1- المستوى البصري
يؤطر الغلاف لون يحيل على دبغ الجلود لتغيير ألوانها، وهي عملية إضافة الى مكوناتها كمواد كيماوية تتفاعل، ترهص بإحراق المستوى الأول الذي وجد عليه الجلد، كما أن عملية السلخ هي عملية تأتي بعد عملية الذبح، فتحضر لتعميق فعل القتل، بعد تجريد الذبيحة من جلدها الذي به كانت تحيا وتتفاعل مع المعطيات الطبيعية. بالسلخ نزيل آخر معالم الاتصال بالحياة.
تشغل لوحة الغلاف مساحة كبيرة تبأر في تحيزها للجانب الأيسر على حساب الجانب الأيمن. وقد تفيدنا هذه الإشارة في خطابها المضمر لاسيما إذا استحضرنا فترة السبعينات. كما أن تصدع اللوحة وهي عبارة عن بذلة على طول أرضيتها وانشطارها الى نصفين، أتت النصف الأيمن الرقم (974) بينما الأيسر تكرر فيه نفس الرقم ( 974) وأسفله 68- 419، وفي الركن الأدنى إشارة الى يوم الأربعاء، وبذلك نكون أمام لوحة توثيقية. رغم محاولة إبعادنا لعنصر القصدية في اختيار الأرقام، فإن ارتباطها بطبيعة البذلة يجعل منها بذلة سجين، فيصير للأرقام مسوغ للاشتغال الإيمائي. فنحن في فترة السبعينات وتحديد اليوم كذلك من العوامل التي تؤشر على رصد زمن قاس وعنيف.
بنية العنوان
يتحدد من خلال مكونين اسميين :
سلخ : كمصدر
الجلد : اسم معرف
يتوحدان في انتفاء الزمنية والحركية، مما يشحنهما بقوة الدلالة المرغوبة. وقد تعمد الكاتب شكل المصدر (سلخ) حتى لا يقرأ كفعل فيتحيز زمنيا وخطابيا في ارتباطه بضمير، وبالتالي تضيع درجة تعنيفه للدلالة. وفي ربط العنوان بلوحته ندرك مقصدية هذا العنوان. الا تشكل الممارسات القمعية والتهذيبية سلخا لجلود أضحيات بشرية قدمها المجتمع لتحويل العنف وخداعه.
ما يثير على مستوى التحديد الأجناسي هو غياب الاشارة في الغلاف الى طبيعة الكتاب، وكأننا نوجه منذ البداية الى قراءة تفاصيل وشهادات عن عملية سلخ الجلد، فما يهم هو الوقوف على حقيقة الأشياء، فالكتاب يدعونا الى قراءته من أي تحديد أجناسي شئنا، إنه يسلخ جلدة هوسنا بالتحديدات الأدبية.
2 – المستوى الموضوعاتي
سننطلق من تمفصل مفهوم "العنف " مع مجموعة من العناصر ضمن ما أسماه "جان بيير ويشار" بـ "القرابة السرية " المتحكمة في العلاقات الخفية التي تنسجها عناصر الموضوع عبر العديد من الأشكال والصور والوجوه في عمل ما.
ارتكازا على ذلك سنتتبع مجموعة من المفاهيم بحسب درجة اشتغالها لانتاج إحساس فاعل أو منفعل بالعنف. ويأتي مفهوم التمرد لتعميق الاحساس بالعنف الممارس على الذات المتمردة، فتصير بفعلها هذا عاكسة لدرجة تأثرها وأيضا منتجة لرد فعل لمواجهة ما ألم بها من قهر وضغط. وكأول تجل لهذا التمرد يحضر عنصر اللامبالاة لكونه ينم عن فك الارتباط مع الآخرين وما يشغلهم (وأنا أنظر من نافذة السيارة في لامبالاة هادئة) (1). فالموت موقف صراع بين أحد ركاب سيارة النقل العمومي وبين قاطع التذاكر حول الزيادة في ثمن الركوب. وفي الاشارة الى طبيعة سيارة النقل (العمومي) نلمس الإحالة المرجعية على مجتمع بأكمله.
