قاسم حداد عناية جابر
هاشم شفيق باسم المرعبي
منذر مصري خضر الآغا
رفعت سلام
* مصادر الكتابة الابداعية وأشكال منابعها, ومدى صلتها بجوهر العملية الفنية وموروثاتها التي قد تكون هي من يرسم وجودها على نحو يبدو غابرا بعض الشيء, وقريبا في مسافات أخرى.
* من الذي يجعل القصيدة في النهاية, بهذه الهيئة والكمال?
* هل الكتابة, فقط, هي نتاج مستويات مندثرة من الصور والخطوط والأفكار والمعرفة والتجربة تسعى الى امكانية استبدال الواقع الموضوعي (السائد) وإقصائه, وخلق طقوس وقوانين تحدد معالم اليوتوبيا المتخيلة, ومن ثم ترمم الشرخ, ولأقل الجرح, المكاني والزماني الأرضيين غير المتكافئين في علاقة الشاعر مع عالمه.
* الى أي مدى بالامكان اعتبار فكرة الإلهام, هنا, جوهرا معزولا عن عالم الشاعر, وأن التدفق والأطياف التي يخترعها, ما هي إلا صيغ وحركات جديدة تتعايش, بعضها قرب بعض, لتشكل في النهاية تراثا متكاملا من الأصوات والرؤى والضفاف المتقابلة والمتضادة تضيء ملامح الوجود الأكثر عتمة وصلافة?
أسئلة حاولت بواسطتها استقصاء جزء من آليات الكتابة الشعرية وعالمها المتشابك, الغامض والواضح في آن معا.
سعي للحاق, ربما, بسوء فهم ما مبالغ به, واكتشاف ولو دوامة ضيقة ينتصر فيها العابر والمنسي لشعراء تائهين مع ملاك, أو شيطان القصيدة.
نوع من الاشتراك العاطفي يجمعهم حول لعبة نرد, أو غبطة كأنها مولودة في زمن خرافي مضى.
قاسم حداد:
مثل هذا السؤال غالبا ما يدفعني الى الارتباك لسببين: الأول, لا أعرف هل من المفترض حقا أن يكون الشاعر قادرا في المطلق على الإدراك الموضوعي لمصادر الكتابة في حياته, وأن هذا الادراك يجب أن يكون عنصرا من عناصر ثقافة مستقرة تتيح له أن يكون على استعداد لأن يعطي جوابا واضحا عن مثل هذا السؤال, والشاعر الذي لا يقدر على الاجابة يعتبر قاصر التجربة, وأطرح مثل هذا السؤال بالجدية ذاتها المتصلة بما يشبه التقليد الدوري في طرح هذا الأمر على الشاعر بصورة استجواب غالبا لا تناسب نفسية بعض الشعراء, وأنا أولهم, في حين أنني من المحتمل قد تحدثت عن الموضوع والهاجس في مثل هكذا سؤال ولكن بصورة غير مباشرة ومن غير طلب أو استجواب مباشر من هذا النوع. ومن غير أن ألقي اللوم على مشروعية هذا السؤال, سأقترح أن طريقة تداول مثل هذه الأسئلة ربما تصدر عن سلوك ثقافي راج في السنوات الأخيرة عربيا من شأنه أن يرشح الشعراء لأن يقوموا بالأدوار التي من المعتاد أن يقوم بها أشخاص آخرون, النقاد خصوصا.
السبب الثاني للارتباك يصدر من كوني لا أثق بالفعل في انني سوف أتحدث عن الأمر الذي يتوقعه مني صاحب السؤال, ربما لشعوري بأن من الصعوبة الزعم بمقدرة الطائر, فيما يحلق, تفسير موهبة الطيران ومصادر معرفته لهذه العملية, في حين أن عالما في الفيزياء والميكانيكا سيكون أقدر من ملايين الطيور على الحديث عن الموضوع.
أظن أن هذه المقدمة كفيلة بتفسير حالتي وأنا أتحدث عن أمر لا أزعم معرفتي به بالمعنى التقني الذي يتوقعه في السؤال.
