ولد الروائي والناقد والمترجم والسينمائي الأمريكي بول بنيامين أوستر في 3 فبراير 1947، في نيوارك بولاية نيو جيرزي، لأبوين من أصل بولندي. درس في جامعة كولومبيا، وبعد تخرجه فيها عام 1970، سافر إلى فرنسا حيث عاش لفترة على ترجمة الأدب الفرنسي إلى الإنجليزية. عاد إلى الولايات المتحدة عام 1974، وبدأ نشر قصائده ومقالاته ورواياته. متزوج حاليا من الروائية الأمريكية سيري هستفيدت وله منها ابنة هي صوفي، وسبق له الزواج من الكاتبة الشهيرة ليديا ديفيس وله منها ابن يدعى دانيال.
أريد أن أحكي لكم قصة
لا أعرف لماذا أفعل ما أفعله. ولعلي ما كنت لأشعر باحتياج إلى فعله لو كنت أعرفه. كل ما يسعني قوله، وقوله بأقصى درجات اليقين، هو أنني شعرت بهذا الاحتياج منذ فجر مراهقتي. إنني أتكلم عن الكتابة، وتحديدا عن الكتابة بوصفها وسيلة لحكي القصص، القصص الخيالية التي لم تقع أحداثها فيما نسميه العالم الواقعي. لا شك أنه من الغريب أن يقضي المرء عمره بهذه الطريقة، جالسا وحده في غرفة وفي يده قلم، ساعة تلو ساعة، ويوما تلو يوم، وعاما تلو عام، مجاهدا نفسه كي يضع على الورقة كلمات يحقق بها الميلاد لشيء لا وجود له، اللهم إلا في رأسه. ما الذي يجعل امرءا على وجه الأرض يريد شيئا كذلك؟ الإجابة الوحيدة التي انتهيت إليها هي أن يكون المرء مجبرا على ذلك، هي أن لا يكون لديه خيار آخر.
ذلك الاحتياج إلى الصنع، والابتكار، والإبداع، هو بلا شك احتياج إنساني. ولكن إلى ماذا؟ ما الغاية التي يحققها الفن، وتحديدا فن القص، فيما نسميه بالعالم الواقعي؟ لا يسعني الخلوص إلى أية غاية على الأقل بالمعنى العملي. فلم يحدث أن ملأ كتاب معدة طفل جائع. ولم يحدث أن أوقف كتاب رصاصة قبل اختراقها جسد ضحية. ولم يحدث من قبل أن منع كتاب قنبلة من السقوط على مدنيين أبرياء في غمار حرب.
يروق للبعض أن يتصور أن ازدياد التقدير للفن كفيل فعلا بأن يجعلنا نحن البشر أفضل حالا، أكثر عدلا، أكثر أخلاقية، أكثر حساسية، أكثر تفهما. وقد يصدق ذلك، في حالات محددة نادرة ومتفرقة. ولكن لا ينبغي أن نغفل عن حقيقة أن هتلر قد بدأ حياته فنانا، وأن الطغاة والمستبدين يقرأون الروايات، وأن القتلة في زنازينهم يقرأون الروايات. ومنذا الذي يمكنه الزعم بأنهم لا يحققون من هذه الكتب متعة كالتي يحققها سواهم؟
أعني أن الفن بلا قيمة، على الأقل إذا قارناه بعمل السباك أو الطبيب أو مهندس السكك الحديدية. ولكن هل ما لا قيمة له يكون رديئا؟ هل انتفاء الغاية العملية يعني أن الكتب واللوحات والرباعيات الوترية هي مجرد إهدار للوقت؟ يظن الكثير من الناس هذا الظن. ولكنني أريد أن أذهب إلى القول بأن لاقيمة الفن هي تحديدا ما يعطي الفن قيمته، وأن إنتاج الفن هو ما يميزنا عن بقية الكائنات التي تعيش على سطح هذا الكوكب، أي أن الفن في جوهره هو ما يجعل منا بشرا.
أن تفعل شيئا من أجل المتعة والجمال الخالصين الكامنين في فعله. تخيلوا الجهد المبذول، وساعات التدريب والالتزام اللازمة لكي يصبح المرء راقصا أو عازفا متمكنا للبيانو. فكروا في أشكال المعاناة والعمل الشاق، في كم التضحيات التي يبذلها المرء من أجل تحقيق شيء هو بكل معنى الكلمة وبهائها … فارغ من القيمة.
على أنه يبقى للقص مكان في عالم مختلف إلى حد ما عن بقية الفنون. فوسيطه هو اللغة، واللغة شيء نشترك فيه مع الآخرين، شيء مشاع بيننا جميعا. منذ اللحظة التي نتعلم فيه الكلام، يبدأ جوعنا إلى القصص في التكون. ومن يستطيع منا أن يتذكر طفولته فسوف يتذكر بأي قدر من البهجة كنا نستطيب لحظة حكاية ما قبل النوم، حين كانت أمهاتنا أو آباؤنا يجلسون بجوارنا في شبه العتمة ليقرأوا لنا من كتاب حكايات الجنايات.
يسهل على الآباء بيننا أن يوقدوا نار الحماسة في عيون أطفالنا عندما نقرأ لهم. ولكن ما سر هذه الرغبة الشديدة في الإصغاء؟ إن حكايات الجنيات تتسم في الغالب بالقسوة والعنف، فغالبا ما يتم فيها تصوير الذبح والوحشية والتحولات المخيفة والأعمال السحرية الشريرة. وقد يميل أحدنا إلى اعتبار هذه المادة مخيفة للطفل الصغير، في حين أن هذه القصص تتيح للطفل أن يلتقي بمخاوفه وعذاباته في سياق آمن تماما يتمتع فيه بحماية مطلقة. وذلك هو شأن قصص السحر، قد تهوي بنا إلى أعماق الجحيم، لكنها في نهاية المطاف لا تعرضنا للأذى.
ونكبر، لكننا لا نتغير. تزداد شخصياتنا تعقيدا، ولكن تبقى لنا في سرائرنا أرواحنا لصغيرة، نبقى شغوفين بالإصغاء إلى القصة التالية، والتالية، والتالية. لقد صدرت المقالات تلو المقالات على مدار سنين في كل بلد من بلاد العالم الغربي لتنعي لنا تناقص عدد القراء، وتعلن لنا أننا قد دخلنا ما يطلق عليه البعض «عصر ما بعد الأدب». وقد يصح ذلك، إلا أنه في الوقت نفسه لم ينتقص من الرغبة الإنسانية في القصص.
ويبقى أن الروايات ليست المصدر الوحيد. فالأفلام والتليفزيون بل والكتب الكوميدية المصورة تنتج كميات هائلة من الحكايات القصصية فيبتلعها الجمهور بقدر كبير من الحماس. وذلك لأن البشر بحاجة دائما إلى القصص. يحتاجون إليها بإلحاح يماثل إلحاح احتياجهم إلى الغذاء، ولولا حضور القصص سواء مطبوعة أو معروضة على شاشة التليفزيون لما أمكن لنا أن نتخيل الحياة بدونها.
وحينما نصل إلى الحديث عن حالة الرواية، ومستقبلها، أجد نفسي أكثر ميلا إلى التفاؤل. فالأرقام والإحصاءات لا تبين لنا في أي مكان تزداد أهمية الكتب، إذ لا يوجد إلا قارئ واحد، لا يوجد في كل مرة إلا قارئ واحد. ومن هنا تأتي القوة الخاصة التي تنفرد بها الرواية، ومن هنا يستحيل في ظني أن تموت الرواية كشكل أدبي. فكل رواية هي نتاج تعاون بين الكاتب والقارئ على قدم المساواة، وهي المكان الوحيد في العالم الذي يمكن فيه لاثنين أن يلتقيا في ظل حميمية مطلقة.
لقد قضيت حياتي في حوارات مع أشخاص لم تتهيأ لي مقابلتهم قط، ولن أعرفهم أبدا، وأتمنى أن أستمر في ذلك حتى أتوقف عن التنفس.
إنها الوظيفة الوحيدة التي أردت أن أعمل فيها
* نص الكلمة التي ألقاها بول اوستر في أكتوبر الماضي عند تلقيه جائزة الأمير أوسترياس للأدب، وهي أهم الجوائز الأسبانية في الأدب، وهو النص الذي نشرته صحيفة الجارديان البريطانية في 5 نوفمبر 2006 .
رجل في العتمة
وحيدا في العتمة، أقلِّب العالم في رأسي، بينما أصارع نوبة أخرى من الأرق، ليلة أخرى بيضاء من ليالي برية أمريكا الشاسعة. في الطابق الأعلى ابنتي وحفيدتي نائمتان في غرفتي النوم، كل منهما وحيدة مثلي، ميريام ابنتي الوحيدة البالغة من العمر سبعة وأربعين عاما، والتي تنام وحدها منذ خمس سنوات، وابنتها الوحيدة كاتيا، البالغة من العمر ثلاثة وعشرين عاما، والتي دأبت على النوم برفقة شاب اسمه تيتوس سمول، ولكن تيتوس الآن ميت، وكاتيا تنام وحدها، موجوعةَ القلب.
ضوء ساطع ثم عتمة. شمس تنصب من أربعة أركان السماء، يعقبها سواد الليل، وصمت النجوم، وهز الريج للغصون. هذا هو الروتين. ولي في هذا البيت أكثر من سنة، منذ أن سمحوا لي بالخروج من المستشفى، حيث أصرت ميريام أن أجيء إلى هنا، وفي أول الأمر لم يكن يوجد سوانا، وممرضة تقوم على رعايتي بالنهار عندما تكون ميريام في العمل خارج البيت. وحدث بعد ثلاثة أشهر أن انهار السقف على رأس كاتيا، فتركت مدرسة السينما في نيويورك وعادت لتعيش مع أمها في فيرمونت.
سماه أبواه باسم ابن رامبرانت، صبي اللوحات الصغير، الطفل ذي الشعر الذهبي والقبعة الحمراء، التلميذ الحالم الحيران في دروسه، الصبي الصغير الذي صار شابا يفترسه المرض فمات في العشرينيات من عمره، تماما مثل تيتوس كاتيا. يا له من اسم مشؤوم، ينبغي منعه من التداول إلى الأبد. كثيرا مأ افكر في ميتة تيتوس، قصة ميتته المريعة، صور تلك الميتة وعواقبها الساحقة على حفيدتي الحزينة، ولكنني لا أريد أن أخوض في هذا الآن، لا أستطيع أن أخوض في هذا الآن، عليَّ أن أدفعه عني إلى أبعد ما يمكن. فالليلة لا تزال يافعة، وبينما أنا مستلق هنا رافعا عيني في العتمة، العتمة الحالكة إلى حد أن السقف لا يُرى، أبدأ في تذكر القصة التي بدأتها ليلة أمس. هذا ما أفعله حينما يمتنع علي النوم. أستلقي في السرير وأحكي لنفسي قصصا، لعلها لا تفضي إلى شيء، ولكن طالما أنا فيها، فهي تحول دون أن أفكر في أشياء أوثر أن أنساها. ومع أن التركيز قد يكون مشكلة، إلا أن عقلي كثيرا ما ينجرف في نهاية المطاف بعيدا عن القصة التي أحاول حكايتها، إلى أشياء لا أريد أن أفكر فيها. ليس ثمة ما يمكن أن أفعله. إنني أفشل المرة بعد الأخرى، أفشل أكثر مما أنجح، ولا يعني هذا أنني لا أبذل قصارى جهدى.
وضعته في حفرة. بدت تلك بداية جيدة، طريقة واعدة لتحريك الأمور. ضعوا رجلا نائما في حفرة، وانظروا بعد ذلك ما الذي سوف يحدث حينما يصحو ويحاول أن يزحف إلى الخارج. إنني أتكلم عن حفرة عميقة في الأرض، عمقها تسعة أقدام أو عشرة، محفورة بطريقة تجعلها دائرة مضبوطة، ذات جدران عمودية من التراب المدكوك الكثيف، وبالغة الصلابة إلى حد أن لسطحها الداخلي ملمس صلصال محروق، بل ربما ملمس الزجاج. أي أن الرجل الذي في الحفرة لن يستطيع إخراج نفسه منها بمجرد أن يفتح عينيه. ما لم يكن مجهزا بجموعة من أدوات تسلق الجبال مطرقة وخطاطيف معدنية على سبيل المثال أو حبل ليلقيه فيلتف على شجرة قريبة وهذا الرجل ليست لديه أدوات، وبمجرد أن يسترد وعيه سيعرف أية ورطة هو فيها.
