-1-
ينطوي الحديث عن "مستقبل الفكر الفلسفي العربي في عالم متغير" على إشكالية مركبة لها وجوه عدة، يتصل بعضها بطبيعة السؤال الفلسفي في هذا العصر،وبعضها بالموجهات التي تحدد ماهية ذلك السؤال، وأخرى بالظروف المرافقة لعملية التفكير الفلسفي، وأخيرا بالغاية من ممارسة هذا الضرب من التفكير في زمن تداخلت فيه وظائف العلوم الطبيعية بالعلوم العقلية، وكل هذه الوجوه تضافرت معا، فجعلت التفكير الفلسفي مهددا بشتى الصعاب، الا اذا اشتق له أهدافا مضافة للأهداف التقليدية التي كان يسعى لتحقيقها من قبل. وهو أمر يمكن تحقيقه اذا توافرت الشروط المناسبة لتجديد ذلك التفكير على المستويات المنهجية والمستويات المتصلة بمنظور المفكر للقضايا التي يعالجها. هذا هو الجانب الأول من تلك الاشكالية التي تترتب في داخلها الأسئلة المتداخلة حول الحديث عن مستقبل الفكر الفلسفي في الثقافة العربية. أما جانبها الآخر، فيتصل بطرائق الممارسة الفلسفية، أتكون وصفية،أم نقدية، أم تأويلية ؟ ذلك أن كلا منها تفضي الى نوع من المعرفة مختلف عما تفضي اليه الأخرى. ويبدو واقع التفكير الفلسفي،كما هو ممارس الآن، بحاجة ماسة الى كل تلك الطرائق. والذي يفرض تلك الحاجة غياب الممارسات المنتجة للمعرفة إلا في نطاق ضيق.فمازال الوصف بمعناه الحصري الدقيق قاهرا عن تشخيص طبيعة التفكير الفلسفي العربي، ولم يفلح بعد في تثبيت الركائز الأساسية لذلك التفكير. وغابت الى حد ما الرؤية النقدية التي تهدف الى فتح أفاق جديدة لتفكير مختلف استنادا الى ايجاد امكانات تفكير أخرى. أما المنظور التأويلي، فقد كان انحساره أشد من سابقيه، وتتأتى أهميته من كونه المنظور الذي يناسب مواجهة النصوص، وتعويم مضمراتها، وكشف مقاصدها، واستنباط معرفة مغايرة عما عرف عنها. وهذه الطرائق المنهجية بإجراءاتها ومفهوماتها، واستراتيجياتها الوصفية والتحليلية والاستنطاقية تعد ضرورة لازمة ترافق أي مسعى يتقصد تحديث الفكر الفلسفي لأنها وسائل ذلك التحديث. وفي غيابها أو انحسارها، أو إهمالها يصبح الحديث عن ذلك الهدف لا معنى له. وسواء تم الحديث على مستوى الغاية من الممارسة الفلسفية أو على مستوى موضوعها أو مستوى أشكالها وضروبها، فهو حديث شديد الاتصال بإشكاليات الثقافة العربية المعاصرة.
