أجمل الكلمات نكتبها على أوراق من غبار.
وأي غبار يملأ الأرض نورا سوى الرمل?
لماذا تلوث الصحراء حمارها بالأبيض, وتلونه بنقط خضر كشامة »نجد« من يفهم الأرض غير أهلها?!.
كانت الدنيا عصرا عندما خرجنا لأول مرة من »دشرة« نواكشوط. كان ضباب الصحراء المليء رملا يعطي الأفق لونا فضيا غامضا, ولأول مرة, اكتشف غموض الفضي وبهاتته.
بين »عرفات« و»سيزيم« يمتد الطريق الصحراوي حتى المحيط, وفي أطراف »سيزيم« يمتلئ الفضاء ببيوت التنك والرقيع, بأغنام ورجال من خشب, بقشور وبقع ملح رطب, ببقايا كائنات تكاد أن تتعفن قبل أن تموت. قبل أن تموت واقفة فوق الرمل.
أسباخ الملح التاريخي القديم هي التي تملأ العين أولا, الملح الذي أعطى الصحراء حياتها وأساطيرها: ملح القوافل التي امتلأت بالكلام.
أيها الرمل من رآك? أردد على حافة ؛صحراء موريتانيا«! الصحراء التي أصبحت, فجأة, بحرا, أشم رائحة الماء المنهك وهو يتمدد متسايلا فوق الرمل. الشمس تنظره من وراء حجاب. لكأنها أحاطت نفسها, قصدا, بغمامها الفضي الذي استعارته, للتو, من الرمل!
من يقهر الشمس سواه? سوى حجاب الرمل الذي اغار على الكون. بفعله تصغر الشمس وتشحب. تبدو مخذولة مثل بصلة يبست قشورها, وتصير العين تكابسها بلا غمض. شمس صفيراء, تكاد أن تموت, مثل امرأة خلصت من شغفها, للتو.
وكأنها اصفرت خجلا, تغرب الشمس وحيدة في البعيد. تغرب دون أن يكترث بها: البحر والصحراء. ولم ترهما يكترثان, وهما يعرفان أنها ستشرق عليهما غدا عند الفجر, وما عليها إلا الانتظار, وسينتظرانها.
من هنا, ولابد, من أمواج البحر ومن عواصف الرمل المتكررة, ولدت »أسطورة« الانتظار الذي لا يبلى! أسطورة الانتظار الذي يتجدد كل يوم!
إلى ضفاف المحيط يأخذني ؛يحفوظ« سائق الجيب الصحراوي الأدهم, نترجل بهدوء مثل »التبريزي« وتابعه »قفة«. واصير أتململ. لكأن الروائح تنفذ بين جلدي والثياب, روائح الزنخ العتيقة: زنخ الأسماك المجففة بالشمس والمدهونة بالرمل, اسماك غدت مثل الجلود المطرقعة, بعدما كانت تسبح كالشياطين.
في منتصف بيوت »الحواتة«, وفي بحر روائحهم, أقف مأخوذا, مراكبهم الخشبية المهترئة مرمية على الأرض, بلا مبالاة, ونساؤهم (أو ما يمكن أن يسمى هكذا) تطبخ الماء على نار من »خشب البلاستيك«! عجبا! لكأن الحياة تحتمل كل شيء: تحتمل حتى ما لا يمكن احتماله.
ماذا أرى? كائنات من رمل ومن غبار! »عبء الوجود« يتجلى في هيئاتهم المتسمة بالسكون. سكون وهم غدا, من شدته, مرئيا! أمام أكواخهم الخشبية المطلية بالرمل, تحسهم يتعلقون, يتعلقون بخيوط من الشتت والخوف: ماذا سنأكل غدا?
مع غياب الشمس, تعود مراكب الحواتين الضالة الى الشاطئ, تعود متباطئة, مثل جمال انتهت من رعيها, للتو, مراكب سود تطفو على الماء مثل رقع القشير, تطفو مقتربة منا (من الرمل بالاحرى). لكأن الشمس التي اغربت أمرتها بالعودة إليه, على الفور. في طفوها البطيء تساعدها أمواج البحر التي لا تكف عن التقرب والملاحسة. لكأن عقدا سريا يربط الرمل بالبحر! اية بلادة تدفع الكائن الى التباهي على الكون, إذن? على كونه المجبول من ماء وطين! بهذه السذاجة العميقة ملأت أمواج الحواتين البسطاء نفسي وهم يرمون بحمية على الرمل أكوام أسماكهم التي لم تزل حية.
كان منطقيا (وليس للتاريخ منطق) أن يعبر الإسلام بواديه الشاسع الى المحيط, وأن يتشبث أهل هذه الصحراء التي تحرقني الآن, به, وكان منطقيا, أيضا (أكاد أخجل من ترديد هذه الكلمة البليدة, لكنها الوحيدة التي تعبر, في هذه اللحظة, عن أحاسيسي) أن يرده المحيط عن العبور إلى »العالم الآخر«! »عالم ما بعد المحيط« الغارق في المجهول, ولم تكن »بحر الظلمات« إلا ذريعة للنجاة من غرق »محتمل« في الماء!
