تقوم محاولات محمود الرحبي في مجموعاته القصصية الثلاث( اللون البني ، وبركة النسيان ، ولماذا لاتمزح معي ؟) على أساس يكاد يكون ثابتا في أسلوبه وبنيته السرديّة العامة. ألا وهو تناول خامة الواقع الطبيعي والاجتماعي العماني وتصوير بعض المظاهر والأقدار البشرية الموجودة فيه عن طريق التقاط جوانب معيّنة منها وعزلها واعتبارها ظواهر غريبة ونادرة بحاجة إلى توجيه انتباه القارئ إليها. وبما أن الأمر يتصل بنصوص سردية قصيرة في الغالب وليس برواية أونصوص قصصية طويلة ، فإن من النادر أن يتاح للبطل أن يقدم ما يكفي من التفاصيل الخاصة بسيرته الذاتية خارج إطار الأزمة التي يجد نفسه منشبكا فيها، كما لا يتاح للمجتمع والظروف المحيطة غير أن تمثّل إطارا ضاغطا يحتوي حركة الشخصية ويتسبّب على نحو غامض في أفعالها السردية دون أن يفسّرها ، أو يسمح بإضفاء طابع أيديولوجي واضح على دلالاتها الفكرية والاجتماعية ، مع إحساسنا بوجودها على مستوى الإيحاءات والتأويلات الممكنة لها.
كما أن غباء الواقع الاجتماعي الذي يصوّر داخل النص وحماقة التصرفات والمواقف المحيطة بالبطل الفرد يمكن أن توحي بنوع من السخرية القائمة على بيان بعد الشّقة وسعة المسافة القائمة بين طموحات هذا الفرد وتطلّعاته وأشواقه الروحية ، وبين اللامبالاة الاجتماعية العريقة المحيطة به داخل البيت والقرية أو المدينة التي يعيش فيها. ولذلك فلا غرو أن نرى هذا البطل يعيش حالة من التدهور المستمر والضياع والشعور بمشاعر الضيق التي تنتهي به وبالنص الذي يتحرّك داخله إلى بنية إخفاق لا شك فيها ولا برء منها.
ولذلك لا يكون غريبا أن نرى خاتمة القصّة تشكّل لدى هذا القاص أهميّة استثنائية تتجسّد من خلالها الحالة التي تنتهي إليها المفارقة التي يقوم عليها بناء القصّة وحياة بطلها ، والنقطة الحاسمة التي ينتهي عندها التوتر إلى عزلة الفرد أو إصابته بالجنون وحتى موته أو انتهائه على يد الآخرين أو على يده هو نفسه.
وفي مجموعته الأولى( اللون البني) استطاع(محمود الرحبي) أن يجري تحويراً ذا أهمية خاصة على طبيعة النواة الدلالية المستهدفة في لغته حين جعل الوصف الخارجي للأشياء والكائنات هدفاً وحيداً أو رئيساً للكتابة القصصية. وهو وصف ما تفتأ دوائره تتسع وتتسع قبل أن ترتدَّ إلى نقطة البداية مثل بركة ماء راكدة يُلقى فيها بحجر.
وما يلقيه( محمود الرحبي) في نصوصه ليس حجراً واحداً ثقيلاً ، بل أحجارا خفيفة متتابعة من يده الرشيقة الصناع ، وهي تلاحق الموضوع أو المشهد الموصوف وترسم هيئاته وحركاته المختلقة وتستقطر جمالياته عبر أسماء وأفعال لا تقدم السرد إلى الأمام بقدر ما تعمِّق رؤية المنظور في الصورة داخل زمن ثابت يعيد نفسه ويكررها دون نهاية. وما يرسمه هذا القاص في لوحته أو نصه السردي القصير هو مشاهد طبيعيّة: مخلوقات.. طيور وحيوانات وقمر وبشر وأشياء يراها الجميع ، يمرّون بها ولكنهم لا يتأملونها ويتقرّوُن ملامَحها وألوانها وحركاتها كما يفعل(محمود الرحبي) مثلاً مع(بطّة) يضيئها ضوء القمر على الشاطئ في قصة له اسمُها(قمر السكران). إذ ليس لديهم عينُ كامرته السحرية التي تتجسس على هذه البطة والكائنات والأشياء المحيطة بها وتعرضها لضوء ذلك القمر المتغيّر من الأحمر إلى الداكن والأصفر قبل أن «يتثاءب منتشياً وينام» لتنتهي القصة بنومه بعد أن غلّف اللوحةَ بضوئه السحري المتحوّل والممتدّ من السماء ليصنع طباقه وعلاقاته الخفيّة مع الكائنات والأشياء على الأرض:
«كانت البطة تخفق بصدرها وجناحيها في سكون البركة ، فتتشكل دوائر ، تتبعها دوائر ، دوائر كبيرة ، ثم صغيرة ، ثم تذوب. كان القمر أحمر ، داكن. أصفر. داكن. وكانت البركة حمراء ، داكنة ، صفراء ، والبطة تؤرجح جسدها فوق البركة ، والدوائر ترتسم كبيرة ، تصغر ، ثم تذوب.
جاء الضفدع ، نظر إلى القمر ، نقَّ نقتين وتقافز مبتعداً ،انتهت البطة حرّكت جناحيها ، فاستيقظت دوائر كبيرة ثم صغيرة ، ثم ذابت.
