تكشف النماذج النسائية كما جسدها الصوغ الروائي في «زمن الأخطاء» عن صورة ثقافية يمكن أن نقرأ فيها وعبرها صورة المجتمع بكل ما يموج فيه من أعطاب نفسية واختلالات اجتماعية. لقد قدم شكري في هذه الرواية صورة للمرأة باعتبارها بنية ثقافية تخدم منطق السرد في تركيزه على عالم الغرائز الذي مثل في سياق الرواية طبقة سردية توخى المؤلف من خلال الحفر فيها بعمق الكشف عن وضع المرأة في ظل مجتمع ذكوري لا يسمح لها سوى بحضور شاحب وباهت. فالمرأة، كما تصورها الرواية، تابعة للرجل وخاضعة له. إنها موضوع لمغامراته الجنسية ومجال لتحقيق نزواته وإشباع غرائزه واستيهاماته. لقد مثلت المرأة أداة لرصد تحولات المجتمع المغربي وكتابة تاريخه السري في الفترة التي أعقبت مرحلة الاستقلال. الأمر الذي جعل من صورة المرأة في هذه الرواية مرآة حساسة وشفافة تنعكس عليها الأخطاء الكبرى التي ارتكبها المجتمع في حق أبنائه.
سردية الذات وشعرية الكتابة المضادة:
يتشيد الأفق الجمالي في «زمن الأخطاء» انطلاقا من متاح السيرة الذاتية، حيث تستند في الرواية، في بناء معمارها النصي ومحتملها الجمالي، إلى كتابة حميمة تستدعي اللحظات المثيرة من حياة المؤلف. فشكري يمثل الشخصية المحورية في «زمن الأخطاء».
وهو كذلك السارد الرئيس واسم المؤلف في ذات الوقت. يحكي في هذه الرواية سيرته الذاتية وواقعه الشخصي بصيغة سردية يتفاعل فيها ويتشابك الذاتي والموضوعي، والواقعي والمرجعي، والمحكي والمعيش.
وإذا كان ميل الكاتب إلى تشييد سرد ذاتي استنادا إلى بناء حكائي يقوم على سرد حياة الآخرين قد منح سيرته طابعها الروائي الموضوعي، فإن ذلك لم يؤد بها إلى الخروج عن ميثاقها الخاص باعتبارها رواية تتوخى تمثيل الأخطاء الكبرى المحببة إلى صاحبها متوسلة في ذلك بممكنات التخييل السردي التي تتيح استقصاء تجربة حياتية ذاتية مثيرة وقاسية.
يكشف التأمل الدقيق في رواية «زمن الأخطاء» أنها شيدت بناء مفتوحا على أفق جديد في مجال الكتابة الخاصة بالسيرة الذاتية عندما قدمت نموذجا مضادا لنسق الكتابة عن الذات كما شاع في نصوص الروائيين العرب المعاصرين؛ فإذا كانت الوظيفة الأساس لكتابة السيرة الذاتية تتمثل في التطهير عن طريق الاعتراف، فإن «زمن الأخطاء» صدرت عن وعي شقي يحتفي بالأخطاء الكبرى إلى درجة هجاء الذات والانتقاص منها، حيث تزخر الرواية بالأوضاع السردية والمشاهد الروائية التي تتناقض تماما مع مطلب الاعتداد بالنفس والفخر بإنجازاتها كما دأبت على ذلك معظم النصوص الروائية التي أنجزها كتاب السير الذاتية العربية. بل إن نقد الذات يرتفع أحيانا في «زمن الأخطاء» إلى درجة التجريح والسخرية المرة.
– «نشرت لي جريدة العلم قطعة نثرية «جداول حبي» مع صورة بالبابيون. دوخني الفرح وسكرت احتفالا بموهبتي الأدبية. اشتريت أعدادا كثيرة وزعتها على رفقائي لأشعرهم بأهميتي بينهم. فكرت: ابن الكوخ والمزبلة البشرية يكتب أدبا وينشر»(1).
– «أحلق وجهي مرة أو مرتين في اليوم إلى حد البرنزة. أتعطر حتى صرت أحمل في جيبي قارورة صغيرة من عطر الجيب. ابن البراكة وعشير الفئران يتأنق. يتحضر. يتطور. يخرج من جلد خشن ليدخل في جلد ناعم» (130).
غير أن الإمعان في هجاء الذات والاعتراف بوضاعتها يكسبان المؤلف داخل السياق الروائي نبلا من طبيعة خاصة يتلاءم مع شعرية الكتابة المضادة التي بدأها شكري في سيرته الشهيرة «الخبز الحافي» ثم واصل ترسيخها في نصوص سردية لاحقة أبرزها «زمن الأخطاء» و«وجوه».
يغدو نقد الذات في كثير من الأحيان نقدا للمجتمع وكشفا عن عيوبه وتناقضاته؛ فالبغاء والمثلية الجنسية والمخدرات والعنف الأبوي وزنا المحارم من المسائل التي دأب كتاب السير الذاتية العربية على تجنب الخوض فيها، لأنها تجرح الذوق بسبب تعارضها مع الثقافة السائدة، كما أن المجتمعات العربية تحكم في الغالب على الضحية وتبرئ الجلاد. ولذلك كان أهم ما أثار اهتمام النقاد والقراء في هذه الرواية وتسبب بالتالي في نجاحها هو خرقها للمألوف وخروجها عن السائد في كتابة السيرة الذاتية. وهو أمر يمكن إرجاعه بالدرجة الأولى إلى الأحداث الفريدة التي عاشها المؤلف إضافة إلى الصدق والجرأة في نقل الأحداث وسرد المواقف. لقد صاغ شكري سيرته الذاتية بلغة عارية لا تأنف من تصوير المشاهد العنيفة والصادمة محاكيا بذلك عوالم القاع والهامش بلغة تحتية جريئة تنقل الواقع بلغته وتحاكيه بأسلوبه متقصدة من ذلك إحداث صدمة جمالية لدى القارئ الذي تعود على السير المكتوبة بلغة أنيقة تمجد الذات وتسرد الإنجازات كما هي الحال في «الأيام» لطه حسين، و«أنا» للعقاد و«حياتي» لأحمد أمين و«في الطفولة» لعبد المجيد بن جلون، و«أوراق» لعبد الله العروي.
