محمد المحروقي. من مواليد سلطنة عُمان ١٩٦٩. أنجز اطروحة الدكتوراة سنة 2004، في جامعة لندن (مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية SOAS)، حول الصورة الشعرية عند ابن المعتز مع التركيز على التشبيه والاستعارة.
صدر له : «الشعر العماني الحديث، أبومسلم البهلاني انموذجاً» عن المركز الثقافي العربي سنة ٢٠٠٠م، وكتاب «مغامر عُماني في أدغال أفريقيا»، الذي صدرت طبعته الأولى عن مؤسسة عُمان للصحافة والنشر والاعلان سنة ٢٠٠٥م، ثم طبع ثانية بالتعاون بين وزارة التراث والثقافة العُمانية ودار الجمل، سنة 2006م، كما أخرج كتاب «الدرُّ المنظوم في ذكر محاسن الأمصار والرسوم» للسيد سيف بن حمود البوسعيدي، وزارة التراث والثقافة سنة 2007م.
يولي المترجم اهتماماً خاصاً بالجوانب الثقافية والأدبية للوجود العُماني في شرق افريقيا ويعمل حالياً استاذاً مساعداً بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة السلطان قابوس.
٭ لنبدأ من البئر الأولى، كيف كانت النشأة؟ وماذا يتبقى منها في الذاكرة؟
كانت النشأة في أسرة دينية شديدة الالتزام ربما، حيث كان والدي الشيخ ناصر بن راشد بن سليم المحروقي مرجعاً دينياً وتعليمياً ليس في بلدة سناو – البلدة التي أنتمي إليها في شرقية عمان – فقط وإنما في المنطقة بأسرها. كان الوالد قد تعلّم في أهم مدرسة إباضية آنذاك، هي مدرسة قلعة نزوى التي اجتمع فيها أعلام علماء عمان تحت عناية الإمام محمد بن عبدالله بن سعيد الخليلي المباشرة . ومن بين المشايخ المشار إليهم بالبنان آنذاك الشيخ سفيان بن محمد الراشدي والشيخ سالم بن سيف البوسعيدي والشيخ سعود بن أحمد الإسحاقي.
وعندما أتم الوالد مرحلة التحصيل الدراسي متشبعاً – كما أتصوره الآن – بالتربية الدينية والآمال الكبرى لحمل مشعل التنوير الديني إلى مجتمع يعد فيه الذين يحسنون القراءة والكتابة بأصابع اليد الواحدة، لا سيما وأن المذهب الإباضي كان ينتشر ويتجدد دائماً على أجنحة حملة العلم منذ جابر بن زيد وأبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة ومروراً بمدرسة الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي ونور الدين عبدالله بن حميد السالمي. كل هذه الموجهات كانت حافزة للوالد على تأسيس أول مدرسة بقرية سناو هي مدرسة «مسجد التل الأحمر»، وقام باستقطاب الطلاب لها من البلدة نفسها ومن القرى المجاورة، مهيئاً سكناً لمن لا سكن له. وقد عاونه على هذه المهمة الصعبة صديقه وتلميذه الأسبق – على العادة القديمة التي يُدرِّس فيها الطالب المتقدم زميله كتاباً من الكتب المعتمدة – وهو الشيخ القاضي حمود بن عبدالله بن حامد الراشدي. واستمرت هذه المدرسة ردحاً طويلاً من الزمن تخرج فيها مشايخ يشار إليهم بالبنان كالشيخ حمود بن حميد الصوافي والشيخ يحيى بن سالم المحروقي، وواصل بعض خريجيها دراستهم العليا فحصلوا على درجة الدكتوراه، وهما الدكتور مبارك بن عبدالله الراشدي والدكتور صالح بن أحمد الصوافي، وتسنم آخرون مناصب مهمة في البلاد بعد أن انفتحت طرائق العيش وسبل الحياة بتغييرات سنة السبعين السياسية، كالشيخ عبدالله بن سلطان المحروقي، الذي وضع كتاباً في سيرة أستاذه أسماه «أصدق المراشد في سيرة الشيخ ناصر بن راشد»، والشيخ مسلم بن سعيد المحروقي. كما فرخت هذه المدرسة مدارس أخرى كثيرة في مدن وقرى عديدة من أهمها المضيرب في المنطقة الشرقية، وسرور في المنطقة الداخلية.
في هذه الأجواء الرسالية كانت النشأة الأولى. ولا شك أن الوالد قد مارس توجيهاً كبيراً – ولكنه لم يكن قسرياً – لابنه الأول الذي جاء وقد جاوز الأب سن الأربعين ولم يتمتع بعدُ بنعمة الأبناء إذ هلك أبناؤه جميعاً من زواجه الأول، كما هلك ابنه البكر من زوجته الثانية التي هي أمي. كان يوجهني في غير عنف ولا ضرب، مؤكداً أوامره بآيات من القرآن العظيم أو بأحاديث للرسول الكريم أو الأقوال المأثورة حتى حفظت الكثير منها لتكرارها، ولاحقاً كنت أتباهى في المدرسة بهذه الحصيلة فأجد من الأساتذة التقدير والإشادة. كنت مطيعاً إلى حد كبير لا أحتاج معه إلى وسائل ولا إلى شدة، وغاية ما يصل إليه والدي من تعنيف هو أن يقول: «تراني مابديت بك يا محمد، أنت ما تقدر على شدتي». والحق يقال أن الوالد كان مهاباً ليس من طرف طلابه وأبنائه فقط ولكن حتى من قبل أفراد المجتمع، إذ كان معلماً للجميع ولا يسكت عن باطل يراه ، فيوجه بالحسنى أو بالشدة حسبما يقتضي الموقف. ولكنها شدة ممزوجة بغاية من الرحمة، ففي حالات كثيرة يعود لتطييب خاطر طالبه أو ابنه بكلمة أو بمبلغ مالي. دفعته تلك الرحمة إلى الاهتمام بشقاء الناس وبذل الجهد والوقت الكبير والمال عندما يتيسر لديه المال – خاصة في مرحلة شبابه، حيث ورث مالاً عن والده، وكان يُجرى له راتب من الحكومة فأطلق عليه الناس لقب «الهنقري» أي الثري، وهو مال لم يبق مع سعة الإنفاق، وبقيت العفة والقناعة – لحل المشاكل الاجتماعية في محيطه وأينما حل، ولم يكن قاضي البلدة ولا نائب الوالي يجريان حكماً قاطعاً قبل تحويل الموضوع إليه لحله صلحاً، وغالباً ما يوفق لاحترام الناس وحبهم إياه. أذكر أنه كان شديد الرحمة بالعمال، وكان يختلق لهم الأعمال حتى يعطيهم الأجر الذين يعيلون به أسراً كبيرة في بعض الأحيان. ولا ننسى أننا نتحدث عن الأيام الخوالي في عمان، عندما شح الرزق وضاقت الحيل. وأذكر مرةً أن شجرة كافور كانت في صحن دارنا فطالت وعظمت حتى خشي من تأثيرها الخطير إن سقطت بفعل ريح، فأتى أبي بأجير اسمه خليفة واتفق معه على قطعها بخمسة ريالات عمانية – وكان لها شأن آنذاك – ، فاقتضت خطة خليفة أن يصعد حتى ثلثي الشجرة ويقص الثلث الأعلى. وعندما جاوز خليفة منتصف الشجرة هبت ريح غير قوية، فأمره أبي بالنزول ولكنه أصر على المواصلة. وكان الوالد قلقاً عليه للغاية، وصرخ عليه : «أنت تستحق عشرة ريالات عن هذا العناء وليس خمسة». وعندما أنهى خليفة المهمة أنقده الوالد خمسة عشر ريالاً، فخرج الأجير من المنزل سعيداً بهذه الغنيمة الكبيرة.