كان القمر أصفر ، داكنا ، أحمر.
طار طائر ، سقطت إحدى ريشاته فوق البركة ، تشكّلت دوائر كبيرة ، ثم صغيرة ، ثم تذوب.
دارت البطة حول جسدها ، رفعت منقارها ، وحطّت تسحب جسدها ، يتبعها خيط ماء طويل ، سقطت أوراق صغيرة فوق ذلك الخيط ، فتشكلَّت دوائر كبيرة ، ثم صغيرة ثم تذوب. أقبل رجل وفي يده سعفة خوص عريضة ، وغرسها في طرف البركة ، القمر أصفر ، يسقط على السعفة ، وعلى اللحية ، اللحية صفراء ، وعينا الرجل يدخلهما الظل»
(اللون البني ، منشورات دار المدى ، دمشق 1998 قصة قمر السكران ، ص 17)
وكما نرى ، ليس ثمة من هدف للغة في مثل هذا النص غير إبراز قيمة الأشياء الصغيرة وإعادة الاعتبار إلى قلب وقائع وتفاصيل وصور عاديّة ، ولكنها يمكن أن تملأ بالشعر حياتنا لو أَحسنّا الإصغاء إليها ورؤيتها ، والترجمة عنها.
إنها نوع من الشعريات السينمائية أو المتأثرة بالشريط السينمائي ، تُعرض أمامنا بموضوعية ورهافة بالغتين ، ويتداخل فيها المتن الحكائي مع المبنى الحكائي ويتساوقان داخل لغة مرنة ليس لها من غرض أو غاية خارج حدود الوصف المبرّأ من التدخّل المباشر للراوي السارد.
و(اللون البني) الذي يختاره الرحبي اسماً لمجموعته القصصية ، ويرسم به لوحاته بهذا الشكل يختلف عن تلك الألوان الصارخة التي اعتدنا رؤيتها في مجموعات قصصية أخرى. فهو عنده نقطة تجمُّع يلتقي فيها اللونان الأبيض والأسود ويتحلّلان إلى مجموعة من التدرّجات اللونية الحمراء والصفراء والداكنة. والتقابل بين البحر والصحراء ، السهل والجبل ، الأرض والسماء لا يكتسب في هذه المجموعة معنى المعاندة والمكابدة التي نراها في مجموعات أخرى، بل صورة العناصر الضرورية لإتمام رسم اللوحة وتشكُّلها المكاني وفقاً لمتطلبات المنظور الطبيعي والتعبيري الذي يحوي كل هذه الألوان ويصهرها في بوتقة ذات إنسانية يشعر صاحبُها بانتشاء وبفرح إنطولوجي خفيّ لمجرد أنه موجود ، يمارس حياته وسط هذا الحشد المدهش من الكائنات والأشياء. أي أن للعنوان بوصفه علامة لسانية تدل على التسمية وتشير إليها وظيفة تومئ إلى نوع النص وتشير إلى مضمونه ، كما سنرى ذلك فيما بعد.
وربما أمكننا أن نلحظ في مثل هذه النصوص الخالية من أي قوام بشري دلالة خاصة. فهي يمكن أن تؤول على أنها علامة قد لا تكون صريحة على واقع متشًّيء لأفراده سمات الأشياء ، لا الملامح الإنسانية الحيّة. وفي وضع من هذا النوع ، لا بدَّ للقصة التي تمثّل بحثاً مضنياً في المتغيرّ الاجتماعي ، أن تتحول إلى لوحة ، لوحة مصنوعة من الكلمات ، واضعةً في الاعتبار قلبَ قواعد الخطاب وتغيير لهجته السائدة ، وجعل التمثيل الذي تمارسه اللغة في حوارها مع الواقع ، وسيلةً لعكس صورة الأشياء في ذاتها داخل مرآة اللوحة ، ومنحها قيمةً تفوق تلك التي يتهيأ لسواد الناس أن يمنحوها إياها في المدينة الحديثة.
وغني عن القول إن تسجيل حوارٍ من هذا النوع يقتضي عزلة وزمناً دائرياً مغلقاً يُشبه حواف تلك البحيرة التي تؤلف بورة المشهد السردي في القصة السابقة.
واختزل اللغة داخل القصة بهذا الشكل إلى لوحة ساكنة بعيدة عن ضجيج الأصوات وتعارضها في المدينة يمثّل موقفاً أوليّـاً رافضاً للشرط الاجتماعي القائم ومندّداً به ، ولو بطريقة ضمنية غير مباشرة.
أما في مجموعتي القاص التاليتين(أعني بركة النسيان الصادرة في مسقط عام 2006م ، ولماذا لا تمزح معي ؟ الصادرة في عماّن عام 2008م ) فقد أجرى القاص تحويرا آخر صار فيه المكان مرتبطا بالشخصية والحدث ارتباط السبب بالنتيجة والمقدمة بالخاتمة على نحو يكون فيه الفضاء القصصي نسيجا مركّبا من ذات هي بطل القصة أو بطلتها ، وموضوع يمثّل الإطار الاجتماعي الحامل لهذه الذات والمطوّق لأشواقها العاطفية والروحية ، والصانع لما هو ممكن أو غير ممكن من حركتها الواقعيّة والخيالية داخل القصّة.