صحارى وشموس, سبخ وكثبان. ريح ورذاذ. كائنات تتحرك باستمرار وبلا صوت. رجال زرق وسود, وحمى من خشب ومن أسانيد. أكواخ من تراب يابس ومن حشيش. أكواخ مرمية على الشاطئ, مملوءة ببشر تكوخ حتى ماع! بشر من زبد وقشور. أية لغة تتكلمها الطبيعة هذا النهار? وكيف يسكن الريح هذا الخلاء? كيف أصف صحراء موريتانيا? كيف ألم ببحر الرمال السماوية?
الصحارى مدن. مدن عماراتها الكثبان, وشوارعها الوديان, ملكتها الشمس, وسيدها القمر, رقباؤها النسور, وقادتها الأسود. حكماؤها الثعالب, ونساؤها الغزلان, تجوبها الريح بلاتمييز, ويصعقها الضوء بلارحمة. سكانها شتى ومؤتلفون. يجمعهم »حب البقاء«, ويفرقهم الجوع, تكفيهم اللقمة, ويسعدهم الشبع, متساوون تحت وطأة الشمس, وعواصف الرمل. لا يفرق النوء بينهم, ولا يتواطأ مع أحد منهم, لا يقتلون عبثا, ولا يقتلون, حتى الأشجار تتمتع فيها بحق الحياة, لا فرق فيها بين حي وآخر إلا في مقاومته للهلاك.
هنا أكتشف أن »المطلق« ليس سوى أكذوبة. أكذوبة روجها الذين متعتهم الحياة بما حرمت هؤلاء منه! شيء واحد سأقتنع به: إرادة الحياة. فلكي يحيا الكائن عليه أن يتجاوز حتى طاقته على التحمل! فإذا كانت »إرادة المعرفة« ليست شيئا أساسيا في هذا الغبار المضيء, فان إرادة الحياة, على العكس منها, هي المحرك الأساسي لكل شيء. لكل هؤلاء البشر الواقفين تحت وطأة الشمس بلا امتعاض! لا يشربون لأنهم جبلوا على الظمأ, ولا يأكلون لأنهم جياع باستمرار! لا يلبسون لأنهم شبه عراة. ولا يسكنون سوى الريح والصديد: صديد الأسماك المجففة بالرمل والشمس.
صرت أعرف أن المحيط قريب, من زنخ التجفيف ومن هبوباته, وأعرف أن الكائن ليس شيئا آخر سوى قشرة من طين! قشرة تكفيها النسمة لتطير, واللقمة لتحيا, ولا ترويها بحور الدنيا المالحة, كلها, أعرف, وأرى, ولا أقول شيئا. وأي شيء يمكن أن يقال في هذا الصديد الممتزج بالرمل? هنا تحس أن »السلطة« أمام قسوة الطبيعة »لا قسوة لها« ! وأنها أمام »الوجود« المعفر بالرمل بلا وجود!
هنا تحس أن الأمور هي, في الحقيقة, في يد الريح, يكفي أن تهب عواصف الرمل لتسكن المخلوقات, وأن ترقى الشمس قبة الكون ليخلو الفضاء, ويسود الصمت!
لا شيء يولد كبيرا يقول صديقي الموريتاني, معلقا! على أي شيء كان يعلق? وما همني طالما أن القول لا يتطلب برهانا, وليس له بالضرورة معيار. كل القواعد, هنا, تبدو مهترئة وسخيفة, بما فيها هذه, من يستطيع أن يعقل عالما غير معقول? أن يعقل عالما كهذا غير الشمس? غير هذه الشمس التي لا تبخل بضوئها اللاهب على شيء! حتى حبات الرمل تغلي وهي تلطأ تحت أقدام العابرين!
في »البيدونفيل« (مدن الصفيح, حسب الترجمة العربية الخاطئة, ومعناها, في الحقيقة, المدن الكاذبة, أو المدن المزيفة. المدن التي هي حثالة المدن) في هذه المدن الصحراوية المحيطة بالمدينة الأم: »نواكشوط« (التي, هي الأخرى, بيدون فيل, بالنسبة لمدن العالم) ألتقي بعيون صامتة, وبأفواه مغلقة. ألتقي بأجساد هامدة بلا رغبات, بأزوال لا أرواح لها.
بكيانات بلا كيان! أين تختفي رغبات هذه الكائنات? ومن أين لها بصمت مخيف, كهذا? أيكفي أن يملأ الرمل الأفق ليتحقق الإخفاق? وهو ما صار يملؤني بالتعاسة والأمل. أمل أن يدرك هؤلاء أن الحياة, بما فيها هذه التي لا أمل فيها, يمكن أن تنفتح, في أية لحظة, على المجهول, وما على الكائن, في هذه الحال, إلا أن يسترد من مخالب القدر الطاقة التي اختلسها منه: طاقة التمرد على وضعه! أم تريدونني أن أوئد نفسي في رمل يأسي?