وهذا ما يحدث. يستعيد الرجل حواسه ويكتشف أنه نائم على ظهره، محملقا إلى سماء الليل من فوقه صافية من الغيوم. اسمه أوين بريك، وليست لديه فكرة عما جعله يهبط في هذه البقعة، أو ذكرى لوقوع في هذه الحفرة الأسطوانية التي يقدر أن يكون قطرها اثني عشر قدما تقريبا. يعتدل جالسا. يندهش لما يرى أنه يرتدي زي جندي مفصل من صوف خشن بني ضارب إلى الرمادي. على رأسه قبعة، وحذاء جلدي أسود برقبة محكم حول قدميه، مربوط من حول الكاحل بعقدة مزدوجة. وعلى كل كم من السترة شريطان عسكريان بما يشير إلى أن الزي يخص شخصا برتبة العريف. ذلك الشخص قد يكون أوين بريك، لكن الرجل الذي في الحفرة، والمسمى أوين بريك، لا يتذكر أنه خدم في جيش أو خاض حربا في أي وقت من حياته.
ولعدم وجود أي تفسير آخر، يفترض أنه تلقى ضربة على رأسه وأنه فقد ذاكرته فقدانا مؤقتا. ولكنه حينما يضع أنامله على فروة رأسه ويبدأ البحث عن أورام أو جروح، لا يجد أثرا لورم أو جرح أو كدمة، لا شيء يشي بأن هذه الإصابة حدثت. فما الأمر إذن؟ تراه تعرض لصدمة مؤلمة مسحت أجزاء كبيرة من مخه؟ ربما. ولكن ما لم تعد ذاكرة هذا الشخص إليه، فلا سبيل أمامه لمعرفة شيء. بعد ذلك، يشرع في استكشاف إمكانية أن يكون نائما في سريره في بيته، حبيس حلم واضح وضوحا غير طبيعي، حلم حاد شبيه بالحياة إلى درجة ذوبان الحد الفاصل بين الحلم والوعي. ولو أن هذا صحيح، فليس عليه سوى أن يفتح عينيه ببساطة، ويثب من السرير، ويمشي إلى المطبخ لإعداد قهوة الصباح. ولكن كيف يمكنك أن تفتح عينيك وهما مفتوحتان بالفعل؟ يغمض عينيه ويفتحمها بضع مرات، وهو يتساءل بطفولية إن كان هذا سوف يبطل السحر، ولكن ليس هناك من سحر ليبطله شيء، والسرير المسحور لا يتجسد في سرير حقيقي.
يمر أعلاه سرب من الزرازير، يعبر في مجاله البصري لخمس ثوان أو ست، ثم يتلاشى في السَحَر. يقف بريك ليتحقق مما حوله، وبينما يفعل ذلك، يتبين شيئا ناتئا من الجيب الأيسر الأمامي في بنطاله. يتبين أنه محفظة، محفظته، وبالإضافة إلى ستة وسبعين دولارا من النقد الأمريكي، تحتوي المحفظة رخصة قيادة صادرة من ولاية نيويورك لشخص اسمه أوين بريك، من مواليد 12 يونيو 1977. هذا يؤكد ما يعرفه بريك بالفعل: أنه الرجل المشرف على الثلاثين، القاطن في جاكسن هايتس، بـ كوينز. يعرف أيضا أنه متزوج من امرأة اسمها فلورا وأنه يعمل منذ سبع سنوات ساحرا محترفا، يقدم فقراته غالبا في حفلات أعياد الميلاد في المدينة باسم مسرحي هو زافيللو العظيم. وهذه المعلومات تزيد اللغز صعوبة على صعوبة. فإذا كان واثقا إلى هذه الدرجة ممن هو، فكيف انتهى به الحال في قاع الحفرة، مرتديا زي عريف لا يحمل أوراقا، أو صفيحة هوية، أو بطاقة هوية عسكرية تؤكد وضعه كجندي؟
لا يضيع منه وقت يذكر قبل أن يدرك أن الهرب أمر غير مطروح. فالجدار الدائري عال للغاية، وحين يركله بحذائه بغية أن يخدش سطحه فيحدث متكأ لقدمه يساعده على الصعود، تكون النتيجة الوحيدة هي تقرح إصبع قدمه الكبير. يحل الليل بسرعة شديدة، وفي الهواء برودة، برودة ربيعية ملعونة تستدفئ في جسده، وفي الوقت الذي بدأ فيه بريك يشعر بالخوف، كان مأخوذا أكثر منه خائفا. ومع ذلك لا يستطيع أن يمنع نفسه من المناداة طالبا العون. لا يزال كل شيء إلى الآن ساكنا من حوله، بما يشي بأنه في موضع ما ريفي ناء غير مأهول، ولا صوت فيه إلا صياح طائر عابر أو حفيف ريح. لكن، وكأنما بناء على أمر، أو كأنما وفق نسخة عوجاء من منطق العلة والمعلول، لم يكد يفوه بـ «النجدة» حتى انلعت نيران المدفعية على البعد، وإذا السماء المعتمة تضيئها نيازك الدمار المشعة. ويسمع بريك صوت مدافع رشاشة وانفجار قنابل يدوية، وتحت ذلك كله، وعلى بعد أميال، لا شك أن هناك أصواتا بشرية. إنها حرب، وهو يعرف ذلك، وهو جندي في هذه الحرب، لكنه بلا سلاح في حوزته، يرد به هجوما عن نفسه، وللمرة الأولى منذ صحوه يشعر أنه خائف، خائف فعلا.
يتواصل الضرب لما يزيد عن ساعة، ثم يتلاشى تدريجيا إلى أن يسود الصمت. ولا ينقضي على ذلك وقت طويل، حتى يسمع بريك صوت أبواق خافتة، يوعزها إلى عربات إطفاء تهرع إلى المباني التي تضررت من القصف. وحتى هذه تصمت بعد قليل هي الأخرى، ويلفه الصمت من جديد. وبقدر ما يشعر بريك بالبرد والخوف، يشعر أيضا بالتعب، فيمشي لبرهة في حدود زنزاته الأسطوانية إلى أن تظهر النجوم في السماء، وبطريقة أو بأخرى يدركه النوم.
في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، يصحو على من يناديه من أعلى الحفرة. يرفع بريك بصره فيرى وجه رجل ناتئا عن الحافة، ولأن الوجه هو كل ما يراه بريك، فإنه يفترض أن الرجل مستلق تماما على بطنه.
ـ عريف، عريف بريك، حان وقت التحرك.
يقف بريك، وحين لا تكون عيناه إلا على بعد ثلاثة أقدام أو أربعة من وجه الغريب، يرى أن الرجل داكنُ البشرة، مربع الوجنتين ذو لحية عمرها يومان وقبعة عسكرية مماثلة للتي فوق رأسه. وقبل أن يؤكد بريك كم هو راغب في التحرك، لا يجد نفسه في موضع يسمح له بفعل أي شيء؛ فوجه الرجل يختفي.
بعد لحظات من ذلك، ثمة صوت اصطدام مطرقة أو مضرب حديدي بشيء معدني، ولأن الصوت ينكتم تدريجيا مع كل ضربة، يتصور بريك أن الرجل يدق قضيبا في الأرض. ولو أنه قضيب، فمن المحتمل أن يُربَط به عما قريب حبل، وبذلك الحبل يستطيع بريك أن يخرج من الحفرة. يتوقف الرنين، وتمضي ثلاثون ثانية أو أربعون، ومثلما توقع بالضبط يسقط حبل بين قدميه.
بريك ساحر، وليس بطل كمال أجسام، وحتى إن كان تسلق قدما أو اثنتين على حبل ليس بالمهمة المجهدة للغاية لرجل في الثلاثين ذي صحة جيدة، إلا أنه يجد قدرا جيدا من المشقة في رفع نفسه إلى السطح. لا ينفعه الحائط في شيء، فنعلا حذائه ينزلقان على سطحه الأملس، وحين يحاول أن يشد بحذائه على الحبل نفسه، يتبين أنها صفقة خاسرة، أي أن عليه أن يعتمد على قوة ذراعيه وحدهما، ولأنهما ليسا بالذراعين القويين أو مفتولي العضلات، ولأن الحبل مصنوع من مادة خشنة تلهب راحتيه، فإن هذه العملية البسيطة تتحول إلى معركة. وحينما يقترب أخيرا من الحافة ويمسكه الرجل الآخر من يمناه جاذبا إياه إلى مستوى الأرض، يكون بريك مقطوع النفس مشمئزا من نفسه.
وبعد أدائه الباهت هذا يتوقع بريك سخرية من عجزه، إلا أن معجزة من المعجزات تجعل الرجل يحجم عن إبداء أي تعليق مهين.
وفيما يجاهد بريك لكي يبقى واقفا على قدميه، يلاحظ أن زي منقذه مماثل لزيه، مع فارق وحيد هو أن على كمي سترته ثلاثة أشرطة، بدلا من اثنين. لا يستطيع بسبب الضباب العالق بكثافة في الهواء أن يتعرف أين هو. منطقة ما معزولة في الريف، مثلما تصور من قبل، ولكن المدينة أو البلدة التي تعرضت للقصف ليلة أمس غير واضحة للنظر. الشيء الوحيد الذي يمكن له أن يميزه بأي قدر من الوضوح هو القضيب المعدني والحبل المربوط فيه والسيارة الجيب المبقعة بالطين والمركونة على بعد عشرة أقدام من حافة الحفرة.
يقول الرجل وهو يشد على يديه بحماس وحزم: عريف، أنا الجاويش توباك، جاويشك. ولكني مشهور بـ الشاويش شاويش
ينظر بريك من أعلى إلى الرجل الأقصر منه بست بوصات محترمةويعيد الاسم بصوت خافت: الشاويش شاويش
يقول توباك: عارف، اسم مضحك، ولكن الأسماء تلزق، وما باليد حيلة، واليد التي لا تقدر ان تعضها، قبلها، صح؟
يسأله بريك وهو يحاول ان يكبح الألم في صوته: ما الذي أفعله هنا؟
تماسك يا فتى. أنت في حرب. أم ماذا كنت تظنها؟ رحلة إلى بلاد المرح؟
أية حرب؟ أيعني هذا أننا في العراق؟
العراق؟ ومن الذي يبالي بالعراق؟
أمريكا في حرب في العراق. الكل يعرف هذا.
… أم العراق. نحن في أمريكا، وأمريكا في حرب مع أمريكا.
ما هذا الذي تقوله؟
حرب أهلية يا بريك. ألا تعرف أي شيء؟ هذه هي السنة الرابعة، ولكن الآن بعدما ظهرت أنت، سوف تنتهي بسرعة. أنت الذي ستسمح بحدوث ذلك.
ومن أين لك أنت تعرف اسمي؟
أنت في فصيلتي يا حمار أنت.
وما حكاية الحفرة؟ ما الذي كنت أفعله هناك؟
إجراء طبيعي. كل المجندين الجدد يردون إلينا بهذه الطريقة.
لكنني لم أوقع ورقا. لم أتقدم بطلب.
طبعا، لا أنت ولا غيرك. في لحظة تكون في حياتك الطبيعية، وفي التي بعدها أنت في الحرب.
يرتبك بريك من كلام توباك إلى حد أنه لا يعرف ماذا يقول؟
يواصل الشاويش كلامه: هذه هي الحكاية. أنت يا سيدي الذي وقع عليه اختيارهم للمهمة الكبيرة. لا تسألني لماذا، لكن القيادة العامة ترى أنك أفضل رجل للمهمة، ربما لأنك غير معروف لأحد، أو ربما بسبب هذه … هذه الـ ؟ هذه الطلة البريئة التي على وجهك، فلا يشك أحد في أنك القاتل؟
القاتل؟
نعم، القاتل. ولكنني أفضل المحرر. أو ربما صانع السلام. عموما، مهما يكن المسمى، بدونك لن تتوقف هذه الحرب أبدا.