ولئن كان أغلب أبطال قصص محمود الرحبي في هاتين المجموعتين من الناس البسطاء والفقراء الذين لا يملكون غير غنى أرواحهم ونقاء ضمائرهم ، فإن الوظيفة السرديّة في القصة تبدو كما لو كانت مكرّسة لإظهار ماتنطوي عليه الشخصية القصصية من توق نحو الحريّة ورغبة في الانعتاق من أسر التقاليد الاجتماعية الضاغطة. أي أن وظيفة الملفوظات السرديّة في مثل هذه النصوص هي أن تدفع عن هذه النماذج البشرية الممتحنة بوجودها شبح الانكفاء على نفسها والغرق في ابتذال تفاصيل الحياة اليومية والانسحاق تحت ثقل متطلباتها المادية والعاطفية.
والأمر لا يتصل فقط ببعد خيالي اعتاد راوي محمود الرحبي أن يضفيه على مخلوقاته وفضاءاته القصصية ، وإنما أيضا بلغة سردية متوثّبة قافزة لا تهتم بحيادية الوصف وموضوعيته قدر اهتمامها بتصوير البعد الآخر المفقود وغير الموجود في حياة هؤلاء ومصائرهم الأرضية الحزينة.
والأمر لا يتعلّق كذلك بشعرية مستعارة من خارج التجربة أو الحالة البشرية الموصوفة ، بل بنوع من الرؤية الموجّهة التي لا يستطيع فيها السارد مع ذلك أن يكتفي بنظرة أحادية أو أخذ لقطات مفردة ومعزولة عن هموم الشخصية وأشواقها الروحية وتطلعاتها االذاتية الخاصة.
ولئن كانت المماثلة بين الحياة والسرد غير واضحة أحيانا في هذا النوع من النصوص ، وأن التجربة الواقعية تبدو مفصولة عن منطقة الخيال أحيانا أخرى ، فإن ما يخفّف من ذلك ويبرّره هو أن الحبكة في مثل هذه القصص ، ولاسيما القصيرة منها ، ليست بالبنية الساكنة أو المغلقة وإنما هي بنية مفتوحة على آفاق جمالية مرصودة.
وحتى إذا كانت بعض هذه القصص تبدو مقطوعة وغير مكتملة فلأنها مصمّمة على هذا الأساس الذي يعمد فيه السارد إلى اختيار مقاطع محدّدة من الحياة لتسليط الضوء عليها واختبار قابليتها للتصوير في إطار ذاكرة حكائية غير قابلة للذهاب إلى أبعد مما رأته في لحظة زمنية معيّنة. وهي لحظة من لحظات التاريخ تمثّل راسبا في حياة الراوي طمس تكوينه في الذاكرة أو كاد قبل أن تأتي القصة لتعيد صياغته وتمنحه قوامه ووجوده المفقود ، على الورق.
وعمل الخيال هنا لا يأتي من فراغ ، فهو مرتبط بطبيعة الحياة والفضاء السردي الذي درجت تلك النماذج البشرية مع الراوي على العيش فيه على مستوى الحاضر أو الماضي.
وهو أمر لا يقتصر الابلاغ فيه على النص وحده ، لأن القارئ مطالب بلعب دور فيه ، حتى إذا كان هذا الدور أقرب إلى(المزاح) بوصفه الشكل الوحيد القادر على استيعاب المفارقة أو المفارقات القائمة على مستوى الحياة ومستوى السرد ، وجعلها ممكنة. وهو ما يجعل معنى السرد ودلالته الكلية ينبثقان من التفاعل بين عالم النص وعالم القارئ على وفق المقترح الذي يقدّمه الكاتب مخاطبا القارئ( لماذا لا تمزح معي ؟).أي أن الانحراف الذي يدخله الراوي على الواقعة السرديّة يمثّل نوعا من المزاح الذي لا يمكن فهمه دون مساعدة المروي له ودخوله في صلب العملية السردية كلاعب أساسي. وكأن الكاتب يطالب بذلك قارئه بتجاوز ما يسميه بول ريكور( البنية قبل السرديّة للتجربة ) لكي يكون بإمكانه عن طريق الخيال الذي يؤدي دور الوسيط المشاركة في تأويل الفعل السردي أو المبنى الحكائي الذي تتحول الحياة بدونه إلى ظاهرة بيولوجية.
( انظر بول ريكور الزمان والسرد ، ترجمة سعيد الغانمي ، المركز الثقافي ، 1999 ، ص49 -50 )
نعم إن هذه القصص لا تتحدث عن ظواهر بيولوجية ثابتة ولا تصف أفعالا حياتية مجرّدة إلا من خلال هذا الوسيط الذي يحمله المتخيّل السردي على جناحيه ليوصله إلى ممكنات جمالية وإنسانية لا تستقيم الحياة ولا القصة بدونهما. وما يفعله القارئ في فعل القراءة هذا ليس أكثر من العيش في الأفق الخيالي للنص ، أي تقبلّه في صورته السردية المعدّلة عن صورته الواقعية المعروفة.
