أكبر وبالتالي ستفيد من هذا كله في قراءة من أجل أن نثري الخطاب القرآني لا أن نبتعد عنه كما يتخيل الكثيرون من الذين يقرأون كتاباتي حول هذا الموضوع لأنهم لا يريدون أن يفرضوا على أنفسهم الاجتهاد اللازم لاكتساب هذه العلوم التي تكلف جهودا وقرارات وبحوثا ويكتفون بتكرار ما تلقيناه لا عن الخطاب القرآني وإنما عن تاريخ الإسلام، ألح علي هذا لأني أميز دائما بين الظاهرة القرآنية والظاهرة الإسلامية كظاهرة تاريخية.
إذن أنت ترى بأن هنالك الكثير من بجوانب التعاليم الإسلامية أغسلها الخطاب الإسلاميه السائد الآن؟
أركون: نعم طبعا، هنالك مذاهب متعددة ظهرت في الإسلام أثناء تاريخ الدولة الأموية والدولة العباسية وهناك حرية منحت في أوائل الإسلام وتحديدا في القرون الأربعة الأولى من الهجرة حيث كان المسلمون يتمتعون بحظ لا بأس به من حرية التفكير ومن حرية المناظرة وبفضل هذا تعددت المواقف الفكرية والمناسب وبذلك تكونت مذاهب عديدة في علم الكلام وفي الفقة وفي التفسير النحوي اللغوي وهناك من تبنى التفسير الصوفي أو التفسير الفقهي أو التفسير العلمي الفلسفي.
هناك اتجاهات كما ترى لأن القرآن مفعم بمعان لا يمكن أن تحدد في إتجاه واحد فقط لا يمكن أبدأ يجب أن نحيط بجميع جوانب المعنى في القرآن ثم إن هذه المذاهب تطورت في ظروف سياسية والسياسة دائما تلعب دورها في توجيه البحث عن الأمور الدينية لان الدولة تهتم دائما بالأديان حتى تستمد منها مشروعيتها كسلطات. وهي حالة عامة تنطبق على جميع الدول التي ظهرت في التاريخ الإنساني، لكن ما يجب أن ننتبه اليه هو أن هذا الاستعمال السياسي للجانب الديني ينتج مشاكل عديدة وهذه المشاكل يجب أن نأخذها بعين الاعتبار وأن نخضعها للدراسة باعتبارها مشكلات فمثلا ندرس كيف تطورت هذه المذاهب وتحت أي سيطرة إلى أن أصبحت متطرفة ومنفصلة عن بعضها البعض وجاهلة لبعضها البعض فمثلا: نحن في المغرب العربي لا نعرف إلا مذهبا واحدا فكلنا ننتمي إلى المذهب المالكي وكأن المذاهب الأخرى غير موجودة في الإسلام، فالآن لا يمكننا أن نشير إلى تعددية إسلامية أو حتى تعددية ثقافية، إذا كان لدينا مذهب واحد إذن من نناقش، من نناظر، أين هم الشيعة أين هم الاسماعيليون, أين هي الزيدية، أين الجعفرية، أين هم الشافعيون تجدهم في أندونيسيا، والحنابلة تجدهم في المملكة العربية السعودية والأباضية تكاد أن تكون قد محيت من التاريخ فهي قد بقيت هنا في سلطنة عمان وأقلية في الجزائر ويجربا في تونس وفي جبل نفوسه بينما التيار الأباضي كان قويا وساهم مساهمة عظيمة مثرية للإسلام وللفكر. الإسلامي وإنما تقلص هذا المذهب لأسباب سياسية، وأنا أدعو إلى تقدير جميع من ساهم في الفكر الإسلامي التعددية مثرية للفكر الإسلامي وهي بطبيعة الحال لا تنقص منه شيئا، وكثير من الناس يخافون من النزاعات بين المذاهب مادمنا جاهلين بقواعد المناظرة وبقواعد البحث أما إذا طبقنا قواعد البحث العلمي وقواعد المناظرة فستصبح هذه التعددية بركة، بركة عظيمة مستفيد منها فائدة كبيرة لأننا سنتعلم منها التسامح وسنكتسب روح التسامح بين المواقف الفكرية المختلفة فالتعددية لها دور كبير في تربية الإنسان على التسامح والمناظرة وتقبل وتبادل الآراء المختلفة والمعارضة هذا هوا لهدف المقصود.