إن موقف اللامبالاة بعد وظيفته الأولى يصير إدانة لكل المواقف المنبطحة والخاضعة التي تنتظر من يأخذ المبادرة وكأن الأمر لايعنيها إلا عندما يتمرد بدلها (بنفس النظرات اللامبالية أتتبع اهتزازات الرؤوس المؤيدة لأقوال الراكب) (2). إنها نظرات باردة جوفاه تستهدف امتصاص اشتعال الحنق والغيظ من هذه الرؤوس التي لا تجيد الا التأييد، حركتها بصفة جماعية تلميح الى آلية أفعالها. وهذا الموقف يثير طبيعة العلاقة بين هذه الذات والآخرين، إنها ذات تستمرىء عزلتها معلنة قطيعة مع ما ومن يحيط بها (… إن أحاديث الركاب تقتحم عزلتي) (3) لدرجة مثيرة تعكس الاحساس بافتقاد كل الروابط مع الآخر. وقد يتجاوز التمرد إطار الذات وتصدعها ليتمظهر في قضية وطنية (الاستعمار) فيكتسب بعد المواجهة المباشرة والرد على العنف المادي الملموس (ورغم أن الحارس جاء يستفسر من وراء زجاج نظارته الطبية عن حالة العصيان) (4).
إن تصعيد هذا الاحساس لن يفرز إلا إحساسا أعمق منه به تحاول الذات الاحتماء من ضغط واكراه الواقع، فيأتي التيه ليعكس بصورة واضحة التمزق والتشققات التي خلفتها اللحظات الصدامية مع الواقع في محاولة لإقامة التوازن أو اعادة ضبط عناصر المعادلة الصعبة، إذ كيف يمكن قبول واقع قائم على الاستنساخ والاجترار وفي نفس الوقت الحفاظ على خصوصيات وملامح القراءة ؟ فلا شيء يوحد بين الناس سوى أنهم أسرى لقانون التدجين، وأقسى مستويات القطيعة مع الآخرين هو التواجد بينهم مع إقامة جدار يحد من كل محاولة للتواصل (عدت أسير وسط الزحام محاولا أن أجد شبها يربط بين هذه الوجوه المفرطة في التباين)(5)، فيتشكل التيه في صورة الجدار الذي به تحتمي من إمكانية التواصل، لأن الحضور مع الآخرين ليس بالضرورة حضورا وجدانيا (وأنا انحشر وسطهم وأسير بلا غاية) (6). إن في استعمال فعل (انحشر) إشارة الى الانتماء غير المرغوب فيه للجماعة، لأنه انتماء قسري يوظف التيه للفكاك منه مستعينا بفعل السير المولد للحركة المخترقة لكل أشكال القيود، لأن في السير قد نستسلم لخدر الاحساسات الدافئة ونحن ننسج أخيلة واستيهامات ترسم أمامنا كظلال هاربة، منفلقة من قبضة الآخرين لأنهم نقطة الوصول، بل المعضلة كامنة أساسا في هذا الوصول لكونه يفجر الاحساس باستنفاد الشرط الوجودي (لا استفسركم عن الطريق. لا يهمني ان اتغلغل في تيه ملتو) (7)، لان الرغبه و عدم تبين ملامح الطريق تمنح إمكانية مواصلة التيه الذي عملت صفة (ملتو) على خلق امتداداته اللامتناهية ضمانا للرغبة في عدم الوصول الى نقطة محددة غير أن هذه الرغبة قد تتحول الى نقيضها فيتولد الاحساس المدمر بطول الطريق، وتستند المسافة في خلق هذا الاحساس على عنصر الصمت بما هو مسافة رمزية تبعدنا عمن يكون معنا (ساد الصمت، الطريق ماتزال ممتدة بعض الشيء) (8).