٭ لا يمكن أن تكون مطيعاً إلى تلك الدرجة؟
هذا صحيح. فقد أرادني والدي أن أكون قاضياً شرعياً. وقد بدأ في تعليمي الديني في سن مبكرة فقد كان يحفِّظني قصار السور في فترة مبكرة من مرحلة الطفولة كما كان يرسلني إلى مدرسة تعليم القرآن الكريم بالحارة التي نسكنها وهي «حارة التل»، وكان المعلم فيها هو سعيد بن عامر البراشدي، الذي أولاني عناية خاصة لأن والدي كان هو المشرف على التدريس فيها. ثم علمني – مع مجموعة من لداتي – الكتابة عن طريق ما يسمى بـ «النظيرة»، أي أن يكتب والدي بخطه الجميل في أعلى الصفحة بيتاً واحداً كل ليلة من باب الآداب بكتاب «مدارج الكمال» للشيخ نور الدين السالمي، ثم نكتب البيت نفسه مقلدين الخط عشر مرات. ولاحقاً عندما التحقت بالمدرسة العصرية – كما كانت تسمى، وهي المدارس الحكومية النظامية – كنت أذهب بعد المدرسة في العصر إلى مسجد «الثقبة الحوساء» لدراسة علم التوحيد لدى الشيخ حمود بن حميد الصوافي، وفي المساء أذهب إلى بيت الشيخ يحيى بن سالم المحروقي لدراسة علم الميراث. أما في الإجازات الصيفية، فإلى جانب تلك البرامج كنت أدرس علم النحو من خلال منظومة «ألفية ابن مالك» على شرح ابن عقيل لدى الشيخ يحيى بن سالم.
ربما كان أكبر تمرد في حياتي هو الخروج المبيت على التوجهات التي أرادها أبي لي منذ البداية، أي أن أكون قاضياً شرعياً. وهو خروج لم يتم بعنف وإنما اكتسى بالكثير من المناقشة بيني وبين أبي دون قسر من طرفه. فبعد أن أنهيت المرحلة الابتدائية أراد والدي أن ألتحق بالمعهد الديني الذي يشرف عليه ويدرس فيه هو نفسه، ولكنني ترددت لأنني أريد «تعليما عصريا» وتمردت على الدراسة مدة شهرين كاملين ولم ألتحق بالمعهد إلا بعد أن تحدث إليَّ موجه تربوي هو الأستاذ سعيد بن عامر الحجري و قال : «ستدخل جميع المقررات العصرية من رياضيات وعلوم وانجليزي إلى المعهد منذ العام القادم، وهذا كلام أكيد»، وقد حدث ذلك بالفعل، وقبلت بعد أن وعدني والدي بشراء دراجة نارية لي. فأغراني ذلك، خاصة أنها ستكون جديدة من الوكالة ولا أحد من أصدقائي يملك حتى واحدة قديمة. وبعد المرحلة الإعدادية كان «معهد القضاء الشرعي» يقبل الطلاب للمرحلة الثانوية، فحاول والدي أن يلحقني به فأبيت إلا مواصلة التعليم العصري. وبعث إلي بشيخي حمود الصوافي الذي قال لي في حوار أبوي لطيف: «يا محمد، قل لي ما حجتك على اعتراضك على الدراسة في معهد القضاء الشرعي؟ »، قلت له : «حجتي أمران، الأول أن والدي نفسه رفض منصب القضاء لخطره، والثاني هو أبيات شعر أحفظها». قال: «ما هي يا محمد؟ »، قلت:
لا تلي الأحكام إن هم طلبوا
رغبة فيك وخالف من عذل
إن نصف الناس أعداء لمن
ولي الأحكام هذا إن عدل
فهو كالمغلول عن لذاته
وكلا كفيه في الحشر تغل
فابتسم الشيخ ابتسامة خفيفة وسكتَ، وسكتُّ، ولم يحدثني في الموضوع بعدها قط.
ولم ييأس الوالد – كعادته -فقد كنت أرغب في المرحلة الجامعية أن أذهب للدراسة في أمريكا في تخصص «العلوم السياسية». لا أدري الآن لماذا كنت أفكر على ذلك النحو حينها، ولكن حبي للحياة العصرية والتعليم العصري منذ نعومة أظفاري قد يكون هو المغذي لذلك الشعور. وكان الوالد يريدني أن أذهب للدراسة في «الجامعة الإسلامية» في إحدى دول الجوار. وبعد أخذ وردٍّ قويين هذه المرة من قبل والدي، وبعد أن استشرت ابن عمي الشيخ مسلم بن سعيد الذي قال: «يا محمد، نحن أكبر منك ونعرف أن هذا الموضوع شديد الخطورة، ونعرف أناساً فقدوا الصلة بوطنهم وبدينهم وذابوا في تلك المجتمعات». لقد أثّرت في تلك العبارة كثيراً وحفاظاً على تلك الجذور القوية – آنذاك – قررت الالتحاق بالجامعة هنا في عمان. ونلت رضى الوالد ونعيم ألقه المعهود.