أنا أقول مثلا إن المذهب الأباضي بسب سياسي أصبح مهمشا وأنا لا أرضى بهذا التهميش لأن الأباضية ساهمت وتساهم والتاريخ يشهد على ذلك والاسماعيلية كذلك فالإساعيليون موجودون ولهم إمامهم وهو كريم أغاخان وهي جماعة من المسلمين يقومون بأعمال مفيدة جدا فكريم
أغاخان أمس مثلا جائزة الأغاخان للعمارة الإسلامية وهي معروفة في جميع العالم ونافعة للإسلام ككل وليس الإسماعيليين فقط وأنشنا كذلك أو هو في طريق إنشاء جامعة للدراسات الإسلامية للمسلمين بلندن، اليس هذا خيرا وفائدة، إذن عندما أدعو إلى استرجاع التعددية المذهبية وأعني بها التعددية الفكرية التي تفتح أذهان الناس للأفكار التي يأتي بها أصحاب اللغات والثقافات والتقاليد المختلفة، فإن ذلك سيحقق فائدة عظيمة لنا جميعا أنا أود أن أتعرف مثلا على اللغة الصينية وعلى الثقافة الصينية الغزيرة والعظيمة , وعلى الثقافة الهندية الغنية والمثرية، كان المسلمون الأوائل يهتمون بها وبدراستها، فمفكر عظيم مثل البيروني نكاد أن نقول عنه اليوم أنه كان "إنثروبولوجيا" لأنه وصف الهنود بثقافتهم ولغاتهم وعقائدهم دون أن يتعصب للإسلام. ونحن نتخوف من المذاهب وتعدد المذاهب هذا تقهقر فكري وثقافي، وهو مثال مهم يجب أن يدرس جيدا، كذلك الأدب الجغرافي في الفكر الإسلامي القديم لعب دورا هاما لانه ليس بجغرافي فقط، بل كان "إثنوغرافي" "أنثروبولوجي" يهتم بثقافة الناس، ويستفيد من تلك الثقافة المختلفة ويكتب عنها باللغة العربية، وبالتالي يثري اللغة والفكر العربي بجميع ما يوجد في الثقافات الآخري، كل ثقافة انسانية لها ثروتها، القدماء فهموا هذا، ونحن أصبحنا نبعد هذه الفكرة، ونقول أعوذ بالله منها، هذا تقهقر وهذا ما أوصلنا إلى ما أسميه، "اللامفكرفيه" هذه هي الإشكالية الدقيقة التي يجب أن تقدم وتقرب من أذهان الناس عامة وليس أذهان النخبة، لأن هنالك نخبة جاهلة وتنطق بالجهل وسمعت في هذا كلام ينم عن جهل قاله أناس يعدون من النخبة، والعوالم أحيانا قد ينطقون بأشياء أكثر وجاهة مما يقوله بعض المثقفين.
ومن هنا دعوتك دكتور أركون الى التفكير في اللامفكر فيه والى دراسة كل مايتم إغفاله وتغييبه لأسباب سياسة. لماذا تلح على النفثووبولوحيا كعلم لدراسة وتحيل الفكر الإسلامي؟
محمد أركون: نعم ألح على "الأنثروبولوجيا" لأنه هو العلم الوحيد الذي يعطينا المفاتيح اللازمة والمناسبة لاكتشاف الثقافات الأخرى والمذاهب المختلفة والاهتمام بها، حتى لا ننظر إلى تلك الثقافات والمذاهب نظرة متعالية ومليئة بالازدراء، و "الانثروبولوجيا " مع الأسف لا تزال مجهولة كعلم ومادمنا لا نفتح أبوابا الأنثروبولوجيا سيبقى تفكيرنا ضيقا وسيصاحبه دائما ما لا يمكن التفكير فيه لأننا نعرض عن ميادين عديدة من التفكير ونفضل أن نجهلها ونعزلها وننقطع عنها على الإهتمام بها والاستفادة منها، ولنفيد أيضا، لأن الثروة الثقافية بهذا ستكون أكبر في الفكر الإسلامي وبالتالي سيجذب الناس ويثير اهتماماتهم لأنه يتبنى هذا الموقف الفكري المتفتح الذي يخرجنا من التعصب السياسي والتعصب الجنسي والعنصري.
على عكس النظرة السطحية التي في الدراسة العلمية " للامفكرفيه " إشارة للمشاكل والحساسيات السياسية والمذهبية؟
أركون: الدراسة العلمية بالتأكيد تخلق جو الهدوء، وجو الاعتراف بألآخر واحترامه، لا جو مصادمة الآخر واحتقاره وإبعاده عني , كأني أنا ملك من الملائكة خلقت لأعيش مع الله، وليرفعني الله إليه، والآخرون هم الشياطين, لا.. هذا كلام حرب ولا يؤدي إلا إلى الحرب وتجهيل الناس وهذا يؤدي لامحالة إلى حروب مدنية كالحروب التي نشاهدها في الكثير من
البلدان الإسلامية وغير الإسلامية. هذا هو المقصود الحقيقي من هذا المشروع الذي أدعو إليه كمشروع فكري وثقافي ينبثق من داخل الفكر الإسلامي نفسه ولذلك أحيل دائما إلى نصوصي القديمة, ولكن هذه النصوص القديمة يجب أن نقرأها بوسائل حديثة، إذا قرأناها كما هي