وللرد على هذا التعنيف الذي مارسته الطريق على الذات، لم تملك هذه الأخيرة إلا الاهتداء الى تدنيسها من أجل انتزاع كل هالة وعظمة تصعد من حجم فعلها، مما جعل التبول يمتلك صفة رد فعل مباشر يسعى الى المواجهة بواسطة عنف تبادلي تكتشف صفة الانتشاء بممارسته عن بعده السادي (اسمحا لي، سأسقي هذه الأرض البور! وقبل أن يكمل جملته كانت فتحة البلودجين مستعدة للاستقبال) (9). غير أن الوعي بعدم جدوى التيه كخلاص يحوله الى عنصر إيذاء يدفع الى التشكيك في فعاليته ويعمق هوة الانفصام والابتعاد (وبعد؟ التسكع وشم الهواء! وبعد؟) (10)، ليجد العبث مناخا ملائما ليستوطن الذات فينخرها بفيروس القتامة والعجز (وبعد؟ نتلفن لصديقتنا، نلتقي، نثرثر، تعلو درجة حرارتنا. تنطلق الغريزة يعود السأم. نفترق. نلحق بالرفاق. نتكلم في كل الأشياء. ننتقد. نحبذ. نسخط. ويتلاشى الحماس حينما نشعر بكثافة عجزنا) (11). إن انتظام الأفعال وفق هذا الايقاع يفرغها من دلالتها ليضمنها دلالات جديدة تلتقي في ترجمة الاحساس باللامعني وبالخواء. كما أن ضبط علامة الترقيم يحد من انسيابها على المستوى الفكري، إذ شكلت النقط كوابح لسيولة ذهنية فأجبرت على التسكع الحركي الجسمي كتعويض عن العجز عن مارسته على المستوى الفكري. لكن آلية إنتاجية هذه الأفعال ستحد من حركية الذات وهي تتأهب للانطلاق، فمقابل الشعور بالتفاهة يأتي الشعور بالتعب (تعبت قدماه فيما يبدو. منذ الظهيرة وهو يمشي طاف في العاصمة تائها) (12). وبعد أن كانت الذات تمارس فعل التسكع بدافع الرغبة (لأن الأمر يتعلق ببطل يمارس دلالة النقلة من عالم الى عالم، وكلما أوغل في التنائي عن فضائه، استجمع طاقات رؤيوية للصدام مع عالم مواز سيجد نفسه منقذفا في أتونه، ومن ثم يصبح مورطا في شبكة من العلائق الاجتماعية والأخلاقية التي يملك عنها رصيدا سماعيا لا أكثر) (13).
أصبحت تشكو من التعب وهو شعور يظهر الاحساس الجديد بهذه الفواية ومع أنها مطمح الذات في العلاج لكونها البلسم القادر على طرد كل إحساس يبعث على العنف (سنطوف بالشوارع ونتصفح السحنات علنا نعثر على الدواء)(14).
ويرد النفور مع التسكع الى كون "الخارج " يعمق الاحساس بالخواء والضياع. فالشارع مجمع لكثافة بشرية، أجسام متدافعة في حركات آلية (الشوارع مكتظة الأجسام تتدافع بالأكتاف، وأنا أتصفح السحنات..) (15)، ملامح باهتة منطفئة لا غاية لها من سيرها إلا أن تسير بحكم انو جادها ضمن هذا الحشد، تقف الذات في اصطدامها بهذا المشهد موقف الإثارة لكنها سرعان ما تعي غربتها فلا تملك إلا الاستسلام مرغمة حتى تتمكن من رأب التصدع النفسي (وأنا أنحشر وسطهم وأسير بلا غاية) (16)، فلا إمكانية للتفرد ولا مفر من السقوط في خانة الاستنساخ لعقد تصالح جديد مع الواقع، وفق هذا المنظور يعيد الشارع إنتاج وظيفته كوسيلة للخلاص وتبديد كل إحساس بالضيق والاختناق (كنت حريصا على أن أخرج الى الشارع في أقرب وقت لأدفع عني الاختناق) (17).