غير أن المؤلف أو الراوي النائب عنه ليس حرّا في أن يفرك أنف الحكاية أو يلوي ذراعها لتتحول بعض أفعالها ، ولاسيما الأخيرة منها ، إلى مجرّد مزحة. فالمبدأ الحاكم في هذا النوع من السرد هو أنه إذا كانت الحياة والفعل الإنساني المجرد من مباغتات الخيال فقيرة وعاجزة وغير قادرة على مغادرة قدرها الأرضي بهذا الشكل ، فلا بأس من أن يقوم المتخيّل الحكائي بمهمة إكمال النقص وسدّ الثغرات الموجودة فيها ، بناء على ضوابط تتكفل طبيعة المتن الحكائي والمبنى الحكائي كليهما في تحديدها. ومن شأن ذلك أن يضيف إلى أبعاد النص بعدا أخلاقيا يتبدّى في حرص الكاتب أو راويه النائب عنه على تحقيق العدالة ورؤية قدر من التوازن المفقود لهذا السبب أو ذاك لدى البطل. ولا بدّ أن يعاني النص ، تبعا لذلك ، من نوع من التمزّق الدرامي بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.. بين ما يراه الكاتب ويعيشه على مستوى الواقع ، وبين ما يستجيب لرؤيته وأيديوليجته الخاصة المصممة لرصد تحولات المفاهيم والعلاقات بين البشر بعضهم البعض ، وبينهم وبين الأشياء. أي البحث عن كل ما له علاقة بتماهي الذات بالموضوع ، وتلمس الموضوع عبر الذات. وبذلك لاتكون الكتابة عند مثل هذا القاص العماني الرائد شاهدا فقط على ماهو كوني ، وإنما هي تعبير متعيّن عن أزمة ضمير شقي لا يستطيع أن يتنصّل عن أشكال البؤس الذي يراها في الوضع البشري القائم ، أو ذلك الذي يتم استدعاؤه من الماضي للحضور عن طريق الذاكرة والمخيلة السردية الراصدة.
ولئن بدت بعض نصوص محمود الرحبي شكلا أدبيا مجرّدا لا علاقة له بغير الوصف المجرّد أو الموضوعي غير المبرّأ تماما من المشاعر الذاتية للكاتب ، على طريقة الرسامين الانطباعيين ، كما أوضحنا ذلك من قبل ، فإن نصوصه الأخيرة في(بركة النسيان) و(ولماذا لا تمزح معي ؟) تبدو مرتبطة بالتاريخ ، وذات محتوى لا يخلو من دلالة فكرية وأيديولوجية ، حتى إذا بقيت ذات طبيعة فردية ولا ترقى إلى مستوى التعبير عن حقائق اجتماعية مؤكّدة. وذلك لا يحدث فقط لأن البطل في هذه القصص يبقى خاضعا لمراقبة الراوي وملاحظاته النقدية التي قد تحرّف عمل الفاعل وتدخل التغيير على الحدث والبنية التاريخية للحكاية وتضفي عليهما شكلا وهميا ، وإنما أيضا لأن تداخل البنيات الاجتماعية القائمة في المجتمع العماني لا تتيح للكاتب فرصة كبيرة للتحديد والرؤية التي من شأنها بلورة موقف ذي طبيعة أيدويولوجية صريحة ، فضلا عما تفرضه الكتابة من ضرورات قد تضطر الكاتب إلى التضحية برؤيته الأخلاقية والأيديولوجية لصالح رؤيته الفنيّة والجمالية.
في قصة(طريق موصدة) من مجموعة(بركة النسيان) هناك رجل كثير النسيان يحاول إعطاء فسحة جديدة لنفسه عن طريق السفر وقضاء إجازة عمله خارج البلاد ، بعد أن عبر أكثر من ثلثي حياته في(طريق ضيّق مرسوم بين البيت والوظيفة ، فبدا كمن يجرب إحدى حواسه لأول مرّة. ولكنه كان يدرك ، كذلك ، وبوعي خالص ، من خلال ذلك النداء المتواصل القادم من أعماقه والذي يأتيه عن طريق إشارات واخزة بأنه رجل نسّاء ، لذا فإنه يبقي ذهنه متّقدا في مثل هذه الحالات التي سيكلفه النسيان فيها ثمنا يستشعره بحجم الكارثة ).
(بركة النسيان ، وزارة التراث والثقافة ، مسقط 2006 / ص43)
إن النسيان هنا ليس غير تعلّة وسبب يمكن أن نطلّ من خلاله على جوانب من المأساة التي يعيشها هذا الرجل والتي يحاول إبعاد أشباحها المخيّمة عن طريق التذكّر واتقاد الذهن وإعادة إحصاء أشياء السفر وسط نقرات الصداع المستمر: جواز السفر والتذاكر وقد وضعها أمام عينيه ، وفوق طاولة مرتفعة وخلف مرآة تعكسهما وتنشرهما في الغرفة ، كما وضع حقيبة السفر أمام الباب مباشرة ، إذ سيمر من بين ظلفتيه للذهاب إلى المطار ، كذلك فعل بالقميص والبنطال والحذاء الجديد.
كل ذلك يمكنه أن يوحي بأن لا شيء يدعو للنسيان ، فعدة السفر هذه مكتملة بما يكفي لمسافر. ولكن شعوره الأكيد بأنه قد نسي شيئا كان أكثر ما يؤلمه وهو يتأمل هيئته الحائرة في المرآة.وكأن خوفه المبالغ فيه هنا من النسيان له علاقة بالمعتقد الاجتماعي والديني السائد باعتبار النسيان فرضا روحيا لايخلو من دسّ الشيطان وهمزه. وقد ارتبط النسيان في القرآن بعمل الشيطان ، وفي الآية « وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربّك فأنساه الشيطان».