لا أعرف اذا كان ثمة قصيدة يمكن الزعم بأنها وصلت الى هيئة الكمال. غير أن مقدار الصدق والموهبة والمعرفة لدى الشاعر من شأنه ان يرشح النص لأن يبدو زعمه مفهوما بوصفه شعرا. ونحن نتحدث هنا عن النص الشعري المتوافر على العناصر الفنية والروحية التي تجعل من النص شعرا. فالشعر لابد أن يكون جميل اللغة, جديد الرؤية, غريبا عن النصوص الأخرى. أمام الشاعر ان يكتشف عناصر كتابته من خلائط غاية في الغموض, يكتشفها مثل عامل المنجم في الكهوف السحيقة من النفس والحياة في آن, دون ان يقوى على إدراك (لحظتها) ما اذا كانت كل تلك العناصر مندثرة أو حاضرة أو مواد خام تنشأ لحظة أن يضع الشاعر يده عليها. وبالنسبة لي كل ما يتصل بالنص هو عالم واقعي أقدر على لمسه باليد, ربما يكون خياليا قياسا للآخرين, الذين ليسوا أنا, ليسوا التجربة التي تخترقني مثل الحياة. وإلا كيف يمكنني القول عن قصيدتي انها مفصولة عن الواقع أو انها تقصي الواقع وتنفيه. أظن أن ثمة لغة اصبح يجري الكلام بها عن التجربة الشعرية من شأنها أن تسهم في تعقيد العلاقة في اتجاهين: علاقة الشاعر بالتجربة والنص, وعلاقة القارئ بالنص الشعري. لابد لنا من إعادة النظر في طرائق نظرنا وتداولنا للحديث عن الشعر والتجربة الشعرية.
أيضا لا أفهم فكرة الإلهام بالمعنى الغيبي الذي وردنا من التراث الانساني القديم. الإلهام هو عملية حياتية خالصة تساعد على انجازها مكونات متداخلة لا تخلو من الصدفة, لكنها ليست من غير قوانين ذاتية وموضوعية تتوقف دائما على طبيعة هذا الشعر أو ذاك ولا تتكرر بالشكل نفسه عند الجميع. ليس الالهام سوى ذلك الإحساس الجميل بأن ثمة ما يمنح الحياة دلالة تتجاوز النص والشاعر. فبالاضافة الى الموهبة والمعرفة, يبقى على الشاعر أن يتبع قلبه لكي يعرف الطريق إلى الكتابة.
عناية جابر :
ثمة لابد صلة جوهرية بين مصادر الكتابة الإبداعية وأشكال منابعها, وبين العملية الفنية وموروثاتها, غير أن آليات وجودها ليست حكرا على الموروث الغابر, أو المعطى الراهن, او الاستشراف الحدسي الابداعي الفني, هناك أيضا الاستيعاب الكامل للأزمنة, وهناك خاصية الشاعر التي تهضم أزمنتها, بذكائها وفتنتها الشخصيتين, ومن خليط الأزمنة هذه وثقافاتها, يجب أن تولد القصيدة, كما من حساسية ابداعية تدفع العمل, فينهض ويلفت ويؤشر الى صاحبه, أي يسكنه جنانه ويطبعه بطابعه, فيقال هذه القصيدة لفلان, وتلك لسواه, والإشارة دلالة نجاح وتمكن وتفرد, ولازمة لسحر الشاعر الشخصي وقصيدته.
* أنا بالنهاية سيدة القصيدة, سواء منحتها ؛كمالها« بالمعنى التقني والجمالي, أو منحتها تلك الهنات الضرورية التي ترى في جمال التسكع في القصيدة, وجمال عدم إكتمالها, وفتنة أن ندعها »تعرج« على هواها, مع إحكام القبضة على القفلة الجيدة والاخراج الجيد. كمال المشهد والكلمة وبلاغتهما ليسا ضروريين بعد. إنها »أناك« بكل عثراتها, مع كثير الرقة وكثير الغضب إذا شئت, وتلك الفتنة الداخلية عندك, كما الإطلالة على العالم الواسع عبر لغة أو لغتين اضافيتين, تمنح اللعبة اللغوية هذه, فهمها الإنساني العالمي, وشيوع بريقها في أبعد من الرقعة المحلية, ان هما بهذا التحدي الجمالي, يستوجب تجاوز الذات المغرقة في موروثاتها الى الأبعد, في غربلة نبيلة ترى الى امانة الجذور, وإغراء العالم الواسع.