غريبا, أقف بين كتل البشر, في مواجهة المحيط. لا تغسلني الماء, ولا يردني الرمل إلى الحظيرة, أحسني متطفلا بلا حياء, البؤس, هو الآخر, له صبوة وحميمية, له قدسية لا تخترقها العيون المرعوبة مثل عيوني: عيون الكائن البائس الذي يعتقد نفسه بلا عيوب.
غريبا, أحسني بلا صروح ولا وفادات. أستحي من »نعمة المعرفة« التي لا أكاد أملكها, وأخجل من رقة الجسد! في مواجهة هذا الخليط المرعب من البؤس, أحسني ظالما!: تجمعت في ظلمات الدنيا, كلها, وظلمها.
هنا تحس نفسك عاريا بلا حماء. البؤس المتوحش لا يدع لك مجالا لتنظير مآسيك, ولا لتبريرها, أي وقاء يمكن أن يقي الكائن من الإنهيار? وكيف لا يتحمل المرء مسؤولية حياة يحياها, حتى وإن لم يكن يدير شؤونها!
عجبا! لهذا الشعور المتولد عندي: شعور البهمة والاختلاط! كيف أميز بين الكائنات الحية, وبين أسماكها الميتة? بين هذه الجلود الملوحة بالشمس, المطلية بالزنخ, وبين قشور هذه الأسماك المرمية بين أكوام الرمال? أي فرق بين كلب جائع, وبين رجل ضاو بالقرب منه? ما جدوى قدرات العالم, كلها, إن لم تتمتع بها الكائنات, على اختلاف طقوسها?
واقفا , بإنذهال, كنت أريد أن أمسك بخناق نفسي. أن أركلها حتى تطير من الألم, حتى تفهم ما عجزت عن فهمه, دائما. كنت أريد أن أركبها, كما تركب الأسماك الميتة ظهور الرجال. صرت أحس, أحس أنني »تأخرت« كثيرا في حياتي! وأنه لا جدوى من ؛تقدم« مقتصر علي , وحدي. أيكون الاحساس, لا المعرفة, هو أصل الوجود الواعي, إذن? ألهذا ترانا نحس من نحب, ولا نحس غيره? أيكون لعودتي إلى مساطب الحواتين, للمرة الثالثة, خلال يومين بعد آخر, أبعد مما أرى: بعد الإلتزام المطلق »بالآخرين«! الآخرون الذين تحملوا البؤس عنا! ولكن, لم على الكائن أن يكون بائسا, ورميا?
تغيب الشمس للمرة الثالثة في موريتانيا, تغيب على كثبان الأوساخ المحيطة بالمحيط, كثبان الملح العتيق المخلوط بالرماد. كثبان الناس المرتمين بلا فواصل على الأرض. أية خارقة تدفع الكائن لكي يكون حجرا? حجر بائس, لا حجر عثرة مجيد!
في تلك الظلمة البادئة, كنت أتملى الناس حولي وأرتعد: لا صلة ولا تواصل بيننا! أتفرق الظروف الناس الى هذا الحد? إلى حد البله واللامبالاة! حد الإختلاف الذي لا تآلف بعده. ومع ذلك, أحاول أن أفهم, أن أفهم ما لست بحاجة إلى فهمه: ماذا ينتظر هؤلاء البشر من التراب? ولم ينظرون إليه بمثل هذه المحيرة, وكأنهم »يضربون به الرمل«!
ومن أنا لأفهم شأنا جليلا كهذا: شأن حياة خالطت العبث منذ قرون!
أسمع هدير البحر, وحدي (وكأن الصيادين بلا أسماع)! وأرى, مذهولا, أمواجه تتجول في الفضاء حولي (وهم يركبونها كالحمار). بها أتمتع, ومنها يعيشون. تلك هي نقطة الافتراق بيننا: علاقتهم بها حيوية, ولا يتعدى ارتباطي بها حدود اللحظة والتحديق. حدود أريدها أن تكون أزلية. لكن البحر كالرمل لا يستقر على حال! أي سحر يسوقني, هذا المساء, إلى المجهول, إذن? (مجهول ذات غدت من كثرة البوح مرثية!)
ماذا أفعل, غير أن أدير للشمس ظهري! الشمس التي غرقت, الآن, في الرمال. أديره لها, لأرى القمر. القمر الذي بدأ بزوغه, للتو, وأصير أردد, بلوعة, أغنيتي القديمة: »يطلع القمر, ويغيب, ويغيب, ويطلع«!
غير مستقر أنا, هذا المساء (أو هكذا أحسني)! ومن يمكن له أن يستقر في عالم من ضباب? ولأن الرمل سيد الفضاء فان كل شيء يبدو مهترئا, أو على وشك الاهتراء, أنهكه الرمل منذ أول وجوده, كل شيء من الحجر إلى الكائنات. وهو ما سيملؤني خيفة وسيلانا. أحسني أتقطع كالماء, وأنذر كالرمل (وليس هذا مجازا). أحسني أحلق فوق نفسي, وأنا غارق فيها, شعور بالجنون اللامرئي يجتاحني, وأستسلم له بارادتي.