٭ ولكن ماذا عن شقاوة الطفولة؟
طبعاً كانت موجودة، فأي جمال لطفولة انتزعت شقاوتها، ولكنها في معظمها كانت شقاوة مغلَّفة أي باطنية خاصة في مرحلة الطفولة الثانية. لم يكن يعرف الكبار عن شقاوتي ومغامرات الإغارة التي كنت أقودها أحياناً على ثمار المانجو من « لمباة عيدة» ونادراً «لمباة القاضي» ! (اللمباة: باللهجة الدارجة هي شجرة المانجو وهي الثمرة أيضاً). كان الكبار – أباء وأمهات – يعيِّرون أبناءهم عندما يصيح فيهم ضرب السوط قائلين: «نريدكم تكونوا مثل محمد بن ناصر. شوفوا عليه كيف مواظب – ما شاء الله – على دراسته وصلاته. ما تفوته صلاه، حتى صلاة الفجر يصليها في المسجد». أما الأصدقاء المخلصون فلا رغبة البتة لديهم بالوشاية بي أو نقل الحقيقة عني، كانوا صامتين حتى مع وقع السياط عليهم، ولسان حالهم يقول: «في الواحد ولا في الاثنين».
صغيراً كنت وكنت أطارد بنت الجيران، نلعب الغميضة – كما يسمونها – أطاردها من نخلة لنخلة ومن مكان إلى آخر ، حتى وقع المحظور. ففي لحظة ابتهاجي بكشفها مختبئة أسفل الدعن (سطح متوسط الارتفاع نحو نصف قامة الرجل العادي، يصنع من سعف النخيل ويستخدم في تجفيف التمور قبل تخزينها في موسم الحصاد، كما يستخدم سريراً جماعياً للأسر عندما يشتد الحرّ)، وكنت على سطحه فقدت توازني فسقطت على الأرض الصلبة في منزل جدي وانكسرت عظمة أنفي وسالت الدماء أنهاراً، لأدخل في دورة علاج شعبي فعّال وطويل يسمى «الشل بالمرود»، على يد المعلمة «صدّوه»، (الصد: أسماك الفلج الصغيرة، وصدّوه مصغر صدّه. والشل: الأخذ أو المعالجة).
وعلاج «الشل بالمرود» علاج شعبي قاس يتم دون الاستعانة بمخدرات تقلل الألم، فيؤتى بالمرود ويوضع عليه زبدة، ثم يوضع ملحاً خاصاً يسمى «ملح جريشي» وهو ملح استخرج بتبخير ماء البحر ولم يصف ولم يطحن، فيدخل المرود في أحد المنخرين حتى يبلغ أقصاه، فتنهمر الدماء التي يعتبرونها دماً فاسداً، ويبلغ الألم حد الغياب والإغماء.
وكنت أحتاج إلى هذا العلاج من حين إلى آخر تبعاً لتزايد درجة الشقاوة. فمرةً كنت أطارد حماراً غير أليف في البرية بتحريض من ابن عمي الأكبر مني حميد، وقد كنت أسرع منه، فقال لي: امسك به، وما إن حاولت ذلك حتى رفسني الحمار في الأنف نفسها وأطاح بي في قارعة الطريق، وسالت الدماء الغزيرة.
إنها ذكريات قد يجدها أبناء اليوم جافة وقاسية، وهي وإن كانت كذلك فهي ممتعة للغاية وتسهم في تكوين شخصية صلبة.
٭ بعض ذكريات تلك المرحلة..
نعم إن الذكريات في هذا الإطار متشابهة . أذكر مواسم صيد الطيور المختلفة، كموسم صيد طير العقعق، وهو طائر كبير الحجم وله أجنحة ملونة وغاية في الجمال، وموسم طير الورّاد، وهو طير صغير الحجم ومنقاره زعفراني من الداخل، وكنا نعتقد أنه كذلك لأنه أكل من شحر الجنة، وموسم طير القطا وهو جنس من الحمام أغبر اللون يقع أكثر ما يكون على مواقع الماء. لكنني لم أكن مميزاً في هذا المجال، إذ لم أكن أتمتع بنظر حاد يكتشف الطيور الصغيرة المسكينة من على بعد. وغالباً ما كنت أتسبب في هرب الطيور لأنني أقترب – دون أن أعلم – اقتراباً شديداً، مما يجعل أصحابي ينفجرون غضباً في بعض الأحيان.
٭ لك اهتمامات ملموسة بزنجبار، لماذا؟
هذه الملحوظة صائبة، فزنجبار هي رمز الحضور العماني الباذخ في شرق أفريقيا في حقب تاريخية مختلفة. إنه جزء من إحساس المثقف والأكاديمي بأهمية ذلك التاريخ في صياغة لحظتنا الراهنة ومكوناتنا الفكرية وآفاقنا المستقبلية. وحتى نتحرك للأمام في خط مستقيم علينا أن نعرف بوعي تاريخنا العام بشكل دقيق، ولا شك أن الوجود العماني في شرق أفريقيا مكوّن مهم من مكونات ذلك التاريخ ينضاف إلى جانب مكونات لا تقل عنه أهمية. وأنت تعرف أن التاريخ العماني تمتلئ صفحاته بالأمجاد الكبرى ثم تعقبها انحدارات تالية ، كما هي الحكمة التاريخية دائماً، وقد حدث ذلك في دولة اليعاربة، على سبيل المثال ، فقد لعبت دوراً كبيراً في جمع الصف وتوحيد كلمة العمانيين المتشعبة والمتناحرة آنذاك، وأعقبت ذلك بتخليص عمان من مستعمر غاشم هم البرتغاليون، وثنّت على هذا المجد بمجد آخر إذ تعقبت فلولهم في الخليج العربي والمحيط الهندي وصولاً إلى شرق أفريقيا. وفي نهاية المطاف سقطت هذه الدولة فريسة للتناحر الداخلي وعرضة للمؤثرات الداخلية والخارجية، فخسر التاريخ العماني مجداً كان يمكن أن يتأصل بشكل أكبر. هاتان حلقتان من حلقات تاريخنا العماني – المميز بجغرافيته الشرسة والمتنوعة في آن، وبفكر مذهبي أسهم إسهاماً فاعلاً في صياغة ثقافته ونظامه الفكري إسهاماً كبيراً هو المذهب الإباضي – لم نعهما كما أدّعي وعياً جيداً بعدُ، ولم نتأمل نجاحاتهما وإخفاقاتهما كما ينبغي. وجل ما نلوجه كلمات جوفاء عن مجد قديم.