* لعله عدم ترميم الشرخ, بل توسيعه أحيانا الى حد الصدع الذي لا عودة عنه, القصيدة في ندائها الراهن, لا تستلزم بالضرورة مصالحة ما بين الشاعر وعالمه, تلك ليست مهمتها ولا واجبها, كما ليس إقصاء الواقع واستبداله بالمتخيل شرطا لاستواء القصيدة على جاذبيتها, ثمة قصائد تقريرية بالكامل ولا تقول أكثر مما يجب أن يقال في واقع الشاعر ويومياته التي قد تكون ممضة. مع ذلك تأتي القصائد هذه بالغة الرهافة وساحرة, من اللعب الخفي للشاعر, المدعم بالخبرة والقراءة والثقافة والروح, المنسحبين على بنية القصيدة, حتى لتبدو ؛فاصلة« هنا, و»علامة جر« هناك, كافيتين مع ذكاء الشاعر, لمنح قصيدته الواقعية هذه فتنتها الآسرة.
هناك بالنهاية, وبعيدا عن التوثيق الشعري لكتابة القصيدة, الشاعر- الحاوي, الذي يحسن »البلف«, كما ويجرؤ على الاعتراف بشهامة, بأن الامر برمته, لا يعدو أن يكون لعبة خفة, الرابح فيها هو الأكثر مهارة وسرعة وذكاء.. القصيدة تحتاج الى ذكاء عال على عكس ما يعتقد العامة بأنها ترف الكتابة وأكثر أشكالها كسلا, وخاصة القصيدة الحديثة.
* أقول بالالهام لازما إضافيا لخوض الشعر, مترادفا طبعا مع عوالم الشاعر الخاصة, بما هي ألوان وأصوات ورؤى وحقائق, تتراص جميعها في لحظة »الولادة« الإبداعية, مع استفزاز ما, متأت من مكان ما, قراءة ما, حركة ما, غيرة ايجابية محرضة, تدفع الى غربلة حواسك ومداركك بالكامل, في سبيل سطور قليلة, قد تضيء يا أكرم, او لا تفعل, ملامح الوجود التي ترى انت في عتمتها, ولعلني أنا أرى من الطرف الآخر اشراقا باهرا قد يعمي من قوته.
هاشم شفيق :
* كما القصيدة يرجع في المآل الى شاعرية الشاعر. فالشاعر هو الذي يعطي الجوهر الفني للقصيدة, لانه هو صانعها وخالق كمالها. هناك درجات للكمال أو لشكل القصيدة, وذلك يعتمد على مدى موهبة الشاعر وطاقته وخبرته وتجربته في الحياة والكتابة. تنضاف الى ذلك ثقافته ومعرفته ومسافة اطلاعه ورؤيته للحياة والكون, رؤيته لعصره ومحيطه وقابلية هذه الرؤية على النفاذ والغور في المحيط والازمان والمجاهل والاعماق البشرية.
* القصيدة كما أظن هي نتاج عوامل عدة, لا يمكن إحصاؤها ولا يستطيع حتى الشاعر نفسه إدراك ماهيتها, لكنها من زاوية أخرى, نستطيع ان نشير الى مفاتيح, أو مداخل قد لا تكون هي التي تشكل عالم القصيدة في النهاية.
فعلى صعيد تجربتي الشعرية مثلا, يمكنني الزعم ان قصيدتي هي وليدة احاسيس وهواجس آنية, وليدة الشرارة اليومية ولهب لحظتها, لكن تخالط هذه اللحظة الآنية تواريخ وأزمنة وأساطير غابرة, ثمة ماض ذو انساق ينبض فيها, متماهيا في زمن معاصر, وأوقات حديثة, ولهذا تأتي قصيدتي في الغالب محملة بصور ومشاهدات وأفكار من شتى التواريخ والازمنة. ولها عدة مصادر ومنابع فنية وجمالية تصوغها بالتأكيد. ودائما التجربة, وهنا أشدد على التجربة.. لان الشعر الذي يكتب من دون تجارب, في اعتقادي لا يصمد طويلا, وعليه ان تكون التجربة جارفة وخلاقة كيما نحصل في النهاية على فكرة أو جملة شعرية, او صورة تعبيرية جديرة بالبقاء.