-2-
إن نظرة فاحصة ودقيقة لمعطيات الثقافة العربية كما هي الآن، بمظاهرها الفكرية والابداعية تكشف عن معضلة مكينة تتخلل نسيجها الداخلي، الا وهي "مماثلة " الثقافة الغربية و«مطابقة» تصوراتها، فحيثما اتجهت تلك النظرة المتفحصة في حقول التفكير الفلسفي، والنقدي والابداعي، وفي استخدام المناهج والمفهومات، وكل ما يتصل بالانشطة الثقافية، لا تجد أمامها سوى ضروب من "التماثل" و "التطابق" مع ثقافة الآخر، التي فرضت حضورها في المعطى، الثقافي العربي مباشرة، وتجاوزت ذلك الى حد أصبحت فيه على اتصال وثيق بالتصورات التي تنتج ذلك المعطى ويعود ذلك فيما يعود، الى سببين رئيسيين، أولهما: هيمنة "المركزية الغربية" بمحدداتها الثقافية، وهي تمارس أنواعا من القهر ضد "الثقافات الأخرى" بوصفها مصدرا للثقافة الكونية، وقد طال ذلك ثقافتنا العربية وثانيها: الاستجابة السلبية وغير الفاعلة لمعطيات الثقافة الغربية التي روجت لها المركزية الغربية، وهذا السبب يتصل بهوية الثقافة العربية التي لم تتبلور ملامحها الرئيسية بعد، لتكون فاعلة وقادرة على الحوار الحي مع الثقافة الغربية، وقيما ينبغي أن تفكك المركزية الغربية التي استقامت بفعل أسباب فلسفية واقتصادية وسياسية، بهدف تحليل مركز يتها وتخفيف الضرر الذي تلحقه بـ "ثقافات الاطراف ". فإنه ينبغي وهو أمر له الأولوية في مضمار تحديث الفكر العربي عامة والفلسفي خاصة – أن ندقق في الأسباب التي جعلت ثقافتنا تتصف بالاستجابة السلبية لثقافة الآخر، ذلك أو تلك الاستجابة بمظهرها السلبي الواهن، تؤشر حالة ضمور خطيرة في مكونات الثقافة العربية الحديثة، الأمر الذي جعلها عاجزة عن التفاعل الايجابي مع الثقافات الأخرى. ان النقد ينبغي في رأينا أن ينصرف الى هذين السببين، مع تأكيد عميق على الأخير، بما يفضي الى نوع من "الاختلاف " بدل "المطابقة ". وليس المقصود – "الاختلاف " الدعوة الى "قطيعة " مع الآخر ذلك ان القطيعة لن تحقق أيا من ضروب "الاختلاف" إنما ستفضي الى "الانغلاق " و"العزلة "،ولهذا فليس ثمة دعوة لـ "الاعتصام بالذات " في مواجهة "المطابقة" إنما الأمر يوجب تنمية عوامل "اختلاف " جوهرية وجديدة، تعمل على تغذية "الذات الثقافية " بطابعها الخاص الذي ينشغل بوقائعه وموضوعاته هو، والذي يبحث بنفسه عن الحلول الممكنة للصعاب التي تواجه أسئلته الخاصة، وفي الوقت نفسا الدخول مع الآخر في حوار فاعل، وساءلته معرفيا ومنهجيا، بما يحول ثقافته الى مكون فاعل وليس الى مكون مهيمن. وعليه فليس ثمة "اختلاف " دون وعي بأهمية ذلك "الاختلاف".
إن اختلافا حقيقيا مشروطا بالوعي، يمنح الثقافة العربية الحديثة هويتها الحية المنفتحة على الثقافات الأخرى، بما يدفع تلك الثقافة من واقع "المطابقة " الى أفق "الاختلاف ". وإذا كان واقع "المطابقة الثقافية " قاسيا ومعتما، فإن أرضية "الاختلاف" غير ممهدة وهي بحاجة الى تضافر جهود كثيرة في شتى الميادين بهدف تدشينها لتناسب حالة "الاختلاف ".