ولنستمع ، مرّة أخرى ، إلى الراوي وهو يتحدّث عن بطل قصته:
( عاد إلى المرآة مرّة أخرى ومنها رأى شعرتين تنبضان من فتحتي أنفه فتراجع ليبحث عن مقص لكنه ما لبث أن نزعهما بإصبعيه فدمعت عيناه فمسحهما بخرقة أخبرته المرآة أنها حالكة تلطّخ بها وجهه. وفي المغسلة تذكر بأن هذه الأشياء الصغيرة ليست هي ما يقلقه ، وأن شيئا ما أكبر من ذلك لا بدّ أنه استقر في دهليز النسيان ، فأوقد ذهنه حتى أقصاه كمن يشعل ضوءا كاشفا ليبحث عن شيء تصعب رؤيته. نظر مليّا في المرآة وهناك تذكر بأنه قد نسي أرقام حقيبته).
( بركة النسيان ، ص 44)
إن انغلاق الحقيبة بهذا الشكل دليل شؤم ، ويمكن أن يكون علامة أخرى على انغلاق الأفق أمام صاحبها ، ولذلك لا غرو أن تبقى أرقامها منسيّة وعصية على تذكره رغم ما بذله من جهد خارق في استحضارها في ضوء خبرته التي دأب فيها على ألا يختار هذه الأرقام بطريقة عبثية ، وأنها لابدّ أن تكون مربوطة بحادث ما ، مما جعله بعد حيرة وحوار طويل مع النفس وتقليب لوجوه الرأي يتخلّى عن الحقيبة في النهاية ويقرر الذهاب إلى المطار خاليا من أي شيء سوى جواز سفره الذي تبين أنه(نسي) أن يجدّده بعد انتهاء تاريخ صلاحيته للسفر ، وأنه لا يمكن أن يسافر قبل تجديده الذي يستغرق ثلاثة أسابيع أو شهرا ، حسب ما أخبره مفتش الجوازات. وهو ما يفوق أيام إجازته التي لا تزيد على اثنين وعشرين يوما قبلهما صفر ، وهو نفس الرقم الذي أقفل به حقيبته المتروكة في البيت. وهو ما أجبره على أن يعود:
(ادراجه شارد الذهن ، وكأن خيوطا خفيّة ترفعه من جفنيه وتقوده إلى بيته. ولأنه لم ينم طول تلك الليلة ، فإن النعاس قد استقرّ في رأسه وجثم. دخل غرفته ، فاستقبلته المرآة والحقيبة المغلقة ، لم يخلع شيئا من ملابس السفر وغاص في بطن السرير ، وهناك رأى نفسه محلّقا تقوده سحابة بيضاء وتحطّه في جزيرة ، ثم وجد نفسه في غرفة يخبط نوافذها البحر وتنقرحوافها النوارس ،ورأى الصبية صاحبة المنديل وهي تقترب ورأى حقيبته تنفرج وترتفع منها هدايا ووجوه أناس مجهولين تحوم حوله ، وفوق أحد الأشرعة رأى صورته المعلّقة تصطاد السمك. )
(بركة النسيان 44-48)
وهذه الحركة الأخيرة ذات الطابع الحكائي والتي يصنعها الحلم واللاوعي لتعويض الشخصية القصصية عما أصابها من ضيم في الواقع هي التي سبق لنا الحديث عنها بوصفها الأداة التي تحفظ للبنية السردية توازنها وثباتها. فالسفر الذي لم يتمّ في الواقع قد تمّ بهذه الكيفية التي لم يغادر فيها البطل عتبة بيته مع أنه كان قادرا لدى استيقاظه وخلعه ملابس السفر أن(يتذكّر كل ما رآه في رحلته القصيرة تلك).
غير أن القصة لا تنتهي هكذا بهذه الخلاصة التي قدّمناها لها هنا ، فملفوظاتها السردية تنطوي على دلالات أخرى من الصعب تجاوزها دون الإشارة إليها. ومن هذه الملفوظات ، بل في مقدمتها(النسيان) الذي شكّل الموضوع والثيمة الأساسية ، و(المرآة) التي ظلّت علاقتها بالبطل أو علاقته بها مثيرة للدهشة حتى اللحظة الأخيرة. ونحن ننظر إليهما( = النسيان والمرآة) هنا باعتبارهما مولدتين سرديتين قابلتين لوجوه عديدة من التأويل الذي لا يقتصر على هذا النص وحده ، بل يشمل المجموعة التي تحمل(النسيان) في عنوانها ، والمجموعة الأخرى التي تحمل بعض قصصها عنوانا مشتركا هو(حكايات المرآة).
(لماذا لا تمزح معي؟ حكايات المرآة ، ص33- 51 )
وأول ما نلاحظه في النص هو هذا التقابل الغريب بين مظاهر النسيان وأشكاله التي تضرب أطنابها بكل شيء له علاقة بالشخصية، واليقظة الشخصية للبطل الذي لا تمنعه معرفته بأنه نسّاء من أن يمتلك ذهنا متّقدا يحاول أن يطوّق به النسيان ويتجنّب آثاره وعقابيله الوخيمة.