في إطار هذا الوعي يأتي اهتمامي بزنجبار، وهو مشروع لا يزال في أوله أنجزت فيه ترجمة سيرة ذاتية للفاتح العماني حمد بن محمد المرجبي الملقب بـ «تيبو تيب» ، فاتح الكونغو ومديل الزعماء الأفارقة الأشاوس خانعين لسطوته ، الكتاب الذي خرج في طبعته الأولى ضمن مشروع «كتاب نزوى»، الذي تتبناه هذه المجلة، وكان قد صدرت أجزاء منه منجّمة في أعداد مختلفة للمجلة ، وعندما صدرت أخذت عنوان «مغامر عماني في أدغال أفريقيا». وقد لقي الكتاب رواجاً جيداً ونفدت نسخه في فترة قياسية نوعاً ما، فأعادت وزارة التراث – مشكورة – طبعه مرة ثانية بالتنسيق مع دار الجمل في ألمانيا. كما أخرجت كتاباً في أدب الرحلة للسيد حمود بن أحمد بن سيف البوسعيدي الذي خرج في رحلة من زنجبار بمعية السلطان برغش بن سعيد بن سلطان عام ١٨٨٨ م إلى أرض الحجاز أولاً ، ثم تناسلت رحلة المؤلف إلى القاهرة والإسكندرية ثم دمشق الشام وبيت المقدس وبيروت، وسجل مشاهداته بأسلوب بارع، مقدماً وثيقة فنية وتاريخية مهمة جداً. وسأشرع قريباً في إخراج رحلة أخرى انطلقت من زنجبار في الفترة نفسها .
وبما أننا نتحدث عن أدب الرحلة فيمكن أن أذكر رحلة معاكسة في الاتجاه ومخالفة في الزمان عما ذكرته آنفاً، هي رحلتي الخاصة إلى زنجبار عام 1992م، وكانت باكورة رحلاتي الطويلة خارج الأرض العمانية، وقد نشرت في مجلة نزوى تحت عنوان «فرضاني: يوميات رحلة إلى زنجبار وممباسا والبر الأفريقي»، وأبحث حالياً عن ناشر لها.
٭ هل لك أن تعطينا فكرة أوضح عن ذلك الوجود العماني في شرق أفريقيا، جذوره وآثاره؟
إن الأثر العماني على شرق أفريقيا، وخاصة الساحل، أثر كبير وليس أقل من أنه أدّى إلى ميلاد شعب جديد وهويّة جديدة، هي نتاج التفاعل بين ثقافتين وعنصرين بشريين مختلفين، هما الثقافة والعنصر العربي (وبالأخص العماني) من جهة، والثقافة والعنصر الأفريقي من جهة أخرى. هذا الشعب هو الشعب السواحلي و هذه الهوية هي الهوية السواحلية، التي صاغها واقع امتد لعقود طوال، وينظّر لها مفكرون منافحون عن هويتهم الجديدة المستقلة عن الهويتين العربية و الأفريقية، ومن أبرز هؤلاء البروفيسور ابراهيم نور البكري، الذي ترجم له الدكتور عبدالله الحراصي فصلاً من كتابه المهم عن «الهوية السواحلية» ونشر في مجلة نزوى، ومن أبرزهم أيضاً البروفيسور علي المزروعي الذي له كتابات مهمة في هذا الشأن، نتمنى أن تترجم أو يترجم بعضها إلى العربية في القريب المدروك من الزمن. ومن بينهم الأستاذ يحيى على عمر ذو الأصول الحضرمية والذي يتحدث العربية بطلاقة لكنه يشدد في الوقت نفسه على هويته السواحلية ويؤصل لها مرتكزاً على الثقافة العربية الإسلامية التي من بين مقوماتها استخدام الخط العربي في الكتابة كما في معظم لغات الأمم الإسلامية كالفارسية والأوردية وغيرهما. وقد اطلعنا على دراسة صوتية دقيقة ليحيى يجادل فيها أن الحرف العربي بإمكانياته الغنية ومخارج حروفه يناسب بشكل أكبر الكتابة باللغة السواحلية، وقد أعدّ نظاماً كتابيا شاملا معززاً بالشواهد من اللغة السواحلية. ولنا ترجمة لدراسة من دراساته نشرت في مجلة نزوى منذ أمد، غير أن إخراجها شابه بعض القصور فتم الخلط بين مواد هذه الدراسة وتعليقات على يحيى عمر وتعليقاتنا، ونحن نتمنى أن يتم إعادة نشرها بشكل يزيل ذلك اللبس.
ومنذ أجل قريب أعاد صحفي يدعى يحيى جابر (وهو ليس الشاعر اللبناني) نشر الرسالة نفسها ، وقد أمددناه بها ابّان زيارته لمسقط لإعداد تحقيق صحفي لمجلة «العربي» الكويتية، (عدد 576، نوفمبر 2006 م)، وقام بنشرها على أنها من ترجمته ولم يسبق نشرها أبداً، وهو يعلم تمام العلم أنه ليس هو من ترجمها ويعلم أيضاً أن مجلة «نزوى» سبق وأن نشرتها في العدد ٢٣، يوليو ٢٠٠٠ م، وقد بعثت برسالة الكترونية إلى رئيس التحرير حسب العنوان المذكور في المجلة فلم أجد رداً منه، وكنت قد ختمت الرسالة بالتالي:
«من هنا أطالبكم بنشر هذه الرسالة على صفحات مجلتكم الغرّاء لتصحيح المغالطات التاريخية والواقعية المشار إليها، مع الاعتذار للقراء وصاحب الترجمة عما حدث. وليس ذلك بكبير على مجلة «العربي» التي عودتنا على الشجاعة وعلى تحرّي الدقة والمصداقية».