ود بريك لو يهرب على الفور، ولكن لأنه أعزل، لم يفكر أن يفعل أي شيء إلا أن يجاريه. يسأله، ومن الذي ينبغي أن أقتله؟
يرد الشاويش بغموض، ليس من بل ماذا؟ نحن أصلا غير متأكدين من اسمه. يمكن بليك. يمكن بلاك. يمكن بلوك. ولكن لدينا عنوان، وإذا كان إلى الآن لم يهرب منه، فلن تواجهك أدنى صعوبة. سنرتب لك من تتصل به في المدينة، وستذهب متخفيا، وإن هي إلا أيام ويكون كل شيء انتهى.
ولم يستحق هذا الرجل القتل؟
لأن الحرب ملكه. هو الذي اخترعها، وكل ما يحدث أو سيحدث موجود في رأسه. تقطع أنت هذه الرأس، تنتهي الحرب. بهذه البساطة؟
أي بساطة؟ أنت تجعله أشبه بإله.
ليس إلها، يا عريف، بل مجرد رجل. يجلس طول النهار في غرفة ويكتب، وكل ما يكتبه يتحقق. تقارير المخابرات تقول إن الإحساس بالذنب يزلزله، لكنه لا يقدر أن يوقف نفسه. ولو كانت لدى ابن القحبة هذا الشجاعة على تفجير مخه، لما كنا نقول الآن هذا الذي نقوله.
تقول إذن إنها قصة، إن رجلا يكتب قصة، وإننا كلنا أجزاء منها.
شيء من هذا القبيل.
وبعد قتله، ما الذي سيحدث؟ الحرب تنتهي، ونحن، ماذا عنا؟
كل شيء يرجع إلى طبيعته.
أو ربما نختفي.
رما. ولكن هذه هي المخاطرة التي علينا القبول بها. نقضي أو يقضى علينا، يا بني. لقد مات أكثر من ثلاثة عشر مليونا حتى الآن. ولو استمرت الأمور على ما هي عليه لوقت أطول، أكثر من نصف السكان سيموتون.
لا ينوي بريك أن يقتل أي أحد، وكلما طال إنصاته لتوباك كلما تأكد له أنه مجذوب مخرف. غير انه لا خيار لديه في الوقت الراهن إلا أن يتظاهر بالتفهم، وأن يتصرف كما لو كان ملهوفا على تنفيذ المهمة.
يسير الشاويش شاويش إلى الجيب، فيحضر من مؤخرتها كيسا بلاستيكيا مكتظا، ويسلمها لبريك، قائلا، هذه متعلقاتك الجديدة، وفي العراء يأمر الساحر بخلع زيه العسكري وارتداء الملابس لمدنية الموجودة في الكيس: بنطلون جينز أسود، وقميص قطني أزرق، وبلوفر بسبعة، وحزام، وسترة جلدية بنية، وحذاء أسود بني. ثم يسلمه حقيبة ظهر خضراء من النايلون فيها المزيد من الثياب، وأدوات حلاقة، وفرشاة أسنان، وفرشاة شعر، ومسدس عيار 38، وعلبة رصاص. وأخيرا يعطى بريك مظروفا به خمسة وعشرون دولارا وورقة تحمل اسم الشخص الذي سوف يتصل به وعنوانه.
يقول الشاويش، لُو فيسك. رجل طيب. اذهب إليه بمجرد أن تصل المدينة، وسوف يخبرك بكل ما تحتاج أن تعرفه.
يقول بريك، أي مدينة هذه التي نتكلم الآن عنها؟ أنا لا أعرف أين أنا؟
يقول توباك مشيرا بذراع إلى اليمين حيث ضباب الصباح الكثيف، وِلِنْتُن. اثنا عشر ميلا إلى الشمال. ليس عليك إلا أن تبقى على الطريق فتصل على العصر.
المفروض آخذها مشيا؟
آسف. كنت سأقلك، لولا أنني لا بد أن آخذ الاتجاه الآخر. رجال بانتظاري.
وماذا عن الإفطار؟ اثنا عشر ميلا على معدة خاوية …
آسف أيضا على هذا. كان المفروض أن أحضر لك سندوتش بيض وترمس قهوة، لكن نسيت.
وقبل أن يتحرك لينضم إلى رجاله، يجذب الشاويش شاويش الحبل من الحفرة، ويخلع القضيب المعدني من الأرض، ويلقي بهما في مؤخرة الجيب. ثم يصعد ليجلس خلف المقود ويدير المحرك. ويقول وهو يلوح لبريك بالوداع، اجمد أيها الجندي. شكلك لا يبدو لي قاتلا، ولكن ماذا أعرف وأنا لم يصح لي رأي في شيء قط؟
وبدون كلمة أخرى يضغط توباك بقدمه دواسة البترول، وينطلق، ليختفي في غضون ثوان في الضباب. بريك لا يتزحزح. يشعر بالبرد وبالجوع، بالقلق وبالخوف، ولما يربو على دقيقة يبقى واقفا هناك في عرض الطريق، لا يعرف ما الذي ينبغي أن يفعله. وأخيرا تنتابه رعشة في الهواء المثلج، فيتقرر له الأمر. عليه أن يحرك أطرافه ليدفئ نفسه، وهكذا، ودونما أدنى فكرة عما ينتظره، يستدير، يضع يديه في جيبيه، ويبدأ في السير باتجاه المدينة.
رجل في العتمة، الطبعة الأولى، 2008
قصة آلتي الكاتبة
قبل ثلاث سنوات ونصف، عدت إلى أمريكا. كان ذلك في يوليو من عام 1974، وحينما فتحت حقائبي في عصر أول يوم لي في نيويورك، تبينت أن آلتي الكاتبة الصغيرة من طراز هرمس قد تحطمت. تهشم الغلاف، والحروف اعوجت أشكالها، ولم يكن ثمة أمل في إصلاحها.
لم أكن أملك أن أشتري آلة كاتبة جديدة. فنادرا ما كانت تتوفر لدي نقود كثيرة في تلك الأيام، ولكنني في تلك اللحظة بالذات، كنت على الحديدة.
بعد ليلتين، دعاني صديق قديم من أيام الكلية على العشاء في شقته. وفي لحظة من حديثنا، أتيت على ذكر ما جرى لآلتي الكاتبة، فقال لي إن لديه واحدة في الخزانة لم يعد يستعملها. كانت قد أُعطيت له كجائزة تخرج من المدرسة الثانوية عام 1962. وقال إنني لو أردت أن أشتريها منه، فسيكون من دواعي سروره أن يبيعها لي.
اتفقنا على أربعين دولارا. كانت آلة أوليمبيا محمولة صنعت في ألمانيا الغربية. البلد الذي لم يعد له وجود الآن، ومع ذلك، ومنذ ذلك اليوم من عام 1974، فإن كل حرف كتبته كان على تلك الآلة.
في البداية، لم أكن أفكر فيها كثيرا. مضى عام، ومضت عشرة أعوام، ولم يحدث ولو لمرة واحدة أن اعتبرت من الغريب أو غير المعتاد أنني أعمل على آلة كاتبة يدوية. كان البديل الوحيد هو الآلة الكاتبة الكهربائية، ولكنني لم أحب الضوضاء التي كانت تصدرها تلك الأجهزة، ذلك الطنين المستمر الصادر عن الموتور، وصليل الأجزاء المتحركة وأزيزها، وذلك النبض المتوتر الذي أستشعره في أصابعي كلما تغير التيار. كنت أفضل سكون آلتي الأوليمبيا. كانت مريحة في اللمس، وتعمل بسلاسة، وجديرة بالثقة. وحين كنت أكف عن النقر على الأزرار، أجدها صامتة.
وفوق ذلك كله، لم تكن قابلة للتحطم. فباستثناء تغيير شريط الحبر، والاضطرار بين الحين والآخر إلى تنظيف الأزرار من الحبر المتراكم، كنت معفيا تماما من واجبات الصيانة. غيرت الأسطوانة الدوارة مرتين، أو ربما ثلاثا. ولم آخذها إلى المحل للتنظيف أكثر من عدد مرات تصويتي في الانتخابات الرئاسية، ولم أضطر قط إلى استبدال أي جزء منها. والإصابة الوحيدة الخطرة التي تعرضت لها كانت عام 1979، وذلك حين كسرت ابنتي وكان عمرها سنتين ذراعها. ولكنها لم تكن غلطة الآلة الكاتبة. قضيت بقية ذلك اليوم يائسا، ولكنني في الصباح التالي حملتها إلى محل في شارع كورت، وجعلتهم يلحمون الذراع في مكانه. وهناك ندبة إلى الآن في ذلك الموضع، لكن العملية نجحت، والذراع لا يزال في مكانه منذ ذلك اليوم.
لا مجال للحديث عن الكمبيوتر وبرامجه الكتابية. ففي وقت مبكر، اشتهيت أن أشتري لنفسي إحدى تلك الأعاجيب، ولكن أصدقاء كثيرين جدا حكوا لي قصصَ رعبٍ عن ضغط زر بالخطأ ومن ثم مسح عمل يوم أو عمل شهر وسمعت تحذيرات كثيرة جدا عن انقطاع الكهرباء المفاجئ وإمكانية أن يؤدي إلى ضياع مخطوطة كاملة في أقل من نصف ثانية. ولما لم أكن قط ماهرا في التعامل مع الآلات، فقد عرفت أنه لو كان هناك زر يمكن ضغطه بالخطأ، فإنني في النهاية سوف أضغطه.
بقيت على آلتي القديمة، وإذا الثمانينيات يصبحن التسعينيات. وواحدا إثر واحد، تحول أصدقائي إلى الماك والآي بي إم. وبدأت أبدو كأنني عدو للتقدم، أو الوثني الآخير الصامد في عالم المعتنقين للديجيتال. وكان أصحابي يسخرون من مقاومتي للأساليب الجديدة. ومن كان منهم لا يطلق عليَّ «سيدنا الشيخ العتيق»، كان يسميني التيس العجوز العنيد الرجعي. ولم أهتم. وكنت أقول إن ما يصلح لهم ليس بالضرورة ما يصلح لي. وما الداعي إلى التغيير وأنا سعيد تماما بما أنا عليه؟
حتى ذلك الحين، لم أكن مرتبطا ارتباطا خاصا بآلتي الكاتبة. كانت مجرد أداة تتيح لي أن أقوم بعملي، لكن بعدما أصبحت سلالة مهددة بالانقراض، وواحدة من أواخر ما تبقى من مصنوعات إنسان القرن العشرين بدأت تنمو بداخلي محبة تجاهها. وأدركت أن لنا شئتُ أم أبيت ماضيا واحدا. وبينما أخذ الوقت ينصرم، أدركت أن لنا أيضا مستقبلا واحدا.
بعد سنتين أو ثلاث، استشعرت قرب النهاية، فذهبت إلى ليون، محل الأدوات المكتبية الذي أتعامل معه في بروكلن، وطلبت منه أن يعد لي طلبية بخمسين شريط حبر. واضطر الرجل أن يجري اتصالات لعدة أيام ليدبر طلبية بهذا الحجم. وبعد ذلك قال لي إن بعض الأشرطة أتى من أماكن بعيدة بُعد مدينة كنساس.
أستخدم هذه الأشرطة بأكبر قدر ممكن من الحرص، فأطبع عليها إلى أن يصبح الحبر غير مرئي تقريبا على الورق. وليس لدي أمل كبير في أن تكون ثمة أشرطة متبقية في السوق حينما ينتهي المخزون الذي لدي.
لم يكن في نيتي قط أن أحول آلتي الكاتبة إلى بطل. ذلك ما اهتم به سام ميسر الذي زار بيتي ذات يوم فوقع في غرام مكنتي. وليس من الممكن حسبان أهواء الفنانين. دامت العلاقة عدة سنوات، ومنذ شرارتها الأولى، كنت أشك أن المشاعر متبادلة.