فقضاء البطل لإجازته خارج البلاد تجعله يشعر كأنه(يجرّب حواسه أول مرّة) ، وأن مجابهة ما يمكن أن يحدثه النسيان قد(جعل ذهنه يتّقد بقوّة) ، وأنه(أوقد ذهنه حتى أقصاه كمن يشعل ضوءا كاشفا ليبحث عن شيء تصعب رؤيته) حين عرف بأن(شيئا ما أكبر من ذلك لابد أنه استقرّ في دهاليز النسيان)..إلخ وكأن اتقاد الذهن واليقظة الداخلية للشخصية تبدو كما لو أنها تتناسب طرديّا مع الشعور بخطر النسيان.
كما أن النظر للمرآة الذي يحرص عليه البطل في كل فعل من أفعاله يمثّل علامة أخرى على نوع من العلاقة اليقظة مع الذات «فمن نسي صورته نسي نفسه «كما يقول محي الدين بن عربي في الفتوحات المكيّة. ومنطق الصورة المرآوية هو في الواقع منطق وانطولوجيا الخيال الذي من شأنه تحرير الشخصية من المنطق الصوري والأيديولوجية العقلية المتصلة به ، طالما كان المنطق المرآوي منطلقا من المبدأ الذي يجعل الصورة أساسا لتصوّر العالم.
وكل ذلك يدفع إلى التساؤل عما إذا كان بناء الشخصية بهذا الشكل مبرّأ من التعالقات والإيحاءات الفكرية التي يثيرها وجود مثل هذه الأشياء في النص. وبعض الفلاسفة يرى بأن النسيان طبيعة ذاتية للإنسان ، وأن الفكر علة لنسيان الوجود ، وبعبارة ابن عربي « الاشتغال بالفكر حجاب» ؛ في حين يربط هيدجر نسيان الوجود بالإنسان ، وبالموجود الذي يتسبّب الإنسان بنسيانه عن طريق العقل الذي يحوّل الموجود إلى تقنية ، وما يتصل بها من نزعة ذاتية(إرجاع الوجود إلى الذات) هي المسؤولة عن نسيان الوجود.
وبصرف النظر عن مدى تحمّل قوام قصّة مثل(طريق موصدة) لوجهات نظر فلسفية وفكرية من هذا النوع ، فإن طريقة كتابة القصّة وبناء الشخصية فيها تلزم الناقد بمعاينتها على هذا الأساس الذي لاتبدو التلفظات السردية في مجمل النص بعيدة عن روح هذه القضايا وحمولاتها الفكرية. وربما كان من اللازم أيضا أن نرى في حياة الشخصية وتاريخها ما يمكن أن يساعدنا على فهم السبب الذي كانت فيه الشخصية تستشعر بقوّة هذا الخطر الذي يهدّد النسيان فيه وجودها وينغّص عليها حياتها على هذا النحو المثير للدهشة والتساؤل. وقد قدّم لنا النص ، بهذا الصدد ، تواريخ وأحداثا من حياة الشخصية بالغة الغنى والأهميّة. وهي تواريخ تجري استعادتها باعتبارها ارقاما يمكن أن تكون مطابقة لرقم الحقيبة المقفلة. تواريخ مهمة كما قلنا ولكنها لا تكفي في مجموعها لتفسير هذه الظاهرة الإستثنائية ، ظاهرة النسيان المهدّدة بتدمير حياة البطل في هذه القصة وإن كانت قادرة على إضاءة جوانب غير معروفة في حياة الشخصية كالسنة التي ماتت فيها أمّه ، والسنة التي وقع فيها في البئر بعد أن وشت به زوجة أبيه بأنه يتبول واقفا ، وكيف أنها اختارت حبلا واهنا وأعطته لأبيه الغاضب ، فسقط في البئر بعد دقائق من ربطه عليها ، واحتشد شبان كثيرون على فتحة البئر وهم يصرخون بكلام لا يسمعه ، وسقط غطاء رأس إحدى الصبايا ، وحين خرج كان يلوح بوجه دام بالغطاء للفتاة التي احمرّت تفاحتاها خجلا.
( طريق موصدة ، ص 45)
ولعلّ هذه الفتاة هي الصبية التي رآها البطل وهي تقترب منه في نومته بعد محاولته الفاشلة للسفر والتغلّب على آثار النسيان. كما أن ما جرى أطلاعنا عليه من مفردات متفرّقة سابقة في حياة هذا الإنسان في النص المتقدم لا يبقى بعيدا في تأثيره على حاضر الأزمة التي يتخبط فيها. وتحديقه الدائم في المرآة لابد أن يكون ناتجا عن إدراكه المتزايد أن الصورة التي يراها منعكسه فيها ليست مطابقة لصورته تمام المطابقة. وكأنه يحاول عبر هذا النظر المتكرر في المرآة تثبيت ذاته الضائعة والحفاظ عليها. إذ على الرغم من محاولته الدائبة للتماهي مع ذاته فإنه يشعر بأنه غريب عنها وطارئ عليها. وهو ما يفتح أمامه هوّة سحيقة لا تقبل الوصل بينه وبين ذاته ، والتصالح مع المجتمع الذي يعيش فيه. إنها إذن عزلة الإنسان وغربته عن تاريخ ليس تاريخه وهويّة ليست هويّته.