تحت لفائف الضوء والحرير, تحسهن عاريات, نساء موريتانيا اللدنات. يتسايلن وهن يمشين. وكأنهن بلا عظام! أية متعة تخبئها هذه الرقة? وكيف نحت الرمل جسومهن? من غرس في وجوههن الحيية تلك العيون التي لا تهاب? لا الشمس تخيفهن, ولا الضوء يعيقهن عن الارتياب, يقتربن بلا وجل, ويبتعدن بلا غياب!
في اليوم الثالث, تحت ضوء الشمس الباهر, نخترق ؛دشرة نواكشوط« ذاهبين الى الصحراء. إلى »صحراء الصحراء« بالأحرى! نمر بالدور الواطئة الحائلة اللون, المحاصرة, فورا, بالرمل وبالغبار. لكأن »دشرة نواكشوط« سفينة عائمة فوق الرمال التي لا تكف عن مهاجمتها بأمواجها الطائرة.
على الرمل »المدجن« نطير, تصحبنا بأغانيها الرائعة »لبابة«, ذات الشفتين الجمليتين (من الجمل), والوجه السفيني, ولأننا في جيب صحراوي هائل, تلعننا منذ أن نمر بقربها المرأة القعود! امرأة جاثمة في الخراب, تذري الرمال بيديها دون أن يبقي فيهما شيء سوى الريح! وأحس بلعنتها تخترق هيكل الجيب الياباني لتصب فوق رؤوسنا: لعنة الساكن للمتحرك, والقاعد للماشي, والراجل للراكب, لعنة من لا يملك شيئا, لمن يملك كل شيء!
على بعد خطوات من »دشرة نواكشوط«, ندخل الكثبان »هل خرجنا منها?) كثبان الرمال الهائلة الحجم, المتكومة, بأبهة, فوق الأرض, جبال من الرمل, ولا شيء آخر غيرها, سوى الضوء, سوى لهب الضوء العاصف بسكون! سوى شجيرات بائسة تقاوم الاختناق, بصمت!
شمس قاسية, وسكون مطلق, لا ريح, لا هزاز, ولا خفاق, الشمس تعلن ساعة الظهر المخيفة, وأنا سعيد بذلك, سعيد لأن شمس الطفولة تعود. شمس »الجزيرة« الحمراء, التي تقشط القير من الجنزير.
صديقي, ودليلي, »عبدالرحمن« يقود بهدوء, ينظر جانبيا الى ما أكتب, وكأنه يريدني أن أكتب المزيد. يصمت الطريق, كله, لكأن الشمس التي سيطرت على الكون, سحبت منه »حاسة الكلام«! الكلمة الوحيدة التي كان يرددها عندما يراني أغلق دفتري: أنظر! أترى الصحراء! يقولها, صامتا, مشيرا الى الجهات, كلها, دون أن يخطئ المرام, لكأنه يتمنى أن يضيف احساسه إلى أحاسيسي ليكتمل المقام. ولكن أية أحاسيس مشتتة يمكن لها أن تحيط بهذا الكون الأحمر الصاهد, غير الصمت? غير صمت أشد رهبة من صمته: صمت الإله الذي خلق الرمل من الماء.
قرونا أعود إلى الوراء! منذ متى كنت طفلا في ؛صحرائي«? وهل ثمة صحراء كهذه! من يذكر ذلك غيري? أي جدوى من حياة لا تتقاسمها الذكريات? أنا الوحيد الذي يعرف معنى الرمل وبهجته? أي ضير في أن يعرف كثيرون غيري معانيه الأخرى, وبهجاته التي لا تحصى!
طائرا في الضوء, كنت أبحث, بشوق, عن قيصوم »بادية الشام«, وعن شيحها. أبحث عن أشجارها الواجفة فوق تلال الرمل, هناك, هنا, جذوع »الشجائر« اللينة تتلوى مغروسة في الرمل! فكأنها تصر على تسكينه, متضرعة إليه لئلا يذهب بعيدا عنها, لكن هذه الكثبان العظمى ستطير, ستطير مستعيرة أجنحة الريح. وستطمرها, كما طمرت أخواتها من قبل.
أي سوء في ذلك? لم نحاول أن نخضع الطبيعة لأهوائنا! وأية طاقة لشجيرات بائسة في مواجهة كثيب هاجم من الرمل?
نعبر »وادي الناقة« سريعا, لا تثيرني مناظر واحته الصغيرة الخاتلة تحت جبال الرمل. أشجار هادئة في واد محفوف بالمخاطر. واد صنعه الرمل الماكر ليطير فوقه كالجراد الهاجم على زرع داشر, أبحث بعيوني الداخلية عن أشجار أخرى. أشجار معزولة في برية بلا ربوع. لا أحب التجمعات, حتى ولو كانت خضرا. ماذا بقي لي, إذن, غير أن أرقى الى الشمس? إلى عينها اللاهبة, لأتبخر مثل ذراري الماء المتفولة في الصحراء.