تنزع أغلب النصوص الروائية التي تكتب انطلاقا من ممكن السيرة الذاتية إلى الاحتفاء بـ «أنا» المؤلف وتجميل صورتها؛ فسيرة الذات لا تكتب في الغالب إلا بعد تحقيق انتصار أو عقب الانتهاء من إنجاز أو عند منعطف حاسم من مسار حافل. إنها النص الذي يتوج تجربة حياة ناجحة الغاية من سردها تقديم الدروس والعبر للقراء والناشئين. مما يجعل هذا الصنف من الإنتاج السردي يتسم بألوان ملحمية تخضع لإرادة التميز والاعتداد بمنجزات الذات. وهذا الأمر يتناقض تماما مع صورة الذات المسحوقة التي تعرضها «زمن الأخطاء»: «ثيايي تتسخ وتبلى وتفوح منها روائح جسدي. القمل يعشش فيها. حذائي يتسرب إليه الماء. شعري يغزر ويتدبق وسخا. أحكه باستمرار حتى يسود ما بين أظافري. حين أمشطه إلى الأمام. لأنظفه من قشرة الرأس والغبار، يتماشط منه قمل أسود نشيط. في كل مشطة لا أقل من ثلاث أو أربع قملات سمينة تتحرك بحيوية» (47).
يظهر من هذه الصورة الروائية أن القصدية التي وجهت برنامج السرد الذاتي في «زمن الأخطاء» لم تضع لها هدفا الإعلاء من قيمة الذات وتلميع صورتها. فشخصية السارد في هذه الرواية لا تستمد قيمتها من القدرة على قهر الصعاب والتغلب على المحن، ولكن اكتمال البطولة يتحقق من خلال السقوط الفردي والانهيار الجماعي. ويتجسد ذلك روائيا عن طريق تصوير بؤس الإنسان ومحنة الوطن.
إدانة الواقع: السرد وكتابة الاحتجاج
تتميز الكتابة في «زمن الأخطاء» بأنها عنيفة متوحشة وانتهاكية. تقول الحقيقة الروائية عارية عن أصباغ التعابير الرومانسية المموهة والخادعة: «أنا لا أعرف كيف أكتب عن حليب العصافير، واللمس الحاضن للجمال الملائكي، وعناقيد الندى، وشلالات الأسود والعندلات. أنا لا أعرف كيف أكتب وفي ذهني مكنسة من بلور. المكنسة احتجاج وليست زينة» (ص 131).
إن الجرأة التي كتبت بها «زمن الأخطاء» مكنتها من الحفر عميقا في طبقات الزمن المغربي مسلطة بذلك أضواء كاشفة على المناطق المعتمة في مغرب ما بعد الاستقلال. إنها كتابة تنتقد الواقع وتفضح المسكوت عنه بما تصور من مشاهد البؤس الإنساني والتخلف الاجتماعي اللذين عانت منهما فئة عريضة من الفقراء والمهمشين: «ركبت حافلة الحي الجديد بحثا عن مدرسة المعتمد بن عباد . حي مليء بنبات الصبار والغبار والأزبال والأراضي البور … مساكنه أكواخ من طوب وقصدير وأهله بدويون . سحناتهم كالحة مثل أسمالهم. أطفالهم يتغوطون ويبولون قرب أكواخهم» (21).
وبهذا الاعتبار يمكن النظر إلى «زمن الأخطاء» بوصفها رواية ترصد مظاهر القهر النفسي والإحباط الاجتماعي. مما جعل الكتابة الروائية تتحول إلى وسيلة لإدانة الواقع والاحتجاج عليه. ذلك ما تعكسه هذه الصورة التمثيلية التي يلخص من خلالها السارد قصة التحولات التي عصفت بحياته في فضاءات طنجة ولياليها الرهيبة: «أحسني أحيانا مثل ثور المصارعة الذي يخرج من نفق الظلام إلى النور لينطح الهواء، ويشحذ أماميته وخطمه في الرمل مبددا صدمته قبل أن يبدأ صراعه مع قدره المحتوم»( 164).
تكشف هذه الصورة الروائية عن انقسام الذات وتوزعها بين الأضداد والمتناقضات؛ الظلمة التي نمت فيها مشاعر وأحاسيس السارد في الماضي، ودهشة النور الذي يقلق الوعي في الحاضر، وبينهما طاقة الحياة التي بددتها الذات في الاصطدام بصخرة الواقع الأليم الذي يحاصرها ويحد من انطلاقها وفرحها بالحياة. إنها صورة تختزل التجربة الحياتية للسارد المشحونة بالأخطاء الكبرى التي يحبها ويسعى إلى إعادة تمثيلها روائيا بغية تأبيدها وتخليدها عبر الممكنات التي يتيحها فعل الكتابة «أكتب هذه المذكرات في حانة جديدة ممسوخة» (209).