واكتفينا بتكرار ما تقوله في سطح المعنى وسطح الخطاب, فلن نتمكن من أن نتحرر من سيطرة النص الذي يلغي التاريخ. فالنص يلغي التاريخ ويبعدنا عن الواقع التاريخي إذا تشبثنا بالنصوص دون أن نربط وظائفها بالضرورات التاريخية والواقع التاريخي، فبالتالي يجب أن نربط النصوص القديمة بالواقع التاريخي المعاصر، وهذه نقطة أخرى ألح عليها دائما فمثلا عندما أقول إنه يجب علينا أن نحيي التفكير الفلسفي لا يعني هذا أننا سنقرأ كتب ابن رشد في معناها كما كتبها في سياقه التاريخي والثقافي لأن السياق التاريخي والثقافي لابن رشد هو سياق قروسطاوي في التفكير ألغته الحداثة وأصبح ملغيا تماما، إذا كنت قد قمت بحفظ جميع ما كتبه ابن رشد عن ظهر قلب، وأخذت أكرر القرآن دون أن أربط هذا التفكير الرشدي بسياقه القرسطاوي فسأكتشف الهوة العميقة والمسافة البعيدة بينه وبين التفكير الراهن بالواقع التاريخي المعاش أمر في غاية الأهمية وإن أغفلت هذا العمل فسأكون ميتا فكريا، ورجوعي إلى التراث سيقتلني ولن يزيدني إلا موتا، إذا لم أنتبه إلى هذه العملية المنهاجية المعرفية أو الإبستمولوجية ولذلك يجب أن نؤرخ للفلسفة تأريخا ابستمولوجيا وليس تأريخا اللأفكار المجردة عن التاريخ والواقع كما نفعل اليوم، إذ أننا نكرر ألفاظا، كما نكرر الحديث النبوي أو القرآن الكريم, دون أن نربط بين تلك النصوص وسياقاتها التاريخية عندما نطق بها لأول مرة في بيئتها، ولا نربط كذلك بينها وبين التاريخ الحديث هذه النقطة من الأهمية بمكان. فمثلا أنا عندي كتاب بعنوان "معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية" لا أقول في الإسلام على مفهوم السياق، وأظهر السياق التاريخي والإجتماعي والثقافي زمن أبو حيان التوحيدي، الذي كان من أكبر المناضلين من أجل الأنسنة, أتبنى موقفه كرجل مفكر أدرك معنى وأبعاد الأسنة في زمنه، ولكن لا يمكنني اليوم أن أستعمل نفس المعجم ونفس المفاهيم التي استعملها التوحيدي, أو أن أتبنى معجمه أو أطر تفكيره، وهذا لا ينقص من قيمة التوحيدي كمفكر، وانما يشير إلى حدود الواقع الذي كان الفكر البشري أو العقل البشري متقيدا به، كما أن فكري اليوم متقيد بالواقع التاريخي، وبعد خمسين سنه أو أقل سيقولون محمد أركون كان يفكر في أواخر القرن العشرين، وكان متقيدا بحدود العلم في القرن العشرون، ولكن كانت له نظرة بعيدة تهمنا اليوم، وهكذا هو الموقف الفكري الحي، الذي لا يكتفي بتكرار النصوص دون فهمها، ودون ربطها بالواقع، فمثلا لو ربطنا الفكر الكلاسيكي الإسلامي بسياقه في القرون الوسطى وبالسرقات المعاصرة لما كان وضع المرآة في مجتمعاتنا كما هو عليه الآن، لكان قطعا وضع المرأة تحسن وتطور، وهذه قضية مهمة جدا.
الحالة المفكرية المنفتحة كانت سمة الثقافة العربية الإسلامية أيام ازدهارها وقوتها كما ذكرت حيث كانت هذه الثقافة منفتحة على الآخر ثقافيا ومعرفيا, وتتحدث عن الشعوب الأخرى باحترام كيبر, وأيضا تستقي منها مختلف المعارف الفكرية دون تخوف أو انغلاق أو تعصب كما نشهد الآن في الواقع العربي المعاصر 0فهناك نوع من التعصب والانقلاب والخوف أيضا من ألآخر وعدم إحترامه " أقصد الخوف المعرفي منه؟
هذه المظاهرة كلها طرأت على- مجمعتنا منذ الخمسينات والستينيات الأخيرة، هي لم تكن موجودة من قبل, كانت لدينا ثقافات شعبية قوية وثرية، ولديها أخلاق عظيمة, وتسير المجتمع بطريقة صالحا، وهذه الأخلاق, الثقافات الشعبية كسرت في الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة وأصبحت الثقافة الشعبية ثقافة شعوبية أي تغلبت عليها التصورات الخيالية أو ما كنا نسميه المعرض ومعني مجموعة من الأخلاق التي يجب أن يكتسبها كل عضو من أعضاء "العائلة أو العشيرة أو القبيلة, والشعر العربي القديم مبني على المثالب والمحاسن وهو يكرر دائما أن هنالك محاسن لابد لكل عضو من أعضاء العائلة أن يحترمها حتى تستقيم الحياة في المجتمع، هذا كله اندثر, كسر، نسى, ولم نجد البديل، وأصبحنا نكرر شعر القدماء الذي يذكرنا بذلك، ولكن لا
سبيل لتطبيقه وهذا ما يسمى الشعبوية، لقد حرم الناس من ثقافتهم لأنها همشت ولم تدرس، وإذا درست فلا يعنى بإبراز القوة التي طردتها إلى الهامش, هذا أيضا مهم, وأضف إلى ذلك الضغط الديموغرافي في مجتمعاتنا، كنا مجتمعات غير فائضة بالعداد السكانية، ولكن في الستينات والسبعينات والثمانينات تضاعف عدد السكان في جميع البلدان الاسلامية إلى ثلاثة أضعاف أو أكثر أي في خلال ثلاثين عاما فقط هذه الظاهرة الديموغرافية أثرت سلبيا علي المجتمعات العربية لأن الحكومات لم توفق إلى تدبير شؤون هذه الأجيال الطالعة مما أستتبع حالة من الجهل والتعصب والعنف الإجتماعي والسياسي.