* هنا لا يمكن فصل الالهام عن جوهر العملية الشعرية.. ان لم نقل هو جوهر العملية الشعرية, هو اللباب والأساس والمحرك للحظة الابداعية, لانه في رأيي ينسحب إلى عملية الخلق, وكل عملية خلق هنا, كما أرى, هي وليدة الهام موحى به, ولكن عبر خبرة ومعرفة وتراكم رؤى وتصاوير خيال, ولذا فكل فن هو نوع من الإلهام والإستيحاء من آفاق وعوالم مجهولة.
باسم المرعبي :
– لا تظهر القصيدة للوجود إلا بعد اتلافها لعشرات الكلمات والكثير من الأفكار, انها بمزيد من القتل للكلمات تنضج وتتبلور صيغتها النهائية- وان كان ما من نهاية لقصيدة, طالما شاعرها موسوس بهاجس الكمال المستحيل- إذن تحيا القصيدة وتتفرد لغة وأفقا كلما أوغلت في دماء ضحاياها من الكلمات والأفكار, والشاعر هنا, هو قاتل ومعذب كلمات لا يرف له جفن, وهو يرى الى دماء رعاياه من الحروف تضرج أصابعه. بمزيد من القسوة يمضي ليخط مجده ومجد الكلمة, في الوقت ذاته.
– وقتل الكلمات او اتلافها, لا يعني هنا, تلك الكلمات التي استعملتها او استهلكتها القصيدة والتي غدت من خلالها صورة ممكنة أمام عيني القارئ, بل أعني بها تلك الكلمات التي لم تظهر, ولا يمكن لها ان تظهر: هذه الكلمات- الملغاة- والتي صبغت دماؤها اصابع الشاعر, هي التي تصنع القصيدة, حقيقة, إذ لولاها لما انبثقت الكلمات الأخرى المنافسة, الموازية, الكلمات التي يراها الشاعر في النهاية هي من يمكن أن تحقق له قصيدته التي يريد.
لكن من يدل حس الشاعر وعقله الى هذه الكلمات, الصور او الافكار التي هي روح قصيدته وجسدها, حتما ان ما يقف وراء ذلك هو تاريخ بأكمله صنعه عشرات, بل مئات الشعراء والكتاب والفنانين الأفداذ. ولكن قبل ذلك تقف موهبة الشاعر ووعيه وتاريخه الشخصي ورؤيته, فهذه العناصر هي التي توظف الثقافة, لا العكس, وتحدد تعامل الشاعر مع تراثه, قريبا كان, أم بعيدا, وصولا الى صنع قصيدته المميزة التي ستكون بدورها, هي أيضا, منبعا ومصدرا من بين مصادر أخرى, لتجارب قادمة.
– الشاعر جريح بالعالم, وجرحه لا يمكن له ان يندمل, بعيني طفل ينظر الى الاشياء, لذا هو سريع الانكسار, الانكسار بمعنى عدم استيعاب وحتى امكانية تصديق كل هذه الشرور والفظاعات التي ترتكب على الأرض, من هنا يعمد الشاعر الى تسييج نفسه بالكلمات, ينشئ عالمه في الكلمات ومن خلالها, فالنص, بالأخير, هو يوتوبياه, حتى لو لم يكن يسعى الى هندسة هذه اليوتوبيا, ابداعيا, بالمعنى المتعارف عليه, فهو هنا يكتسح كل علامات الواقع المحسوس, لأجل واقع متخيل, موظفا في ذلك معرفته وتجاربه, واقعا وحلما, ومعززا ذلك بومضات الجنون الضروري لاقامة عالمه المحلوم.
– هنا أجد , تعبيرك صائبا وموفقا حين اسميت عدم توافق الشاعر مع العالم ب– الجرح- , إذ ان قوانين الشاعر, ولاسميها هنا, قوانين الحلم, هي مصطدمة لا محالة, مع قوانين هذا العالم, القائمة على أساس مصالح آنية مسدودة الأفق, مضحية بكل ما هو انساني لصالح مجد زائف, مدعى, مجبول بطين ودم الانسان ذاته, بهذا المعنى, ولأجل ان تكون العلاقة متكافئة بين الشاعر والعالم, فانه يقدم حلمه, أو يتقدم به, لكن في كلا الأحوال, وكما رأينا ونرى, لا يسع الشعراء إلا ان يتساقطوا صرعى أحلامهم على عتبات عالم صلد, لا يأبه كثيرا او قليلا بهذه الأحلام, غريبة كانت, أم مألوفة.