وإذ يعكف السارد على كتابة تاريخه الخاص، فإنه يؤرخ في نفس الآن للحياة السرية التي كانت تموج بها فضاءات طنجة ولياليها الساهرة، ليالي الحانات والمواخير الرخيصة التي يرتادها المهمشون والمنبوذون بحثا عن مغامرات عابرة تنسيهم هموم الواقع وقساوة الحياة. وهو ما جعل من الرواية «قراءة للتاريخ السري لطنجة بمواخيرها وحاناتها وبارات الأجانب فيها، والتاريخ الشفهي لثقافتها التحتية ولروادها من صعاليك المغرب والعالم معاً وسجل تحولاتها وأوجاع بنيها، ولا يمكن الفصل في هذا المجال بين تحولات المدينة وتحولات الراوي ، فقد ادغم كل منهما في الآخر»(2).
ومن هنا يمكن النظر إلى «زمن الأخطاء» بوصفها صيغة سردية ترصد سيرة الألم والفقدان، تحتج على الواقع وتدينه من خلال استحضار الذكريات وأخبار الزمن الماضي المشحون بمشاعر القهر والإحباط. إنها كتابة «أنا» متألمة تفتح الجرح وتطرح أسئلة الوجود والكينونة من خلال تدفق سردي يتجادل فيه محكي الذات ومحكي الشخصيات. مما يتيح لنا القول إن غاية المؤلف من كتابة هذه الرواية لا تنحصر في التعبير عن تجربة عاطفية انتهت وصارت إلى الفشل، ولكنه توخى الكشف عن المسارب الخلفية لعوالم القاع الاجتماعي المترعة بالقسوة والعنف «عشت مع برابرة الليل في الدروب الضيقة والحظائر المغثية والخمارات المريبة» (ص 166) .
لقد انطوت الرواية على تصوير لأزمة الوطن ورد في معرض حديث المهاجرين الإسبان عن فاشية فرانكو، حيث توخى الكاتب من نقل هذا الحديث، فيما يبدو لنا، التعبير عن وضع سياسي مماثل عاشه المغرب في الحقبة التي ترصدها الرواية (147-150)، لكنه عندما بدأ الحكي عن معاناة المهاجرين المغاربة انفجر الجرح في أعماقه، فجاء التعبير عن الواقع الأليم بجمل وعبارات مفعمة بالمرارة والفجيعة «لمن هذه الأنغام الحزينة التي أسمعها من بعيد؟ إنها للراحلين في الجمارك وهم يزحفون واقفين. بطء زحفهم يذلهم حتى نخاع العظام. إن مذلة الوطن أقسى عليهم من مذلة الغربة» (164).
من الواضح أن رواية «زمن الأخطاء» تميل إلى سبر أغوار الزمن المغربي من خلال صور سردية تتركز على فضاءات الهامش وشخصيات القاع، حيث تتحول أزمة الشخصيات الروائية إلى مرآة تعكس أزمة المجتمع وهشاشة الواقع، لأن أزمة الشخصيات وإحباطاتها مظهر من مظاهر اعتلال المجتمع و اختلاله، ويمكن اعتبار صورة المرآة كما جسدها التمثيل الروائي في «زمن الأخطاء» أبرز مظهر لأزمة الواقع الاجتماعي في مغرب ما بعد الاستقلال، حيث رصدت الرواية واقع البؤس الذي عانت منه شريحة عريضة من مجتمع الهامش المغربي وتحدثت عنه بلغة جريئة مستفزة ومتحررة من الحشمة الزائفة. تعبر عن القهر وتشخصه لكي ترفضه وتدينه.
المصحة العقلية: الصورة المقلوبة للواقع
لقد عاش المؤلف حياة مليئة بالتجارب القاسية والمؤلمة مما تسبب له في انهيار عصبي استدعى دخوله إلى مستشفى الأمراض العقلية التي قدم عنها محكيات مثيرة تضمنت مشاهد وصورا مأساوية لشخصيات انهارت بسبب الظروف الصعبة التي عاشتها في واقع ما قبل الجنون «المزميري يعتبر المستشفى مسكنه الحقيقي. لا يزوره أحد. له من الرفقاء هنا أكثر مما له في الخارج. هناك مريض حمال في محطة القطار لا يدخل المستشفى إلا في الشتاء لأنه يكون في شبه بطالة. هو أيضا لا يزوره أحد» (175).
وجد السارد في فضاء المصحة العقلية ملاذا من زيف الواقع وإحباطاته التي لم يعد قادرا على تحملها أو التعايش معها. فطالما حلم بمكان معزول ينعم فيه بهدوء النفس واطمئنان القلب بعيدا عن «العلاقات البشرية القذرة» التي سئم منها وسئمت منه: «أكثر أحلامي تذكرا هي طيراني، غالبا ما يكون طيراني فوق الأحراج وينتهي بالنزول أمام مدخل كهف أتخيلني الوحيد الذي يعرفه. أتلذذ فيه بعزلتي بعيدا عن الروائح البشرية التي سئمت منها وسئمت مني» (210).
شعر السارد بين المجانين بالتعاطف ودفء التواصل الإنساني اللذين افتقدهما في علاقته بـ«العقلاء» خارج المستشفى، فالتواجد بينهم ومحاورتهم منحاه راحة البال وجددا له الأمل في الحياة والمستقبل. ولذلك لم يكن يغادر المستشفى إلا لقضاء بعض الحاجات الضرورية: «إنها الخامسة صباحا. عندي امتياز للخروج من المستشفى. لا أخرج إلا لشراء حاجياتي. إن الوجوه في الخارج تبدو لي بليدة، مزعجة، أما هنا فهي وجوه أذكاها الشقاء والقلق الدائم. إن المجانين يفتحون لي أبواب الإلهام لأطل على العالم» (225).