ذكرت أكثر من مرة أنه حين انخرط أبناء جيلك في العمل السياسي إبان حرب التحريراتخذت أنت الاتجاه والمسار الأكاديمي العمرفي كطريقة للتغير العميق في الوعي العربي والإسلامي الآن بعد مضي ثلاثة عقود كيف ترى مشروعك الفكري وما الذي استعلمت احداثه تغيير على هذا الصعيد؟
أركون: أرى أن هنالك استجابة إيجابية وخاصة من فئة الشباب. لأن الشباب يدركون من خلال تجربتهم اليومية أن ما أقوله يعبر عن الحقيقة التي يلامسونها في حياتهم، وأن في حلولا وأجوبة صالحة ليغيروا هذا الواقع، ولكن الأطر العامة التي تكيف الاتجاه الايديولوجي العام في المجتمعات العربية والاسلامية لا تسمح لهؤلاء الشباب أن يتبنوا هذه الأفكار يجعلوا لها قاعدة اجتماعية وفكرية واسعة حتى نستطيع أن نواجه أو نعيد بها التوزان إلى التيار الايديولوجي الذي يعتمد على جهل مؤسس. كما أسميه. وهذا التيار الايديولوجي للأسف أقوى من التيار الفكري، الذي يدعو إلى التسلح بآلات فكرية وثقافية حتى نغير الواقع بطريقة عقلانية، ثقافية, علمية، تربوية، والصراع بين القوتين طبعا يزداد تفاوتا واختلالا مع الأسف.
الفيلسوف الآن كما نشاهد في أوروبا أصبح يوظف علم الاجتماع وعلم النفس والألسنيات والأنثوبولوجيا وعلم الأديان المقارن والتاريخ ولم يعد يعيش في برج عاجى كما كان في السابق كيف ترى حجم الفجوة المعرفية التي تفصل الفكر العربي عن هذه العلوم؟
أركون: الفجوة كبيرة كما قلت نتيجة للأسباب التي ذكرتها، وهي لا تزال تزداد مع الأسف، لأن الموجات " الديموغرافية " " لا تزال كبيرة، والسياسة الاقتصادية والوسائل الثقافية الموجودة لدينا لا تكفي من الأسف لتحمل جميع المسؤوليات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي تفرضها تلك الموجات ,الديموغرافية، على مجتمعاتنا. ونحن أيضا نعيش عالميا تسيره قوة كبيرة نسميها "العولمة" وهذه العولمة إنما مواصلة للوظائف التاريخية التي قامت بها الحداثة , أو هي بمعنى آخر التوسع فيما أتت به الحداثة وامتداد لها، لأن الحداثة مازالت وتستمر قائمة كمشروع فكري وعلمي لتحسين الأوضاع البشرية، فقط غيرنا اسمها، ولكن الاتجاه العام لا يزال اتجاها نحو حداثة أعم وأكثر صلاحية ليستفيد منها كافة الناس الذين يعيشون على سطح الارض، ولأننا لم نقم بالعمل الكافي من أجل الحداثة في حينه في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، فلذلك لا يمكننا أن نلاحق الزمن الذي فاتنا، وفي نفس الوقت لا نستطيع أن نلاحق سرعة التاريخ في هذه المرحلة التي نسميها مرحلة العولمة لان الصعوبات تراكمت على طول الزمن، ولا يمكننا الآن أن ننهض بجميع المسؤوليات التي لم ننهض بها في وقتها، عندما كانت الفرص متاحة، وأكثر يسرا مما هو عليه الحال الآن، فمثلا في أوائل هذا القرن لم تكن المشكلة "الديموغرافية" بهذا الحجم الكبير، وكان يمكن أن نسير مجتمعاتنا بطريقة أكثر تفتحا لمكاسب الحداثة ولكننا لم نفعل وذلك نحن الآن أمام جبال ثقيلة عالية من الصعوبات المتراكمة ولا نعرف من أين نبدأ.
على ذكر موضوع الحداثة والعولمة، العالم الآن يتغير بسرعة كبيرة ووسائل التغيير أصبحت متعددة ومؤثرة بشكل لم يكن له مثيل في السابق فالإعلام ووسائل الإتصالات تلعب دورا مذهلا في تغيير الوعي بالواقع وبسرعة كبيرة، فبالتالي إذا كان دور المثقف والفكر له مركزية كبيرة قديما فالآن يكاد يتلاشي هذا الدور وهذه المركزية وأصبحت الوسائل الأخرى تلعب دورا كبيرا في التغيير وربما دورا وحشيا؟
أركون: تلعب دورا أكبر نعم، ولذلك أصبح وضعنا أصعب، "لأن اللامفكر فيه" اتسع وثقل أكثر بكثير مما كان عليه الحال قبل خمسين سنة مثلا وحتى بالنسبة لأوروبا نجد أن أهل الريف والفلاحين الذين كانت لهم ثقافة تقليدية حية في السابق كان لهم دور كبير في السياسة والثقافة أما الآن أصبح أهل الريف أقلية، وحتى هذه الأقلية تعيش على نفس المستوى من البيئة التحديثية الموجودة في المدن ويتوافر لديها جميع أبعاد ووسائل الحياة التكنولوجية أي أنها تعيش نفس الحياة التي نجدها في المدن الكبيرة. وبالنسبة لنا كنا قبل خمسين سنة نعيش حياة أهل الريف, ثقافة زراعية، مدنية زراعية فلاحية، أما الآن فهذا كله تغير وأصبح كل الناس تحت ضغط وسائل الإعلام الحديثة، وتحت ضغط المعرفة الاعلامية المطبقة على الجميع، حتى أولئك الذين يعيشون في الجبال والقرى، فبذلك تغير الوضع البشري ونحن الى الآن مازلنا نعيش في تناقضات، لأننا نتبنى الحداثة المادية ولا نتبنى في نفس الوقت الحداثة الفكرية والفجوة لاتزال تتعمق بين الحداثتين.