نادرا ما يذهب ميسر إلى أي مكان غير مصطحب معه دفتر الاسكتشات. إنه يرسم باستمرار، طاعنا الورقة بضربات سريعة مهتاجة، رافعا عينيه كل لحظة عن دفتره ليلقي نظرة على الشخص أو الشيء الذي يواجهه، ففي كل مرة تجلس معه لتناول الطعام، فإنك تفعل ذلك وأنت متفهم لكونك متخذا أيضا وضعية البورتريه. وظل ذلك روتيننا لمرات كثيرة للغاية طوال السنوات السبع أو الثماني الماضية حتى لم أعد أفكر في الأمر.
أتذكر أنني أشرت له إلى آلتي الكاتبة في أول مرة زارني فيه، ولكنني لا أذكر ما قاله. وبعد يوم أو اثنين من ذلك، عاد إلى البيت، ولم أكن هناك في ذلك المساء، فاستأذن زوجتي في النزول إلى الغرفة التي أعمل فيها ليلقي نظرة أخرى على الآلة الكاتبة. والله وحده يعلم ما الذي فعله هناك، ولكنني على يقين من أن الآلة الكاتبة كلمته. وأعتقد أيضا أنه أقنعها في ثنايا العمل أن تعري له روحها.
عاد أكثر من مرة، وكانت كل مرة تسفر عن موجة من اللوحات، والرسوم، والصور الفوتوغرافية. استولى سام على آلتي الكاتبة، وقليلا قليلا حولها من شيء جامد إلى كيان ذي شخصية وحضور في العالم. صارت للآلة الكاتبة الآن أمزجة ورغبات، ونوبات من الغضب السوداوي والبهجة النشوى، وصار في جسمها الرمادي المعدني ما يمكنك أن تقسم على أنه قلب يصل إلى أذنيك نبضه.
ولا بد لي من الاعتراف بأنني لست مرتاحا لكل ذلك. اللوحات مرسومة ببراعة، وأنا فخور بأن آلتي الكاتبة أثبتت أنها جديرة بهذا، ولكن ميسر أرغمني في الوقت نفسه على النظر إلى رفيقة عمري بطريقة جديدة. ولم أزل إلى الآن في طور التكيف، ولكن عيني كلما تقع على واحدة من تلك اللوحات (وهناك لوحتان منها معلقتان على جدار غرفة المعيشة في بيتي) أجد صعوبة في التفكير في آلتي الكاتبة بوصفها شيئا. فقد تحولت ببطء ولكن بثبات إلى شخص.
نحن الآن معا منذ أكثر من ربع القرن. فكل مكان ذهبت إليه، ذهبت إليه الآلة الكاتبة معي. عشنا في منهاتن، وفي ضاحية في نيويورك، وفي بروكلن. سافرنا معا إلى كاليفورنيا ومين ومينيسوتا ومساتشوستس، إلى فرمونت، وفرنسا. وعلى مدار ذلك الوقت، كتبت بمئات من الأقلام والأقلام الرصاص. امتلكت العديد من السيارات، والعديد من الثلاجات، وسكنت الكثير من الشقق والبيوت. أبليت عشرات الأحذية، وسئمت من عشرات البلوفرات والسترات، وضيعت أو أهملت ساعات، ومنبهات، ومظلات. كل شيء مصيره الكسر أو البلى، كل شيء يفقد الغرض منه في نهاية المطاف، ولكن الآلة الكاتبة لا تزال معي. هي الشي الوحيد الذي لا يزال ملكي اليوم مما كان ملكي منذ ستة وعشرين عاما. وفي غضون شهور قليلة، ستكون قد قضت معي نصف عمري بالضبط.
هي البالية، العتيقة، الرفات الباقي من عصر كامل ينسرب بسرعة من الذاكرة، هي الملعونة التي لم تضجر مني قط. وحتي وأنا أتذكر الآن التسعة آلاف وأربعمائة يوما التي قضيناها معا، أراها جالسة قبالتي، تدندن بموسيقاها المألوفة. نحن نقضي الآن أجازة الأسبوع في كونكتيكت. إنه الصيف، والصباح يبدو من الشباك مشمسا وأخضر وجميلا. الآلة الكاتبة على منضدة المطبخ، ويداي على الآلة الكاتبة. وحرفا بعد حرف، أشاهدها وهي تكتب هذه الكلمات.
2 يوليو 2000
كلمة المترجم
هذه واحدة من أكثر القصص التي عرفتها إثارة للحزن. ولولا معجزة صغيرة حدثت بعد عشرين عاما من الواقعة، أشك أنني كنت لأقدر على استجماع الشجاعة الكافية لحكيها.
تبدأ [القصة] في عام 1972. كنت أعيش في باريس في ذلك الوقت، وبسبب الصداقة التي كانت تجمعني بالشاعر جاك دوبان (الذي ترجمت له)، كنت قارئا مخلصا لمجلة لوفيمير الأدبية التي كانت تصدر بتمويل من جاليري ماييه. كان جاك عضوا في هيئة التحرير مع إيف بونفوا، وآندريه دوبوشيه، وميشيل ليريه، وبول تسيلان حتى وفاته عام 1970. كانت المجلة تصدر أربع مرات سنويا، وفي ظل مسئولية مجموعة كهذه عن محتوياتها، كانت الأعمال التي تنشرها لوفيمير رفيعة المستوى.
صدر العدد العشرون والأخير من لوفيمير في الربيع وبين المشاركين المألوفين من مشاهير الشعراء والكتاب، كان ثمة مقال لعالم في الأنثروبولوجيا يدعى بيير كلاستير بعنوان «الواحد في غياب الكثرة». سبع صفحات فقط لكنها تركت لدي انطباعا فوريا ودائما. فلم تكن المقالة ذكية ومستفزة ومحكمة الحجج وحسب، بل كانت مكتوبة أيضا بلغة جميلة. بدت في لغة كلاستير روح الشاعر وعمق عقل الفيلسوف، فتأثرت بمباشرتها وإنسانيتها، وخلوها التام من الافتعال. ولقوة هذه الصفحات أدركت أنني وقعت على كاتب سوف أبقى أتابع أعماله لوقت طويل.
وسألت جاك عمن يكون هذا الشخص، فأوضح لي أن كلاستير درس على يد كلود ليفي شتراوس، وأنه لم يبلغ الأربعين، ويعد من أكثر الواعدين بين أفراد الجيل الجديد من علماء الأنثروبولوجيا في فرنسا. كان قد أجرى عمله الميداني في أحراش أمريكا الجنوبية حيث عاش وسط أكثر قبائل العصر الحجري بدائية في باراجواي وفنزويلا، وكان له كتاب على وشك الصدور متناولا هذه التجارب. وحين صدر كتاب Chronique des Indiens Guayaki أي «تاريخ هنود جواياكي» بعد وقت قصير، ذهبت فاشتريت لي نسخة منه.
يكاد يكون من قبيل المستحيلات في ظني ألا يقع المرء في غرام هذا الكتاب. فالعناية التي أوليت لكتابته، والصبر على تأليفه، وقوة ملاحظاته، وطرافته، وقوة أفكاره، جميع هذه المزايا تقوي بعضها البعض فتجعل من الكتاب عملا مهما لا يمكن نسيانه. وهو ليس دراسة أكاديمية جافة عن «الحياة بين الهمج»، ولا هو تقرير من عالم غريب يغفل راويه أن لوجوده هو أثرا عليه. وإنما هو قصة حقيقية تعرض تجارب رجل دون أن تثير من الأسئلة إلا أهمها: كيف يتم توصيل المعلومات إلى عالم الأنثروبولوجيا، ما التبادلات التي تجري بين ثقافة وأخرى، وتحت أية ظروف تبقى الصدور مطوية على الأسرار؟ وفي عرضه علينا هذه الحضارة المجهولة، يكتب كلاستير ببراعة روائي قدير، ينتبه إلى التفاصيل بدقة واهتمام، ويتحلى بمقدرة فذة على تطويع أفكاره حتى تظهر في لغة متماسكة جريئة. كما أنه يمثل ذلك الباحث النادر الذي لا يتهيب الكتابة بضمير المتكلم، فلا تكون النتيجة مجرد صورة يرسمها للناس الذين يدرسهم، بل صورة له هو أيضا.
عدت إلى نيويورك في صيف 1974، ولسنوات بعد ذلك حاولت أن أعيش من العمل بالترجمة، فخضت كفاحا مريرا، حيث كنت في أغلب الأحوال أتمكن بشق الأنفس من إبقاء رأسي على سطح الماء. ولأنني كنت مرغما على القبول بكل ما يعرض علي، فقد كنت غالبا ما أجد نفسي وقد قبلت مهاما للعمل ذات قيمة ضئيلة أو معدومة. كنت أود لو أترجم كتبا جيدة، وأنخرط في في مشاريع لها قيمة، تؤدي إلى ما هو أكثر من مجرد وضع خبز على المائدة. وكان تاريخ هنود جواياكي على رأس قائمتي، واقترحته مرات لا يحصى عددها على الناشرين الذين كنت أعمل لحسابهم، فلم تلق اقتراحاتي إلا الرفض تلو الرفض، إلى أن وجدت أخيرا من أبدى اهتماما. لا أتذكر بالضبط متى حدث هذا. ربما في أواخر 1975 أو أوائل 1976، ولكني قد أكون مخطئا في نصف عام مثلا. على أية حال، كانت شركة نشر جديدة لم تكد تثبت أقدامها، ولكن المؤشرات الأولية كانت مبشرة، فهناك محرون ممتازون، وعقود جيدة لعدد من الكتب البارزة، واستعداد للمخاطرة. وقبل ذلك بوقت غير قليل، كنت وكلاستير قد بدأنا نتراسل، وحينما أرسلت إليه بهذه الأخبار بدت فرحته بها عظيمة مثل فرحتي.
كانت ترجمة الكتاب بالنسبة لي تجربة بالغة الإمتاع، حتى أن ارتباطي بالكتاب ظل محموما حتى بعد أن انتهيت من الترجمة. وبعد ذلك، وعندما بدا كل شيء موشكا على النجاح، بدأت المتاعب.
بدا أن الشركة لم تكن ثرية بقدر ما سيق العالم إلى الظن. والأسوأ أن أمانة الناشر المالية كانت أقل بكثير مما كان ينبغي له. وأنا شاهد على ذلك، لأن النقود المستحقة لي عن الترجمة كانت مكفولة بموجب منحة من المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي CNRS، ولكنني عندما طالبت بنقودي، إذا بالناشر يتلكأ، ثم يعدني بالحصول عليها في الوقت المناسب. وكان تفسيره الوحيد لذلك هو أنه أنفق النقود على شيء آخر.
كنت أعيش في تلك الأيام فقرا مدقعا، فلم يكن مجرد انتظار النقود خياري الأمثل، إذ كان هو الفارق بين الأكل وعدم الأكل، بين دفع الإيجار وعدم دفع الإيجار. فظللت لأسابيع عديدة أتصل بالناشر كل يوم، فيستمهلني، ويأتيني بأعذار مختلفة. وفي النهاية، وبعد أن عجزت عن مزيد من الاحتمال، ذهبت إلى مكتبه شخصيا وطالبته بالدفع في التو واللحظة. ولما هم باختلاق عذر جديد، أبديت إصرارا على موقفي وقلت إنني لن أتزحزح من مكتبه ما لم يكتب لي شيكا بالمبلغ بالكامل. ولا أظنني تماديت إلى حد تهديده، ولكن ربما أكون فعلت. لقد كنت أغلي من الغضب، وأظن أنني فكرت أنه لو فشلت جميع الحلول، فإنني مستعد لأن ألكمه في وجهه. لكن الأمر لم يصل إلى هذا الحد، كل ما هنالك أنني زويته في ركن مكتبه، فبدا لي في تلك اللحظة أنه خائف. ولما فهم في النهاية أن ما أتكلم فيه هو مجرد عمل، فتح درج مكتبه في التو واللحظة وأخرج دفتر شيكاته، وأعطاني نقودي.