ومن جهة أخرى يبدو عالم الجنون والانهيار كما تصوره الرواية أليفا بالنسبة إلينا، لأن فضاء المصحة العقلية يشبه الواقع خارجها؛ الانحرافات نفسها والمآسي ذاتها (جناح خاص للموظفين وذوي الامتياز الاجتماعي- الاستغلال الجنسي للمريضات من قبل المشرفين على توفير العلاج لهن- لا يخلو المستشفى من عاهرة محترفة أو أكثر- ممارسة الجنس على الحيوانات ….) وهو ما جعل من المصحة العقلية «صورة كنائية للحياة الخارجية فهي وجهها المقلوب، لكنه لا يختلف عن العالم الذي اعتاد تقديمه، الغرائز هي ذاتها ، أنماط السلوك تتكرر داخل الأسوار وخارجها بنفس الإيقاع»(3).
الذات والمرآة: صورة المرأة وسيرة القهر
لعل أبرز مظهر لاشتغال الصنعة الروائية في «زمن الأخطاء» أن كاتبها استطاع التحرر من قبضة الذات والانفلات من شرنقة أهوائها وتقلباتها. حيث تتأسس طبقات السرد في «زمن الأخطاء» وتتنامى عن طريق توالي «بورتريهات» لشخصيات نسائية (ورجالية) تشكل مرايا مصقولة تنعكس عليها صورة الذات في مختلف أبعادها وتجلياتها. فمن خلال تأمل الذات في مرايا الآخرين تكتب «سيرة الأنا» باعتبارها تجربة حياة تتوزع على فصول الرواية بشكل يبدو عشوائيا، حيث تبرز وجوه فطيمة وكنزة وربيعة وحبيبة وسارة وباتريسيا وروساريو وسالية بوصفها مرايا تنعكس عليها ملامح الذات الساردة ليأتي حدث موت الأم بمثابة انقطاع الحبل السري الذي يضع نقطة النهاية لسيرة حياة ومسار رواية.
تبدو النماذج النسائية التي اعتنى الكاتب بتصويرها في «زمن الأخطاء» متباعدة ومنفصلة عن بعضها. إذ لا تربطها أي علاقة يمكن أن تقود إلى تطور الأحداث وتناميها. ويكاد الجامع الوحيد بينها أن يكون صوت السارد الذي وحد بينها في سياق سرد روائي ذاتي. غير أن النظر الدقيق في طبقات النص الروائي الذي شيده المؤلف من شأنه أن يكشف أن الشخصيات النسائية تشكل جزءا من شخصية السارد. إنها مرآته التي تنعكس عليها أزماته وإحباطاته؛ فالسارد عندما يجسد مآسي شخوصه من خلال ما يقدمه من صور روائية، فإنه يقدم في نفس الآن صورة لأزمته الشخصية. وهذه الأزمة لا تعلن عن نفسها بشكل مباشر، ولكنها تنكشف تدريجيا من خلال صور الشخصيات التي تتوالى بطريقة تسهم في اكتمال صورة السارد وتكامل أبعادها. مما يجعل فهم الذات رهينا بالتأمل العميق في حيوات الآخرين، حيث تظهر النماذج النسائية بوصفها جزءا من هوية الذات وامتدادا لصورتها؛ فالشخصيات النسائية المتتالية تمثل شذرات تعبيرية تلتحم فيما بينها لتشكل في النهاية صورة ذات مبدعة حطمتها حياة الليل وإحباطات الواقع. لقد شكل التمثيل السردي لصورة المرأة في «زمن الأخطاء» مرآة تنعكس عليها صورة الذات الساردة بكل همومها وأوهامها.
إن صورة المؤلف لا تنكشف من خلال السارد الذي يروي الأحداث بضمير المتكلم ويكشف عن هويته الخاصة من خلال عبارات معينة فقط، ولكن صورته تتجسد كذلك من خلال انعكاسات الذات في مرايا الشخصيات التي تلتقي في كونها كائنات ليلية ترتاد الحانات والمواخير الرخيصة من أجل دفن همومها في الخمر والجنس «لم يبق إلا مجد الذكريات المهزومة والجنون الكئيب، ودفن الحبوط في السكر ولغو الحانات «(246) وهو ما يتيح لنا أن نستخلص أن الغاية من كتابة «زمن الأخطاء» ليست تسريد الحياة في كليتها ولكنها توخت البحث عن الكينونة الخاصة بالذات في محاولة لاستشفاف حقيقتها وتبيين هويتها من خلال حضورها في العالم وانعكاس صورتها في مرايا الشخصيات النسائية التي صورتها الرواية؛ فهناك تقارب جناسي بين المرآة والمرأة، المرآة تجمع أجزاء الجسم لتمنحها صورة كلية هي «الصورة الجسدية» والمرأة تجمع الأهواء والمشاعر المبعثرة في بنية متماسكة تشكل «الصورة النفسية». إن المرأة «مرآة نفسها» (160) كما يتصورها السارد لكنها تغدو في التخييل الروائي مرآة لنفسها ولغيرها. مرآة تنعكس عليها صورة الذات وصورة المجتمع.