وعلى صعيد الحداثة الفكرية نلاحظ ايضا انه لم يقدم احد من المفكرين العرب مفهوما معرفية جديدا يخترق به نسيج الفكر العالمي هنالك استهلالك للمناهج الغربية ولم يقدم أي منهم مفهوما جديدا يثري الفكر العالمي؟
أركون: هناك استهلاك وهنالك محاولات لا بأس بها ولكن هذه المحاولات لا تتبناها أطر اجتماعية واسعة حتى تعطيها حياة وحيوية ونفوذا في المجتمع، فأنت تكتب كتابا فيه آراء صالحة منتجة يقرأه بعض الناس، ولكن ليس هنالك تيار يتبنى تلك الأفكار, ويعطيها قاعدة اجتماعية ويكتب عنها في الصحافة وينشر الجدال والمناقشة والمناظرة حولها حتى تعم ويستفيد منها أكبر عدد ممكن من المواطنين، وعلى العكس من ذلك تجد أن هنالك بين المثقفين حسدا وغيرة، فالمفكر والباحث يحسد أخاه حتى لا يشتهر اسمه أكثر عنه وهذه ظاهرة ملموسة عندنا، ودائما نلاحظ في حديثنا أن هذه الكارثة موجودة عندنا كعرب، بينما اليهود نجد أنهم متماسكون متضامنون، وإذا كتب أحدهم كتابا نجد أن جميعهم يؤيدونه ولا يقولون هذا كافر بالله يجب أن نبعده من الأمة ونخرجه منها وهذه ظاهرة موجودة لدينا وأنا ضدها مع أني لا أزال أدعو إلى ما أدعو إليه وأكافح كما كنت أكافح من قبل، لكنني تألمت، كم من الناس يكتبون في الصحف.. وأبدا ما رددت على أحد، لأنهم يكتب على أساس جهلهم فلماذا أناقش الجهل، أسكت واصبر.
ربما هذه هي أزمة التنوير العربي فالكثير من المفكرين العرب قدموا أفكارا حيوية كان بإمكانها لو وجدت القاعدة الشعبية التي تتبناها أن تنهض بالمجتمعات العربية وتنقلها نقلات كبيرة وسعة ولكنها لم تستطع أن تخلف تيارا مجتمعيا يدافع عنها، ولم يكن هنالك أبدا نقاش واسع لهذه الأفكار؟
أركون: لا يوجد نقاش، وأنا أفضل أن أقول لا توجد مناظرة، لأن الأفكار تطرح للمناظرة على مستوى فكري سليم ومحترم حتى يستفيد منها جميع الناس، وهي طريقة لتثقيف الناس، أما النميمة والحسد والرفض و الرفض و التفكير فلا تؤدي إلا إلى الخراب، والتعامل بذهنية التكفير والتحريم إذا سلطت على العمل الفكري فلنقل يرحمنا الله جميعا وهذا مع الأسف يحدث في جميع البلدان العربية والإسلامية التي زرتها، حيث وجدت هذه الظاهرة مع الأسف، وأنا لم أشارك أبدأ في أي جدال من هذا النوع وأرفض دائما أن أتورط في مثل هذه المناقشات العقيمة المبنية على الحسد والنميمة.
وبما تراجعت حالة النقاش أو المناظرات الفكرية الآن عما كانت عليه في الستينات.
أركون: نعم ولكن في الستينات كانت الأيدلوجيا قوية ومسيطرة وخاصة الأيديولوجيا الشيوعية، وهي أيديولوجيا غير سليمة من حيث الفكر وحرية التفكير فهي تتبنى الاتجاه الشيوعي وتقمع الاتجاهات الأخرى، وأنا لم أشارك في هذا الاتجاه ابدأ رفضته من البداية، لأني كنت من البداية متثبتا بالنصوص الإسلامية القديمة، واستلهمت تلك النصوص لأقرأها قراءة تحديثية هذا هو المنهاج الذي اتبعته من البداية وأتبعته حتى الآن، ولذلك لم أشارك أبدا ولم أكتب سطرا واحدا مؤيدا للفكر الشيوعي او اشتراكي كما اشتهر في العالم العربي في عهد عبد الناصر أو الاشتراكية العربية في الجزائر في زمن بومدين, رفضتها فكريا لأسباب فلسفية ومنهاجية ومعرفية إبستمولوجية لا لأسباب سياسية، فأنا لم أمس السياسة مسا مباشرا، وإذا كانت هنالك أشياء، سياسية معي فهي تأتي كنتيجة لموقف فكري، لأني أؤمن بأنه إذا غيرنا الإطار الفكري تتغير لا محالة النظرة السياسية الخاصة بكيفية تدبير أمور الناس في المجتمع هذا هو موقفي منذ السياسة منذ البداية ولا يزال هو موقفي وسيظل موقفي لأني لا أرى مخرجا آخر للمثقف ولمن يريد أن ينعش التفكير الحيوي والواقعي في المجتمع الذي ينتمي اليه.