لذلك يظل الاصرار على المشي والرحيل دفعا لاحتواء المكان وتحقيقا لفعل الاختراق، لأن باختراق الأماكن تخترق الذات التي أعلتها الضغوط النفسية، ورغم التعب هناك الرغبة في أن يظل الامتداد متواصلا والطريق طويلة بلا حدود أو نهايات مرتقبة وكأن الاحساس بهذه النهاية بداية لعلو جدار جديد داخل النفس (وأبتسم في نشوة، وأتمنى لو أن الطريق لا تنتهي) (18). وتشكل هذه الرغبة نهاية للنص القصصي الواردة ضمنه، لتسلمنا لبداية نص جديد موال يحمل بدءا من عنوانه الرغبة في السفر (مذكرات سفر) الذي سيكتسي طابعا رمزيا، لأننا نكتشف في النهاية بأنه سفر يجوب تضاريس الذات.
من خلال اختيار البحر كملاذ لانهاء التسكع والتيه، نستشف مجموع الاستيهامات المتولدة عن الحلول في هذا المكان والذي بشساعته وانفساحه يتيح للذات أن تتشظى مبددة تكلسها.
(سألني سائق السيارة عن وجهتي – الى البحر) (19)، بواسطته يمكن استعادة الإحساس المفتقد والمغتال بآليات التدمير التي وظفها الواقع في الاجهاز على عالم الذات، لأنه هو الذي باستطاعته توفير فضاء أرحم وأرحب (أحسست بارتياح مفاجىء وأنا اتنسم رائحة البحر… خيل الي كأنما جئت لأبحر، لابتعد عن الأرض) (20) التي لم تفلح في خلق جاذبية لاستقرار الذات، اذ كل أما كنها غير معدة لاحتضان توتراتها وقلقها، فالمدينة فضاء لا يحظى بالاستحسان والاطمئنان، انه محاصر ومرتع خصب لكل أشكال العنف والقمع، وتفسخ القيم والعلاقات الانسانية، فضاء يعج بالمتناقضات التي تعمق الفوارق الاجتماعية المهولة، فإلى جانب الغيلات تنبت أحياء الهامش، أحياء القصدير كالفطر.
************************************************************
إن أهم ما يعكسه الجدول هو استحالة إقامة رابطة حميمية مع هذه المدينة التي جندت كل مؤثثاتها لتعنيف الذات، فكل الامكانات المتاحة للتواصل معها لم تتجاوز التخيل على اعتبار أن المدينة /الالفة، ستظل حلما تسفها وتحطمه المدينة /الواقع.
وكرد فعل تجاه هذا العمل تخلق الذات اواليات دفاعها كمجالات تصريفية لهذا الحلم، الشيء الذي سيجعل من الجنس ممارسة دفاعية. فإلى جانب طابعها الفضائحي في الاعلان لما تقوم به من تعرية وخلخلة لكل الثوابت التي أضفت عليه صبغة التابو، يحضر الجنس كتجل لممارسات عنيفة تختزنها الذات وتترجمها عبره كفعل وانفعال به أو ضده. فهو وحده القادر على فك قيود الفكر والجسد لتتمكن الذات من استعادة توازنها (أريد أن تستحيل الشهوة قوتا يوميا يتغذى منه الجسد وغير الجسد) (21). إنها رغبة صريحة في فك الحصار المعلن على هذه الممارسة الوجودية والتخليصية، والتي بإبعادها عن اليومي المعيش خلقت إكراهات وضغوطات رمزية ما فتشت تعفف العلاقات الانسانية، وتفرز ردود فعل خاطئة لأن في تواريها انحجبت، ودفعت الى تناقضات في الذات وخارجها، وبذلك أقصيت رغم أنها العنصر المستهدف. وفي استعارة النار للشهوة نلمس حجم الفعل الصادر عنها والمنتج لممارسات عنيفة (إن جعل النار في الداخل أو تدخيل النار interiorisation du feu ، أمر لا يعظم من شأنها وحسب، وانما يتيح الظهور لأكثر التناقضات شكلية) (22). وفي عدم اشباع هذه النار، فقد تأتي على كل شيء وتصير المعرفة قوتا لها، وبالتالي لا يمكن تأسيس أفق فكري متنور ومنفتح لأن نارا مثل هذه تستهدف بالدرجة الأولى إحراق الفكر (تتبدد بين نار الشهوة ورماد المعرفة) (23).