المرأة /المثال: عشق ما لا يمكن أن يكون
يمكن اعتبار «زمن الأخطاء» تجسيدا روائيا لتجربة حب مستحيل يتفجر في قلب السارد بركانا وحريقا، لكن شيئا ما (قدريا ربما) يحول بينه وبين التحقق والاكتمال؛ فالحب يتحدد في هذه الرواية باعتباره عاطفة مستحيلة وصفها السارد نفسه بـ «عشق ما لا يمكن أن يكون» (284) وهي عبارة كثيفة تلخص العلاقة المتوترة التي جمعت السارد بالمرأة: «المرأة النور الخارق. المرأة الشفافة لم أجدها بعد» (160).
كان السارد غارقا في ملذات الجسد عندما جرت أمامه عبارة «الحب الحقيقي» بعدما اكتوى بحب كنزة التي أشعلت في قلبه حرائق العشق ثم تمنعت عليه ورفضت أن تمنحه ما كانت تمنحه لغيره. ولأنه لم يعرف هذا اللون من الحب ولا جربه من قبل، رغم علاقاته النسائية المتعددة، فقد اشترى بعض الكتب التي تتحدث عن «الحب الحقيقي» مثل كتابات المنفلوطي وجبران ومي. وقد استخلص من قراءتها أن الحب كما تصوره هذه الكتب «حب مشروط بالموت أو الحزن الأبدي أو الجنون» (63). وهذا اللون من الحب يتناقض تماما مع شخصية السارد وطبيعته تكوينه «كل عاطفة عاطفتي. إنني سليل العواطف القطيعية. سليل امبراطورية الحواس» (165) .
بعد محاولات عديدة في مجال الكتابة واجتياز عتبة النشر حاول السارد البحث عن «ملهمة» متأثرا بقراءته لقصص الأدب الرومانسي. التقى يوما فتاة سمراء فصار يتبعها بعد أن عرف أصلها ومحل سكناها. لكن انتماءها الاجتماعي جعل عواطفه تجاهها في دائرة «الحب المستحيل». إذ لا يمكن لفتاة تنحدر من طبقة اجتماعية راقية أن تلتفت إلى «ابن البراكة وعشير الفئران»(130). لقد كانت هذه العلاقة محكومة بالفشل بسبب التفاوت الطبقي. ولذلك بحث السارد عن بديل من طبقته. إنها حليمة فتاة أمية ولكنها سمراء وجميلة ويمكن أن توحي له بقصيدة غجرية. غير أن طبعها الهادئ لن يوحي له بشئ مهم لأنه تعود على الطبع العنيف. الملهمة ينبغي أن تكون مترفعة ومتعالية. من ألم الحب يتولد الإلهام. ومن مآسي العشق المستحيل تنفجر منابع الكتابة. قدر السارد إذا حب مستحيل وعشق ممتنع. «لم أسمح حتى الآن لأية عاطفة أن تخونني. لقد عشت دائما في حالة طوارئ . ما أحببت إلا ما كان هاربا. إن الحب مثلا لا يسحرني إلا إذا كان أسطوريا. أتحدث عنه دون أن ألمسه أو أعانقه» (204).
لقد مثلت المرأة في بعض صورها ضبابا مشعا أكثر منها منطقة محددة. فهي أفق واعد وفاتن يلهث السارد نحوه دون أن يتمكن من الوصول إليه والالتحام به. إنها المرأة النموذج التي يحلم بها الرجل فينسج لها من خياله أجمل الصور وأحلى الصفات. مما يجعل المرأة تستمد قيمتها من كونها نموذجا متعاليا لا يعرف طريقه إلى التحقق أبدا «إن المرأة التي أعيش معها دائما إذا لم تجعلني أعزف عن كل النساء فليست المرأة التي ينبغي لي أن أعيش معها. ينبغي لها أن تكون هي كل النساء . وكل النساء لسن هي. ينبغي أن أميزها في الظلام حتى وإن تكن بين جمهرة النساء. إذا انطفأت الشموع يضيء كلانا الآخر. إذا حجبونا بستار سميك أراها وتراني» (160).
في الوقت الذي كان السارد يدون فيه مثل هذه الخواطر عن المرأة المثالية كان يستعذب مضاجعة أحط النساء في مواخير طنجة الرخيصة. لقد شكل الجنس بالنسبة إليه ملاذا من آلام الحب ومآسي العشق «الاستمناء والجنس المنحط هما اللذان أنقداني من السقوط في فخ الحب الخائب» (160).
بخلاف المختار صديقه الأعمى الذي يقرأ «ليلى المريضة في العراق» لزكي مبارك ويحيي تقاليد الحب العذري، لم يكن السارد يجد غضاضة في ارتياد المواخير الرخيصة لمعاشرة العاهرات لكي يدفن في أحضانهن خيباته النفسية وإحباطاته العاطفية «اغرق نفسك في الجنس تنس هموم الحب. إن الحب هم كبير مثل خبز الفقراء»(62).
لقد مثلت المرأة بالنسبة إلى السارد جسدا أكثر منها شخصا متعينا. كل ما يهمه أن يزدهي فراشه كل ليلة بامرأة تمنحه المتعة وتنسيه الهموم. ولا يهم بعد ذلك من هي ولا من أين جاءت ولا كيف غادرت. «يحدث لي مرات في طنجة أن أستيقظ في فندق أو في بيت صديق ولا أعرف من هي التي تنام معي أو تغادرني نائما دون أن أراها»(122).