إن الدعوة الى "الاختلاف الفلسفي" ضرورة تتصل بدائرة التكون الثقافي العربي الحديث، وكما أنه لكل ضرورة شروطها الخاصة بها، فـ"الاختلاف " مشروط بمحددات تنظم استراتيجياتها وآلية عمله ومنها إعادة النظر في طبيعة العلاقة التي تربط الثقافة العربية الحديثة بأصولها الموروثة من جهة، وبالثقافة "الكونية " من جهة أخرى وتشكيل منطقة تفكير لا تتقاطع مع كل ذلك، ولكنها لا تذوب داخله بمعنى التماهي فيه بما يفقدها حضورها الآني ويسلب عنها أسئلتها المتعلقة بظواهر خاصة بها. فـ "الاختلاف " يوفر حرية نسبية في ممارسة التفكير دون الشعور بإثم الانفصال عن الماضي ولا خشية التناقض مع الحاضر ومرد الحاجة لـ "الاختلاف ". بروز ثنائيات خطيرة في نسيج الثقافة العربية الحديثة، منها: الأصالة والمعاصرة والذات والآخر، والماضي والحاضر وغيرها. وقد نجحت تلك الثنائيات في إحداث انقسام شديد في التصورات، وأصبحت تمثل "مرجعيات " يصدر عنها هذا المثقف أو ذاك. وأصبحت علاقة الثقافة العربية تترتب مع موضوعاتها وتوصلاتها في ضوء تلك المرجعيات وكأنها ثوابت نهائية. وانقسمت الممارسات الثقافية على قسمين: قسم يذهب الى أنه لا سبيل أمام ثقافتنا الا بالاندماج التام في ثقافة الآخر، بوصفها ثقافة شاملة وكونية، وقسم يقول انه لا سبيل الا الصدام الثقافي بالآخر، بسبب جملة الاكراهات التي مارسها على الثقافة العربية، إن عرض هذين الموقفين و "التمثيل " عليهما، يكشف جليا أهمية "الاختلاف " بوصفه خيارا "ثالثا" لا تفرضه حالة تجنب الخيارين المذكورين، ولا هاجس التوفيق بينهما، أنما يفرضه منطق التشكل الثقافي الذاتي الخاص.
-3-
إن الدعوة الى الذوبان الثقافي في الغرب لها جذورها في الثقافة العربية الحديثة، ومن ذلك مثلا، إن طه حسين قد أكد في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" إلا أننا ينبغي أن نتصل بالغرب حتى نصبح جزءا منه "لفظا ومعنى وحقيقة وشكلا" وعلينا أن نشعر الغربي بأننا "نرى الأشياء كما يردها، ونقوم الأشياء كما يقومها، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها" (1)وكانت هذه الدعوة قد وجدت لها صدى لدى عدد كبير من كبار المثقفين العرب في النصف الأول من القرن العشرين ومنهم لطفي السيد، وسلامة موسى، واسماعيل مظهر وغيرهم، واطردت في كثير من الممارسات الفكرية ومازالت حاضرة بقوة في ثقافتنا الآن، ونمثل عليها برأي باحث عربي معاصر لا يرى أن ثمة مستقبلا للثقافة العربية الا بالاندماج التام والكلي في الثقافة الغربية والأخذ بكل معطياته وهو يقول: "اذا كان العرب يريدون أن يتماشوا مع حضارة القرن العشرين _ ناهيك بالواحد والعشرين _ فالأجدى لهم أن يترجموا الروائع الأجنبية.. لا أن يؤلفوا. وهذه الحال تنطبق على المصنوعات الثقافية كما تنطبق على المصنوعات الاقتصادية. فكما من غير المجدي إقامة المصانع للطيارات والسيارات والكمبيوترات وشتى التكنولوجيات لأن انتاجها المحلي سيكون أردأ من انتاجها الغربي، كذلك فإن كل تأليف في اللغة العربية، في ميدان الخصوص من ميادين المعرفة الانسانية والعلمية سيكون أقل مستوى من هذا التأليف نفسه في الغرب. لذلك كان لابد من استيراد الصناعة الثقافية عن طريق الترجمة من الغرب "(2) وبغض النظر عما تقود اليه دعوة مثل هذه، فيما يخص مبدأ الهوية الحضارية – الثقافية فإن المعايير التي يضعها صاحب هذا الموقف تثير كثيرا من الأسئلة حول صلاحية ثقافة الآخر لغيره وحول مدى استعدادها لأن تسهم في حل الاشكاليات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تمور في أوساطه. وينطلق صاحب هذا الرأي من تصور يرى أن الصراع بين الحضارات والثقافات أمر لازم ومحتم، وفي ضوء ذلك فإن العرب غير جديرين بمجابهة عملاق في الحضارة مثل الغرب و"من المستحسن تقليده ومحاكاته " لأنه لا يمكن أن "نتوقع أن يقف العالم العربي بحضارته في وجه الغرب"(3). ويلاحظ على هذا الموقف أنه ينظر الى العالم بوصفه ميدان صراع لا حقل حوار. وفي ضوء ذلك فإنه يقترح امكانات فكرية تناسب منظوره للعالم، ومنها أن "الثقافة العربية" لا يمكن لها أن تتكون إلا بالاندماج بـ "الثقافة الغربية في كل تصوراتها ومعطياتها، واستبدال التفكير العقلي الذاتي بنوع آخر من "التفكير" قوامه استهلاك ما يقدمه الغرب من صناعات ثقافية، وهذا الموقف يمثل جانبا مما بلغته ثقافته المركز في بسط نفوذها وهيمنتها وحضورها في الثقافة العربية، ونوع التعلق السلبي بها.