وفي ارتباط النار بالرماد تفقد صفتها التطهيرية. فبدل أن تكون نار الشهوة مبعث صفاء وتحلل من كل دنس، تصير برمادها وسيلة لمنح بعدها العنفي تأثيرا أشد على الذات.
لذلك يذهب باشلار الى أن الرماد يقف دون تحقيق النار لفعلها التطهيري (وما أعاق تطهير فكرة النار، من جهة أخرى، هو الرماد الذي تخلفه وراءها… باعتبار أن هذه النار الطبيعية قد أضعفها كثيرا تجمع كمية كبيرة من الفضلات التي لا تستطيع طرحها) (24) والتي تؤسس فاعليتها على التحكم في اشتعال الشهوة فتصير هذه النار إرادية. وقد تم التعبير عن هذه الرغبة، لكن بالارتقاء بها من الممارسة البيولوجية الحيوانية الى ممارسة تخلق بعدا حضاريا يتعالى بهذه الممارسة لتنصهر بالحب تحقيقا للرغبة المنشودة (هذا هراء… بالحب نستطيع أن نتغلب على هوس الجنس) (25)، إذ بهذه الوسيلة نتمكن من امتصاص عنف الجنس وتصريفه في قنوات سليمة ليؤدي الدور الطبيعي بدل أن يصير مثار نفور وقلق، فيقفز على الواقع المعيش ليستوطن الحلم. وبالاسترجاعات الموغلة في تخوم اللاشعور تحقق الذات كفاياتها مفسحة المجال لعقدة أوديب لتطفو (حلمت بالشيطان، بأجسام كل المومسات وغير المومسات اللائي ضاجعتهن، حلمت بالنهود التي كنت ألمسها وأنا طفل صحبة أمي في الحمام) (26). فلمس النهود صحبة الأم يكثف هذه الإشارة إذ يعوض الامتصاص باللمس، والأثداء بالنهود، والجسد الواحد بأجساد متعددة في محاولة للحفاظ على جوهر العلاقة مع الأم ضمن هذا البعد لكونها تنطوي على عنف يهجس بقتل الأب. كما تنهض الإشارة الى الحمام على طابعه الحامل لمستويين متعارضين. فهو مكان الدنس والطهارة. وضمن هذه الثنائية تشتغل الرغبة الجنسية، وقيام عنصر العري فيه يدعو الى طرد كل ما هو زائد وخارجي. انه تعبير عن رغبة دفينة لمقاومة كل القيود المادية عن طريق التجرد من الملابس والمعنوية بالكشف عما اعتبرته الجماعة محرما في الخارج، فهو إذن رد فعل تجاه العنف الممرر بشتى الوسائل والعودة الى اللحظة الأولى.
وان استبداد أجسام المومسات وغير المومسات بموضوع الحلم يضمر العنف الذي يثيره جسد المرأة في الرجل، لأن أعضاء المرأة الجنسية (مكان تدفق الدم الدوري كانت على الدوام تثير انفعال الرجال بشكل عجيب في كل انحاء العالم لأنها تبدو مؤكدة الصلة الجلية في نظرهم بين الجنس وأشكال العنف الأكثر تنوعا، وهي أيضا قابلة كلها للتحريض على إراقة الدم) (27) بكل ما يحمله الفعل من مستويات الموت الرمزي. وقد كثفت صورة بياض الجسد هذه الدلالة. وان تكرار هذا المكون اللوني في نص واحد امتلك عنصر الإثارة والانتباه فقد تمركزت الاشارات اليه بالخصوص في نص «سلخ الجلد» مرتبطا بالجسد كمعطى جنسي.
