اختفى عبد القادر قبل شهرين تقريباً، كيف؟ أين؟ لا أحد يدري. لكنه ظلّ محور جلستنا. ناركيلته. مكانه في المقهى. ظلّه لم يختفِ بقي على حاله.
وافق صاحب المقهى على استعمال «الناركيلة» قبل مدة طويلة، وسط دهشة الجميع، لم يتصور أحد أنه سيوافق قطّ. ربما لأسلوب عبد القادر المؤدب، ربما لعلاقته بالمقهى التي تزيد على ثلاثة عقود، ربما لشيء آخر، لا ندري بالضّـبط، بعد السّـابعة من معظم الأيام نتجه إلى المقهى، نراه جالساً في مكانه أمام المروج الخضر، سارح النظر، نسلّم، يبتسم، يهزّ رأسه، نجلس، قليلاً ما نتكلم، الأمريكان أذكياء في خلق المشاكل أغبياء في حلها، من سيفوز يا عبد القادر؟ بوش أم كيري؟
– ليس أمامنا سوى ستة أشهر لنرَ النتيجة.
– يقصفون الفلـوجة مرة أخرى بعد النجف.
– الفلوجة دخلت التاريخ.
-هل زرتها يا عبد القادر؟ نعم قبل أن أغادر، قرية صغيرة. مررت بها في طريقى إلى عمّان، سنة ٠٧٩١، يسمى آنذاك طريق الرّطبة، قديم، ضيّق.
– لكنه أصبح بعد ذلك درجة أولى، أفضل من طرق أمريكا.
– سمعت ذلك.
– والنجف؟
– نعم زرتها.. مدينة صغيرة أيضاً.
-هل سيبقون في العراق؟
– أبداً. هل سمعت بقصة اللص؟
– أي لص، اللصوص كثار؟
ضحكنا.
– نزل لص على عائلة، الدنيا برد، قال الأب العجوز لابنه أمسك به. أمسك الابن به، لكنّه بعد قليل أخذ يصرخ مستنجداً. العجوز لا يستطيع مساعدته. قال له: أطلقه ما دمت غير قادر عليه. قال أطلقته أنا، لكنّه هو ظلّ ممسكاً بي، لا يطلقني. أمريكا تريد أن يطلق العراقيون سراحها مع الاحتفاظ بماء الوجه. لكنّها لا تستطيع.
قرقرت النركيلة. مجلسنا أمام مفترق الطّرق لا يتغير. الشّارع تحت المطر مرآة تنعكس عليها السّيارات وهي تسرع شتى الاتجاهات، عبد القادر اختاره قبل مدة طويلة ربما خمس عشرة سنة، أكثر! أقل! كان يرتاح فيه بعد انتهاء العمل اليومي، لكنه منذ أن استغني عن خدماته بعد حوادث سبتمبر قبل سنتين أصبح جزءاً من المقهى، يتمشى، يقضي حاجاته، لكنه في الرّابعة عصراً، يجلس في مكانه هذا لا يغيره: أين أذهب؟ أيوجد أحلى من هذا المكان؟ المنظر فائق الجمال بأي مقياس. مروج خضر منسّقة تنتهي بغابات، بحيرة، ملاعب، شلالات اصطناعية.. الخ. ما إن أرفع بصري حتى يتيه في مُلْك شيكاغو، أفق فردوسي خلاب.
مرة واحدة سألناه إن كان يستطيع أن يعمل شيئاً آخر غير العمل في المطبعة. ابتسم، سأبلغ السّتين هذه السّنة، ولا أستطيع العمل في البقالات، لا أستطيع حمل صناديق وزنها خمسة وعشرون كيلو جراماً، لا أستطيع غسل المواعين في الفنادق، ماذا أعمل؟ قدّمت على التقاعد قبل الوقت المحدد، ها أنا ذا أنتظر، دعوا التّفكير في مصير عبد القادر لمن خلق عبد القادر. نفث من ناركيلته دفقة دخان أبيض، ثم تابع: تمتعوا بجمال هذه اللّحظة قبل أن تفنى.
عبد القادر لا يُكثِر الكلام قط. يلقي أمثلةً، قصصاً منتقاة، كلماتٍ مختصرة، ثم يتيه في بحاره الداخلية المتلاطمة.