كيف انفتح لك أفق هذا المشروع الفكري في فترة الستينات التي كانت تعج بالأيديولوجيات؟كيف تكشف أمامك منذ تلك الفترة المبكرة؟
أركون: كان هنالك أمل كبير أن تفتح أبواب واسعة لهذا المشروع في الستينات ولكن سرعان ما وجدت أمامي جدارية كما يقول محمود درويش، نعم الجدارية التي تكلم عنها محمود درويش في أسلوبه الشعري العظيم المطرب والمؤلم في نفس الوقت – كما سمعنا البارحة في المحاضرة عن جدارية محمود درويش – وجدتها أمامي، أنا أحببت هذا التعبير "الجدارية" لأني عشت دائما كباحث عن الفكر وعن تاريخ الفكر الإسلامي بالتحديد وأمامي جدارية والاستشهاد بجدارية محمود درويش الخاصة به وبحياته ودفاعه عن قضية فلسطين واستشعاره بالموت وموقفه منه كل هذا عبر عنه شعريا بالجدارية وهذه الجدارية موجودة لدى المفكر النزيه الذي يبتعد عن الأيديولوجيا، والذي لا يقصد أبدأ أي مكسب مادي أو أي مكسب سياسي، ويتزهد كما تزهد الزهاد القدماء، عن كل هذا ليتفرغ للفكر والدفاع عن الفكر والأنسنة عند ذاك يعيش وأمامه جدارية، ولذلك أقول أبو حيان التوحيدي معلمي وأخي وأبي إنه عاش في زمنه وأمامه جدارية ولا خلاف بين تجربة المفكر النزيه الزاهد عن جميع المكاسب الدنيوية والمتفرع للدعوة الى التفكير الذي يحرر الوضع البشرى، لا يختلف وضع هذا المفكر عن وضع أكبر الشعراء مثل محمود درويش الذي حمل آلام شعبه الفلسطيني، وعانى من الدعوة للقضية الفلسطينية التي يعرفها جميع الناس وتألم أيضا في حياته الشخصية، أنا أربط معاناتي بمعاناة محمود دروش، هو يعبر بقلم شاعر وأنا أعبر بقلم تحليلي فلسفي مفهومي.
لكن الألم لا يظهر لدى المفكر فبإمكان الشاعر أن يعبر عن ألمه ومعاناته لكن المفكر غالبا ما تكون معاناته محجوبة.
أركون: نعم هو لا ينطق مباشرة بالألم كما ينطق به الشاعر لأن نوع الخطاب الفكري يختلف عن الخطاب الشعري، ولكن التجربة التي تولد الموقف المعرفي لدى المفكر وتولد الشاعرية لدى الشاعر متشابهة.
هذا الألم الذي عانيت منه كان عن جهل الآخر أو تجاهله؟
أركون: لا وإنما من الفجوة الثقافية والفكرية الموجودة في مجتمعاتنا والتي وجدتها في مجتمعي الجزائري منذ صغري وهي بالتالي التي وجهت مشروعي في هذا المسار، ودفعتني لاختيار هذا الطريق المعرفي الشاق كموقف أمام هذه الفجوة التي مازالت تتسع و يتفاحل تأثيرها في مجتمعاتنا منذ زمن بعيد.
هل هنالك مشاق وصعوبات واجهتك في هذا المشروع وسببت لك آلاما كبيرة؟
أركون: ليست آلاما كبيرة وإنما ألم فكري من عدم التواصل مع المعاصرين وعدم إمكانية التبليغ والتنفيذ أيضا، مثلا في مستوى التربية والتعليم كان يمكن أن نغير البرامج ونوجه التعليم باتجاه آخر بدلا من الاتجاه الإيديولوجي السائد.
أيضا في المقابل نلاحظ أن المركزية الأوروبية دأبت باستمرار على تجاهل الإسلام.كموضوع للبحث ~فأغلب المفكرين الأوروبيين وحتى من الذين تبنوا الاتجاه النقدي للفكر الأوروبي تجاهلوا الإسلام ولم يتناولوه في بحوثهم، وكانوا منغلقين داخل التراث الفكري الأوروبي. هل يسعى مشروع أركون أيضا بالإضافة الى همه النهضوي العربي أن يفتح منفذا لهذه الحضارة الأوربية على الإسلام؟
أركون:- نعم هذه أيضا جبهة أخرى هنالك جبهة داخل الاسلام وجبهة خارج الإسلام، وهذا كفار مع الفكر الغربي نفسه فهذا الفكر الغربي استخدم بالنسبة للثقافات غير الأوروبية من أجل إرادة السلطة أكثر مما استخدم من أجل البشر عن الحقيقة، وأقول إن ما يسمى بعقل الأنوار استخدمه الأوروبيون لمصالحهم في مجتمعاتهم، ولكن في الخارج استخدم من أجل السيطرة على الآخرين، وهذه أيضا ظاهرة تاريخية وجبهة للمعارك والكفاح المعرفي مع الغربيين.