إن الذي نخلص اليه ونحن نعرض لدعوة الذوبان في الغرب الثقافي هو: ان هناك تيارا فكريا في ثقافتنا الحديثة لا يرى أية امكانية في تحديث الفكر العربي الا بوساطة الالتحاق بالغرب الثقافي، والاتصال به بوصفه مصدرا مشعا صالحا لحل مشكلاتنا الثقافية والاجتماعية دون الأخذ بالسياقات المختلفة ولا بالتجربة التاريخية التي تميزه عن غيره.
-4-
ثمة موقف نقيض يصدر عن رؤية تهدف الى مطابقة المامي والاهتداء بموروثه، والبحث في معطياته وصولا الى هوية ثقافية صافية، ولا يكتفي بذلك فحسب، إنما يضيف اليه اعلان المواجهة مع الثقافة الغربية. وقد تعددت المشاريع التي تندرج ضمن هذا الموقف ونمثل عليها بمشروع حسن حنفي الذي يعلن فيه استراتيجية لتجديد التراث، محاولا اعادة النظر فيه مجددا كما يقول في كتابه "من العقيدة الى الثورة "(4). بيد أن تلك المحاولة – التي تأخذ شكل مشروع شامل _ تسعي عبثا لتجديد علوم أوجدتها سياقات تاريخية لها ظروفها الخاصة، ويصبح إدعاء تجديدها لا معنى له في زمن ظهرت فيه علوم بديلة وعليه فتأصيل هدف التجديد يأخذ بعدا ماضويا، لكي يسوغ صفاء الهوية الثقافية وذلك لا يتم، كما يخلص اليه حنفي، إلا بالقضاء على "الخصم الثقافي " الذي تمثله الثقافة الغربية. ولهذا الوجه من المشروع، يخصص حنفي كتابه "مقدمة في علم الاستغراب " الذي يقترح فيه حقلا جديدا للبحث يصطلح عليه بـ "الاستغراب " الذي هو نقيض "الاستشراق " ويذهب الى أنه – "الاستغراب " يمكن فك العقدة التاريخية بين الأنا والآخر، وقلب الموازين وتبادل الأدوار، فاذا كان الغرب قد سيطر على الشرق، وركب له صورة تمثل تصوراته، دون اعتبار لخصائصه الذاتية فلابد إذن من الانطلاق صوب هدف محدد، وهو القضاء على مركزية الغرب، وتقوية ثنائية المركز والأطراف، واعادة التوازن للذات، فالقول بشمولية الحضارة الغربية وكونيتها، يفضي الى الايمان بها بوصفها صالحة لكل زمان ومكان وحسب حنفي فأنه بوساطة "الاستغراب" يمكن السيطرة على الوعي الغربي، وتفكيك طغيانه، ودراسته بوصفه وعيا غربيا محضا وليس وعيا عالميا، ثم الانتقال بعد ذلك الى مرحلة رد الغرب الى حدوده الطبيعية والثقافية وايقاف الأذى الذي يلحقه بالحضارات الأخرى بل القضاء على أسطورته الثقافية، وافساح المجال أمام الشعوب للتحرر من الغطاء الذهني الغربي المهيمن عليها والتخلص من عقدة الخوف وعقدة النقص، واعادة