– كأن الشاعر بحد ذاته, هو ثمرة حلم, فكل ما يتصل به مغموس بالغموض ومتسربل بالحجاب, وهو ليس فيه شيء من الواقع إلا الألم.
– ففكرة الالهام, هي مفردة واحدة من مفردات عديدة تتصل بالسحر والنبوءة, وحتى الجنون, تشكل في الأخير عالم الشاعر.
– ولا أظن ان ؛ابن س هيد الأندلسي« كان يمزح حين ألف رسالته المسماة ؛التوابع والزوابع« وسمى فيها الشعراء وتوابعهم من الجن. ان هذا يشير في أسوأ الاحوال الى الفكرة الغامضة عن الشاعر ومصادره.
– وفي رأيي, ان كل قصيدة جيدة هي ثمرة إلهام, بغض النظر عن تحديد آلية هذا الالهام أو تعريفه.
منذر مصري :
– كنت أدعي دائما بأن الشعر بالنسبة لي أسلوب حياة, طريقة عيش.
– (اعمل لآكل وأشرب. أكتب الشعر لأحيا)
ألم يقل مصطفى ان الشعر ولوج من أحد أشد أبواب الحياة فتنة. وكعادته يزوغ, وكعادتي أحملق في كلماته وأجد فيها نقصا. أتراه يقصد أن الشعر باب فاتن للحياة? ولكن ماذا يعني باب فاتن لحياة ربما خاوية? ألا يحتاج هذا مني لاضافة, لتصحيح? كأن أقول: الشعر باب لحياة فاتنة! ولكن أليس هذا الوجه الثاني للكلام, لا أكثر. لماذا أثبت الباب والبيت, الشعر والحياة? لماذا لا أحاول فهمه على نحو متحرك? لماذا أنسى التأثير المتبادل بينهما, ألست أنا من يصدق أن الشعر حقا يستطيع ان يجعل الحياة فاتنة, وبدورها هي أيضا تجعله فاتنا. لكن كل هذا يشترط ذلك اللقاء بين الشعر والحياة, الشعر الذي أتحدث عنه هو الشعر الذي- باستخدام تعابير سؤالك- تصدره وتنبعه الحياة ذاتها, الشعر الذي يقطن مع الحياة في غرفة واحدة, ولنا أن نتصور ما يمكن ان يجري!
أظن أن هناك ما يقرب أشخاص عشرة يذكرون مطلع قصيدتي (الدرس) عن مصطفى عنتابلي في ديواني (بشر وتواريخ وأمكنة) منهم لا ريب عادل محمود, لأنه حين قرأها منذ عشرين عاما قال لي: حسنا ماذا يمكن ان تكتب بعدها!
(ما يجعل الذاكرة من لحم ودم
هو أنت
تقضم أوراق الكينا المرة
وتدور بها على أنوفنا
»أيام بنفس المذاق ستأتي
تذكروا هذا«
وليس بنفس الرائحة
كان عليك أن تزيد)
على هذا النحو أكتب. كلام كهذا وغيره كتبته في نهاية السبعينات, كان وما زال رغم كل ما تبدل وجد في كتابتي يشكل جوهر تجربتي وكل ما أريد أن افعله في شعري. من هنا تأتي قصائدي والى هناك تذهب. إن شعري أولا عن حياتي, حياتنا- واسمحوا لي ألا أكرر التحويل الى صيغة الجمع سوى هذه المرة- إنه ما يحدث لي, ما يعتريني, إنه الشاهد الأول على أنني حي, انه لا أقل ولا أكثر من شهادة حياة, وهذه الشهادة ليست فكرة فلسفية ما, كأن أقول انا حي اذن أنا أكتب الشعر, أو عكسها, أنا اكتب الشعر اذن أنا حي. بل شهادة حسية ما أمكن لها أن تكون, شهادة الأذن والعين والشفتين والجلد والقلب أيضا. إنها تبدأ بما يجعل الذاكرة لحما ودما, وهو أنت, الآخر, المخاطب. ثم تأتي صورة تصف حدثا وحسا, هو قضم أوراق الكينا المرة, ثم الدوران بها على انف كل منا, لينتقل الكلام من الحسي والحدثي الى الحدس, الى شيء أشبه بإطلاق نبوءة (أيام بنفس المذاق ستأتي) أيام مرة يقصد, كما يحلو للأنبياء عادة أن ينذرونا, ولكن كانت مهمتي أنا أن أحملق مرة ثانية في المشهد, فيما اسمعه وأراه, وعلى ذات النحو الحسي أتنبه ان لأوراق الكينا المقضومة رائحة عميقة حلوة, فأجد بأنه لابد لي أن أصحح (وليس بنفس الرائحة) كان علي أن أزيد.