وتلك هي ، فيما أظن ، الحكمة التي أرادت هذه القصة أن توصلها إلينا ليس فقط من خلال ما صرّحت به ، وإنما أيضا من خلال ما سكتت عنه ، أو لمّحت إليه مجرّد تلميح.
وفي قصة(وجه الميّت) من مجموعة الرحبي(لماذا لا تمزح معي؟) نواجه بشكل آخر من أشكال النهايات الحكائية التي تقوم على مفارقات تتداخل فيها السخرية مع المأساة الناتجة أيضا عن النسيان ، أو ما يبدو أنه نسيان. فالرجل المسن الذي عجز في حياته عن استرداد نقوده التي وضعها أمانة لدى صاحب حانوت قبل ذهابه إلى الحج بسبب(نسيان) هذا الأخير ، يستطيع أن يستردّها في مماته بطريقة درامية غريبة. فقد جمع هذا الرجل المسن أبناءه لدى مرضه الأخير وأخذ عليهم عهدا بأن يهبطوا بنعشه وهم في طريقهم لدفنه أمام بيت التاجر ويخبروه: «أني أريد محادثته».
وبالفعل ينفّذ الأبناء هذه الوصية فيحملون الجنازة في غبش الفجر و«حين اقترب النعش من بيت صاحب الحانوت ركنوه إلى جانب عتبة الباب ، قبل أن يطرقوه بطرقات نشرها الصمت مدوّية في فضاء المكان.. فتح التاجر الباب بعينين ذاهلتين رافعا يديه كالغريق مبدّدا ما التصق من قذى في عينيه ، تقدّم منه أحد أبناء المتوفّى وهمس له:
– الميّت يريد محادثتك.
اقترب التاجر بعينين راعشتين ورأس مذهول ، وحين أطلّ برأسه من فتحة النعش ورفع الملاءة التي تطوّق رأس الميت صدمته العينان الغائبتان والفم المطبق فارتد مرتعدا وهو ينفث بكلام لم يفهمه غيره.
( لماذا لا تمزح معي ؟ ، ص 24-25)
والمهم في هذه القصة ليس استرجاع الرجل المسن لأمانته بعد أن تذكرها التاجر وسارع إلى إعادتها إلى الأبناء بعد تلك الحادثة الغريبة ، وإنما هي الطريقة التي ثأر فيه الرجل لحقّه المهضوم في مماته بعد أن عجز أن يحصل عليه في حياته. وهي ، كما قلنا ، شيء يتعلّق بطبيعة الحكي والمتخيّل السردي أكثر من علاقته بالوقائع الحياتية نفسها.
وهكذا فهذه الصور التي تنتهي إليها قصص محمود الرحبي في مجموعتيه الأخيرتين بشكل خاص تبقى هي المثيرة لانتباه القارئ حتى إذا كانت المقدمات التي ينطوي عليها النص في بنيته السطحية والعميقة يمكن أن تشير إلى مثل تلك النهايات وتلمّح إليها.أي أنه على الرغم من أن هذه النهايات تؤكّد على ما ذكرناه من وجود بنية إخفاق لاشكّ فيها ولا برء منها ، فإنها تبقى نتيجة طبيعية لمنهج القص ومحتواه الكامن. هذا المحتوى الذي يتدخل الحلم والخيال في صنعه ، وليس الموضوعات والنماذج البشرية والحوادث الملتقطة من واقع الحياة وحدها.
واستعراض سريع لبعض هذه النهايات يمكن أن يطلعنا على طبيعة المفارقة التي تبدو فيها الخاتمة مقطوعة الجذور في ظاهرها بالمقدمة التي تبدأ بها القصة ؛ في حين نشعر أنه لا يبقى ثمة معنى للحكاية دون وجود هذا الانحراف الذي تنتهي إليه الأشياء أو الكائنات البشرية على هذا النحو الاستثنائي الذي من شأنه أن يوقفنا على الوجه الآخر لما يضمره البشر وتنتهي إليه الأحداث وما يرتبط بها من دلالات.
ونهاية الفتاة في القصة المسماة(سمكة الحنين) من مجموعة(لماذا لا تمزح معي ؟) لا يمكن أن تحصل بغير هذه الطريقة التي تموت فيها الفتاة في الجبل تحت صخرة سمعت دوّيها من ورائها وهي منهمكة في صنع عرائسها من الخيوط وقطع الزور. فمثل هذا الموت يصبح ممكن الحدوث في حدود المنطق السردي السائد في القصة ، حتى إذا كان صعب الحدوث في حدود منطق الواقع. فقد كانت الفتاة محاصرة بوجودها الطبيعي والاجتماعي ، ولم تعد حياتها ممكنة في ظل فقدانها للماء الذي اعتادت السباحة فيه داخل البحر ، والفلج الذي جفّ بسبب انقطاع المطر عنه. وكذلك بسبب عيون الرقابة الاجتماعية في القرية الغريبة التي انتقلت إليها العائلة مضطّرة من بيتها المجاور للبحر. لقد جفّت عن الفتاة ينابيع الحياة المادية والعاطفية في البحر والبر ، ولم تعد قادرة وهي الملقبة بالسمكة لكثرة حبّها للسباحة على أن تفعل شيئا سوى ان تنتهي بتلك الطريقة الغامضة ، خصوصا بعد كبرت وصار الناس في تلك القرية يسمونها بالسمكة العانس. وبما أن السمكة تموت إذا أخرجت من الماء ، وأن فعل السباحة تعبير عن فضاء الحريّة الذي تحن الفتاة بكل روحها إليها ، فإن الخاتمة تصبح طبيعية ومطلوبة رغم قساوتها.
