سراديب الذاكرة المراوغة هي النبع الذي يمتح منه محمد بن سيف الرحبي(1) روايته «الشويرة»(2).
فالرواية كلها استدعاء ذاكرة البطل «صالح» الذي تجاوز عمرة المائة عام لعالم عاشه هو وآباؤه وأجداده، عالم يلذ له تذكره وهو يجوب طرقات حارته «الشويرة» إحدى حارات قرية سرور. لكن التذكر يصبح أحيانا قاسيا مؤلما وشديد الوطأة على صالح لما في هذا التاريخ الذي يحمله على ظهره من نكبات ومعاناة يصعب أن يتحملها إنسان.
ومن هنا يأتي (لعب) الكاتب مع ذاكرة بطله، فهو لا يكتفي بسرد ما يدور في مخيلة تلك الذاكرة، بل يعينها على التذكر، ويساعدها على إعادة بناء الماضي بناء منطقيا متماسكا رغم ما يعرف عن الذاكرة من انتقائيتها ولا منطقيتها أحيانا، والأهم أنه يحاكمها، ويواجهها، ويواجه بها تاريخ وفكر مجتمع بأسره، ليس فقط مجتمع الشويرة، أو سرور، أو حتى عمان، بل ربما المجتمع الإنساني الذي قام على استغلال الآخر، والاستعلاء عليه نتيجة أشياء لا يد له فيها مثل لونه.
الضمير يخاطب
ربما يجب أن نؤكد أن استخدام ضمير المخاطب ليروي «الشويرة» كان اختيارا موفقا جدا من الكاتب، لكن الأهم في هذا التأكيد أن نحمل كلمة «ضمير» هنا كل الدلالات النفسية والاجتماعية والأخلاقية لهذه الكلمة، إذ ضمير المخاطب هنا ليس مجرد إشاره لغوية، بقدر ما هو أداة محملة بكل معانيها المشار إليها.
فالكاتب يعي أن الذاكرة هي إحدى صور ضمير المرء الذي يراجع حياته، خصوصا وهو في نهاياتها، وهذه المراجعة تستدعي مسافة بين الشخص وذاكرته، مسافة وحميمية معا لا يحققهما ضمير المتكلم ولا الراوي العليم، ولكن ضمير المخاطب هو الأنسب لهlا. والأمر في الشويرة يتعدى حتى هذه الملاحظة، إذ أن المسافة المذكورة يمكن أن تكون مراوغة أو متلونة، حيث ينتقي المرء ما يتذكره، أو يمر سريعا على ما لا يريد أن يعيده لأنه يدينه، فيعمق الكاتب من استخدام ضمير المخاطب بأن يجعله ما يمكن أن نطلق عليه الطبقة الموضوعية للتذكر، فيكون التذكر؛ أو بالأحرى التذكير، واضحا وموضوعيا يمتلك القدرة على المواجهة، وهو هنا يكون لسان حال الذاكرة الجمعية بأكثر مما هو لسان حال ذاكرة البطل الفرد «أعيد عليك ما توارى من سيرتك، ومسيرتك»(3). لذا فالرحبي يستخدم نفس ضمير الخطاب في روايته لكن بمستويي حكي، أحدهما ذاتي فردي يجنح إلى ما يهدئ الذات أو يعلي من شأنها أو يدين الآخرين والمجتمع ويلقي عليهم باللائمة، وهو أيضا شاعري وخيالي ويصدق الأساطير ويرسم حياته بناء عليها، وهذا المستوى تجنح لغته السردية إلى استيعاب مزيج الحكمة والشعر معا، أما المستوى الثاني للحكي بضمير المخاطب فهو صوت المجتمع والتاريخ والحقائق المجردة، وهو يواجه البطل الفرد بحقيقته، وحقيقة ما حدث له ولأسرته، ويكشف الأوهام عن أفكاره وأساطيره، ويؤطر مأساته الشخصية في إطار قيم المجتمع، ويوضح سيرورة الحياة وتغيرها بتقاليدها وقيمها مقابل جمود البطل في قوقعته التي لا يريد أن يغادرها، بل ويراكم طبقاتها حول ذاته حتى لا تنكسر أو يضطر للخروج منها، وإن كان المجتمع بقيمه العتيقة هو الذي أدخله فيها منذ البداية،ولغة الكاتب هنا أكثر موضوعية ومباشرة «ليس بيدك أن تحذف من ذاكرتك ما لا ترغب فيه، خلقت ذاكرتنا لتقتص منا»(4).
الحكي العشوائي
«تعيد ترتيب الأشياء التي تناسبك»(5).
«لكن أن يلتقي المعشوقان، ساكن البيت العود، وساكنة بيت السعف، لم يكن في حسبان أي سروري.. والزمان الذي كان ليس كالزمان الذي سيكون»(6).