يخلط كثيرون بين الدقة والوضوح في شعري, يوما لم أحرص في شعري على الوضوح, ولكن دقيقا ما أمكنني جهدت أن أكون, أحسب الدقة أشبه بإصابة النقطة الحمراء من الدريئة, وخلاف ذلك يجعل السهم يصيب شيئا آخر, أو لا يصيب شيئا على الاطلاق.
– إذا قلت لكل شاعر أدواته, بها يشتغل على قصيدته, لتتخذ في النهاية هذه الهيئة وذلك الكمال, الذي لا يتيحه ربما إلا الفن, فأنه يجب ألا أنسى, أن هناك شعراء كثيرين يكتبون بأدوات شعراء آخرين, سابقين أو مجايلين, ومنهم من لا يكتفي بأداة أو أداتين, وأظن هذا مما لا يؤخذ عليه أبدا, بل ربما تكون كل أدواته مستوليا عليها, وأظن هذا ما يحدث غالبا, إلا أن الأدوات ليست كل شيء بالتأكيد, لأنه ليس يجمع أدوات فن ما, ولا حتى بعد تعلم استخدامها, يستطيع أي انسان أن يصير فنانا, أقصد مبدعا. لأن, المحصلة, نتيجة العمل, بهيئته الأخيرة تتحكم به خبرة, ذائقة, إحساس صانعه, لأنه في النهاية يعجبني عملي أو لا يعجبني, أعتبره عملا جيدا, جديدا, يضيف شيئا على تجربتي, أم لا, وذلك بتحكيم احساسي الخاص, الشخصي, الذي أزيد وأقول بأنه هو بالذات ما كان يقودني في كل مراحل عملي, من بدايته الى نهايته, هذا الاحساس الأعمى في الاتجاه الذي يتطلب مني أن أفتح عيني وأذني وعقلي وقلبي وكل مساماتي, وكأنني أشق طريقي في ظلام حالك.
3 – أحسب أنه بعد كلامي ذاك, سأكون متناقضا لو وافقت بأن الكتابة تسعى الى استبدال الواقع الموضوعي أو إقصائه وخلق طقوس و.., ولكن أجد بي ميلا خفيا لقبوله, على شرط أن أنزع عنه كليته أولا, أي باعتباره احدى آليات الكتابة الشعرية الكثيرة والمتنوعة, ومن ثم تدارك العواقب الأخرى التي تقبع ربما خلف عملية الاستبدال هذه على صعيد الواقع الفعلي للبشر, أقول أني أقبله لأنه في سطريه الاخيرين يشير الى ترميم الشرخ, الجرح المكاني والزمني في علاقة الشاعر, وغير الشاعر أزيد, مع عالمه. ذلك لأني أؤمن بأن الشعر يجب عليه, كأي نشاط إنساني آخر, أن يكون أحد دروب البشر الى الشفاء, ولأني أيضا كثيرا ما ادعيت بأني أكتب الشعر لأساعد, لأساعد على الشفاء, لأساعد على حل ذلك النوع من المشاكل التي يمكن للشعر أن يمد يد المساعدة للبشر, أكتبه كعزاء لي, وللآخرين, كنظرة مواسية, مشجعة, كوضع يد على الكتف.