(كنت أعوم وحيدة ، حتى حين بدأت أكبر ، وتفاحتاي تكبران في صدري ، لم أتورع عن السباحة وحيدة ، تعب أبواي من إقناعي بأنني صرت كبيرة الآن ، فقد كنت أصاب بالحمى ويقشعرّ جسدي ما إن أفكّر بأنني سأهجر الماء يوما.
أبي لم يكن من النوع الغاضب ولكني أشعر به منذ أن ترك البحر والصيد في مياهه ، وهو يعيش كالباحث عن شيء لا يعرفه ، فخطواته غدت مأسورة بين البيت والمسجد والسبلة حيث يجتمع الكثير من الناس ، يتحدثون ويتهامسون وتموج بهدوء كخريطة ترسمها ريح شيطانية ، النميمة والصمت الثقيل والنظرات الحارقة).( لماذا لا تمزح معي ؟ ص 10 )
ذلك جانب مما تقوله الفتاة في هذه القصة التي لا يمكن إيجاد وسيلة لتعريف القارئ بها وتوضيح علاقة خاتمتها ذات الطابع التراجيدي المغلّف بغلالة شعرية ببقية الأجزاء غير إحالة القارئ إليها.
ومثل هذه الخاتمة ذات الطابع القاسي تواجهنا في قصة( صورة بعيدة ) من مجموعة( بركة النسيان ) حيث تنتهي أحلام العروس في ليلة زفافها إلى الضياع والموت ، بعد أن انتهى العريس صالح منها وخرج كالمدرك لثأر ، رافعا خرقة يعوم فيها الدم ، فترتسم الفرحة على وجه أمه وعلى وجوه المنتظرين الذين وثبوا جهة الجسد يقلّبونه دون حراك.
وموت الفتاة الذي نتج عن عنف الفعل الجنسي والجسدي الذي مارسه الفتى العريس معها ، قد حدث بسبب رفض الفتاة لهذا العريس بعد أن تبيّن لها أنه غير الرجل الذي رأته في الصورة !
وهو نفس ماحدث لتعيب ابن القرية المتواضع الذي اشترى سيارة(من النوع الغالي)، ووضع كل أحلام حياته فيها ، فاحترقت(=الأحلام ) مع احتراق أو إحراق السيّارة وتحوّلها إلى هيكل أسود. والسبب هو أن الناس في القرية لم يستطيعوا تحمّل حدث استثنائي مثل هذا كان «يستعر كالفضيحة بين فضاءات الحارة «
( أحلام تعيب ، مجموعة بركة النسيان ، 21-26 )
أما (الرجل اليائس) المسمّى( درويش أبو عطر ) فلم يجد أمامه غير أن يشنق نفسه بحبل خشن يتدلّى من السقف كقبضة مارد ، بعد أن عجز عن إيجاد التوازن في حياته العاطلة ، وعن منع الشكوك التي تسربت إلى نفسه حول شرف أمّه التي اضطرّت إلى «تدوير الرزق» لولدها(الصايع) في غير الطرق المشروعة.
وصورة درويش أبو عطر هذا وهو يتدلّى من الحبل مشنوقا كما وردت في بداية هذه القصة تستحق أن تستعاد هنا لملاحظة الكيفية التي يبدو فيها الوصف محايدا وموضوعيّا لا شأن له ظاهرا بالحمولة العاطفية المتفجّرة للمشهد:
( كانت اليدان تهويان باستسلام ، تموجان أمام أي تحريك من المحلّقين ، وتدوران حول الجسد ووراءه في ارتخاء ، والقدمان تتدليان غير بعيدتين عن الأرض التي تكوّمت فوقها بقعة بصاق أسود يبدو أن الميّت قذفها وهو يطلق آخر دفعة من أنفاسه ، وصندوق خشبي محطّم لوّح به بعيد عن جسد الميّت يتضح من وضعه العشوائي أن ركلة هائجة أو كتلة من العنف والعذاب والغضب أزاحته بعيدا وهشّمته بالجدار )
( ليل اليائس ، مجموعة بركة النسيان ، ص 51 )
وبطبيعة الحال ، لا يمكن الحديث عن ضبط النهاية أو البداية في أيّة قصّة قصيرة ما لم تكن الأجزاء الأخرى متناسبة ومحكمة في لغتها السرديّة. وما فعله محمود الرحبي في مجموعاته القصصيّة الثلاث يتعدّى إحكام الصنعة الفنيّة الخاصة بشكل النص ولغته العامة ، إلى إيجاد نوع من الرؤية المرافقة التي من شأنها توسيع فرص تأويل النص وفتح نواته الدلالية على آفاق خيالية شديدة الغنى والحيوية.
ضياء خضير
ناقد وأكاديمي من العراق يقيم في عُمان