المرأة/المعشوقة: حرائق الرغبة وعناد الحب القاسي
يصف السارد لقاءه الأول بكنزة بعبارات سريعة مكثفة تشبه ضربات بفرشاة الرسم: «جالس في رحبة قهوة سنترال الحرارة تنعسني. آتية من طريق البحر مصبوبة في قميص وسروال أبيضين شفافين لصيقين بجسدها الرشيق. شعرها طويل أملس. شفتها العليا مقوسة. عيناها كبيرتان مسحوبتان. قطة آسيوية. قد تكون لها طباع قطة مشاكسة» (59).
إن فتاة بهذه المواصفات جديرة بأن تثير في نفس السارد رغبة جامحة في مطاردتها ومحاولة الإيقاع بها. لقد راحت نفسه تحدثه بأحاديث حلوة لذيذة فيما خياله يرسم لها أزهى الصور والأشكال. الأمر الذي جعله يقرر أن يتبع الفتاة ممنيا نفسه أن تكون واحدة منهن. وهو ما تأكد له فعلا بعد أن رآها تدخل دارا تعود التردد عليها. أثناء مساومته للمشرفة على الدار تراءت له كنزة في البهو «مختالة في خطواتها مثل نمرة شبعت من افتراسها. تباهت نظراتها ثم اختفت في كبرياء المعتصمات»(60).
لقد أشعل تمنع كنزة حرائق الرغبة في قلب السارد وزاد من إصراره على مطاردتها والظفر بها. ولذلك لم يتردد في الانتقال ليسكن في نفس الفندق الذي انتقلت إليه محبوبته المتعجرفة مدفوعا بالعناد والفضول والمغامرة. لقد كان يدرك جيدا أن تواجده مع كنزة في نفس المكان «فخ» ينصبه لنفسه كي يزيد من تورطه في حب قاس وعنيد وقد أتاح له تواجده في نفس الفندق مع كنزة فرصة طالما تمناها وحلم بها. لقد عادت ذات ليلة ثملة لا تكاد تقوى على الوقوف. الأمر الذي استدعى تدخله من أجل مساعدتها على الصعود إلى غرفتها. يصور السارد لحظة انفراده بكنزة التي طالما تمنعت عليه ورفضت الاستجابة لحبه: «خلعت حذاءها المذهب ومددتها على فراشها بكامل زينتها. تعيش لياليها بجلالها الكامل. جلست على حافة السرير عند قدميها وأشعلت سيجارة. أتأمل غيبوبتها وتنفسها الواهن. إن لها الآن جمال امرأة ميتة مشتهاة في زمن بابلي أو إغريقي. لم يعد فيها ما يغري. فقدت كل كبرياء صحوها وغزلها وتباهيها»(65).
تكشف هذه الصورة الروائية عن النهاية المأساوية التي صارت إليها قصة حب عاصف. لقد أغرت كنزة السارد بجمالها وعنادها معا. كان يتمنى أن تستجيب لحبه وهي في كامل صحوها وجلالها. لقد كان طبعها الشرس أهم ما أثاره فيها وجذبه إليها. أحب فيها «القطة المشاكسة» و«النمرة التي شبعت من افتراسها». أما وقد فقدت كبرياء عنادها وتباهيها فإنه لم يجد فيها ما يغريه. في غيبوبتها فقدت كل جلالها الساحر وبدا جمالها الفاتن باردا وباهتا مثل جثة في كامل زينتها تشتهيها النفس لكنه تعاف مضاجعتها. «الفاكهة الإنسانية إما أن تقطف في أوانها أو تتعفن» (232). في تلك الليلة حلم السارد بصف طويل من الرجال عراة يتناوبون على مضاجعة كنزة وهي تقول لهم «تعالوا إلي كلكم. زمني هو زمن النساء»(65).
يلخص هذا الحلم قصة حب مستحيل، حيث يكشف محنة السارد ومعاناته بسبب تمنع المحبوبة وتعاليها. لقد كانت كنزة دائما لغيره ولم تكن أبدا له. لم ينس السارد «صدمة كنزة» رغم انشغاله بحب ربيعة الحسي المرح الذي لا موت فيه ولا جنون، لكنه لم يستطع نسيان المرأة التي أشعلت في قلبه حرائق الحب التي لم تنطفئ أبدا فصورتها ظلت حاضرة في خياله في كل الأوقات مثل لعنة أبدية «بصقت على كنزة في خيالي وأنا ألاعب ربيعة في الماء… كل حب ينسى بحب آخر… لكني لم أستطع أن أستبدل حب كنزة بحب ربيعة. إن الحب لعنة. وكنزة لعنتي» (66).
لقد خلفت تجربة الحب القاسي والعنيد أثرا بليغا في نفسية السارد ووجدانه. لم يعد يؤمن بالحب فأصبح يرفض فتح قلبه لمن يطرق بابه حتى لا يعيد تجربة الحب الفاشل الذي ذاق مرارته واكتوى بناره «أهذه بطولة الحب؟ ليسقط هذا المستحيل. هكذا رفعت صوتي نحو السماء» (151). لقد انتهت خيبات الحب بالسارد إلى الاعتصام بالوحدة بعدما تيقن أن العزلة بالنسبة إلى أمثاله قدر لا مهرب منه «إني وحيد ليلي. لا أحد يغزو وحدتي»(209).
المرأة/ المومس: غنائية الجسد ومآسي الروح
تضمنت الرواية كثيرا من المشاهد التي تصور واقع المرأة الممتهنة للجنس، ولم تخرج هذه الصورة عن تقديم جسد المرأة بوصفه سلعة تخضع لقانون العرض والطلب: «في الطريق بغايا واقفات على عتبات بيوتهن أو يطللن ويختفين. كل حركاتهن فيها دعوة للدخول معهن. رجال وفتيان يغازلونهن. يسأل أحدهم عن ثمن الدخلة فيدخل أو يغادر إلى أخريات»(91).