أشجار »التيتارك«, ذات الأغصان المتجمعة حول جذع قصير, هي, وحدها, التي تعلو الرمل باطمئنان, تعلوه بقليل, لكنه »قليل« كبير. من غيرها يجرؤ على أن »يرفع رأسه«, مهفهفا, في بحر متلاطم من الرمل.
أما أشجار »أم ركبة« القزمة, فإنها تستسلم للكثبان, منبطحة تحتها »مثل وردة تستسلم لحشرة تمصها«. وما أن تغير الرمال مقامها, حتى تظهر متقاومة من انزلاقها الآسر, فارجة أغصانها, من جديد, بعد التمام عابر!
أي تواطؤ حيوي يجمع عناصر الطبيعة, ويعطي لهذا الوجود مغزاه?
نسير واقفين! نقطع مئات الكيلومترات, ونحن في مكاننا, الشمس والرمل لا يتغيران (وهما مع ذلك في تغير مستمر)! وهل يشبه كثيب كثيبا?
في الصحراء تبدو الطبيعة خرساء, وهي تتكلم, كائناتها لا تعبر عن الحركة إلا بالسكون. وفضاؤها معتم وهو مشرق. الرمل يقرأ خفاياها, والريح تنقله.
ضوء شمسها الساطع يفضح كل شيء. لا سر في الصحراء! كل مخبوء مكشوف. الظمأ والجوع, الرغبة واللهفة, المكر والهبل, الخطأ والخطل (فليس ثمة صواب في الصحراء). الموت والحياة.. كلها, تعانيها كائناتها بلا مزية, تعانيها كما يقتضيه »منطق الوجود«! هذا الذي بلا منطق.
الصحراء هي المطلق. والمطلق يبتلع كل شيء, بما في ذلك ؛جثث« الأحياء الواقفة, بصبر, فوق الرمل. »جثث«? وأي اسم آخر أليق بهذه »الحثالات« الحية, الساكنة تحت الشمس بخنوع, لا تقوى حتى على البحث لها عن ظل! عن ظل عابر. الرمل, سيد الصحراء, وحارسها الأمين, هو الذي سيبتلع هذه الرسومات الحائرة, عندما يحين الأوان, سيبتلعها في جوفه الذهبي الساخن.
في »صحراء موريتانيا« أشبع شموسا وغبارا, أشبع صمتا ورمالا, الأفق فيها قريب, وهو بعيد, الرؤية واضحة, وهي غامضة, الضوء ينير ويعمي, والوهاد تتوالد كالأجنة, الرمل فيها ينبع من الرمل, لكأن الأرض لا تحوي شيئا سواه!
بين »الأعلاب« و؛الطرحات« نصعد ونهبط, نصعد ونهبط بمتعة لا تقدر, كمتعة من يتلمس تجاويف سيدة منيعة, في إحدى الطرحات نصل إلى »الفرات«! حيث آبار الماء المشروب منثورة كاللآلئ على الرمل«. »الفرات«? أردد, مستغربا . ويقولون لي إنها من آبار الجنة, آه! الأساطير نفسها! أساطير ما بين النهرين العظيمة. أم الأساطير, كلها.
بعد طرحة »المبروك«, و»دار السلام«, نصل طرحة »الطائف«, مرة أخرى, أماكن وأسماء! أسماء مستعادة, حتى لا أقول مستعارة, أم تاريخ مردد? أي تبرير يجعلنا نوسم هذه الصحراء المتشاسعة بأسماء محدودة, نكاد نحصرها بين فكينا, سوى الاستلاب? استلاب التاريخ الساكن بتاريخ متحرك, استلاب الرمل بمن يجرؤ على تحديه.
في »بتلميت«, وهي بلدة صغيرة في الصحراء, بيوتها تلطأ تحت كثبان الرمل, منتظرة أن يدمها, ذات يوم, يعيش الناس بلا مبالاة, لكأن الرمل أنساهم الأمل والخوف, معا. أناس يتحركون وهم »سكانى«.
ينظرون حولهم بلا انفعال, وإذا سألتهم لا يجيبون!
عم يمكن لك أن تسأل, وها هي ذي الصحراء مرمية أمامك بلا حجاب? الشمس لاهبة, والرمل بلا ظل, ولا هواء يحرك الألسن والشفاه.
وفي مقلتيك تنعكس الظلال: ظلال الأوهام المخبأة في بطنك كالجرابيع.
الآن أدركت (آمل ذلك) أن ؛المعرفة« هي ما تحس, وما ترى, ما تسمع, وما تطول, لا ما تحلم به. وهي, كلها, واحد! عم ستسأل, وأنت لا تعرف حتى موقع السؤال?
في قلب الصحراء كنت أتعجب: لم قبة السماء زرقاء إلى هذا الحد, وأطرافها شهب? ولم أكن أعرف أن الضوء يتكثف في الأطراف لينقذ الكون من الموت, شمس الصحراء هي التي تدفئ العالم, وهي بعد أن تغرق الصحراء بضوئها, توزع ما بقي منه على بقية الكون, منيرة أطرافه الغارقة في الظلمة, باعثة بعض الدفء فيها.