المقهى واحدة من سلسلة مشهورة في أمريكا، ربما تصل إلى الآلاف في كل ولاية، وحينما جلب عبد القادر الناركيلة أول مرة إلى المقهى، استأذن العاملة المؤقتة. طالبة كلية في الثانية والعشرين. بيضاء كالحليب، على حافة الامتلاء، يكاد نهداها المثيران يندلقان من خلال فتحة عريضة. وإذ رأت عينيه تثقبان صدرها وضعت يدها على الفتحة وعيناها تتضرجان. وقفتْ مشدوهة أمام هذا الاختراع الغريب. قالت له: ابدأ استعماله وسنرى.
– هاك مصّي.
– لا أدخن.
– فقط تذوقي.
كان يريدها أن تنحني ليرى أكثر. لكنها أغرقت ضاحكة، غردت: حسناً سأتصل بأصحاب المقهى لعلهم لا يمانعون.
أرسلوا في خلال أسبوع مندوباً. شاب في غاية الأناقة، في الثلاثين من عمره، نحيف جداً، تكاد عيناه تخرجان من محجريهما، «هكذا وصفه عبد القادر، لأنّنا لم نكن موجودين وقتئذ» احتفى به العاملون بالمقهى احتفاءً هائلاً.
نظر الشاب إلى عبد القادر وهو جالس في مكانه يدخن الناركيلة، مرتدياً الزيّ البغدادي التقليدي، العمامة الصغيرة، «الجراوية» و«الزبون البُتّة»، تلمع فيه خيوط الحرير، القميص الأبيض الناصع، الفاخر، حزام القماش العريض. جالس في زاويته المعهودة وبيده مبسم الناركيلة كأمير بغدادي أصيل خرج من ألف ليلة وليلة ثم استقر في شيكاغو بشموخ وتعالٍ ليربط بين حضارات شتى، وليمتع نفسه بمنظر الشّلال والمروج وينفث الدّخان المتبل برائحة الليمون الفواحة، وبقربه فروته السوداء الأنيقة بأشرطتها الحريرية اللامعة، مطوية على مقعد قريب.
لم يكلّمه أولّ الأمر، لكنّه اتجه نحو النّادل. أعطاه بعض التعليمات، ثم تقدم نحو عبد القادر، استأذنه بالجلوس قربه، طلب منه أن يستنشق نفساً من الناركيلة، فلفّ عبد القادر مبسمها بالمحرمة الورقية، وقدّمها له، أغمض المندوب عينيه الواسعتين، ثم جذب النفس. ابتسم. إنّها لرائعة. يا سيّد عبد القادر سأعرض عليك ما لم أعرضه على أحد، أرجو أن تقبله برحابة صدر.
فتح عبد القادر عينيه، قال الشاب: تستطيع أن تأتي إلى هنا كل يوم، كل ساعة، تشرب، وتتناول ما تريد على حساب المحل. أنت ضيف المقهى الدائم.
ربما اتّخذ المندوب ذلك القرار لأنه اعتبر وجود عبد القادر بزيه البغدادي العريق، وناركيلته خير دعاية للمقهى، بالرغم من المفارقات التي تولدت من جراء ذلك فقد كان عشرات العرب والشّرقيين الذين يمرون بالمقهى يطالبون صاحبها بناركيلة، إسوة بعبد القادر، ثم يتساءلون إن كانوا يستطيعون جلب ناركيلاتهم إلى المقهى. لكنهم يتناولون قهوتهم، ثم يخرجون ولا يعودون.
أصبح عبد القادر علامة من علامات المقهى الثابتة، الشهيرة، لا بل علامة من علامات شيكاغو، فقد استأذنوا منه ووافق على صورة فاخرة، أبدعها أرنست كلمينتوين وكان أفضل مصوري شيكاغو الذي يعمل في هوليوود. جاء أرنست بكامرته الثمينة وأخذ عشرات الصور من زوايا مختلفة.
بعد أيام ظهرت صورة عبقرية لا مثيل لها، ولا يمكن أن توصف، تزين صفحة كاملة في أحد كتب الدعاية السياحية للمدينة مع نبذة قصيرة عن عبد القادر فتهافتت على المقهى جماعات لا تحصى منها حسناوات، شابات، وبالغات، وكهلات أصبن أرض المقهى بزلزلة بدأت ولما تنتهِ حتى باختفاء عبد القادر، كن يجلسن حوله، فتتغير هيئته وتصرفاته معهن عنها معنا، فكان ينكت ويقهقه، ويضحك، ويغادر معهن لكنه لا يبوح قط بما يفعله، ولا يسمح بالإشارة إلى ذلك، لا بل منعنا من الجلوس قربه إن كانت هناك امرأة قربه.