معظم النماذج النسائية التي صورتها رواية «زمن الأخطاء» يحترفن الدعارة وينغمسن في الجنس الرخيص «أغلبهن راهن بأسفله على أعلاه الهش» (244) لكن حلم الزواج وتكوين أسرة ظل يراودهن على الدوام.
«سألته عن عشيقته القديمة لطيفة:
– أوه. تزوجت ولها الآن ثلاثة أطفال. عاشرت كثيرات بعدها لكن كلهن يردن أن يتزوجن» (92)
غير أن الرجل الشرقي يرفض أن يتزوج من عاهرة «ابتعد عن حب العاهرات. إن كل واحدة تحاول أن تنتقم من كل الرجال من خلال رجل واحد. كل واحدة تعتقد أن الرجل هو الذي فشل حياتها. كلهن فاشلات في الحب»(61).
إن المرأة العاهرة كما تجسدها رواية «زمن الأخطاء» لا تصلح أن تكون زوجة ولا أما، لأن احترافها للدعارة وتعودها على حياة الليل جعلا الخيانة تسري في عروقها. وهو ما سيؤثر حتما على حياتها الزوجية مستقبلا ويشكل «عقدة» للزوج والأطفال :
«- ألم تفكر أن تتزوج بإحداهن؟
– أبدا .
– لماذا؟
-لا يمكن أن يتزوج قحبة. لايمكن أن يكون لك أطفال مع قحبة .
– ما هو العيب؟
– سيعيشون معقدين عندما يعرفون أن أمهم كانت قحبة» (92).
يكشف هذا المقطع الحواري عن ازدواجية النظرة إلى المرأة؛ فالعهر صفة تلصق بالمرأة وحدها دون أن تشمل الرجل. وهو ما يكشف عن اختلال المعايير في تقويم سلوك المرأة والحكم عليها. ذلك أن المجتمع يقسو على المرأة التي تضطرها الظروف إلى امتهان الجنس ولا يغفر لها مهما كانت الأسباب التي دفعتها إلى ذلك. فمثلا ظل قاسم يخجل ماضي أمه التي كافحت بجسدها الشاب من أجل مستقبله. وعلى الرغم من أنها هجرت مهنة الجنس بعدما أصبح ابنها معلما، فإنه لم يغفر لها ظروفها ولم يستطع أن ينسى ماضيها(218). وبالمقابل يحظى الرجل بنظرة متسامحة لا تحمله أدنى مسؤولية عن المصير المأساوي الذي يؤول إليه وضع المرأة الذي قد يكون مسؤولا عن تعهيرها. «إنه يحلم أن يتزوج امرأة لم تفسق حتى لا يكون أولادها معقدين وحتى لا تخونه. أما القحبة فأكيد أنها ستخونه»(92).
لقد كان بدهيا أن يمثل الزواج بالنسبة إلى المرأة في ظل هذه الأوضاع منقذا من الضياع؛ فالمرأة تفضل أن تتزوج من شخص لا تحبه على أن تظل وفية لعلاقة حب مفتوحة على جميع الاحتمالات.
«- النساء يفضلن الزواج على الحب
– ما فائدة زواج بلا حب
– إنها مشيئة النساء
– اللعنة إذن على الحب» (110).
ما ينفك السارد الذي ذاق الحرمان وجرب حياة التشرد والصعلكة يبدي تعاطفا واضحا مع المرأة التي اضطرتها الظروف لاحتراف الجنس. فقد صور واقعها المأساوي عندما تتقدم بها السنون ويخونها شباب الجسد: «انتهى في طنجة زمن الدعارة الجميل. المواخير الخاضعة للرقابة الطبية منعت منذ سنوات. دور سرية وفنادق حقيرة حلت محلها لتمارس فيها المحترفات والهرمات مهنتهن مع الوافدين من البادية بحثا عن عمل وفقراء المدينة بأبخس الأثمان. بعضهن تبن إنقاذا لكرامة شيخوختهن ودينهن فصرن يعملن في المطاعم والفنادق ومحدثي النعمة» (159).
تبدو المرأة التي تحترف الجنس في السياق الروائي ضحية واقع اجتماعي واقتصادي قاس لا يرحم «سألته في حانة دينز بار عن التي دخل معها: «إنها لطيفة، لكني لم أضاجعها لأن قصة احترافها أحزنتني. تعول أمها وطفلتها في عامها الأول» (186).
إن الكتابة عن واقع الدعارة والجنس الرخيص موظف في سياق الرواية توظيفا اجتماعيا الغاية منه رصد صور الاستغلال الجنسي الذي تخضع له المرأة في ظل مجتمع ما يفتأ يدعي الحشمة الزائفة ويقدم نفسه باعتباره الوصي على حماية الأخلاق العامة. وقد عبر شكري عن غايته من توظيف الجنس الداعر في حوار أجري معه بالقول: «ليس كل من يكتب عن المرأة الداعرة هو عدوها. الجنس الداعر أوظفه توظيفا اجتماعيا للكشف عن أسبابه الاستغلالية في أبشع صوره» (من جوار أجراه يحيى بن الوليد والزبير بن بوشتى مع محمد شكري القدس العربي 29- 01 – 2002).