حين أسترجع ذلك، أجد في تلك أدنى وأظلم لحظة في حياتي المهنية والإنسانية على السواء، ولا أجدني أشعر بأي فخر للطريقة التي تصرفت بها. ولكنني كنت مفلسا، وكنت أنجزت عملي. ولكي أبين حجم الصعوبات التي كنت أمر بها في تلك السنوات، سأورد واقعة واحدة ولكنها دامغة. لقد قدمت المخطوطة دون أن أستبقي نسخة منها. فلم يكن لدي ثمن تصوير نسخة من الترجمة، ولما كنت أحسب أنها بين أيد أمينة، فقد بقيت النسخة الوحيدة في العالم هي النسخة الأصلية المكتوبة على الآلة الكاتبة والموجودة في مكتب الناشر. وسوف تعود هذه الواقعة، وهذا السهو الغبي، وهذه الطريقة الفقرية [من الفقر] في القيام بالعمل لتستولي علي وتؤرقني أرقا لا مثيل له. لقد كان الخطأ خطأي أنا، وقد تحول هذا الشقاء البسيط إلى بلوى بكل معنى الكلمة.
تبين في ذلك الوقت أن كل شيء عاد إلى نصابه. فما أن انتهينا من تسوية الغضب الناجم عن ملابسات أجري، حتى بدأ الناشر يتصرف وكأنما عقد النية على إصدار الكتاب. فتم إرسال المخطوطة للجمع، وصححت البروفات وأعدتها إلى الناشر، ومن جديد أغفلت الاحتفاظ بنسخة منها. فلم يبد الأمر ذا أهمية كبيرة، خاصة وأن استعدادات النشر جارية على قدم وساق، حيث تم الإعلان عن الكتاب في كتالوج الدار، وتحدد تاريخ النشر بشتاء 1977/1978.
ثم مرت شهور على الموعد المحدد لصدور «تاريخ هنود جواياكي» دون أن يصدر، ووردت الأنباء بأن بيير كلاستير مات في حادثة سيارة، حيث كان يسوق كما قيل لي في مكان ما من فرنسا، عندما فقد السيطرة على المقود، فوقع من على حافة جبل. لم نلتق قط. ولأنه كان في الثالثة والأربعين عند موته، فقد افترضت أن مستقبله كان ينطوي على فرص هائلة. وكنا قد تبادلنا بضع رسائل دافئة، فصرنا صديقين، وصرنا نتطلع أن يأتي وقت نجلس فيه معا ونتكلم، ولكن غرابة العالم ومفاجأته حالت دون أن يحدث هذا الحوار. فلم أزل إلى اليوم، وبعدما مرت كل هذه السنوات، أشعر بفداحة الخسارة.
جاءت 1978 وولت ولم يظهر «تاريخ هنود جواياكي». وانسربت سنة أخرى، ثم أخرى، ولا يوجد كتاب بعد.
بحلول 1981، كانت شركة النشر تلفظ أنفاسها الأخيرة. والمحرر الذي كنت أتعامل معه بشكل أساسي، كان قد ترك الشركة منذ وقت طويل، وصعب الحصول على أي معلومة. وفي تلك السنة أو التي بعدها، أو التي بعد تلك (فكل شي الآن مختلط في ذهني) انهارت الشركة نهائيا. واتصل بي من أبلغني أن حقوق الكتاب بيعت لناشر آخر، فاتصلت به، وقيل لي إنهم يخططون لإصدار الكتاب، ومرت سنة أخرى دون أن يحدث شيء. فاتصلت من جديد، وإذا الشخص الذي كلمني في السنة الماضية لم يعد يعمل في الشركة. فكلمت آخر قال لي إن الشركة لا تنوي إصدار تاريخ هنود جواياكي. فطلبت استرداد المخطوطة، ولم يستطع أحد العثور عليها، بل بدا كأن أحدا لم يسمع بها، وبدا كما لو لو لم يكن للترجمة وجود.
وقف الأمر عند هذا الحد لأكثر من عشر سنوات تالية. بيير كلاستير مات، ترجمتي اختفت، والمشروع كله وقع بين براثن النسيان. وفي صيف 1996 الماضي، انتهيت من كتاب عنوانه «الكفاف» Mouth to Hand وهو عبارة عن مقالة سيرية عن المال. وكنت أخطط لتضمينه القصة (بسبب عجزي عن تدبر نسخ المخطوطة، ومشهد مكتب الناشر) ولكن عندما حان وقت الكتابة، لم يطاوعني قلبي على وضعها في كلمات على ورق. كان الأمر مثيرا للحزن بدرجة لا تحتمل، ولم أجد مغزى لتذكر تلك الحكاية التعسة الكئيبة.
ثم، مر شهران أو ثلاثة على انتهائي من الكتاب، ووقع أمر غير عادي. كنت قد قبلت دعوة للذهاب إلى سان فرانسسكو للمشاركة في مدينة الفنون وسلسلة محاضرات مسرح هربست Herbst. كان الموعد المقرر للفعالية هو أكتوبر 1996، وعندما حانت اللحظة، صعدت إلى الطائرة التي اتجهت إلى مقصدها الموعود، سان فرانسسكو. وبعد انتهاء مشاركتي، كان علي أن أجلس في بهو المسرح وأوقع نسخا من كتبي. وهربست مسرح ضخم، كراسيه كثيرة، فكان صف منتظري الامتياز المشكوك فيه وهو أن أكتب اسمي على إحدى رواياتي طويلا نوعا ما. وفي ذلك الصف رأيت شخصا أعرفه، سبق أن التقيت به مرة، هو صديق لصديق. ويتصادف أنه شغوف بجمع الكتب، متعقب بارع للطبعات الأولى، والنادرة، والنافدة، فهو أقرب إلى مخبر سري ببليوجرافي لا يبالي إن هو أنفق نصف نهار في قبو مترب جالسا بين صناديق الكتب المرمية عساه يخرج منها بكنز صغير. ابتسم وهو يصافحني، ثم دفع إلي حزمة من الورق، غلافها أحمر، لم أكن رأيتها من قبل. قال لي «ما هذا؟ إني لم أسمع به قط». وإذا بها بغتة بين يدي، بروفات غير مصححة من ترجمتي العتيقة، ولكن، في سياق البرنامج الضخم، لم يكن الوقت مخصصا للاندهاش. أما بالنسبة لي، ولبرنامجي البسيط، فقد كانت اللحظة طاغية. أخذت يداي ترتعشان وأنا أمسك الكتاب. كنت مأخوذا، مذهولا، إلى حد أعجزني عن الكلام.
تم العثور على البروفات في سلة في محل للكتب المستعملة، وبخمسة دولارات اشتراها الشاب. وها أنا أنظر إليها الآن، فأندهش وأغتم حين أرى أن التاريخ المحدد للنشر كان ابريل 1981، وذلك بالنسبة لترجمة مكتملة منذ 1976 أو 1977، موعد متباطئ ومتأخر بطريقة موجعة.
لو كان بيير كلاستير حيا اليوم، لكان اكتشاف هذا الكتاب الضائع نهاية سعيدة ومثالية لكل ما كان. ولكنه ليس حيا، وفورة الفرح والذهول العابرة التي انتابتني في ردهة مسرح هربست تبددت الآن إلى ألم موجع عميق. ما أقذر أن يمارس العالم معنا هذه الألاعيب. ما أقذر أن يموت في عز شبابه شخص كان يمكن أن يمنح العالم الكثير والكثير.
ها هي ذي إذن ترجمتي لكتاب بيير كلاستير «تاريخ هنود جواياكي». ليس مهما أن العالم الموصوف فيه قد زال منذ وقت طويل، وأن الجماعة البشرية الصغيرة التي عاش بينها الكاتب عامي 1963 و1964 قد اختفت عن وجه الأرض. ليس مهما أن الكاتب نفسه زال. ما دام الكتاب الذي ألفه لا يزال معنا، وأقل ما يوصف به إمساكك هذا الكتاب الآن يا عزيزي القارئ هو أنه نصر، فوز صغير على تصاريف القدر الساحقة. فهكذا يكون ثمة على الأقل ما نمتن لوجوده. وهكذا يكون لنا عزاء على الأقل في أن كتاب بيير كلاستير قد كتب له البقاء.
بورتريه رجل خفي
في بحثك عن الحقيقة تأهب لكل ما هو مستبعد، فالحقيقة صعب العثور عليها، والحقيقة مربك العثور عليها.
هيراقليطس
ذات يوم تكون حياة. رجل مثلا موفور الصحة، بل إنه غير كبير، ليس له تاريخ مع المرض. كل شيء كما كان، كما هو كائن، كما سيكون على الدوام. ينتقل من اليوم إلى الذي يليه، غير معني بغير شئونه، غير حالم إلا بالحياة المنطرحة أمامه. ثم، بغتة، يحصل الموت. تند عن الرجل تنهيدة، يتهاوى على مقعده، ويكون الموت. لا تترك مباغتته مجالا للتفكير، لا تتيح للعقل فرصة البحث عن كلمة قد تكون فيها راحته. لا شيء باق لنا سوى الموت، هو حقيقة فنائنا التي لا اختزال لها. نحن قد نقبل بالموت حينما يعقب مرضا طويلا، ونقبله مسلّمين. وحتى الموت في الحوادث نوعزه إلى القدر. أما حينما يموت امرؤ بلا سبب ظاهر، أن يموت امرؤ لمجرد أنه إنسان، فذلك يدنينا كثيرا من الحد الخفي بين الموت والحياة، ذلك الحد الذي لم نعد نعرف في أي جانب نحن منه. الموت دونما إنذار. أي: الحياة إذ تتوقف. وفي أي لحظة قد تتوقف.
أتاني خبر موت أبي منذ ثلاثة أسابيع. في صباح يوم أحد، وكنت في المطبخ، أعد الإفطار لابني الصغير دانيال. وفي الطابق العلوي، كانت زوجتي في الفراش، دافئة تحت اللحاف، تنعم بسويعات نوم إضافية. هو الشتاء في الريف: عالم صامت، ودخان حطب، وبياض. كان عقلي ممتلئا بأفكار حول ما كنت أكتبه في الليلة السابقة، وكنت أتلهف على ساعة العصر ليصبح لي أن أعود إلى العمل. ثم رن الهاتف. عرفت على الفور أن هناك مشكلة، فلا أحد يتصل في الثامنة من صباح الأحد إلا لإبلاغ خبر لا يمكنه الانتظار. والأخبار التي لا يمكنها الانتظار هي دائما أخبار سيئة.
حتى قبل أن نحزم حقائبنا ونشرع في القيادة لثلاث ساعات إلى نيوجرزي، كنت أعرف أنني لا محالة سأكتب عن أبي. لم يكن لدي مخطط، لم تكن لدي فكرة دقيقة عما يعنيه هذا. بل ولا أذكر أنني اتخذت قرارا في الأمر. كان موجودا وحسب، وجود يقين، أو التزام بدأ يفرض نفسه عليّ لحظة أن أتاني الخبر. فكرت: ها قد ذهب أبي. لو لم أتحرك بسرعة فحياته كلها سوف تتلاشى معه.
أستعيد الآن ما حدث، فأجد بعد فترة قصيرة لا تتجاوز الأسابيع الثلاثة أن ذلك كان رد فعل غريب. فطالما كنت أتخيل أن الموت سوف يفقدني الحس، وأن الحزن سوف يسلبني القدرة على الحركة. ولكنه حينما وقع، لم أذرف دمعة واحدة، لم ينتبني إحساس من تهاوى العالم من حوله. كنت مهيأ على نحو غريب لقبول الموت برغم مباغتته. وما أزعجني بالفعل كان شيئا آخر، شيئا لا علاقة تربطه بالموت أو برد الفعل تجاهه: إدراكي أني أبي لم يخلف أثرا.
لم تكن له زوجة، أو أسرة تعتمد عليه، أو أحد تنقلب حياته بغيابه. ليس أكثر من صدمة عابرة لعلها تمر بالأصحاب، فتأخذهم فكرة الموت المفاجئ بقدر ما يأخذهم فقدان صاحبهم، ثم فترة حداد قصيرة، ثم لا شيء آخر. وإذا به أخيرا كأنما لم يكن له وجود قط.