كيف كان صدى مشروعك الفكري داخل المركزية الأوروبية؟
أركون: الأوروبيون لا يزالون يهتمون بشؤونهم ولا يهتمون بمصائب الآخرين، وهم لا يحبون من يقول لهم أن تلك المصائب ترجع إلي مسئوليتهم التاريخية لأنهم مقتنعون أن جميع مشاكلنا تتعلق بمسئوليتنا نحن فقط وتتعلق بمسؤوليتنا لأن الإسلام جعل المسلمين متقيدين بعقائد غير متفتحة على العلوم والحداثة.
دكتور أركون رغم حبك و إعجابك الكبير والمعروف لأبي حيان التوحيدي دائما ما تقول بأنه أخي وشقيقي و أبي وأنه يشبهني و لكن مع كل هذا فلاحظ أن أبا حيان التوحيدي الذي كان فيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة يمزح في نصوصه بين الفلسفة والأدب في حين يغيب تحليل النص الأدبي عن مشروع محمد أركون. لماذا لم تهتم بالنص الأدبي؟
أركون: – لا يصح أن يقال أني لا أهتم بالنص الأدبي، فأنا أهتم كثيرا بالنص الأدبي وأقرأ الأدب وأعطى للأدب جميع فضائله في تكوين الثقافة والمعرفة في المجتمع فدور الأدب كبير جدا وأنا لا أذكر الأدب ولا أتناسل النصوص الأدبية فقط بسبب عدم وجود متسع من الوقت للإطلاع عليها كما يفعل الناقد الأدبي المختص، والشيء الأخر وهو إنني أقرأ النصوص الفكرية الضخمة جدا، والتي تكلف وقتا وعملا لا نهاية له فبذلك لا يمكنني أن أجمع بين المجالين وليس بسبب عدم وجود الاهتمام أو عدم الرغبة في الاقتراب منها، فأدونيس ومحمود درويش صديقاي نتعاشر ويفهمانني وأفهمهما، ونشترك في نفس المعارك، أبدا لا خلاف بيننا مع أنهم يستعملون آلاتهم واستعمل الآلات الخاصة بي، ولهذا سأكتب أكثر عن هذا الموضوع لأنه طبعا يجب أن تقول شيئا.
كذلك نلاحظ أن تحليل النص الأدبي دائما ما فتح أمام الفكر الأوروبي آفاقا جديدة في التناول والدراسة وكان النص الأدبي مغذيا ورافدا للفكر الفلسفي، فأغلب المفكرين الأوروبيين وجهوا تحليلاتهم للنص الأدبي باعتباره أحد مظاهر قراءة الواقع والمجتمع؟
أركون: نعم ولذلك أنا مسرور مثلا للاستماع للناقدين صبحي حديدي ومحمد لطفي اليوسفي (1) الذين يقدمون للقاريء العربي أنواعا من خطاب النقد الأدبي الذي يلتقي مع ما يقوله المفكرون، وأنا اتفق مع جميع ما سمعناه منهم من حيث المنهج، فالمشروع الفكري منسجم مع النقد الأدبي ولا خلاف بين المشروع الفكري والخطاب النقدي، لأن الوظيفة النقدية لكليهما واحدة، وتستلزم نفس الأساسيات والمقاييس والمناهج لتكون سليمة على المستوى المعرفي فإذن لا خلاف بينهما.
دكتور محمد: قلت في تمييزك بين القرآن الكريم والطاهرة القرآنية أنك تقصد الفرق بين تغذية الروح الإسلامية بكلام الله تعالى ودراسة النصوص القرآنية كما ندرس الظاهرة الفزيائية أو البيولوجية أو الاجتماعية أو الأدبية ألا يعتبر هذا تعديا على قدسيتها التي تنطوى على بعد غيبي إيماني معجز؟
أركون: لا أرى أين هو التعدي على قداسة النص. جميع المفسرين فسروا النص وقراءة نحوية وقراءة تاريخية واسقطوا على النص القرآني أشياء تتعلق بالأمور الدنيوية، فأين الفرق مثلا بين التفكيك الذي هو عملية علمية وبين تفسير الطبري أو تفسير فخر الذين الرازي، هل اخترق الرازي أية قداسة للقرآن , بالنسبة لي لا أرى أين هو الخلاف، هذا من باب تخوف المسلمين، بل إن هناك من يتلاعب بالنص المقدس ويوظفه لمصالح بعيدة عن أية قداسة هذا جرح للنص على عكس الذي يحترم النص في مستوى معانيه وقاعدته المعرفية ومقاصده الإلهية ويحترم كل هذا، فلا أرى خلافا مثلا بين قراءة ابن عربي وقراءة فخر الدين الرازي للنص، وبين القراءة التي أدعو إليها باستعمال أساليب ومناهج جديدة أحدثتها العلوم الاجتماعية والإنسانية, فكما أن فخر الدين فخر الدين الرازي كان يستخدم المعارف التي كانت لديه في زمنه من معارف طبية وعلم النجوم والرياضيات والجغرافيا والتاريخ, أستخدم أنا العلوم الحديثة الموجودة في عصوي فلا أمر خلافا بيننا هذا ما خلق التخوفات والتخويفات التي يحاول أن يفرضها علينا الخطاب الاسلاموي وليس الخطاب الإسلامي الذي يحترم احتراما كاملا كلام الله وقداسته وإنما يدرسه بالآلات التي تتوافر لديه في كل زمان من أزمنة المعرفة وتطورها.
