"سنظل نمسي بعشقنا الوئيد نحتضن الجراحات التي لا تنتهي ننحت أنفسنا بصمت، وننزف حتى لا يقال اننا جبناء"
ربما كان هذا المقطع أنموذجا ندخل من خلاله فضاءات محمد القرمطي النصية، وعلى الرغم من أنه مقل في أعماله اذ لم يصدر سوى "ساعة الرحيل الملتهبة" (1988) وعددا من قصصه كتجليات ذاكرة العزلة وهواجس والعاصفة وفانتازيا ونشرت جميها في مجلة نزوى الا أن هواجس عوالمه القصصية تبوح بما لديه من أرق ومن تشكيل جديد للواقع، انه يختلق الاساطير ليوظفها في قصصه في قالب واقعي ينسى من خلاله المتلقي أنه بصدد قراءة أسطورة فيحاكيه – دونما تفكير – ويأخذ كل منهما بيد الآخر نحو البحث عن خيال يماهي الواقع، وعن واقع يشكل الخيال، والمتتبع لتجربة القرمطي يلمح ان عناوين قصصه تشي بحالته، ففي مجموعته القصصية نرى "عزاء اللقاء الاول، القرار، بغية الرائي، حجر وليد باتجاه الموت، شبح الحساب، تذكرة سفر، وهج اللحظة الدفين، أما زلت تائها أيها المسافر…." هذا الاختيار لتلك العناوين لم يأت من قبيل الصدف بل من قبيل العمد لدى الكاتب لانه يبحث عن دواخل نصه ووطنه فلا يلقى كليهما فيعاود البحث ويعود منزويا مجترا أحزانه الذاتية التي شكلت أحزانه العامة، إلا أنه يقنع المتلقي أنه بريء من هذا وذاك وربما يعينه على ذلك اننا لا نجد المكان في قصصه، فانعدام المكان وكذلك الزمان لدى ابداعه يجعل المتلقي مشاركا في الابداع، إذ يربط ما يقرأ بمكان ما في مخيلته وبزمان يعايشه وكان القرمطي يتخلى عن نصوصه واطارها المكاني/الزماني للمبدع، يهبهما له طواعية حتى يسقط المتلقي عالمه المكاني والزماني على نصوص القر مطي فيسلبه اياها. كذلك ساعدت هذه الحوارات العبثية في قصصه على اضفاء روح التهكم والسخرية من شخصيات قصصه المتقاطعة اذ أن القصص لديه ليست حكاية تحكي وليست حكاية مترابطة بل هي حكاية متقاطعة متداخلة متناقضة أحيانا وكأنه قد قام بتركيب "كولاج" لمجموعة قصصية في قصة واحدة، وهذه التقنية وان كانت جيدة على المستوى الابداعي إلا أنها تتعب المتلقي العادي الذي اعتاد على الحكي التقليدي لكنها تهب لمحمد القرمطي جرأته في اقتحام النص وتقطيعه الى أشلاء تاركا للمتلقي ان يقوم بما قامت به "ايزيس" في الاسطورة الفرعونية القديمة من تجميع أشلاء محبوبها "اوزيريس" بعد أن قتله "ست" إله الشر ثم بعد أن تفرغ من تجميع أشلائه تعود اليه الروح مرة أخرى ليهزم الشر، يجعل محمد القرمطي المتلقي المعاصر "ايزيس" جديدة تعمل على جمع أشلاء النص القصصي واعادة تركيبه مرة أخرى بل اعادة قراءته ومن ثم اعادة كتابته في ذهنية المتلقي.
في قصة "عزاء اللقاء الاول" يمتزج الحب بالهزيمة من خلال الرؤى المتناقضة ويبدو حوار الماء والقهوة والسيجارة حوارا فلسفيا لا يعبر إلا عن قلق المبدع "القلق الذي يشب في رأسي كالطحالب ممتد من ليلة البارحة حيث كنت مواسيا لأسرة صديق مات بالحب"، على حد قوله.
تبدأ معظم قصص القرمطي ببداية "رأيت فيما رأيت" او "صحوت من الحلم" ان الحلم هو الذي يشكل الواقع ويتخذ من الخرافة شكلا من اشكال الابداع حتى يقنع المتلقي ان ما يرده وما يعتقده في النصر ليس الا مخالفا للحقيقة فالبطل عندما يولد وعندما يموت تصاحبه ارهاصات شبيهة بما تحدث للاولياء "في اللحظة التي فاضت فيها روح الطفل سمعوا صوت تشقق الارض، أنين وتسبيح من كل الجهات، كما ان الماء تخثر في اثداء الامهات، واصبح الناس العجرة لا يقوون على امتلاك انفسهم" وعندما يفسر موت الطفل يرجعه الى حسد امرأة عوراء "لم تكن من قبل عوراء بل كانت بعينين جميلتين ساحرتين وعندما صفعت أمها لسبب تافه سقطت عينها اليمنى".
وفي قصة القرار نجد القناص جليا مع "سندريلا" التي "قررت العبث مع الأقدار فهربت الى حيث كانت تحلم" هذا التوظيف للاساطير والحكايا الشعبية يلقي على النص ظلالا من السحرية متوازية يحركها المبدع كيفما شاء، ويلقي الموت والفشل بظلالهما على النص القصصي لديه فالطفل يموت والحلم يموت وزوجة قائد الحرب تخونه، وقائد الحرب يغدو عنّينا، والأب يقتل ابنه الصغير بسيفه، لكن هذا الفشل مؤقت اذ سرعان ما يعود الصبي بارئا منتصبا، يفصل المبدع بين الواقع والحلم، بعين الواقع والرؤى بين الواقع والكابوس، بين الواقع والسكر..
نلهث في إثر النص لديه اذ يركض حتى نظن أننا لن نصل اليه لكنه في اللحظة التي يتأكد أننا قد تعبنا يتوقف كاستراحة المحارب في حوار عبثي نضمد جراحاتنا وعذاباتنا ثم نمضي معه الى وجهته. لا تنفك الطفولة تراود القرمطي في قصصه فالطفل الذي كان يتمرد عليه وهو إذ يحاوره ويعبث به يكتشف مثلما صرّح أمل دنقل: "او كان الصبي الصغير أنا أم ترى كان غيري …..
صرت عني غريبا
ولم يتبق من السنوات الغريبة الا صدى اسمي !!"
تتداخل الاجناس الادبية تداخلا واضحا في قصص محمد القرمطي اذ نراه يأخذ من المسرح كثيرا ومن فنون السينما في لغة شاعرية تكاد تكون موزونة، لكن هذا الخلط المتعمد بين الاجناس الادبية انتج لنا نصوصا متداخلة مؤرقة حافزة على التفكير بيد أنه أحيانا يترك لقلمه العنان فيميل الى التطويل ولا سيما في الحوار مما يتعب المتلقي ويضر بالنص، وقد جاءت بعض الأخطاء المطبعية والنحوية لتنقص من متعة المتلقي.. لكن هذا لا يجعلنا ننسى جسارة محمد القرمطي في نصوصه الابداعية وهو يبحث عن نص !!
محمد أبو الفضل بدران (أكاديمي من مصر)