4 – أصدق بالإلهام, رغم واقعيتي, ورغم اعجابي بأفكار بول فاليري العملية حوله, ولكن بسبب واقعيتي هذه أفهم الإلهام واقعيا, فأنا أكتب وأرسم منطلقا من فكرة, شكل, تصور لقصيدة, للوحة, أشعر بأني أستطيع الشروع بالعمل فيها, وربما اشعر بأني استطيع انجازها, ولولا أدري تماما كيف. وهكذا فأنني لا أجد الإلهام, حتى وإن قلت جوهرا, معزولا عن عالمي, إنه جزء من آليات عملي, أعترف بذلك. ولكن الشعراء أنواع, وربما الشاعر ذاته تتنوع وتختلف تجاربه, لأني مرات كتبت قصائد, بدون أفكار مسبقة, بدون تصور أولي, عن لوحات او مقطوعات موسيقية او حتى روايات, وأحيانا كثيرة أكتب قصائد من أي شيء اقرأه, كلمات وربما سطور تعجبني فأستلها من سياقها واستخدمها, وربما بتحوير كلي او جزئي أو كما هي. محمد دريوس مرة قال لي, بل قال لي مرارا: (لا استطيع أن أكتب إلا وأنا أقرأ, الكتب هي كل ما يحدث لي) وبغض النظر عن حقيقة ذلك أو عدم حقيقته, لأني اعرف أن محمد دريوس- كما تلفظ كنيته أختي مرام- يحدث له ما يحدث لكل منا وأكثر, ولكن السؤال هو: ألا يتطلب هذا أيضا إلهاما, لأني عندما كتبت قصيدة عن لوحة ليلية لادوارد مونش شاهدت صورة صغيرة عنها معلقة على حائط ممر مشفى طلابي في وارسو اول شتاء عام 1978, ألم أحتج الى إلهام يجعلني أرى فيها شيئا يستحق أن يكتب عنها, شيئا ما تظهره ولا تظهره, تقوله ولا تقوله, شيئا كان على عيني أن ترسل نورا يضيء ملامحها الأكثر انغلاقا وعتمة:
(كيف لإصبع أن يمر هنا
على حد لا يرى
بين الأشجار وظلالها
حيث تعبر الآن امرأة
تحمل جردل من الضوء
إلى جزيرة من العتمة
تبدو وهي تنظر إلى وجهها
على صفحة البحيرة
كشفتين مطبقتين
لفم أسود).
خضر الآغا :
– عندما يبدع الشاعر لغة لأجل أن يقول شيئا لا يمكن قوله إلا بهذه الطريقة, وعندما لا يمكن استبدال هذه اللغة بأي شيء آخر, يعمق خسارات هذه اللغة, وبذلك يكون قد اقصى كل تساؤل حول مصدر الكتابة الابداعية وحول علاقتها, قربا أو بعدا, بالموروث. بمعنى آخر: يكون قد صار حرا ونظيفا, غير مصنع إلا لنداءات جسده/ لغته. إنه, في هذه البرهة الفريدة, يكون قد رش آخر نقطة من العطر على قصيدته, ليمضي هو بكامل هشاشته, عائدا إلى جسده, وتمضي هي بكامل بهائها, لمواصلة تأسيس العالم من جهته الزائلة.
إن سؤال القطيعة يهم المؤرخ لا الشاعر. أظن ان حبل امرئ القيس السري لم يزل شديد الارتباط بالشاعر الذي يولد الآن- في هذه اللحظة, حتى وإن قرر هذا الأخير قطعه, مادامت اللغة هي هذا التشكل الخفي الذي يشكلنا ويكتب سيرتنا جميعا.
– إذا استطعت أن أقول ان الكتابة هي اثر المندثر أو الزائل, لا نتاجه بالمعنى الآلي, فأستطيع أن اؤكده أيضا, فالكتابة- الشعرية على وجه الخصوص- هي شكل الأثر الذي زال, بوصفها: حدوثا, أي انها عندما تكتب الشيء فانها تجعله يحدث ليدخل, بنائيا, في العالم الرمزي/ اليوتوبيا التي يؤسسها الشاعر, لا ليرمم الشرخ في علاقته مع العالم, بل ليعمقه أكثر.
كذلك, أستطيع أن أؤكد أن الكتابة, وحدها, تفعل ذلك, فالانسان الأول (آدم…) عندما نقل تعاليم ووصايا الله الى العالم الواقعي, فإنه لم يعهد بهذه التعاليم والوصايا إلى ذاكرة البشر بل إلى ألواح مكتوبة. فالذاكرة من جهة المصلحة, أما الكتابة فمن جهة الوجود برمته.
– الالهام: هو الاسم المستعار, والذكي, لهذه الآلية الغامضة التي تجعل الشاعر يمضي الى ورقته كمن يمضي الى حتفه, وهي, بصفتها هذه, ليست جوهرا معزولا عن عالم الشاعر (هي ليست جوهرا أصلا, بل المحرك باتجاهه) بل أحشائية, تظهر مع ظهور الجسد وتضمحل باضمحلاله, ان موهبة وثقافة ومشروع الشاعر هي محددات هذه الفكرة التي تكون قوية وفاعلة بمقدار ما تكون محدداتها تلك, قوية وواضحة.