كنت في محاضرتك تتحدث عن الفرق بين الملقى والخطاب المكتوب وعن وحلة الخطاب القرآن من الشفهي الى المكتوب وقلت إن هذه الرحلة التي ارتحلها النص القرآني مهمة.
أركون: مهمة من حيث المعنى ومن حيث انتاج وتلقي المعنى، فالمعنى يتلقى عن المخاطب أو يتلقى عن النص المكتوب ء وأنت رأيت المناقشة التي دارت في قراءة نص محمود درويش "الجدارية" فكل واحد من القراء والنقاد كان يسقط على نص محمود درويش ما تميل إليه نفسه إذن هنالك جانب مهم في أي خطاب وهو جانب التلقي، نحن لا نعرف كيف استقبل الصحابة النطق بالقرآن لأول مرة من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، لسنا في ذاك الموقف، ولذلك جميع المفسرين يحيلون إلى الصحابة ليعتمدوا على ما قالوه عن أسباب النزول مثلا، هنالك أسباب النزول التي لا يدركها إلا من عاشر النطق الأول, الإلقاء الأول للآيات القرآنية لأنها ألقيت شفاهية, ولم تكن رسالة مكتوبة أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم للناس وطالبهم بقراءتها, وإنما نطق بالقرآن, والنطة يستمع إليه الناس، وهؤلاء المستمعون يمكنهم أن يستفتوا وأن يستفسروا الذي ألقى الخطاب وهذا ما فعله الصحابة, فقد استفسروا النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحيان، مثلا في سورة النساء, " يسألونك عن الكلالة " "وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت" فسألوه عن الكلالة لأنها كانت مبهمة والصحابة لم يدركوا ما هي الكلالة
ولكن كان لهم امتياز المعاصرة لوحي القرآن.
ولكن الوحي سجل كما ألقي.
أركون: لا هذه مسألة أخرى لا أتكلم عن هذه المسألة أتكلم عن الواقع, مثلا أنا أجري معك استجواب , أنت تنظر إلذي وجهي الذي يقول لك الأشياء ويدي تقول لك كذلك أشياء ولكن عندما تنقل هذا الاستجواب الى شكل مكتوب فان الناس لن يروا وجهي ويدي ولن يسمعوا صوتي وهذه كلها حاملة لمعان لا يمكن أن تنقل كلها لأن الشخص الذي سيروى كلامي مثلا سينقله بوجهه وبطريقته في الإلقاء ومن هنا أقول ان طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في الإلقاء لا يمكن ان تعاد، فمكن يمكن اي يعيدها كما هي، هذه هي المميزات اللسانية للخطاب الشفاهي، والمشكلة تنتهي هنا، وهذا لا يمس مشكلة القراءات ورواية النص هل هي صحيحة أم غير صحيحة هذه مشكلة أخرى لا أمسها وهي ليس مشكلتي.
المشكلة إذن في كيفية التلقي كما تقول.
أركون: هنالك نظرية نقدية وأدبية –"مدرسة فرانكفورت" في ألمانيا – أحدثت اتجاها جديدا في النقد الأدبي ونقد النصوص بصفة عامة وهي تسمى بمدرسة "التلقي" فالتلقي يؤثر على النص او الخطاب أكثر مما يؤثر فيه المؤلف أو الملقي، هذه هي النظرية، وهي نظرية كبيرة وعظيمة الابعاد لكننا لم ننتبه اليها مبكرا، هذا هو الفرق الذي أريد أن نظهره وهي قضية لسانية، لا أحد يسمع كيف نطقت بكلمة "اللسانية" ماذا أريد بصوتي؟ إن الناس يخونون الخطاب فمثلا في المحاضرة التي ألقيتها هنا في الجامعة قلت: تفكيك الخطاب الديني ولكن أحد الأكاديميين تدخل خلال المحاضرة، وترجم ما قلته إلى تغيير بنية الخطاب الديني أين كلامي، كنت حاضرا وسمعت، إذن اشهد بهذا، أين كلامي من كلامه فقلت له أعوذ بالله. أشرح هذا لتظهر بشائع وفضائح التلقي التي يتورط فيها الإنسان حتى ولو كان هذا الإنسان أستاذا جامعيا
ــــــــــــــــــ
(1) ورد اسم الناقدين، لتوارد تواجدهما مع محمد أركون في مسقط وإلغاء محاضراتهما متزامنا مع تواجد محمد أركون في مسقط.
حوار: ناصر الغيلاني (كاتب من سلطنة عمان)