كتابة التاريخ بما يحقق المساواة بين الشعوب، وتأسيس فلسفة جديدة مغايرة للفلسفة واعادة كتابة التاريخ بما يحقق المساواة بين الشعوب، وتأسيس فلسفة جديدة مغايرة للفلسفة الغربية التي ترى العالم بأجمعه موضوعا لها، وان المعطيات الثقافية الأخرى انما هي صدى من أصدائها وتجلياتها الذاتية، وينتهي حنفي الى التأكيد انه لا سبيل أمامنا غير هذا، فبدون تقويض التمركز العرقي والثقافي الغربي، لا يمكن التفكير بانشاء كيان ذاتي أصيل (5).
من الواضح أن هذا المشروع يضع نفسه داخل اشكالية مزدوجة فهو يبحث عن الصفاء الذاتي، ولكن ذلك لا يتم الا بدمار الآخر، وهو من هذه الناحية يماثل الموقف الأول الذي عرضنا له، فالذات لا تتكون الا بالإجهاز على الآخر، كما يمثله هذا الموقف، وهي لا تتكون الا بالاندماج الكلي بالآخر، كما يقول الموقف النقيض، وقيما يخص مشروع حنفي، فإن تصور وجود هوية صافية ثابتة، قاده الى البحث عن قطيعة مع الأخر، فعنده ان الحضارة الغربية طردية، تنمو وتبدع بالانطلاق من المركز والابتعاد عنه، في حين أن الحضارة الاسلامية مركزية تنمو وتبدع بالنسج حول مركز (6) وهو تصور ذهني يسعى لترتيب الظواهر الثقافية لتوافق الأهداف التي يريد الوصول اليها. وتستند علاقته بالتراث الى نظرة اصلاحية لا تراعي في الغالب شروط الزمان والمكان (7). وبالرغم من كل هذا أيمكن حقا بوساطة "الاستغراب " ان تتوازن الثقافة العربية مع الثقافة الغربية ؟ وهل بهذه الوسيلة يتم "الاجهاز" على مركزية تلك الثقافة ؟
وبافتراض نجاح هذا الهدف، فهل يتواتر الصراع بين الأمم كرا وفرا الى الأبد؟
إن هذا الموقف كما يمكن أن نخلص اليه، ما هو إلا رد فعل يفتقر الى الحس التاريخي بالظاهرة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية ويعالج موضوعه على غرار معالجة "الاستشراق" لموضوع "الشرق ".وهو بحسب تعبير سمير أمين نوع من "الاستشراق المعكوس " (8) الذي يحلم بـ"مركزية شرقية " تماثل "المركزية الغربية " متجاهلا الشروط التاريخية لكل منهما ناظرا الى الأمور من زاوية التباين المطلق بين الشرق والغرب، شأنه في ذلك شأن الاستشراق، إنه يرى أن الشرق والغرب بوصفهما جوهرين ثابتين متباينين، لا قدرة لهما على التفاعل مع بعضهما أبدا وبذلك ينفي أية امكانية للتواصل، وكأن المعرفة الانسانية حبيسة قلاع مقفلة لا يمكن لها أن تتواصل وتتفاعل.