كان غائبا حتى قبل أن يموت، ومنذ وقت بعيد تعلم المقربون منه أن يتقبلوا غيابه، ويتعاملوا معه بوصفه جوهر وجوده. والآن وقد ذهب، فلن يشق على العالم أن يستوعب أن ذهابه هذا بلا رجعة. فطبيعة حياته نفسُها هيأت العالم لموته الذي كان أشبه بموت متوقع وإذا عندما يتذكره أحد، فلن يكون ذلك إلا على نحو ضبابي، ليس أكثر من ضبابي.
مولع بلا شيء، أو شخص، أو فكرة، عاجز أو عازف عن كشف نفسه تحت أي ظرف، استطاع أن يبقي نفسه بمنأى عن الحياة، وأن يجتنب الانجراف في الأشياء المتسارعة. أكل، وعمل، وصاحب، ولعب التنس، ومع ذلك كله لم يكن له وجود. كان بأعمق المعاني وأعصاها على التبدل رجلا خفيا، خفيا عن الآخرين، وخفيا على الأرجح عن نفسه أيضا. ولو ظللت في حياته أبحث عنه، وظللت أحاول العثور على الأب الذي لم يكن له وجود، فإنه الآن ميت وإنني لم أزل أشعر وكأنما لزام علي أن أواصل البحث عنه. فالموت لم يغير شيئا. اللهم إلا أنه لم يعد لدي وقت.
على مدار خمسة عشر عاما كان يعيش وحده. في عناد، وغموض، كأنه محصن ضد العالم. لم يبد قط رجلا يشغل حيزا، بل كتلة من حيز لا نفاذ إليها تتخذ شكل إنسان. كان العالم يقفز من فوقه، أو يتكسر عليه، أو يخضع له في بعض الأحيان، ولكنه لم يخترقه قط. على مدار خمسة عشر عاما ظل بيت هائل مسكونا به، وحده تماما، وفي ذلك البيت مات.
عشنا هناك لفترة قصيرة كأسرة، أبي وأمي وشقيقتي وأنا. وبعد طلاق والدي تشتت الجميع: بدأت أمي حياة جديدة، وأنا ذهبت إلى الكلية، وأختي بقيت مع أمي إلى أن ذهبت هي أيضا إلى الدراسة. ولم يبق إلا أبي. بسبب فقرة في وثيقة الطلاق تنص على امتلاك أمي حصة في البيت تخول لها نصف العائد عن بيعه (مما جعل أبي يعزف عن البيع) أو بسبب رفض سري ما لتغيير حياته (فلا يبدو أن الطلاق قد أثر عليه بطريقة خارجة عن سيطرته)، أو ربما الأمر لا يعدو جمودا، أو كسلا عاطفيا حال بينه وبين القيام بأي فعل، بقي مقيما، وحده في منزل يتسع لستة أشخاص أو سبعة.
كان مكانا مبهجا: قديما، متين البناء، على الطراز التيودوري، ذا شبابيك من الرصاص، وسقف من الأردواز، وغرف مساحاتها مَلَكية. كان شراؤه خطوة كبيرة لأبوي، وعلامة ثروة متنامية. وكان في أفضل أحياء البلدة، وبرغم أنه لم يكن مكانا يحلو فيه العيش (لا سيما لأطفال)، فقد غلب رونقه على كآبته. وفي ضوء أنه انتهى إلى قضاء بقية حياته في هذا البيت، فمن قبيل المفارقة أن أبي أول الأمر كان يرفض الانتقال إليه.
من كتاب: اختراع العزلة
كتــاب الموتـــــى
لم يحظ كاتب فرنسي خلال السنوات القليلة الماضية بأكثر مما حظي به إدموند جابيس من اهتمام وثناء حقيقيين من النقاد. فموريس بلانشو وإمانويل لفيان وجان ستاروبينيسكي جميعا كتبوا عن أعماله بكثافة وحماس، كما أشار جاك دريدا بوضوح ودونما مواربة إلى أنه «لم يكتب شيء في فرنسا خلال السنوات العشر الماضية إلا وله أصل في موضع ما من نصوص جابيس». بدءا من كتابه الأول «كتاب الأسئلة Le Livre des Questions» الذي صدر عام 1963 ومرورا بكتب أخرى في السلسلة(1)، يبتكر جابيس نوعا جديدا وغامضا من العمل الأدبي بقدر ما هو ملغز بقدر ما هو عصي على التعريف. فما هو برواية أو قصيدة، وما هو بمقالة أو بمسرحية، كتاب الأسئلة مزيج من هذه القوالب جميعا، فسيفساء من الشظايا والحكم والحوارات والأغنيات والتعليقات التي تتحرك بلا نهاية حول سؤال الكتاب المركزي: كيف يقال ما لا يقال؟ السؤال هو الهولوكوست اليهودية، ولكنه أيضا سؤال الأدب نفسه. فمن خلال قفزة مدوخة في الخيال، يتعامل جابيس مع الأمرين بوصفهما أمرا واحدا:
تحدثت إليك عن صعوبة أن يكون المرء يهوديا، هي الصعوبة نفسها في أن يكون المرء كاتبا. ذلك أن اليهودية والكتابة هما نفس الانتظار، ونفس الأمل، ونفس البلى
ولد جابيس لأسرة من يهود مصر الأثرياء في عام 1912، ونشأ في الوسط الفرنسي الناطق بالفرنسية. كانت أول صداقاته الأدبية مع ماكس جاكوب وبول إلوار ورينيه شار، وفي الأربعينيات والخمسينيات أصدر العديد من الدواوين الصغيرة التي صدرت بعد ذلك كأعمال كاملة بعنوان Je Batis ma demeure عام 1959. وحتى ذلك الوقت، كانت له سمعته المحققة كشاعر، ولكنه لم يكن شهيرا بسبب عيشه خارج فرنسا.
غيرت أزمة السويس عام 1956 كل شيء في حياة جابيس الشخصية والعملية. أرغمه نظام ناصر على ترك مصر والاستقرار في فرنسا، وعلى إثر ذلك فقد بيته وجميع ممتلكاته، وجرب للمرة الأولى عبء أن يكون يهوديا. ولم تكن يهوديته حتى ذلك الحين أكثر من حقيقة ثقافية، أو مجرد عنصر عارض من عناصر حياته. أما وقد بات الآن يعاني لغير ما سبب إلا كونه يهوديا، فقد تحول إلى الآخر، وأصبح إحساسه الفجائي بالمنفى عنصرا أساسيا واستعاريا في وصفه لذاته.
تلت ذلك سنوات صعاب. حصل جابيس على وظيفة في باريس واضطر إلى الكتابة في أغلب الحالات داخل المترو أثناء ذهابه إلى العمل وإيابه منه. وحينما صدرت أعماله الكاملة عن دار جاليمار بعد وقت غير طويل من وصوله إلى فرنسا لم يكن الكتاب إعلانا بأعمال قادمة بقدر ما كان علامة على الحد الفاصل بين حياة جديدة وماض أصبح مستحيل الرجوع. بدأ جابيس يدرس النصوص اليهودية كالتلمود والقبلاه، وبرغم أن هذه القراءة لم تكن بداية عودة إلى المفاهيم الدينية لليهودية، إلا أنها أمدت جابيس بسبل لتوكيد روابطه بالتاريخ والفكر اليهوديين. كانت كتابات حاخامات الشتات وتعليقاتهم هي التي حركت جابيس أكثر مما أثرت فيه المصادر الأساسية كالتوراة، فبدأ يرى في هذه النصوص قوة لليهود على نحو خاص، قوة تترجم نفسها بنفسها إلى حالة من الانبعاث. وعلى مدار الفاصل الطويل بين النفي وعودة المسيح، تحول شعب الله إلى أهل الكتاب. وذلك يعني عند جابيس أن الكتاب استولى على كل ما للوطن من ثقل وأهمية.
العالم اليهودي قائم على قانون مكتوب، على منطق لفظي لا يمكن لإحد إنكاره. وهكذا فإن بلد اليهود قائم في حيز عالمهم، لأنه ليس إلا كتابا … وطن اليهود نص مقدس يوجد وسط تعليقات قامت فيها …
في القلب من كتاب الأسئلة توجد قصة عن انفصال بين حبيبين شابين هما سارة ويوكل Yukel أثناء الترحيلات النازية. يوكل كاتب، يوصف بـ«الشاهد»، ويعمل كـ أنا أخرى لجابيس فغالبا ما ينتفي التمييز بين كلمات كل منهما، وسارة شابة تساق إلى معسكر تعذيب تعود منه مجنونة. ولكن القصة في حقيقة الأمر لا تُحكى قط، وهي أيضا لا تشبه أية سردية تقليدية. وبدلا من ذلك، يشار إليها عبر تلميحات وتعليقات، وبين الحين والآخر يتاح لها الاندفاع من خلال رسائل غرامية مشبوبة بين سارة ويوكل تبدو وكأنها آتية من العدم مماثلة لأصوات حرة تجسد ما يسميه جابيس بـ «الصرخة الجماعية … الصرخة الدائمة».
سارة: كتبتك. أكتبك. كتبتك. أكتبك. ألوذ بكلماتي، الكلمات التي يبكيها قلمي. وما دمت أكلمك، وما دمت أكتب إليك، تخفت حدة ألمي. أصل بكل مقطع إلى شفا الوجود بجسد الحروف وروح الامتدادات. أهو السحر؟ أكتب اسمه فإذا به الرجل الذي أحبه …
ويوكل، قرب نهاية الكتاب:
وأقرؤك، في فستانك وفي جلدك، في لحمك وفي دمك. أقرأ يا سارة أنك كنت لي عبر كل كلمة من لغتنا، عبر كل جراح سلالتنا. أقرأ، مثلما يقرأ أحدهم الإنجيل، تاريخنا والقصة التي لا يمكن إلا أن تكون قصتنا أنا وأنت.
هذه القصة، وهي «النص المركزي» في الكتاب، تروى عبر تعليقات مسهبة ومراوغة على الطريقة التلمودية. ولعل واحدة من أكثر ضربات جابيس أصالة هي ابتكاره الحاخامات الوهميين الذين يشتركون في هذه الحوارات ويئولون النص بأقوالهم وقصائدهم. وتأتي ملاحظاتهم في صورة موجزة، مجازية، تتخذ صورة جميلة واضحة فكأنها لحن مصاحب للكتاب.
يقول الحاخام طُلبة: هو يهودي. يستند إلى جدار، مشاهدا الغيوم العابرة
يرد الحاخام جالي: وما لليهودي والغيوم، إنه يحصي الخطى بينه وبينه الحياة.
ولأن قصة سارة ويوكل لا تحكى كاملة، ولأنها كما يوحي جابيس لا يمكن أن تحكى، فالتعليقات بمعنى من المعاني هي تحقيق في نص لم يكتب. وشأن الإله الخفي في اللاهوت اليهودي الكلاسيكي، يوجد النص فقط بقوة غيابه.
«أعرفك يا سيدي لدرجة أن لا أعرفك. فأنت هو الذي يأتي».
ما يحدث في كتاب الأسئلة هو من ثم كتابة كتاب الأسئلة، أو بالأحرى محاولة كتابته، وهي عملية يتاح للقارئ أن يشهد على جميع ما فيها من مراحل تردد وتلمس للطريق. وشأن الراوي في «ما لا يسمى» لبيكيت، وهو الراوي المقضي عليه بـ«العجز عن الكلام والعجز عن الصمت»، فإن سرد جابيس لا يذهب إلى مكان بقدر ما يدور ويدور حول نفسه. وكما يلاحظ موريس بلانشو في مقالته الممتازة عن جابيس: «الكتابة … لا بد أن تتحقق من خلال فعل تأويلها نفسها». وأي صفحة من كتاب الأسئلة صفحة تعكس معنى الصعوبة هذا: فالعبارات متفرقة معزولة والفقرات مفصولة بفراغات بيضاء، أو مقطوعة بجمل اعتراضية، أو هي ذات حروف ممالة، أو ذات حروف ممالة وموضوعة بين أقواس، بحيث يستحيل على عيني القارئ أن تعتادا نمطا بصريا ثابتا غير مكسور. فالمرء يقرأ الكتاب على نوبات، وعبر بدايات، تماما على النحو الذي كتب به.