جئن بعد اختفائه، سألننا عنه كل يوم وهن لا يصدّقن أن شيئاً مثل ذلك يحدث أبداً.
الآن بعد ذلك الاختفاء طفقنا نعصر أدمغتنا، لعل شيئاً ما يقودنا إليه، في الأقل نعرف شيئاً عن مصيره.
كعبة، متحف، علامة أثرية! تُزار تبقى في مكانها، مركزا للجذب. تبقى في الذهن، لكن الآخرين يزولون، يأتون ويذهبون.
نذكر جميعاً لحظة اختفائه، كان يدّخن، أبعد المبسم، لمعت عيناه، هتف: هل شممتم العطر؟ أي حاسة للشّم يتمتع بها؟ تعالوا. نهضنا يرافقنا ضجيجنا ضحكات، تعليقات، تساؤلات، نعم كان هناك عطر فريد يضّج في كل مكان، ينبعث من السوق الضخم المجاور «MALE» تلك هي المرة الثانية التي يشير فيها عبد القادر إلى العطر، كان ذلك اليوم الأول للحرب. ولست أدري ما العلاقة بين ظهور العطر والحرب! لكن عبد القادر قال مرة واحدة: العطر يمتزج بالموت دائماً. ولم أفهم قصده أيضاً. آنذاك لم يخرج سوى واحد منا، شمّ العطر، ثم ذهب مع عبد القادر، لكنّه رجع بعد قليل، أما عبد القادر فلم يرجع إلا بعد نصف ساعة، وكان وجهه ممتقعاً. شاحباً. ورفض أن يجيب على أي سؤال.
لماذا هاجرت يا عبد القادر؟ لا يجيب. يغمض عينيه برهة ثم يتيه في عالمه الداخلي.
أهذا سؤال؟ دائماً حرية مفقودة، اضطهاد، مصير مجهول في العراق. يجب أن يكون السؤال: لماذا يبقى الناس في العراق؟ ضحكنا.
السياسة هي السبب. يبتسم عبد القادر ويكمل: أو الحب.
نضحك مرة أخرى. تلك المرة الأولى التي يتكلم فيها عبد القادر عن الحب. ثم رمى بإحدى جمله الغامضة من دون أن تفسير: الفتاة عندنا مظلومة، كثيراً ما يتوج حبها بالذبح.
حينما أخذ سمير يستعد لجلب خطيبته من القاهرة سألنا ماذا يحمل إليها من هدايا.
أجابه بكر: سل أي رجل متزوج.
– ليس فينا متزوج.
بادرت، سألت بكر: سلْ خليلتك، أي عطر تفضل.
– خليلتي نجارّة، لا تعرف غير العطر الرخيص.
– وماذا عنك يا خيري؟
أجبت، تفارقنا قبل شهر. علاقتي بالموظفات اللواتي يعملن معي ما زالت في بدايتها، هذا هو الأسبوع الأوّل.
أخذت منا المداولة نحو نصف ساعة، فجأة انتبه عبدالقادر: مساء باريس. نبر الاسم بالفرنسية. قمة الجمال في العالم حسناء وعطر جميل. ضحكنا. سمعنا بذلك العطر أول مرة.
– جيّد. نعم، ممتاز. كانوا يهربونه من الكويت، سعره وقتذاك دينار ونصف، أي خمسة دولارات.