ترى هذه القراءة لرواية الشويرة أن العبارتين السابقتين هما مفتاحا الرواية، مفتاحها التقني، ومفتاحها الموضوعي أي على مستوى الموضوع.
فالكاتب يقدم تاريخ أسرة لا أحد يعرف أصل أهم شخصية فيها، سلامة بنت يحيي، الجدة الكبرى التي سخرت الجن لخدمتها فبنوا لها البيت العود أي الكبير، وأبعدوا عن أسرتها الأمراض والأوبئة، ومنعوا أو عاقبوا أي شخص يخوض في سيرتها، فزوجها صالح (نفس الاسم الذي حمله بطل الرواية وكأنه يغلق دائرة السلالة) الذي غادر القرية فجأة بلا سبب مؤكد، وابنها ناصر الذي غادر خلف عبدة عشقها «جدك وفي لعشقه، تزوج معشوقته، الآخرون أبقوهن عشيقات لا عاشقات، وألقوا فضيحة النسل في بيوت الفقراء الذين لا يرومون رفع أعينهم في وجوه أسيادهم»(7)، وأنجب منها هلال والد صالح البطل الذي عشق هو الآخر عبدة «مومس» لكنه لم يتزوجها، بل أمرها بترك القرية وفي بطنها نطفة منه ليداري الفضيحة، هذه العائلة بكل ما ترويه الرواية من علاقاتها المعقدة المتشابكة، الضاربة أحيانا في الأسطورة، وأحيانا أخرى في العشق المحرم اجتماعيا لأنه يخلط الطبقات، وأحيانا في العشق المحرم دينيا وأخلاقيا، والمفككة في كل الأحوال، والمكتوب عليها الترحال والغربة دائما، يقدمها لنا الكاتب بتقنية سرد تبدو عشوائية، هي ليست مجرد تذكر عشوائي، لكنها عشوائية مقصودة، يقدم ويؤخر، ويقتطع بعض الأحداث من حكاية ثم يكملها في حكاية أخرى، وهكذا، لأن هذه التقنية هي الأنسب لسرد تاريخ مثل هذه الأسرة، لذلك نجده يعود إلى الثنائية التي تحكم الرواية كلها، فعندما يكون الموضوع هو أسرة سلامة بنت يحيي يكون السرد غامضا، متقطعا، يحتاج إلى قارئ ذي ذاكرة متيقظة ليربط الحكايات والأحداث بشخصياتها، وعندما يتعلق السرد بغير هذه الأسرة يكون واضحا فيه الكثير من التسلسل المنطقي المقبول.
أما على مستوى الموضوع فهو يقدم ثنائية أخرى، تبدو في ظاهر الحكاية العلاقات بين السادة والعبيد، والفصل الاجتماعي التام بينهم حتى يحرم أن يلتقوا جنسيا فتختلط الأنساب، لكنه في الطبقات العميقة للرواية يشير إلى المجتمع الطبقي القائم على تسلسل صارم نتيجة قوة العادة والتاريخ والسلاح والاقتصاد. فالشيخ يحكم هذا المجتمع كإله، فوقه آلهة أخرى؛ الإمام والسلطان، تحته آلهة أصغر؛ شيوخ القبائل، الكبار في الأسر، الأثرياء، حتى نصل إلى العبيد الذين يقبعون في أحط نقطة في هذا التسلسل الظالم.
المجتمع الذي تزلزل لعشق جد البطل للعبدة ابنة خادوم عبد شيخ القبيلة، وذهابه خلفها في البلاد يبحث عنها بعد أن طردها الشيخ مع أسرتها، وعودته بها لتعيش وأولادها في بيت أمه سلامة بنت يحيى، هو نفسه المجتمع الذي نراه في نهاية الرواية متقبلا لخروج حفيدة البطل مع زميلها الطالب الجامعي الأسود، حبيبها الذي سيخطبها بعد التخرج، لكن البطل صالح نفسه لا يتقبل هذا الأمر، وهو لا يمثل نفسه العائشة في الماضي فقط، بل يمثل ما لم يزل قابعا في أعماق المجتمع بعيدا عن ظاهره السطحي. فهذه الثنائية لم تنته وإن اتخذت أشكالا أخرى، أو اتجاهات مختلفة عما كانت عليه في الماضي.