عند المساء نخرج من الجحيم, لجأنا إلى خيمة »احمي د« الواحدة ظهرا, وها هي ذي الثامنة مساء, ولا نجرؤ على الخروج. سننتظر ساعات أخرى قبل أن نتمكن من الوقوف في وجه الخيمة الجميلة. كانت الشمس قد أدخلتنا الحظيرة. عنوة, وهي, الآن, تتابع حجزنا في فنائها المحاصر بالضوء. تحت تلك الخيمة الصامدة, حسونا اللبن ومرق اللحم: لحم ضلوع الجمال الهائلة الحجم. أكلنا التمر والسمن. انبطحنا, قمنا, قعدنا, ولم نفلت من وطأة الحر! تجمعت النسوة, حولنا, وتفرقت, فركنا أفواهنا بالمساويك, وتبتلنا كالرهبان, تحت أقمصة الحرير الواسعة, ولم نخلص من قبضة الشمس.
نتهيأ في ظلها ونحن قعود: من يستطيع أن يقف على قدميه وسيف الشمس مسلول? وفجأة يؤنبنا »احمي د«: لماذا تحوصون كالجديان? الشمس, مصيرها أن تغرب, والحر لابد أن يزول, أي شيء يدعو لاستعجال ما سيحصل في أوانه غير قلة العقل? اقعدوا!
في فترة »الدحميس« نغامر بالنظر الى البر, الى بر مليء بالضوء والسكون. حتى النسوة, ذوات الارداف العظمى, تجثم بلا حراك, لا تكلف نفسها عناء حركة هي في غنى عنها. يدخل, ويخرج من يحب, وهي لابدة, مثل أنثى القطا فوق بيضها المليء بالفراخ.
في »صحراء موريتانيا« المترامية الأطراف, تبدو الكائنات, وهي تزحف بين كثبانها العظمى, ديدان لا كينونة لها, ولا اثر! لكنها ديدان تعرف أين تضع أقدامها, وكيف تذهب, وتجيء. تعرف, في هذه الصحراء اللامتناهية, التي لا تعترف بالاتجاهات, إتجاهها! وفي الع صير تجلس, متأملة, فوق ظهور الكثبان, متطلعة, بلا ملل, في فضاء فاغر فاه! فضاء مستعد لابتلاع أحياء الكوكب الأرضي, كلها, بلا عناء.
ولكن, لم تراها لا تكف عن »الحركة في مكانها« والكون حولها ساكن من الضوء? لماذا لا تصدر صوتا عندما تتنقل? وما يملأ هياكلها المطبقة? بماذا تحدق هذه الوجوه المحروقة? وأي شيء يعقد ألسنتها, وهي تلوك الكلمات? أتكون تلك هي السعة, وقد أدركها العمق: سعة تتساوى فيها الكائنات, كلها, بلا تمييز! فليس ثمة مجال للتنافس, ولا مكان للزحام!
لا ضوء أحمر في الصحراء. الكائنات هي التي ترسل أضواءها الحيوية لتتجنب الأخطار, وفي عواصف الرمل الرعناء, يمكن أن يختنق أي كائن, بأي شيء, حتى بلعابه, الشمس الأزلية, نفسها, لا تقاوم موجات الرمل المرعبة, المولدة للاختناق! هذه الموجات العظمى التي ستحصرها بين ذراتها, بلا رهبة, ساحبة منها نورها, مثل امرأة تسحب زبدة الشتاء.
هنا يبدو, بشكل واضح, أن وجود الكائن, فوق وهاد الرمل, زائل وعبثي: لا يترك أثرا, ولا يبنى عليه. وجود غير متراكم, تماما, مثل »اقتصاده« المعد للاستهلاك الفوري المباشر.
كنت أحلم بالخلاص من السلعة (مثل كل المتطرفين التعساء), وهأنذا أقع على عالم يحيا, منذ الأزل, بدونها, دون أن تتحقق سعادته! أية حماقة تولد في ذهن الكائن اطروحاته, إذن? وكيف تصير, هذه, مصدرا للاقفال عليه? كيف تصير دوغما وقيودا ?
أترك »صحراء موريتانيا«, وأنا أحس أنني لم أتعلم شيئا, سأعود بما أتيت به: قناعات سخيفة, وقواعد مهترئة, وأفكار جاهزة (على طريقة كبار شعرائنا) للإجابة على كل الأسئلة, حتى تلك التي لا تطرح! وفي الحياة الحقيقية, التي »رأيتها«, هنا, لا مجال للأسئلة, ولا للأجوبة, أيضا.
فما بالنا نتعذب في »تفكيك وتركيب« مفاهيم بائخة, لا جدوى منها!