– عبد القادر. كم كانت القوة الشرائية للدينار آنذاك؟ يبتسم عبد القادر، يفكر قليلاً: تشتري بدينار ونصف مثقال ذهب، أي خمسة غرامات. هذا يعني أن سعره الآن في حدود الخمسين دولاراً. لابد أن يكون جيداً. نهض سمير. إلى أين. لأشتري العطر من الـ «MALE» من يأتي معي؟ نهضنا، حدثت المعجزة. نهض معنا عبد القادر. تساءلنا ترى أين محل العطور! أشار عبد القادر أن نتبعه. العاملة هندية، ربما في السابعة عشرة، تجاوزت قليلاً حد الامتلاء إلى السمنة، شفتان ممتلئتان شهيتان. ابتسمتْ. رحبتْ بعبد القادر. كأنها تعرفه منذ دهر. رجاء دقيقة، غادرت منضدة البيع. عطور من جميع أنحاء العالم، مئات الماركات. عطور في علب نحاسية، في دوارق، في علب من الكارتون. قال بكر: في الدار البيضاء محل عطور تقليدية تخلط مواده أمامك. من أين يستوردون المواد؟ لا أدري! ربما من الهند. فُتح الباب في صدر المحل عن هندي في حدود الأربعين، شعر أسود يلمع بـ«الفازلين»، في ملامحه شبه للمراهقة، لكنه نحيف. مدّ يده إلى عبد القادر. صافحه بحرارة. بادر: لقد طلبته من باريس مباشرة. ربما سيأتي بعد شهر إلى شهرين. تعرف أنت أن الباخرة تستغرق نحو ثلاثة أشهر للوصول إلى الموانئ، ثم بعد ذلك تصنف البضائع لتأخذ طريقها إلى شيكاغو. تساءل عبد القادر وبلهفة: لكن أ أنت متأكد أنهم ما زالوا يصنعونه؟ نعم. وقعوا العقد، تسلموا من البنك رسالة الضمان. أشرقت عينا عبد القادر، تنهّد بارتياح. قال سمير: حسناً، مادام «مساء باريس» لم يصل إلى حدّ الآن، اختر لي أي عطر جيد.
– لابد أن مساء باريس يذكرك بمن تحب.! ابتسم عبد القادر: العطر وحده لا يكفي. لكل امرأة عطرها الخاص بها، رائحة جسدها تميّزها عن غيرها، لا يكفي أن تستعمل المرأة عطراً ممتازاً، بل يجب أن تختار عطراً يتلاءم مع ما يفوح من جسدها، وبامتزاج تينك الرائحتين يتولد عطر جديد متفرّد، حينئذ لا يعود للنظر أي قيمة، القلب وحده يقرّر، يتحكم، لتستعمل مائة امرأة عطراً واحداً، لكن قلبك وحده سيميّز من هي آسرته.
كانت تلك أطول جملة أسمعها من عبد القادر.
سافر سمير إلى القاهرة، أصبحنا ثلاثة فقط، عبد القادر، بكر، وأنا.
كنا في المقهى في نحو السادسة مساءً، بداية تشرين الثاني، ارتفعت درجة الحرارة بشكل غير متوقع، وزهت المروج الخضر بظلال الأشجار، وتلألأ شلال المياه بألوان شتى تحت أشعة الغروب المختلفة، لكنا كنا حزينين، عشرات الأطفال قتلوا في العراق. قبل يوم واحد، بينما استضافت إحدى الفضائيات «مادلين أولبرايت» المعزولة لتدافع عن منهجها ، مفضلة إبقاء الحصار وموت نصف مليون طفل عراقي من تأثيره على الحرب الحالية. صورتها في الجريدة ترفع إصبعها، تؤكد ذلك. آنذاك أبعد عبد القادر مبسم الناركيلة عن فمه، هتف: أ شممتم «مساء باريس» معطراً بجسد امرأة؟ لم ينتظر الجواب. نهض. غادَرَنا، بكر، وأنا ذاهلان، خرج. توقعنا أن يأتي بعد خمس دقائق، عشر لا أكثر. انتظرنا حتى التّاسعة موعد تفرّقنا. لم يعد، ذهبنا إلى الـ «MALE» كان الهندي وابنته يهمان بغلق المحل، سألناه عن عبد القادر. لم يره.
أوصل «مساء باريس»؟
هزّ الهندي رأسه ذات اليمين وذات الشمال: نعم. وصل اليوم. كنت أود أن أخبر عبد القادر لكني نسيت.
هل اشترى نفس العطر شخص آخر؟
نعم. امرأة في الخمسين. أخبرتني أنها كانت تبحث عنه مدة عشرين سنة وهذه أولّ مرة تراه في شيكاغو.
-هل استعملته؟
– نعم. لم تنتظر أن تصل إلى البيت، كانت شديدة التلهف. كم كان الوقت؟ لا أدري. لكن بداية المساء. ربما في السادسة.
محمــــود سعيـــــد كاتب عراقي يعيش في أمريكا