٭ وماذا عن آثار ذلك الوجود؟
وإذا أردنا أن نرى أثر ذلك الوجود على هذه الهوية السواحلية الوليدة فهو حاضر ، بطبيعة الحال ، في كل شيء. في الدين الإسلامي الغالب وفي اللغة السواحلية التي تزيد مفرداتها العربية على ما نسبته ٠٧٪ في فترة من الفترات، وفي العادات الاجتماعية وفي المعمار وفي الإنتاج الإبداعي. وقد حدثنا البروفيسور إبراهيم البكري عن شعراء كثيرين يكتبون شعرهم باللغة السواحلية وفقاً لقواعد العروض العربي الذي وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي العماني، ينظمون أشعارهم بكل اقتدار. وهي ظاهرة نتمنى أن يتنبه إليها الباحثون بالدراسة والتحليل. وقد وجدنا نمطاً من الشعر العربي الذي ينتهي بقواف سواحلية منضبطة وفقاً للعروض العربي، ومن بينها أبيات في الغزل تقول:
أحبتنا رحلتم عني جوزي (البارحة)
فراقكم حشى قلبي متشوزي (حزن)
رحلتم نحو أرض الخير بيمبا (اسم جزيرة)
زيارتكم عواماً أو لـمويزي (أشهر)
فإن طالت زيارتكم ملالي (مدة طويلة)
فردوا لي فؤادي مع بميزي (قلبي)
وهذا النمط من الشعر المهجّن عرفه العرب في ظاهرة كتابية شعرية متفردة ارتبطت بالأندلس إذ شاع ما يعرف بشعر الموشحات والذي كانت قفلته في النماذج الأولى منه بالدارجة الأندلسية، ثم تطوّر إلى نمط الموشحة المعروف. وقياساً على هذا لا نستبعد أن تكتشف أنماطاً مشابهة من الشعر السواحلي- العربي.
أما بدايات ذلك الوجود العربي العماني فهي قديمة جداً وتعود إلى آلاف السنين ومنذ أن عرف إنسان الجزيرة العربية استغلال الرياح الموسمية في الإبحار. وقد هاجر العمانيون هجرات متعددة إلى شرق أفريقيا واستقروا هناك، ولكن الوجود الرسمي لهم يؤرخ له مع دولة اليعاربة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين. وقد أجلى اليعاربة البرتغاليين من عمان وبعض سواحل الخليج ثم تبعوهم إلى شرق أفريقيا على أثر استغاثة بعض السكان بالإمام سلطان بن سيف، الذي أرسل أسطولاً بحرياً ضخما بقيادة الشيخ الشاعر محمد بن مسعود الصارمي. وقد نجح في تخليص سواحل شرق أفريقيا من البرتغاليين وخلص منهم معقلهم في مدينة ممباسا. وهناك الكثير من الأشعار التي تمجد بطولات العمانيين في شرق أفريقيا سيرى بعضها النور قريباً ومنها قصائد للشاعر بشير بن عامر الفزاري الذي حققنا ديوانه وتقف عوائق دون نشره.
ثم بعد اليعاربة استقل المزاريع بحكم الساحل وكان مقرهم ممباسا. وتعزز الوجود العماني الرسمي هناك أثناء الدولة البوسعيدية عندما نقل السلطان سعيد بن سلطان عاصمة حكمه إلى زنجبار جاعلاً منها مركزاً سياسياً وتجارياً مهماً في تلك الفترة. وقد حاول أبناؤه وبالأخص ماجد وبرغش من بعده الحفاظ على زنجبار. فشهدت حركة تعليمية نشطة وحركة ثقافية نشطة أيضاً طبعت أثناءها الكثير من الكتب التي كانت ترسل من عمان إلى زنجبار ثم تعود للتوزيع بأعدادها الكبيرة في عمان، كما كانت تأتي الكتب إلى زنجبار للطباعة في المطبعة السلطانية من أصقاع مختلفة من العالم العربي. وهي الفترة الزاهرة التي شهدت ظهور الصحافة العمانية في المهجر الأفريقي كالفلق والنهضة والنجاح وغيرها. وبهذا تكون الصحافة العمانية سبّاقة في الظهور إذ طبعت جريدة النجاح عام ١٩١١ م. كما كان بعض الصحفيين العمانيين ينشرون في الصحافة العربية وفي القاهرة خصوصاً، فقد نشرت مجلة «الهلال» المشهورة مقالة عن أحد الأبطال الفاتحين من العمانيين وهو حمد بن محمد المرجبي، في باب ثابت لدى المجلة عنوانه «أشهر الحوادث وأعظم الرجال»، والعنوان الفرعي هو «حميد بن محمد المرجبي (تيبو تيب) فاتح الكونغو، سنة 1906م ، وكاتب تلك الترجمة هو ناصر بن سليمان اللمكي.
لم تكن مهمة سلاطين زنجبار في الحفاظ عليها سهلة البتة فقد بدأت الأطماع الاستعمارية تبرز شيئاً فشيئا لامتصاص خيرات تلك الأرض، موهمين بعض الأفارقة وموغرين صدورهم ضد الحكم العربي، حتى حدث ما يسميه على محسن البرواني (وزير الخارجية في آخر حكومة عمانية بزنجبار) في حديث لنا معه قبل وفاته التي تمت قبل عام تقريباً بـ «التمرّد»، ويرفض أن يطلق عليه لفظ ثورة، وربما كان ذلك من منطلق أن الحكم القائم في زنجبار آنذاك كان حكماً يعكس الهوية السواحلية المشار إليها، وأن الفترة كانت تشهد تحولات مهمة نحو الديمقراطية وتعدد الأحزاب.
٭ أشرت في مقدمة كتابك (مغامر عماني في أدغال أفريقيا) إلى ما أسميته بـ«لذة سرد المغامرات» التي تجعل من السارد مبالغاً في نقل الوقائع، ألا تجعل هذه اللذة المغامر مبدعاً للأحداث؟ وهل يقودنا هذا إلى التشكيك بالكثير من السير الذاتية التي رواها أصحابها؟
بداية ، اعتقد أن كل كتابة شعرية أو نثرية هي سيرة ذاتية بشكل من الأشكال. فالشاعر، مثلاً، عندما يكتب قصيدة في موضوع ما إنما يكتب سيرته بالمعنى العميق للكلمة، أي أنه يؤرخ لحالته الشعورية والنفسية في تلك اللحظة الكتابية. أما السيرة الذاتية كفن أدبي له قواعده المعروفة وما يتصل بذلك من السؤال المطروح دائماً حول مدى صحتها وموضوعيتها في نقل الأحداث والحكم على الشخصيات فهذا موضوع حوله الكثير من الآراء، فهناك من يميل إلى الحقيقة والدقة والتمحيص في النقل، وهناك من يميل إلى الفن ولا بأس عنده ببعض الإضافات التي تجعل من هذه السيرة أمراً ممتعة قراءته. وإذا نظرنا إلى السير الناجحة نجدها هي تلك التي تميل إلى الفن وإلى الخيال واستكمال بعض الصور الناقصة في الواقع. وعندما نقرأ، مثلا، كتاب «طوق الحمامة في الألفة والإلاف» لابن حزم الأندلسي نستمتع كثيراً بقراءته وقراءة تحليلاته النفسية المعمقة وحديثه الصريح في الحب والمرأة والدين، دون أن ننشغل بكذب ما يقول أو بصدقه عما يقوله عن نفسه وعن الآخرين. والأمر نفسه عندما نقرأ «الخبز الحافي» لمحمد شكري وحديثه الصريح الجارح في أحيان كثيرة لمجتمع قاس. وغني عن الذكر أن الواقع نفسه في كثير من الأحيان أغرب من الخيال.