في الوقت نفسه، فالكتاب ذو بنية واضحة، بل إنه يكاد يكون معماري التصميم. فهو مقسم بحرص إلى أربعة أقسام: «عند عتبة الكتاب»، «وسوف تكونون في الكتاب»، و»كتاب الغياب»، و»كتاب العيش»، وجابيس يعامله كما لو أنه مكان فيزيقي، وما أن نعبر عتبته حتى نجد أنفسنا في عالم مسحور، عالم خيالي ممنوع من الحركة. وكما تكتب سارة في أحد المواضع: «أنا لم أعد أعرف أين أنا. أعرف. أنا في لا مكان. هنا.». هذا الكتاب أسطوري الأبعاد هو بالنسبة لجابيس مكان يلتقي فيها الماضي والحاضر فيذوبان أحدهما في الآخر. ولا يبدو أن ثمة غرابة في أن يتكلم الحاخامات القدامى مع الكاتب المعاصر، أو أن تتجاور صور الجمال الأخاذ مع أوصاف الخراب المحقق، أو أن يجتمع الخيالي والواقعي على صفحة واحدة. فمنذ اللحظة الأولى، أي عندما يلتقي القارئ بالكاتب عند عتبة الكتاب، نعرف أننا داخلون إلى مكان لا نظير له.
«ما الذي يحدث وراء الباب؟»
«كتاب ينشر براعمه».
ما قصة هذا الكتاب؟»
«إدراك الصرخة»
«رأيت حاخامات يدخلون»
«هم قراء مميزون. يأتون في جماعات صغيرة ليقدموا لنا تعليقاتهم».
«هل قرأوا الكتاب؟»
«بل يعرفون شهداءنا»
«أهم هنا من أجل المتعة؟»
«بل استشرفوا الكتاب. وهم مهيأون للقائه».
«أيعرفون الشخصيات؟»
«يعرفون شهداءنا.»
«أين يدور الكتاب؟»
«في الكتاب»
«ما أنت؟»
«أنا حارس البيت»
«من أين أنت»
«طوَّاف»
الكتاب «يبدأ بالصعوبة، صعوبة الوجود والكتابة وينتهي بالصعوبة». لا يقدم إجابات. وليس من الممكن تقديم أية إجابات، لسبب بسيط هو أن «اليهودي» بحسب ما يؤكد أحد الحاخامات الخياليين «يجيب كل سؤال بسؤال آخر». ينقل جابيس هذه الأفكار بطرافة وجزالة غالبا ما تذكِّران بالنقاشات المنطقية في التلمود. ولكنه لا يخدع نفسه أبدا فيصدق أن هذه الكلمات أكثر من مجرد «حبات رمل» تذروها الرياح. ففي القلب من الكتاب ليس ثمة إلا الخواء.
يقول الحاخام مندل «أملنا هو المعرفة» ولكن رأيه هذا ليس موضع إجماع من جميع حوارييه.
يقول أكبرهم: «علينا أن نتفق أولا على المعنى الذي تمنحه لكلمة المعرفة»
يقول الحاخام مندل «المعرفة هي التساؤل».
يسأل الحواري الثاني: «وما الذي نجنيه من هذه الأسئلة؟ وما الذي نجنيه من أجوبة لن تفضي بنا إلا إلى مزيد من الأسئلة، ما دامت الأسئلة تولد من أجوبة غير مشبعة».
يرد الحاخام مندل «وعد بسؤال جديد».
يقول أكبر الحواريين «ستكون هكذا لحظة يتحتم علينا فيها أن نكف عن التساؤل. إما لأنه لن تكون هناك إجابة ممكنة، أو لأننا سوف نعجز عن صياغة مزيد من الأسئلة. فما الذي يجعلنا نبدأ؟»
يقول الحاخام مندل «ها أنتم ترون أنه في نهاية كل جدال يبقى سؤال حاسم بلا جواب.»
يقول الحواري الثاني «التساؤل هو سلوك طريق اليأس. لن نعرف أبدا ما الذي نحاول أن نتعلمه.»
رغم أن خيال جابيس ومصادره تأتي في الغالب من اليهودية، إلا أن كتاب الأسئلة ليس كتابا يهوديا بمثل ما نقول إن الفردوس المفقود عمل مسيحي. ففي حين أن جابيس حسب ما أعرف هو أول شاعر معاصر يستوعب واعيا خواص الفكر اليهودي وقوالبه، إلا أن علاقته بالتعاليم اليهودية عاطفية ومجازية أكثر منها علاقة اتباع ملتزم. فـ الكتاب هو الصورة المركزية لديه، ولكنه ليس فقط كتاب اليهود (دوامات الآراء على الآراء في المدراش)(2) ولكنه أيضا إشارة إلى كتاب مالارميه المثالي (الكتاب الحاوي للعالم، دائم الانطواء على نفسه). وأخيرا، لا بد من النظر إلى أعمال جابيس كجزء من الاتجاه الشعري الفرنسي الراهن الذي بدأ في أواخر القرن التاسع عشر. فما فعله جابيس هو أنه صهر هذا الاتجاه مع نوع معين من الخطاب اليهودي، وقد فعل هذا انطلاقا من قناعة بأن إدراك الزواج بين الاثنين يكاد يكون عصيا على العقل البشري. لقد ظهر كتاب الأسئلة إلى الوجود لأن جابيس وجد نفسه كاتبا يكتشف نفسه كيهودي. وهذا شبيه في روحه بفكرة عبرت عنها ماريا تسفيتاييفا بقولها: «في هذا العالم/الأكثر مسيحية بين العوالم/كل الشعراء يهود»، هذه المساواة قائمة في مركز أعمال جابي، هي النواة التي ينبت منها كل شيء. بالنسبة لجابيس، لا يمكن كتابة شيء عن الهولوكوست ما لم تكن الكتابة نفسها موضع تساؤل. فلو تسنى دفع اللغة إلى أقصى حدودها، فعلى الكاتب أن يحكم على نفسه بالنفي إلى أرض الشك، إلى صحراء اللايقين. ما يجب علينا عمليا هو أن نخلق شعرية الغياب. فليس من الممكن أن نعيد الموتى إلى الحياة. ولكن يمكن أن نسمع أصواتهم، فأصواتهم حية في الكتاب.
رحلات في غرفة النساخ
يجلس الرجل العجوز على حافة السرير الضيق، براحتيه مبسوطتان على ركبتيه، ورأسه مطرق، يحملق في الأرض. لا يعرف أن كاميرا مثبتة في السقف فوقه مباشرة، وأن حاجبها يتحرك في صمت مرة كل ثانية، فينتج ستا وثمانين ألفا وأربعمائة صورة مع كل دورة للأرض حول محورها. وحتى لو عرف أنه مراقب، لما كان هناك فارق. فعقله بعيد، جانح وسط تهويمات رأسه يبحث عن جواب سؤال يستحوذ عليه: من هو؟ ما الذي يفعله هنا؟ متى وصل وكم دام بقاؤه؟ لو صادفنا الحظ، فسوف نعرف بمرور الوقت. أما في هذه اللحظة، فمهمتنا الوحيدة هي أن ندرس الصور بأقصى ما نستطيع من الانتباه ونمنع أنفسنا عن القفز إلى استنتاجات متسرعة.
في الغرفة عدد من الأشياء، مثبت على سطح كل منها قطعة من شريط أبيض يحمل كلمة واحدة مكتوبة بحروف كبيرة. على المنضدة المجاورة للسرير مثلا كلمة هي منضدة. على المصباح كلمة مصباح. بل إن على الجدار وهو إن تحرينا الصرامة ليس شيئا قطعة من الشريط مكتوب عليها جدار. يرفع الرجل العجوز رأسه لبرهة، فيرى الجدار، ويرى الشريط الملصق بالجدار، وينطق كلمة جدار بصوت خافت. ولا يمكن الآن أن نعرف إن كان يقرأ الكلمة المكتوبة على قطعة الشريط أم يعني الجدار وحسب. فلعله نسي القراءة ولكنه لا يزال يعرف الأشياء ويقدر أن يسميها بأسمائها، أو لعله، على العكس، فقد قدرة التعرف على الأشياء ولكنه لا يزال يجيد القراءة.
يرتدي بجامة قطنية مقلمة بالأصفر والأزرق، وقدماه مكسوتان بشبشب جلدي أسود. وهو لا يعرف بوضوح أين يوجد. في الغرفة طبعا، لكن في أي مبنى تقع الغرفة؟ في بيت؟ في مستشفى؟ في سجن؟ لا يمكنه أن يتذكر كم طال وجوده هنا أو طبيعة الظروف التي انتهت بانتقاله إلى هذا المكان. ربما هو هنا طول عمره، ربما يعيش هنا منذ مولده. كل ما يعرفه أن قلبه طافح بإحساس بالذنب لا يقاوم. وفي الوقت نفسه، لا يستطيع أن يهرب من إحساسه بأنه ضحية ظلم رهيب.
في الغرفة شباك واحد، لكن ستارته مسدلة، وبحسب ما يتذكر، فليس هو الذي أسدلها والأمر نفسه بالنسبة للباب ذي المقبض الخزفي الأبيض. أهو مغلق عليه، أم أنه حر في أن يروح ويجيء كيف يشاء؟ لا يزال أمامه أن يتحقق من هذه المسألة، وذلك حسب ما هو ثابت في الفقرة الأول لأن عقله بعيد، هائم في الماضي، يجول بين كائنات شبحية تغص بها رأسه، يكافح كي يجيب السؤال الذي يستحوذ عليه.
الصور لا تكذب، ولكنها أيضا لا تقول القصة كاملة. هي سجل لا أكثر لمرور الوقت، دليل خارجي. فمن الصعب على سبيل المثال تحديد عمر الرجل العجوز بالاعتماد على الصور الملتقطة بدون تركيز دقيق وبالأبيض والأسود. وتبقى الحقيقة الوحيدة التي يمكن استخلاصها بشيء من اليقين هي أنه ليس صغيرا، ولكن صفة العجوز أيضا مرنة يمكن إطلاقها على أي شخص بين الستين والمائة. لذلك سوف نسقط كنية الرجل العجوز ونشير من الآن إلى الشخص الموجود في الغرفة باسم الأبيض، خاصة وأن اسم العائلة هذا يغنينا في الوقت الراهن عن الاسم الأول.
يقوم الأبيض أخيرا من على السرير، ويتمهل برهة ليضبط توازنه، قبل أن ينقل خطواته إلى المكتب في الطرف الآخر من الغرفة. يشعر بالتعب، وكأنما أفاق للتو بعد ليلة نام فيها نوما قصيرا متقطعا، وفيما يزحف نعلا شبشبه على الأرض الخشبية العارية، يتذكر صوت ورق السنفرة. من مسافة بعيدة موغلة في البعد، خارج الغرفة، خارج المبنى الذي تقع فيه الغرفة، يسمع صيحة طائر خافتة، لعله غراب، لعله نورس، لا يستطيع أن يحدد.
يدني الأبيض جسمه إلى كرسي أمام المكتب. ويرى أنه كرسي مريح للغاية، مصنوع من جلد بني لين ومزود بمتكأين منجدين ليريح مرفقيه وساعديه ناهيكم عن آلية النوابض الخفية التي تتيح له أن يهتز إلى الأمام والخلف كيف يشاء، وذلك بالضبط ما يشرع فيه منذ لحظة جلوسه. فيكون للاهتزاز إلى الأمام والخلف وقع مهدئ عليه، ويمضي الأبيض يرفل في هذا التأرجح اللذيذ، ويتذكر الحصان الهزاز الذي كان يقبع في غرفة نومه حينما كان صبيا صغيرا، ومن ثم يبدأ في التنفيس عن بعض الرحلات الخيالية التي كان يقوم بها على صهوة الحصان الذي كان اسمه الأبيضاني والذي لم يكن بالنسبة لعقل الأبيض الصغير مجرد جماد خشبي مطلي بالأبيض بل كائنا حيا، حصانا حقيقيا.