– (حرك يده ليمسد شعرها ثم مررها على جسدها، لسعه البياض). ص 46.
-(يستعيد لقاءه مع ذات الجسد الأبيض) ص 47. – (في هذه المرة أيضا صعق البياض جسدها). ص 48.
– (نصاعة صورة الجسد الأبيض الميت، الآن، أوضح عندي من كل الذكريات) ص 51.
– (يا أحلاما لم أحلمها بعد. هل تدفنين بياضك تحت ركام لذكريات) ص 51.
– (جسد عار أبيض – كان باردا وجد أبيض) ص 51.
قد يعادل البياض النار، فيمتلك خاصية الاحراق واللسع لما يبعثه في النفس من إحساس بالمحو. فكما تمحو النار الأجسام المخترقة لتتواجد وتعيش، يمحو البياض بصفائه الألوان باحثا عن رؤية بكر تتولد عنها حرارة تقينا صقيع الهباء والعدم (فالحرارة فينا ونحن في الحرارة، في حرارة مساوية لذاتنا، الحرارة تمنح النار دعم عذوبتها الأنثويه) (28). كما يؤجج البياض أوار الشبق. ويتخذ البياض في المعتقدات الدينية والأسطورية رمزية متشحة بالهالة والتعظيم. ويكفي أن تتوحد فيه دلالتان مخلفتان : الفرح والحزن (لباس العرس والكفن والحداد أحيانا).
وللإحاطة بالمستويات الأخرى لاشتغال الجنس في خلق عنفه نستعين بالجدول التالى :
********************************************************************
فعوض أن يمكن الجنس الذات من دفع العنف، يخلق عنفه الذي لا يقل ضراوة عن المستويات الأخرى، بل يفسح المجال لعناصر أخرى لتهدم ما تبقى من دعائم المناعة. فالزمن كأداة للنسيان والتجاوز يغدو عنصر إثارة وتحسيس بالملل والرتابة القاتلة التي تفتت الزمن لتذروه رياح التلاشي. وقد استشعرت الذات الاغتيال الموجه ضد الزمن، فحاولت حمايته. ويعملها هذا فجرت ضد نفسها عنفا آخر، فعكس عنصر الضبط والتدقيق درجة الإحساس بوطأة الزمن كفعل عدائي. (الساعة الآن التاسعة مساء. لقد دخلت الخامسة الى منزلي) (29). وبجانب هذا الاحساس يحضر الاحساس بعدم امتلاك الزمن حيث يعاش بزمن الآخر ومقاساته لاسيما اذا كان هذا الآخر يختزل كل تجليات العنف المادية. فمن خلال اسم الشركة نستدعي كل أشكال الهيمنة والغزو والاستلاب (الساعة الآن السادسة وأربعون دقيقة، حسب الساعة المهداة من شركة كولا كولا)(30).
وكمعين للزمن على ممارسة تعنيفه تشحن الذكرى كزمن منقض بآليات التدمير والتخريب (أجنون ما يعتريني كلما عاودتني ذكراك ؟ أجنون حقا هذا الذي يعتريني كلما همست ذكراك لحنا يتحدى النسيان ؟) (31)، تحاول الذكرى مقاومة المحو والتلاشي ولكن بعملها تذكي نار اللوعة والحرقة على اللحظات الجميلة وتهيىء الذات لتقبل القلق الوجودي المؤرق، لأن فعل التذكر يجعلنا "نعي أن الزمان سيأخذ أيضا. ان معاودة عيش الزمان الغابر معناه تعلمنا قلق الموت " (32).