هنا يبدو واضحا أن تلقف »مفهوم الحداثة« الغربي, وتقليده بشكل »قردي« شوه مسارات ومشاريع, خرب قواعد وحيوات, وفتت تراكمات تاريخية عظمى لصالحه (لصالح المفهوم الذي لم يكن معلوما)! وهو ما يحيرك الآن, وأنت تنظر حولك مرعوبا . تنظر في هذه الكتل الإنسانية الداشرة, مثل قطعان بلا رعاة! حتى لتكاد تتساءل إن كنت لا زلت على سطح الكوكب الأرضي, لكن الصحراء التي تبقى, لحسن الحظ, عصية على التخضيع, هي التي ستملأ مهجتك بالنشوة والانتصار: إنتصار الكائن المحدود على جهله الذي بلا حدود!
السمنة جمال. تتبختر الموريتانية بجسدها النواس. لكأن قسوة الصحراء حلت نعومة فيها. وهي صيادة. تعرف كيف تصيدنا وهي تمشي بحبائل أوراكها اللينة, وهي تضحك, وهي تحكي, وهي صامتة بلا لسان, وهي تنفرش على الأرض, وهي تلملم حواشيها التي تكاد أن تتخلى عنها.
آه! من أين للصحراء القاسية بهذا الجمال الآسر?
ألهذا يسمون جنس هؤلاء »بالبيضان«? والواحد منهم (والواحدة كذلك) مزواج. همه التمتع بالجسد وبالريح. الواحد منهم, كما احسست, كالصقر يرى »الآخر« فيشتهيه, ولا يعف عن نهشه حتى يموت.. من الشيل.
أما »الزوايا« (وهم المثقفون) فلا يختلفون عمن عندنا منهم: كلمات, كلمات, كلمات.
»الزناكة«, وهم الفعلة, وأهل الرعي والخدمة, لا يختلفون في شيء عن أشباههم ممن يسمى: »البروليتاريا الرثة« في جهات العالم الأخرى, لكأن »ماركس« لم يقل إلا حقا!
وفوق هذا, كله, يبدو ؛المجتمع« الموريتاني ؛مجتمعا نسبيا«. بل شديد التمسك ؛بالنسابة«! لكأن رياح الصحراء وأهواءها, تقلبات رملها وهشاشة حشائشها, لم تعلمه إلا التمسك بالخواء!
كانت الصحراء غاضبة هذا اليوم. وعندما تغضب الصحراء يترمل كل شيء: الغيم, والضوء, والبحر, والكائنات! تتحرر ذراري الرمل التي كانت ملتمة لتطير فرادى. تصير تحوم مثل طيور مجهرية في الفضاء, ويغدو اللون الفضي سيد الكون. ولأول مرة, يتجلى لي غموض الفضي وقسوته! كنت أحسب أن الأسود هو الغامض, ولم يكن الأسود, في هذا المناخ, سوى بقعة من نور!
في عواصف الرمل التي لا تقاوم, كنت أفكر بلا انقطاع: اين يكمن الخلل في علاقة الانسان العربي بمحيطه? وكيف يمكن مقاومة الاندثار? كنت أرى واضحا مدى القهر, والزيف, والقمع, والانكسار, أرى الخنس النفسي, والانهيار عند هؤلاء البشر الهائمين كالبهائم في الفضاء, إلى أين تراهم يسيرون بلا مبالاة? وأي ملجأ سينقذهم من بحر الرمال السماوية?
كان يبدو واضحا أن الحياة لم تعد تعني عندهم شيئا آخر سوى »الفوت«! صارت »عدا«, عند من يعرف كيف يعد. ولم يعد للموت ذلك البعد المخيف, صار حالة من حالات التردي الأخرى, التي يعيشونها, الآن, أمام عيني. اللعنة!
عندما يسيطر الرمل على الفضاء فان كل شيء يغدو رملا (ترمل السماء, والأرض بالأصل رمل). الأحجار والماء والأحياء والزواحف والحفريات, الأسد والثعلب والجربوع والنسر والأفعى, كلها, تتخاوى حين يهب الرمل. لكأنه يذكرها بمصيرها المحتوم, بوجوب خضوعها المطلق له. حتى فكر الكائن لا يجرؤ على الابتعاد عنه خشية أن يتيه. وجسده لا يغامر, ولو بخطوات قليلة, حتى لا يغرق. يصبح الكائن, كله كتلة واحدة, هدفها ؛البقاء على قيد الحياة«, وهو, شأن كائنات الصحراء الأخرى, كلها, من الأشجار الى الأحجار يغدو جزءا من هذه الدوامة القاسية التي هي, »الحياة اليومية«! وهي, على الأقل, ليست حياة طفيلية, لا تزعزعها الأحلام, ولا تفسدها الأوهام, آه! كيف أعبر عن ذلك? كيف أشرح ما لا يحتاج الى شرح?