وعندي أن السيرة فيها الكثير من الذاتية، وأن كاتبها يريد أن يبرز للقارئ وجهاً واحداً من وجوهه الكثيرة أي أنه يضع قناعاً يمنع وجهه «الحقيقي» من البروز. وتجمد السيرة إذا تحولت إلى تاريخ يعنى بالحقائق الموضوعية على حساب الفن.
ومن هنا فإن قضية التشكيك في مصداقية السير الذاتية ليس سؤالاً محسوباً على الفن، وإن كان بطبيعة الحال ينطلق من مسلمة مسبقة هي أن كاتب السيرة الذاتية يقدم حقائق عن نفسه. ذلك أمر قد يتيسر ، وإلى حد ما فقط، في السير الغيرية، أي السير التي تكتب عن شخصيات مرموقة أو غير مرموقة بطريق كتاب محترفين. أعتقد أن السيرة الذاتية التي فيها الكثير من الكذب، فيها الكثير من الفن.
٭ أهديت كتابك إلى الناصر الحالم بواقعية مدهشة، كيف يمكن للمبدع أن يؤسس لعالم فني خارج حدود الوعي بالواقع؟
الوعي العميق والحقيقي بالواقع شرط من شروط الإبداع كما أحسب. فمن ذلك الواقع يستمد المبدع مادته ويضيف عليها أو يعدِّلها ، ومع ذلك الواقع يفترض أن يتفاعل معه المبدع أخذاً وعطاءً. وذلك لا يعني أن المبدع محصور ضمن حدود قارّة و أطر ثابتة بل حر ، تماماً، بتشكيل الواقع الذي يريد. والذي أجده في كثير من إنتاج شباب الكتاب ، وربما شيبهم أحياناً، ضعفاً كبيراً في الوعي بالواقع ومعرفته معرفة حقيقية والتفاعل البنّاء معه قبولاً ورفضاً ، الأمر الذي يجعلهم سجيني اللغة ويدورون في ألفاظ تبدو كبيرة ورنانة ولكنها خالية من المغزى لضعف ذلك الوعي الناتج عن ضعف الموهبة أو انعدامها. إن الكثير مما يكتب ويحسب على الحداثة الأدبية لا علاقة له لا بالحداثة ولا بالإبداع أصلاً، إنه تيه في الفراغ ونمط من الحداثة المعطوبة ، كم يسميها الناقد المغربي محمد بنيّس. إن الكثير مما ينشر خاصة في الملاحق الأدبية والآن في المواقع الالكترونية مما يحسب أنه إبداع لا يستحق النشر والاهتمام أصلاً. ولكنه شاع ضمن شروط يعيشها ويعانيها الواقع العربي يتكرس معها التخلف التعليمي والتراجع الثقافي على حساب الوعي الحقيقي بالأشياء.
٭ يتميز العمانيون بانفتاحهم على لغات العالم الخارجي من خلال إقامة الكثير منهم في شرق افريقيا وأماكن أخرى من العالم، ومع ذلك لم نر جهداً واضحاً في الترجمة، إلامَ تعزو هذه الظاهرة؟
نعم ذلك صحيح إلى درجة بعيدة فالتاريخ العماني مثله مثل تاريخ أي أمة أصيلة موغل في التفاعل مع الآخر، تفاعلاً هادئاً أحياناً وصاخباً في أحيان أخرى. فهناك العلاقات الدبلوماسية والتجارية القديمة مع فارس والهند والصين وغيرها، وهناك لحظات الاحتدام والمواجهة الحربية كما حدث من جيراننا الفرس ومع البرتغاليين. وهناك على مستوى آخر الهجرات إلى عمان لأجناس أخرى وهناك الهجرات العمانية نحو الخارج. كل ذلك تم خلال فترات زمنية طويلة وأنتج واقعاً معاشاً الآن في عمان من حيث أن تلك الأجناس التأمت في المجتمع العماني مشكلة ذلك النسيج البالغ الانسجام ، في واقع الحال، ولكن دون أن تخسر بعض الخصوصيات المشكِّلة لهويتها اللغوية و المذهبية. إننا بحاجة إلى أن نترجم وبزخم عن الفارسية وعن لغة الأردو وعن اللغة البرتغالية وعن السواحلية. وذلك أمر تفرضه ظروف موضوعية كما أسلفنا، وقد دعت إليه القيادة السياسية لهذا البلد في حديث صاحب الجلالة السلطان المفدى في الجامعة، ومن الضروري أن تترجم هذه الرغبة السامية إلى خطوات محددة ملموسة تبلغ الهدف في أجل منظور. وربما كان على الجامعة وعلى المؤسسات الأكاديمية الأخرى أن تقوم بخطوة عملية في هذا المضمار.
٭ لننتقل الآن إلى تجربة دراستك بجامعة لندن، في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية، ماذا أضافت إليك تلك التجربة؟
نعم هذه التجربة الرائعة مرتبطة بمنحة سخية من جامعة السلطان قابوس تلقيتها لإعداد أطروحة الدكتوراه، وكانت حول «الطابع الحسي للصورة في شعر عبدالله بن المعتز» ، وقد سعدت بأن رافقني، مشرفاً على الأطروحة ، الأستاذ الدكتور كمال أبو ديب أستاذ كرسي الأدب العربي بجامعة لندن، الذي غمرني بعلمه الجمّ وكرمه النبيل، وكان له الفضل الكبير في توجيه الباحث إلى المنهج الملائم للأطروحة، وشحذ مهارته النقدية، بصبر وأناة ممزوجتين بحب وتقدير للباحث وموضوعه عزّ نظيرهما، خففت كثيراً من صعوبة التجربة وجفاء الحياة وجفافها في الوسط الإنجليزي المختلف في الثقافة تماماً عنا. وهذه النحو من التبني لا ينفك أبو ديب يسديه للكثيرين من طلابه.