-5-
أردنا في واقع الحال، ونحن نعرض لموقفين متباينين، فيما يمكن أن يكون الهوية الثقافية ويجددها، ان نضع تحت الانظار جانبا من التصورات والرؤى حول قضية غاية في الأهمية، الا وهي فلسفة التكون الثقافي في عصر الحداثة والتحديث، واذا تأملنا مليا في الموقفين اللذين عرضنا لهما – بوصفهما مثالين على تيارين من التفكير المتواتر في الثقافة العربية الحديثة – سنجد أن الموقف الأول يصدر عن رؤية لا ترى سبيلا الى ذلك غير "مماثلة " الآخر، و
"مطابقة " معطياته في شتى الحقول والميادين، دون مراعاة لطبيعة تلك المعطيات ومحاضنها الثقافية، وان الموقف الثاني يصدر عن رؤية لا ترى سبيلا الى ذلك غير "التطابق" مع الذات، بما يوقف إمكانية الافادة من الأخر والانكفاء على النفس وهنا ينبغي علينا التأكيد بوضوح،ان الاعتصام بالذات لا يقل خطرا عن التماهي في الآخر، فالأول مبعثه التعصب والانغلاق، والثاني مبعثه الضياع والحيرة، وكلاهما لن يفضيا الا الى مزيد من العزلة عن الآخر أو "التطابق " معه. وفي الحالين، نرى أن ثمة تغييبا واضحا لمبدأ يفرض حضوره وهو مبدأ "الاختلاف " الذي يتأسس بوساطة تعميق الرؤى الذاتية من جهة والحوار مع الآخر من جهة ثانية، وجعل الحاضر موجها ومنطلقا لجملة التصورات الفكرية وموضوعا للبحث والتجديد.
إن تدشين أرضية صالحة ثقافيا للاختلاف في الرؤية والمنهج توجب بطبيعة الحال استئناف النظر مجددا، وبعمق وروية ووعي نقدي في كل طبقات الثقافة العربية التي تشكلت خلال العصور التي انقضت، واستئناف النظر الى جوار ذلك في معطيات الثقافة المعاصرة بمصادرها الكثيرة، والغربية منها بوجه خاص. وبدون رؤية نقدية -حوارية، يصعب تصور ظهور أي نوع من "الاختلاف" فالاختلاف المطلوب هو: الانفصال الرمزي عن الآخر، بما يمكن من رؤيته بوضوح كاف، وهو في الوقت نفسه انفصال رمزي عن الذات، بما يمكن من مراقبة أفعالها وضبط تصوراتها، ذلك ان التطابق الكلي مع الذات يولد نوعا من العماء الخطير الذي لا يقل عن الانقطاع التام عنها ووضع مسافة "اجرائية " بين الذات وتصوراتها من جهة وبينها وبين تصورات الآخر من جهة ثانية، إنما هو الضرورة التي يقتضيها الاختلاف الهادف الى بناء هوية ثقافية متماسكة، ثرة خصبة ومعاصرة في آن واحد. ان "الاختلاف الفلسفي" هو المرشح لأن يدفع ثقافتنا من واقع المطابقة الى أفق "الاختلاف ".
الهوامش:
1- طه حسين مستقبل الثقافة في مصر، القاهرة مطبعة المعارف 1944 ص 34، 44.
2- عادل فاخوري، الهوية: لعبة الانتماء مجلة مواقف ع 65 لسنة 1991 م ص 53.
3- م. ن ص 54.
4- حسن حنفي من العقيدة الى الثورة، بيروت المركز الثقافي العربي، 1988.
5- حسن حنفي مقدمة في علم الاستغراب، القاهرة الدار الفنية، 1991ص 22 وما بعدها.
6- علي حرب،نقد النص، بيروت المركز الثقافي العربي، 1993 ص 50.
7- عزيز العظمة، التراث بين السلطان والتاريخ، بيروت: دار الطليعة 1990ص 161.
8- سمير أمين، نحو نظرية للثقافة بيروت: معهد الانماء العربي 1989 ص137.
عبدالله ابراهيم (ناقد عراقي وأستاذ جامعي)