تكاد تكون كلمة »المطر« كلمة لا ملموسة, كلمة »متخيلة«, تماما, المطر, هنا, شيء مطلق! و»مطر على الكثبان« تبدو شديدة الاستحالة: مثل حديد يرقص طربا«! والقادم من أوروبا المفعمة بالماء, إلى موريتانيا المترعة بالرمل, كالقادم من كهف مائي الى أديم من الجمر… وفجأة, أجدني أكف, بقسوة, عن هذه المشابهات البليدة, عن تشبيه وجود بما لا يشبهه, ففي الحياة لا يشبه شيء شيئا آخر, أبدا. ولكل عالم نكهته.
في الصحراء لا ينتظر المرء غياب الشمس, ولا شروقها, أيضا, للقمر دور حاسم يكاد يقارب دور الشمس, للنجوم أساطيرها وتدابيرها. للجهات في الصحراء, طقوس وأماديح, وللفصول خصائص ووصايات. للنوء فيها تصاريف لا تلمس, وإن كانت ترى بالعين, حتى الرمل يبدو كائنا حيا. يعايش الناس, ويخالطهم كالريح والنسمة والضياء, لماذا أتذمر?
في الصحراء لا وجود لشيء آخر سوى الصحراء, الصحراء محشوة بالكون, وكأنها تلخيص جوهري له. فيها »ما هب ودب«, وهي لا تخفي أسرارها عمن يريد أن يراها, لكن المتطفل عليها لا يرى منها سوى الغبار.
في بحور الرمال التي لا تتغير (مع أنها في تبدل مستمر) تنمحي الذاكرة, ويهيمن الخيال. يغدو الكائن قطعة منها, ولا يتحرك عقله إلا للاحتماء.
علاقة الكائن بالمكان فيها تغدو علاقة خطية, أفقية, حتى ولو اتجهت الى الأعلى! علاقة تحكمها البساطة والوضوح. لا تحتمل التأويل, ولا يهمها التحليل, أقرب الى البراءة, منها الى الغباء. علاقة أمية بامتياز.
لا شيء يملأ العين سوى الصحراء, هنا تدرك لم يسكن الزهاد في الصحارى والقفار, هم يفعلون ذلك ليروا العالم, كله, بلا نقوص. ليستوعبوه, دفعة واحدة, كما يستوعب الطفل حبة في يديه.
في صمت الصحراء المعمم لا يتكلم سوى النظر, وعندما تتكلم مع أحد فيها يستمع إليك باهتمام, قبل أن يجيبك صمتا, لكأن الكلمات ستلزمه بما لا يريد.
الأرض في الصحراء ليست هي الأرض. إنها تراكم الغبار الأزلي, وهي لينة تحت قدميك, واذا انبطحت فوقها تسيل, وهو ما يوحي بعدم الاستقرار المستمر, ويدفع الى البحث الدائم عن شيء صلب تمسكه بيديك, حتى ولو كان وهما .
الأرض كرة من غبار, وأنت تسبح فيها.
يوم الصحراء ليس طويلا, ولا قصيرا, إنه دهر, دهر ثابت الملامح, وراسخ, منذ ان تبزغ الشمس شرقا, الى أن تذبل غربا, وفي هذا البحر من الضوء الثقيل, تحاول الكائنات, على اختلاف حدوسها, أن تجد لها ظلا, تلك هي مشكلتها,… الحيوية.
أنا عابر, ولكم أشعر بالسعادة لأنني كذلك.. لأنني تخلصت من شروط الأمكنة, ومن ذلتها, تخلصت من اضطهاد المكان لي, ومن تلافيفه, لا هنا ولا هناك, أنا عابر, أنا الكائن- الطير والعالم بيتي.
لا تدفنوني عندما أموت. ولا تحرقوا جثتي كالمجانين, إلقوني عاريا في الصحراء. دعوا وحوشها الكاسرة تنهشني, وتذرو رمالها الصفر على جبهتي, وحولي تتطاير أشواكها الوخازة كابر الجليد.
دعوا نسورها تنتف أحشائي, وفوقي تمر أفاعيها الرقط ساحبة أجسادها المخروطية الملس. أريد أن أتحلل كما تركبت, أن أتفتت كما تكونت, أن أعود إلى حيث كنت, أن تحضنني أمي الصحراء, كما فعلت أول مرة.
الهوامش
– الدشرة: البليدة, او المدينة »اللامحمية« (وكأن بدو الصحراء المحمين بحركتهم المستمرة, يعتبرون سكون المدينة واستقرارها الجغرافي دشرا).
– الأعلاب: أعالي الهضاب الرملية, او قمم جبال الرمل بالأحرى.
– الطرحات: المنبسطات الرملية المتكونة بين جبال الرمل, وقد تكون أحيانا خضراء, مثل سهوب الجبال.
– البيضان, الزوايا, الزناكة: فئات اجتماعية متمايزة الى حد ما, وإن كان من الصعب لغريب عن المجتمع الموريتاني إدراك خصائص كل منها.
– »الدحميس«: فترة ما قبل غياب الشمس بقليل, وفيها يتبدل النوء, وتفقد الشمس سلطتها على الصحراء, وتبدأ الكائنات بالحركة والظ
خليل النعيمي روائي وجراح مقيم في باريس