إن تجربة الدراسة تلك ليست أقل من ميلاد جديد للباحث والإنسان، إذ أتاحت لي الفرصة لقراءة المصادر العلمية ، خاصة تلك المتصلة بالمنهجية، في مظانها، والاستفادة من المناشط العلمية والثقافية التي لا تفتر أبداً في الجامعة أو المكتبة البريطانية القريبة من جامعتي أو غيرهما من مؤسسات علمية. بداية كل أسبوع وعند مدخل الجامعة نجد برنامجاً معلناً بما سيحمله الأسبوع من محاضرات ومؤتمرات لا بد من أن نتخيّر بعضاً منها فقط لأنه من المستحيل فعلاً متابعتها كلها لكثرتها ، ففي اليوم الواحد ليس أقل من خمسة مناشط تتوزع النهار وتلتهم بعضاً من الليل. ومرةً نظم قسم الدراسات الأفريقية ندوة حول «الخطاب الديني في الأدب في شرق أفريقيا»، وطلب مني المشاركة فقدمت دراسة حول الخطاب الديني في شعر أبي مسلم البهلاني (1920 م) الذي عاش جلّ عمره في زنجبار بشرق أفريقيا، ثم نشرت الدراسات جميعها في عدد خاص في مجلة الدراسات الأفريقية.
٭ لماذا وقع اختيارك على هذا الموضوع؟
هناك بطبيعة الحال جملة من الأسباب لا مجال لبسطها كلها ولكننا نذكر أهمها، فدراسة شعر ابن المعتز المنتمي إلى العصر العباسي هي انحياز للعصر الذهبي للحضارة الإسلامية في قمة تألقها، فيما بلغته تلك الحضارة من ثراء في الإنتاج الفكري والفني حداً لم تعرفه في العصور الأخرى، وقد ظهرت مدارس شعرية متعددة ومتباينة في موجِّهاتها الفكرية ورؤاها الفنية. والسبب الثاني هو أن دراسة الصورة عند شاعر أو مدرسة ما هي بحث في أهم ما يميّز العمل الشعريّ من مكونات، فما التمايز بين المدارس المختلفة – في العمق – إلا تمايز يقوم على فهم كل مدرسة للتصوير والتخييل. ذلك إلى جانب أن الصورة تمتلك طاقة كاشفة لجانب تميّز كل شاعر عن الآخر وتسبر أغوار نفسه ومزاجه. وثالثاً، أن ابن المعتز الناقد الذي أسهم في تقديم مدرسة البديع التي كانت محاربة من قبل اللغويين ونَقَدة الشعر في أوانها من خلال مؤلفه «كتاب البديع»، هذا الكتاب الذي منح تلك الحركة الشعرية صك اعتراف بشرعيتها وأن جذورها عميقة في الشعر الجاهلي والقرآن الكريم والحديث النبوي وكلام العرب، أقول إن هذا الناقد أسهم أيضاً في التعريف بكثير من الشعراء المغمورين في زمنه من خلال كتابه «طبقات الشعراء» ، ولكنه لم ينصفه أحد من الباحثين بدراسة تحليلية تبرز صنعته الفنية في مجال برع فيه كثيراً هو الصورة الشعرية، التي عني بها عناية فائقة لدرجة كان يقول معها: «إذا ذكرت كأنّ ولم آت بالصورة ففضّ الله فاي»، إي إذا لم آت بالصورة المميزة. وعلى العكس فقد قُدِّم دائماً على أنه أمير مرفّه لا يجيد سوى وصف الجواهر وآواني الذهب والفضة إلى غير ذلك من آراء حول تقليدية تشبيهاته واستعاراته بل ومجانيتها. لقد كشفت دراستنا أن هذه آراء لها نصيب قليل من الصحة .
٭ هل لك أن تذكر لنا أهم النتائج التي توصلت إليها دراستكم؟
إن القراءة المتأنية لشعر ابن المعتز تكشف أن وراء هذا الفرح الظاهر والاستقبال الباهر بالحياة حزن مقيم وقلق مستمر يكاد لا يهدأ حتى تتصاعد حدته ثانية، وأن هذا الإكثار من ذكر الجواهر وما شابهها ما هو إلا هروب من واقع مرير يحاصر الشاعر. ويتأكد لدينا هذا الفهم من جملة معطيات نجدها في شعر ابن المعتز، من بينها شكوى مستمرة من واقع مسفٍ لا يعترف بحقوق ابن المعتز ولا بإمكانياته.
لئِنْ عــرِّيتُ مِـن دوَلٍ أراهــا
تــجَـدَّدُ كـــلَّ يـوم لـلـكِـلابِ
لقـدْ أخلَـفـُتهـا بَـعْـدَ ابـتـذالٍ
لها ، وَ مَللتُها قَبْلَ الذَّهابِ
ومن شأن هذا الوضع أن يضيِّق على الشاعر في حياته وتحركاته أيما تضييق، خاصة أنه له بالسياسة والخلافة علاقة وشيجة يُخشى من أن يطلبها فأُقصيَ وزجَّ به في السجن عدة مرات – لا لمنكر أتاه ولكن لمنع ما عساه أن يحدث- عند فراغ منصب الخلافة وقبل أن يمتلئ بمن يريده المسيطرون على الأمر آنذاك.