وللاحتماء من هذا الصقيع كان من الطبيعي الالتجاء الى الكتابة كملاذ للدنء. غير أن ممارستها في ظل شروط معيشية معينة صيرتها سلاحا لمناهضة العنف الممارس على جميع المستويات، فاتخذت بعدا تحريضيا لاعداد وعي متقد في مكنته أن يتجاوز دائرة الانفعال ليقتحم حلبة الفعل (من يستطيع أن يكتب كتابة مضادة لكل ما يغتصبنا من خطب مذياعية، وتصريحات برلمانية، وافتتاحيات نارية وثرثرات بليدة مدعية) (33). انها أداة للفضح وكشف الزيف والتصدي لمؤامرة التدجين (أكتب فالكتابة تعبير كما يقال… تعبير عن الأشياء والحقائق والأكاذيب والأعراض والجواهر، الباقي والفاني (34). بل ان الواقع يصير نصا ينكتب باستمرار. انه نص مغيب ولا مفكر فيه، واقصاؤه هو إقصاء أهم مقومات الذات لتتكامل وتؤسس هويتها المستلبة (من يستطيع أن يلتقط هذه الكتابة الشفوية البصرية – اللاواعية – المستمرة كوجع لا يهدأ) (35)، لأن الكتابة وحدها القادرة على تهدئته وامتصاص عنفه، فهي الوسيلة الوحيدة للتخلص من الحصار والقلق. انها الكوة التي تفتحها الذات للتنفيس وطرد كل الأحاسيس المقيدة والمعنفة (بودي كلما كتبت أن أكتب عما لم أكتبه، عما حاصرني. أرقني) (36).
المستوى الفني
إن حضور الرغبة في تعرية الحقائق عمل على تعرية اللغة من اختراقها لأنساق رمزية انزياحية، إنها لغة تنقل الاحساس قبل أن تكشف عن مخزونها الدلالي. ومع ذلك لم تتخل عن هاجس توليد شعريتها ضمن الشروط التي ارتضت لنفسها ان تنمو في رحمها،من هنا ندرك توظيف اللسان الدارج للتخفيف من سلطة الفصيح كمؤسسة تنزل بثقلها الرمزي على الذهنية، وأيضا لتكسير اندماج المتلقي لاستنفار مخيلته ضمانا لانتقادها، حتى يتسنى لها ترتيب الرؤية المعبر عنها ما دمنا بصدد كتابة وظيفية : "بلاصا للعرايش بلاما لتطران… بلاما للقنيطرة… لكل غادي يقلع) (37) تجند الموروث لتأدية دورها (أسيدي عملت مزيان اللي جدت ما حد الحديد سخون وككان تعطلت وككان ينكروها في كل شيء) (38)، وللتمرد المباشر على المؤسسة عن طريق السخرية (الشرع تيبلع… أشمن شرع. الشرع تيخصو غير ما يدحي، والله حتى يسرقك وانت تشرف) (39). ولتعمق اللغة تصريفها للعنف تدفع به للظهور والاعلان المباشر عن نفسه وبلفظه.
*************************************************
غير أن أنجع وسيلة للرد على عنف الواقع تشكلت عبر الاستعانة بالمستوى الفانطاستيكي الساعي الى خلخلة جاهزية هذا الواقع وتأسيس عوالم تتعالى عليه مقلصة بذلك جنوحه نحو اللا منطق. وأبرز ملمح لهذا الجانب يمثله نص حكاية الرأس المقطوع الذي أنبني منذ عنوانه على عنصر المفارقة التي تغذت بالصور والأخيلة المتجاوزة لغرائبية الواقع، إذ في قطع الرأس، نقطع الحكاية. وتلك دعوة الى اقامة مسافة بيننا وبين الحكاية / الوهم، كما أن استحضار الدلالات المشبعة بمفهوم العنف يؤكد الرغبة في الرد عليه :
************************************************
ساح دمي على الطوار ص 52
الشرايين والاوردة تتدفق نافورة ص 52
الكلمات تتدفق من فمي الرعد القاصف ص 55
ما دمتم تتوفرون على الجثة، اعيدوا الرأس الى جثته واقطعوا اللسان ص 60
وقد تمت الاستعانة أيضا من أجل تحطيم بنية السرد – ولو أننا في هذه المجموعة نجد أنفسنا أمام حكاية تحافظ على لحمتها وسداها، على تقنية العنوان الفرعي والتدخل المباشر للسارد والافصاح عن هذا التدخل، من خلال استعمال (ملاحظة : ص 61) والاشارة الى انفتاح النص والدعوة الى كتابته بشكل جماعي، وهي دعوة تختم بها المجموعة، مما يؤكد على مقصديتها الداعية الى خلق كتابة فاعلة يشكل من خلالها النص واجهة نضالية ودفاعية :
( يمكن لهذا الكولاج أن يستمر إذا توفرت القصدية ذاتها) (40). وفي الاشارة الى مفهوم "الكولاج " نلمس البعد الفسيفسائي للعملية الابداعية لكونها قائمة على التعدد والاختلاف، مما يخلق انسجامها واتساقها وكأن في ذلك تلميحا الى بنية الواقع القائمة على التناقض والتعارض والذي ضمنه تكتسب شروط استمراريتها وفق قانون التفاعل.