بعد تلك الرحلة القصيرة إلى صباه الأول، يعاوده ألم الحلق، فيعلو صوت الأبيض مرهقا وهو يقول: لا ينبغي أن أسمح لمثل هذا بالحدوث. ثم يميل إلى الأمام ليتمعن في رزم الأوراق والصور المرصوصة بدقة على سطح المكتب الماهوجني. يتناول الصور أولا، ثلاث دزينات من الصور الملتقطة بالأبيض والأسود في مقاس ثمانية في عشرة لرجال ونساء من مختلف الأعمار والأجناس. في الصورة العليا امرأة في مطلع العشرينيات. شعرها الداكن مقصوص وقصير، وفي عينيها المحدقتين في العدسة نظرة انزعاج وتوتر. واقفة في الهواء الطلق في مدينة ما، لعلها إيطالية أو فرنسية، إذ يتصادف أنها أمام كنيسة من القرون الوسطى، ولأن المرأة ترتدي وشاحا ومعطفا من الصوف، فلا مجازفة في افتراض أن تكون الصورة ملتقطة في الشتاء. يحملق الأبيض في عيني المرأة الشابة ويعتصر ذاكرته ليعرف من تكون. وبعد عشرين ثانية أو نحو ذلك، يسمع نفسه وهو يهمس بكلمة واحدة: آنّا. فإذا إحساس بمحبة طاغية يجتاحه. ويتساءل لو أن آنا امرأة كان متزوجا منها، أو إن كان ينظر إلى صورة ابنته. وبعد برهة مع هذه الأفكار، تدهمه موجة طازجة من الإحساس بالذنب، ويعرف أن آنا ميتة. ويقول لنفسه إنه قد يكون الشخص الذي قتلها.
يئن الأبيض من فرط الألم. ويزيح الصور التي ثقل عليه أن يشاهدها، ويصرف انتباهه إلى الورق. هناك أربعة رزم إجمالا، يبلغ ارتفاع كل منها ست بوصات. ولغير ما سبب يعيه، يمد يده إلى أعلى ورقة في أقصى رزمة من ناحية اليسار. الكلمات المكتوبة، مطبوعة بحروف كبيرة، شبيهة بتلك المكتوبة على قطع الشريط الأبيض، وفيها ما يلي:
من أقصى نقطة يمكن الوصول إليها في الفضاء، ترى الأرض كأنما لا تزيد عن ذرة من غبار. تذكر ذلك عندما تكتب في المرة القادمة كلمة «الإنسانية».
من نظرة الاشمئزاز التي تعلو وجهه وهو يستعرض هذه الجملة، يحق لنا أن نثق في أن الأبيض لم يفقد القدرة على القراءة. ولكن من يكون كاتب هذه الجمل، هذا ما قد يكون موضع السؤال.
يتناول الأبيض الورقة التالية من الرزمة ويكتشف أنها مخطوطة من نوع ما، مكتوبة على الآلة الكاتبة. في الفقرة الأولى:
لحظة أن بدأت في حكي قصتي، طرحوني أرضا وركلوني في رأسي. ولما وقفت على قدمي وبدأت أتكلم من جديد، ضربني أحدهم على فمي، ثم لكمني آخر في بطني. سقطت. تمكنت من جديد أن أقوم، ولما هممت أن أبدأ القصة للمرة الثالثة، دفعني الكولونيل في الجدار فعبرته.
هناك فقرتان أخريان في الصفحة، ولكن قبل أن يبدأ الأبيض قراءة الثانية، يرن الهاتف. هو هاتف أسود ذو قرص من طراز أواخر أربعينيات القرن الماضي أو أوائل خمسينياته، ولأنه يقع على المنضدة المجاورة للسرير فالأبيض مرغم أن ينقل خطواته من جديد إلى الطرف الآخر من الغرفة. يرفع السماعة بعد الرنة الرابعة:
هالو، يقول الأبيض
الأبيض؟ يسأل الطرف الآخر.
ما دمت تقول هذا.
أنت متأكد؟ لا يمكنني أن أخاطر أي مخاطرة.
لست متأكدا من أي شيء. فلو تريد أن تناديني بالأبيض، فسيكون من دواعي سروري أن أسمع هذا الاسم. من أنت؟
جيمس
لا أعرف أي جيمس.
جيمس بي فلَد
ذكِّرني.
جئت أمس أزورك. قضينا ساعتين معا.
آه، الشرطي.
الشرطي السابق.
صح. الشرطي السابق. أي خدمة؟
أريد أن أراك مرة ثانية.
ألا يكفي حديث واحد؟
الحقيقة لا. أنا عارف أني مجرد شخصية ثانوية في هذا الموضوع، لكنهم يقولون إنه مسموح لي أن أقابلك مرتين.
تريد أن تقول إنه لا خيار لي.
معذرة، الأمر كذلك. ولكن ليس ضروريا أن نتكلم في الغرفة لو أنك لا تريد. يمكن أن نخرج ونجلس في الحديقة لو تحب ذلك.
ليس عندي أي شيء أرتديه. أنا واقف هنا بالبجامة والشبشب.
تفقد الخزانة. عندك فيها كل الملابس التي تحتاجها.
آه. الخزانة. شكرا.
أفطرت يا مستر أبيض؟
لا أظن. مسموح لي بالأكل؟
ثلاث وجبات يوميا. الوقت لا يزال مبكرا ولكن مؤكد أن آنا ستمر بسرعة.
آنا؟ تقول آنا؟
هي المعنية برعايتك.
كنت أظنها ميتة.
بالكاد.
ربما هي آنا ثانية.
أشك. بين كل المتورطين في هذه القصة، هي الوحيدة الواقفة في صفك.
والبقية؟
لنقل إن هناك الكثير من القرف، ونكتفي بهذا.
***
تجدر الإشارة إلى أنه بالإضافة إلى الكاميرا، ثمة ميكروفون مغروس في أحد الجدران، وأن كل صوت يصدر عن الأبيض يتم تسجيله وحفظه عبر مسجل رقمي عالي الحساسية. فكل أنّة أو شهقة أو سعلة مهما خفتت، وكل حركة معوية عابرة، وكل ما يصدر عن جسده هو جزء لا ينفصم عن حكايتنا أيضا. ولا داعي إلى التأكيد على أن هذه البيانات الصوتية تتضمن أيضا الكلمات التي يغمغم بها الأبيض أو ينطقها أو يصيح بها كما حدث مثلا في المكالمة الهاتفية التي تلقاها من جيمس بي فلَد والتي تم تسجيلها فيما سبق. تنتهي المحادثة باستسلام الأبيض على مضض لطلب الشرطي السابق أن يزوره في وقت لاحق من ذلك الصباح. ويجلس على حافة السرير الضيق متخذا وضعا يضاهي تماما مثيله الموصوف في الجملة الأولى من هذا التقرير: براحتيه مبسوطتين على ركبتيه، ورأسه مطرق، يحملق في الأرض. لا يعرف إن كان عليه القيام للبحث عن الخزانة التي تكلم عنها فلَد، وإن كانت أساسا موجودة، وإن كان عليه أن يخلع بجامته ويلبس شيئا آخر، بفرض أن هناك ثيابا في الخزانة، لو كانت الخزانة موجودة أصلا. ولكن الأبيض لا يتعجل الانشغال بهذه التوافه. فهو يريد أن يعود إلى المخطوطة التي بدأ قراءتها قبل أن يقاطعه الهاتف. لذلك ينهض عن السرير ويخطو الخطوة الأولى إلى جانب الغرفة الآخر، وفيما يفعل ذلك ينتابه دوار مفاجئ، ويدرك أنه موشك على السقوط لو بقي واقفا، ولكنه بدلا من العودة إلى السرير والبقاء به إلى أن تنتهي الأزمة، يضع يده اليمنى على الجدار ويميل عليها بكامل ثقله، ثم ينزل تدريجيا إلى الأرض. الأبيض الآن على ركبتيه، يدفع نفسه إلى الأمام، واضعا راحتيه أيضا على الأرض. بدوار أو بدون دوار، قرر الأبيض أن يبلغ المكتب زاحفا على أطرافه الأربعة.
بمجرد أن يتمكن من ارتقاء الكرسي الجلدي، يبدأ في هزه إلى الأمام والخلف للحظات عديدة لتهدئة أعصابه. وبرغم الجهد البدني، يدرك أنه خائف من المضي في قراءة المخطوطة. ولا يدرك سببا لهذا الخوف الذي يستولي عليه. وماهي كما يقول لنفسه غير كلمات، ومنذ متى تملك الكلمات أن تخيف رجلا إلى حد الموت؟ يغمغم بصوت خفيض لا يكاد يسمع قائلا إنها لن تخيف. ولكي يطمئن نفسه يكرر الجملة فيصيح من أعماقه قائلا إنها لن تخيف.
بلا سبب واضح، تمنحه هذه الانفجارة الصوتية المباغتة شجاعة الاستمرار، فيأخذ شهيقا عميقا، ويثبت عينيه على الكلمات التي أمامه ويقرأ الفقرتين التاليتين:
ومنذ ذلك الحين وهم يضعونني في هذه الغرفة. وقد استطعت أن أستخلص من كل شيء أنها ليست زنزانة تقليدية، كما أنها فيما يبدو ليست جزءا من المعتقل العسكري أو دار الاعتقال الإقليمية. هي مجرد محبس صغير خاو، مساحته اثنا عشر قدما في خمسة عشر، وبسبب بساطة التصميم (قذارة الأرض وسمك الجدران) فإنني أشك أنها كانت ذات يوم مخزن مؤن غذائية وربما أجولة دقيق وحبوب. فيها نافذة وحيدة ذات قضبان في أعلى الجدار الغربية، لكنها مرتفعة للغاية عن الأرض فلا يمكن أن تبلغها يداي. أنام على حصيرة من القش في أحد الأركان، وتقدَّم لي وجبتان كل يوم: عصيدة باردة في الصباح، وحساء دافئ مع خبز جاف في المساء. وأنا هنا وفقا لحساباتي منذ خمس وأربعين ليلة. ولكن هذا السجل قد يكون خاطئا. ففي أيامي الأولى في الزنزانة تعرضت لضرب كثير، ولأنني لا أستطيع أن أتذكر كم مرة فقدت فيها الوعي، وكم كان يطول غيابي عن العالم، فمن الممكن أن أكون أخطأت العد في موضع ما ولم ألحظ شروق شمس ما أو غروبها.
تبدأ الصحراء من أسفل نافذتي مباشرة. فكلما هبت الريح من الشرق أشم فيها رائحة شجيرات المريمية والعرعر. لقد سبق لي أن عشت هناك بمفردي قرابة أربعة أشهر، متجولا أنى شئت من مكان إلى مكان، نائما بالعراء في مختلف الأجواء، ولم تكن النقلة من رحابة الريف إلى ضيق هذه الغرفة بالأمر السهل علي. فقد يكون بوسعي احتمال العزلة الجبرية، وانعدام الحوار والتواصل البشري، ولكنني أتوق إلى رؤية الهواء والنور من جديد، بدلا من أنفق أيامي جائعا إلى ما أنظر إليه خلا هذه الجدران الحجرية الخشنة. بين الحين والآخر، يسير الجنود أسفل نافذتي. أستطيع أن أسمع أحذيتهم تسحق الأرض، وأصواتهم إذ تنطلق على غير توقع، وصليل العربات والخيول في حرارة النهار النائي.
رحلات في غرفة النساخ، الطبعة الأولى 2006
الهوامش
(1) Le Livre de Yukel أو «كتاب يوكل» عام 1964، Le Retour au Livre «العودة إلى الكتاب» عام 1965، Yael ياعيل عام 1969، Aely 1972، 1976
2 – المدراش MIDRASH هو التفسير اليهودي الديني للتوراة .
لوحات: سام ميسر اختيار وترجمة: أحمــد شــافعـي
شاعر ومترجم من مصر