ثمة نتيجة أخرى تتصل بالصورة الشعرية وما نجده فيها من تفكك طبيعة العلاقة بين طرفي الصورة الواحدة، حيث نجدها تحمل عناصر تثير مشاعر متناقضة، إذ ترتبط بعض الموضوعات الإيجابية بصور تثير انفعالات سلبية مما يشوش الأثر العام للصورة. فوصف مجالس الشراب بما فيها من متع وما يرتبط بذلك من انفعالات ايجابية نجدها يتسرب إليها التشويش بصورة للزق تقطع تلك المتعة:
أتْـلَـفَ المـــالَ و ما جَـمـّعتُـهُ
طـلــبُ اللــذاتِ فـي مـاءِ العـنـبْ
واستباءُ الزِّقِّ مـــن حانوتِها
شائلَ الرجلين مـعـصوب الذّنبْ
كـلّـمــا كـــبّ لـِشــرب خِـلـتـهُ
حـبشيــاً قـطـِّعـتْ مـنــه الرُّكبْ
وصورة خمرية أخرى تربط الخمر بالدم:
لَمّـا وَجاها وَجْيةً في نَحرِها
بـِمُـذلّــــق لِـطـعـــانِهــا مُعتــادِ
جـادَتْ لـه بـِدَم كأنّ نَـفـيّــه
ُ شَــرَرٌ يُطــيِّرُهُ بـِقــَـــــرْع زِنــادِ
ويبدو أن الدم عنده لا يثير المشاعر نفسها التي يثيرها عند الآخرين من اشمئزاز أو تقزز، فهو يحضر كثيراً في مواضع لا نتوقعها.
ومن مجموعة صور التشظي لديه يمكن أن تقدم صورة القمر الذي نجده شديد الحضور في شعره وقد سبق إيراد أمثلة له. أما الصور التالية فنجد القمر فيها مصوراً بشكل يثير انفعالات سلبية أو غير مرغوبة على الأقل، فهو في تقوّسه كظهر الجرذ:
و باتَ كما سَرّ أعداءَهُ
إذا رامَ قُـوتـاً مـن الـنـوم شَـــّذْ
تُغرّزُهُ شَرراتُ البَـعــو
ض في قمر مثل ظهر الجُرَذْ
وفي صورة أخرى كجزء محتقر من الإنسان وهو قلامة الظفر:
و لاحَ ضوءُ هِلال كادَ يَفْضَحُه
ُ مثل القُلامةِ قد قُصّتْ من الظُّفُر
أما الصورة الأخيرة فيظهر فيها موقف الشاعر من القمر بشكل أوضح عبر محاولاته المتتالية في البحث له عن شبيه مناسب. لكنه لا يجد للقمر شبيهاً يظهر درجة احتقاره له، ولذا نجده يصفه بجملة من الأوصاف الذميمة وتشبيهاً وحيداً مقززاً يظهر في النهاية:
يا سارقَ الأنوار من شمس الضُّحَى
يا مُثْكِلي طِيبَ الكَرَى و مُنَغِّصِي
أمّـا ضـيـاءُ الـشمـس فـيـكَ فَناقِصٌ
و أرَى حـرارةَ نـارِهـا لـم تَنقُص
لَمْ يـظـفَـر الـتـشـبـيـهُ مـنكَ بطائل
مُـتَسَـلِّخٌ بَـهَـقــاً كلـــون الأبرص
هذه الصور وغيرها كثير مما لا يتسع المجال لذكره تكشف عن ألم كبير في حياة الشاعر ابن المعتز وتجربة مريرة أثَّرت عليه وانعكست على إنتاجه. وشعره سجل دقيق لذلك العذاب الذي عاناه في صباه وفي رجولته لاحقاً.
٭ كيف تنظرون إلى المشهد الثقافي الراهن بعمان؟
هو مشَهَد لا يختلف كثيراً عن الحراك الذي يعم دول المنطقة وأعنى بها المنظومة الخليجية لتشابه في الظروف الإيجابية والسلبية الفارزة له. من الناحية الإيجابية هناك انفتاح كبير على الكتابة بأجناسها المختلفة، النثرية والشعرية خاصة في القصة القصيرة وقصيدة النثر، فهناك ميل واضح لدى جيل الشباب إلى كتابتهما. وقد تكون بعض المثبطات السلبية كالسلطة الاجتماعية والسلط الأخرى هي ما تدعم ميلهم الواضح إلى الكتابة الرمزية ضد سلطة الأب الذي قد يكون غير الأب البيولوجي لدى أولئك المبدعين للتحايل على الواقع وللحياة في الفن. وهو بشكل عام مشهد إيجابي متعدد الأصوات ومناضل للظهور مستغلاً وسائل التواصل المختلفة المقروءة والمسموعة والمرئية.
أما المشهد الكلاسيكي فحاضر بوسائله المعتادة وبألقه الخطابي المألوف متدثراً بتجذره العميق في التاريخ وفي الذاكرة منذ مالك بن فهم ووصولاً إلى عبدالله الخليلي ومن جايله وتلاه من شعراء القصيدة العمودية.
إلى جانب ذلك هنالك المشهد الأكاديمي الذي يريد أن يؤسس لمعرفة علمية بالتراث الفكري، وعلى الأخص الأدبي، لعمان مراجعاً الأخطاء التي وقعت فيها تجربة إخراج الكتب والدواوين العمانية السابقة من ضعف في الاستقصاء وغياب المنهجية، وكون معظم التراث العماني لا يزال حبيس المخطوطات التي تحتاج إلى ثلاث آلات مهمة دربة علمية وجهد غير متهاون وأمانة. وهنا نشير الى أن الدارسين العمانيين الذين تخرجوا في أعرق الجامعات الغربية والعربية هم من يقف – إلى جانب الباحثين الآخرين، إذ لا يعترف العلم بالقومية الضيقة- وراء بناء تلك المعرفة العلمية. وبطبيعة الحال فإن برامج الدراسات العليا والبحوث العلمية التي تقوم بها جامعة السلطان قابوس ممثلة في طلبة الماجستير تسهم في خدمة ذلك المشروع الكبير نفسه، فقد تخرّج في هذا البرنامج أكثر من سبعين طالباً ، وغالباً ما كانت موضوعاتهم مرتبطة بالبيئة الأدبية واللغوية العمانية. بل إن بعضها اجترحت منطقة طالما ابتعدت عنها البحوث العلمية إيثاراً للسلامة وهي قصيدة النثر، كما فعل الباحث حميد الحجري في أطروحته الموسومة بالصورة الشعرية عند سيف الرحبي ، والتي سترى النور قريباً. وهناك برنامج للماجستير يشق طريقه مستقبلاً الدفعات الأولى من الطلاب الذين لا ينقصهم الحماس، في هذه الفترة في جامعة نزوى بجهد ومثابرة من الناقد المعروف الدكتور محمد لطفي اليوسفي.
ــــــــــــــــــــ
(٭) تحر