– سلخ الجلد : مجموعة قصصية للمبدع محمد برادة صدرت عن دار الآداب.
الهوامش
ا – قصة اللغو والأصوات ص 7.
2- قصة اللغو والأصوات ص 8.
3- نفسه ص 8.
4- قصة كانوا يضحكون كالموج ص 74.
5- قصة مذكرات سفر، ص 16.
6- قصة مذكرات سفر، ص 14.
7- نفسه ص 13.
8- قصة حياة بالتقسيط ص 31.
9- نفسه، ص 38.
10- نفسه، ص 31.
ا ا – قصة حياة بالتقسيط ص 31.
12- قصة مساء تلك الظهيرة، ص 62.
13- بنعيسي بو حمالة، في البحث عن بلاغة أساطيرية للقمة المغربية من خلال نموذجي «مساء تلك الظهيرة » لمحمد برادة و«الاستشهاد» للميلودي شغموم، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، محور العدد: النقد الأدبي والعلوم الانسانية، المجلد الرابع – العدد الأول – نوفمبر – ديسمبر، 1983، ص. 233.
14- قصة حياة بالتقسيط ص 33.
15- قصة مذكرات سفر، ص 14.
16- نفسه ص 14.
17- نفسه، ص 21.
18- قصة اللغو والأصوات، ص 12.
19 – مذكرات سفر ص 21.
20- نفسه، ص 22.
21- قصة الشيء بالشيء، ص 103.
22 – غاستون باشلار، النار في التحليل النفسي، ترجمة نهاد خياطة، دارالأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، بيروت 1984، ص 71.
23 – قصة مساء تلك الظهيرة، ص 69.
24- غاستون باشلار، النار في التحليل النفسي، ترجمة نهاد خياطة، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، بيروت 1984، ص 95- 96.
25- قصة مذكرات سفر، ص 32.
26- قصة سلخ الجلد، ص 50.
27- رينيه جيرار، العنف والمقدس، ترجمة جهاد هواش وعبدالهادي عباس، دار الحصاد للنشر والتوزيع الطبعة الأولى، دمشق، 1992، ص 52.
28 – غاستون باشلار،شاعرية أحلام اليقظة علم شاعرية التأملات الشاردة، ترجمة جورج سعد،المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، لبنان 1991، ص 166. 29- قصة الشيء بالشيء، ص 98.
30- قصة الشيء بالشيء ص 99.
31- نفسه ص 102.
32- غاستون باشلار، جدلية الزمن، ترجمة خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع الطبعة الثالثة، بيروت، 1992، ص 47.
33- قصة الشيء بالشيء ص 91.
34- نفسه، ص 90.
35- نفسه، ص 91.
36- قصة الشيء بالشيء، ص 91.
37- قصة اللغو والأصوات، ص 8.
38- نفسه، ص 10.
39 – نفسه، ص 10.
40- قصة الشيء بالشيء، ص 103
عبدالنبي دشين ( كاتب من المغرب)