المرأة/ الأجنبية: مكان الفتنة ومجال الاستيهام
تقترن صورة المرأة الأجنبية كما تجسدها رواية «زمن الأخطاء» بالفتنة والاستيهام، فالجسد الأنثوي عندما ينحدر من سياق اجتماعي وحضاري مختلف يثير الفضول ويغري بالاكتشاف ولو كانت صاحبته متقدمة في السن . فهو يتيح للمنتمين إلى مجتمع الهامش والقاع فرصة مضاجعة امرأة أجنبية يتوقعون أن يكون لجسدها مذاقا مختلفا عن بقية الأجساد المغربية التي جربوها من قبل في المواخير الرخيصة. تلك هي حالة سارة التى جاءت من العرائش إلى طنجة بعدما زهد فيها الجنود الإسبان. لقد كان «شبقها يستقدم شبابا من المدينة وغيرها بعضهم لفقره وكبته، وبعضهم افتنانا بالأجنبيات ولو كن هرمات»(186).
لم تخرج صورة المرأة الأجنبية في «زمن الأخطاء « عن كونها جسدا يستعرض مفاتنه من أجل إثارة الرغبة والاشتهاء في نفوس الزبناء واستدراجهم إلى مغامرة جنسية مقابل مبلغ مالي: «في قاعة الاستقبال فرنسيات وإسبانيات وإيطالية واحدة. تنانيرهن تكشف عن أفخاذهن الرشيقة. إذا جلست إحداهن على مقعد يظهر لون تبانها. كواعب أحذيتهن العالية تبرز مؤخراتهن بإغراء. عسل الجمال البشري ينتظر من يتلذذ بمذاقه»(104).
يغري التمثيل الروائي للمرأة الأجنبية الممتهنة للجنس في «زمن الأخطاء» بعقد مقارنة بينها وبين زميلتها المغربية في ما يتعلق بطقوس الممارسة الجنسية، حيث يكشف النظر في الرواية أن المغربية تقبل على مضاجعة زبنائها من دون أخذ الاحتياطات اللازمة مما يؤدي الى انتشار عدوى الأمراض الجنسية: «أبول باستمرار. قلمي يؤلمني كلما بلت أو التوى. قليل من الصديد يسيل منه. إنها عاهرة إذن في مسوح العمل»(100).
أما المرأة الأجنبية فقد ظهرت حريصة على الممارسة الجنسية الآمنة «وضعت حبة بنفسجية قاتمة في طست. حللتها بإصبعها في الماء الدافئ واغتسلت. أعطتني صابونة معطرة لأفعل مثلها» (105).
يظهر من الرواية أن الفرنسيات كن يبدين كثيرا من التعالي في علاقتهم بالمغاربة، حيث كانت ممتهنات الجنس من الفرنسيات يتحاشين مضاجعة الشبان المغاربة خاصة إذا كانوا منحدرين من أوساط اجتماعية متواضعة. وعلى العكس من ذلك كانت الإسبانيات أقل ترفعا «قد لا تقبلني أية واحدة منهن [فتيات مدام سيمون] عند ماري كارمن أفضل. دخولي مع إحداهن شبه أكيد. فتياتها إسبانيات. إنهن أقل ترفعا مع المغاربة من فتيات مدام سيمون» (104).
خلاصة:
لا يمكن فصل صورة المرأة عن واقع المجتمع المغربي وما يعتوره من أعطاب نفسية واختلالات اجتماعية، فعلى الرغم من أن السارد يعيد في هذا النص تمثيل الواقع الذي عاشه بطريقة روائية تخييلية، فإن المتن السردي في نهاية المطاف، لا يعبر عن قصدية مؤلف فرد، ولكنه يجسد رؤية جماعية ويعبر عن تمثلاتها للواقع وصور الوجود كما استقرت في مخيالها ولاشعورها الجمعي. فصور القهر المادي والنفسي الذي تتعرض له المرأة كما جسدها التمثيل الروائي انعكاس للواقع المغربي الذي يحكمه القهر والتسلط والاستغلال. وبذلك تكون صورة المرأة كما جسدها الكاتب روائيا في «زمن الاخطاء» تمثيلا سرديا لواقع المهمشين والمنبوذين. والرواية بهذا المعنى محاولة أدبية وإنسانية تبتغي التأريخ للعالم السفلي ومجتمع الهامش في مغرب ما بعد الاستقلال. حيث يرصد الكاتب حالة البؤس والتهميش التي عاشتها شريحة عريضة من مغرب القاع الاجتماعي؛ مغرب الفقراء والمهمشين والمنبوذين الذين نقلهم المؤلف عبر ممكنات التخييل الروائي من كائنات بسيطة تعيش على «الهامش» إلى شخصيات رئيسة تحتل مركز السرد وتصنع «الحدث» الحكائي. وبذلك تكون «زمن الأخطاء» قد تمكنت من إعادة كتابة حقبة معينة من تاريخ المغرب غير الرسمي مركزة على المحظور والمسكوت عنه بعيدا عن الخطابات السياسية المكرورة والشعارات الإيديولوجية الزائفة.
1 – محمد شكري، زمن الأخطاء، ط 4-1999 ص: 130
2- صبري حافظ، البنية النصية لسيرة التحرر من القهر، دراسة ملحقة بالطبعة المشرقية لرواية «زمن الأخطاء» صدرت بعنوان «الشطار»، دار الساقي ط 4 – 2000 ص: 240.
3 – صلاح فضل، رؤية مشرقية لرواية مغربية – كتابة الارتجال في سيرة شكري، ضمن كتاب «لقاء الرواية المصرية المغربية»، المجلس الأعلى للثقافة – مصر 1998 ص: 278
د. مصطفى الغرافي\
\ ناقد وأكاديمي من المغرب