شيزوفرينيا العنصرية
تبدو مأساة صالح أنه حفيد بنت خادوم، وقد ولد بلون جده خادوم وملامحه، رغم أن جده الآخر قبيلي من الأشراف، ورغم أن أمه ابنة أخ شيخ القبيلة نفسه، لكنه «كأنك لست القبيلي وسط رجال القبائل، ولست بين الخدم إلا ابن البيت العود». فهو لا يجد ذاته بين هؤلاء ولا بين هؤلاء. لكن الرواية تشير أيضا إلى ما هو أهم وأعمق من ظاهرها. فصالح يؤمن إيمانا تاما بتقاليد المجتمع وقيمه، التقاليد نفسها التي يريد أن يكسر طوقها ليحقق أحلامه. ففي الوقت الذي يريد أن يكون من الأثرياء (الهناقرة) وأن يكون أحد أعضاء مجلس الشيوخ، ويمنعه لونه من الحصول على هذا الاحترام الذي تحققه الثروة العظيمة التي امتلكها بجده وكده، كما يعرضه للسخرية لمجرد أنه فكر في الترشح لعضوية المجلس، يؤمن إيمانا تاما بأن الناس درجات وغير متساويين، وأبناء القبائل هم خير من ذوي اللون الأسود حتى لو وصل الأخيرون إلى أعلى مناصب الدولة بذكائهم وكفاحهم. «أعرف أنك ستسترجع الذكريات وزمن العبودية، أخوك حمد كان يضرب الأرض تحية إذا مر سيده حفيد عديم، وتقول في سرك «الله يرحم أيام زمان».. تحرروا في الظاهر، ولا يزالون في بواطنهم.. لست وحدي، المجتمع عنصري رغما عني وعنك»(8).
الأسطورة الحقيقية
لا أحب وصف الغرائبية عندما يطلق على أدب أمريكا الجنوبية وما دار في فلكه مما يطلق عليه وصف «الواقعية السحرية». لأنني أعتقد أن وصف الغرائبية هو عنصري بالأساس، أطلقه الذين لا يكتبون هذا الأدب، ولا يعيشون في هذا المجتمع، فهو غريب بالنسبة لهم، لكنه ليس غريبا على أصحاب الأدب والمجتمع الذي نبت فيه. وهو ما ينطبق تماما على ما امتلأت به رواية الشويرة من حكايات تدخل في باب الواقعية السحرية إن تناولناها تناولا سطحيا، لكنها تدرج ضمن واقع المجتمع الذي عاشها وآمن بها، ورسم أفكاره وتاريخه وخريطة تعاملاته الاجتماعية والاقتصادية بناء عليها، مثل حكاية سلامة بنت يحيي وعلاقتها بالجن، وأسطورة شيخ القبيلة، والمرأة التي أرضعت البطل ما ليس كالحليب، والتي ظهرت هي نفسها للأمهات اللائي أنقذت سلامة بنت يحيي أبنائهن من الحصبة، هذه المرأة التي يبدو أنها أحد الجن المسخرين لخدمة بنت يحيي، بل وأسطورة البطل صالح نفسه التي ينشئها الكاتب ويقدمه لنا وكأنه عزير الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، ليرى القيم تغيرت وإن على السطح، ويرى البيوت الأسمنتية تحل محل البيوت الطينية، ويرى الأساطير القديمة لا يتذكرها أحد إلا هو، حيث تنشأ أساطير جديدة مناسبة لهذا العصر، لكن التاريخ لا يتوقف عن الدوران، فكما يشير الكاتب إلى حكاية عنترة التي قلبها جده فتزوج من العبدة السوداء بنت خادوم، تغلق الدائرة بعنترة آخر يأتي من الجامعة في سيارة مع رقية حفيدة البطل البيضاء.
المراوغة بين الكاتب والقارئ
ربما تكمن القدرة الإمتاعية التي تتميز بها هذه الرواية في شغبها ولعبها مع القارئ، فهي تلعب معه لعبة الثنائية على المستويين التقني والموضوعي، وهي تقدم نفسها في طبقات متعددة صالحة للغوص والحفر والتنقيب والتأويل، إذ يبدو الكاتب كدليل ذكي وخبير في عالم لا متناهي يضع القارئ على الطريق، ويشير له إلى الآثار غير الواضحة في الرمال الوعرة، ويتركه يكمل هو المشوار، حيث أن هذه الرواية التي لا تتجاوز 172 صفحة من القطع المتوسط تستطيع حكايتها وشخصوها وامتدادها الزمني والجغرافي أن تستوعب خمسمائة صفحة، لكن الكاتب (القاص والشاعر) تمتع بفضيلة التكثيف والإيجاز الإشاري فأعطى عمله قيمة فنية مضافة.
هوامش:
1- محمد بن سيف الرحبي، روائي وقاص وشاعر وإعلامي عماني.
2- الشويرة، رواية، بيت الغشام للنشر والترجمة، سلطنة عمان، مسقط، الطبعة الأولى2014
3- الرواية ص 14
4- الرواية ص15
5- الرواية ص35
6- الرواية ص77
7- الرواية ص93
8- الرواية ص60 وص167
منير عتيبة\
\ كاتب وقاص من مصر