الحقيقة, انه لا يوجد ما يسمى: خارج الشاعر, سوى العالم الموضوعي, وهذا يتحول أثناء العملية الابداعية الى ذات, هي ذات الشاعر التي لا معنى لها, هي الأخرى, خارج يوتوبياه المتخيلة.
رفعت سلام :
) لا يمكن حصر مصادر الكتابة الإبداعية; هل هي الخبرات الحياتية, الماضية والراهنة, وما يتعلق بها من ذكريات وأحلام وأوهام وإحباطات وثقافات متفاوتة متضاربة أحيانا, أم ماذا?
والمؤكد أن الموروث الإبداعي يلعب دورا حاسما في تحديد التوجه الإبداعي. ولكن.. أي موروث? إنه موروث التمرد الإبداعي, والخروج على السائد المهيمن, سواء في ثقافتنا العربية أو ثقافتنا السابقة على العربية (الفرعونية, مثلا), أو غير العربية عامة (ماياكوفسكي, رامبو, بودلير, بوشكين, ريتسوس, كفافي, نيرودا). فالذاكرة الابداعية انتقائية, لا تلتقي- أو لا تأتي- إلا بما يتوافق مع التوجه الإبداعي الراهن, حتى لو كان موغلا في القدم إلى حد النسيان على مستوى الوعي.
ولابد أن موقف المرء من راهنه الشعري, بالتوافق أو التعارض معه, وتصوراته عن دوره الابداعي, تمثل حافزا قويا في صياغة توجهه المتمايز وسط محيطه الإبداعي, ولجوئه إلى هذه الناحية أو تلك من منابع الشعر والرؤى.
لكن المؤكد أن الوعي- الذي يلعب دورا أساسيا في جميع العمليات الثقافية السابقة على الكتابة, كموجه أساسي- يتقلص دوره, لحظة الكتابة, لحساب اللاوعي وقوانين الذاكرة والحلم والتداعي الحر. إنها اللحظة الابداعية الفريدة التي يتخلق فيها نص جديد بلا محاكاة أو قالب سابق.
* من الذي يجعل القصيدة الشعرية, في النهاية, بهذه الهيئة والكمال?
كأنه إعادة صياغة للسؤال المستحيل عن »ماهية الشعر« أو »حد الشعر«. لعلها »الطاقة الشعرية« التي تختصر ما يسمى »الموهبة« والثقافة والجموح والوعي والطموح الإبداعي معا, أو هي خليط غامض منها جميعا, يتخطاها كلا على حدة, لا يمكن الإمساك به, أو تحديده, وإن أمكن معاينة آثاره المتجسدة في شكل »القصيدة«.
لكن هذه القصيدة التي تمتلك »هذه الهيئة والكمال« ستظل هي حلم الشعراء أجمعين, ولن يصدق أحد- عاقل, بالطبع- أنه قد توصل إليها فعلا. سيحاولها, ويدفع عمره من أجلها; لكنه لن يصدق أبدا أنه قد بلغها. إنها »ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر«. ولعل ذلك بالتحديد هو ما يحفز الشاعر إلى مواصلة البحث والسعي الى تجاوز ما سبق أن كتبه, وكتبه الآخرون.
الكتابة هي نتاج هذه المستويات وغيرها, تسعى إلى خلق واقع موضوعي آخر (القصيدة) يوازي ويتقاطع ويشتبك مع الواقع المادي, وينقده ويثور عليه. هي عالم يتجاوز العالم, أو هي حلم العالم ونقيضه الإنساني الذي يتحقق فيه الإنسان العاجز عن التحقق في العالم الموضوعي. عالم من أحلام تتحقق بالقوة- لا بالفعل- واحباطات وأفراح وجراح وهزائم وتطلعات, تتجسد في صور وأصوات وخطوط وأزمنة وتواريخ وأساطير ورموز وخزعبلات ومعارف لا تأتي من مصدر محدد يقيني, وتخلق مفارقة شعورية لا واعية في مواجهة الواقع الأرضي.
مثل هذه الكتابة- إن نجحت في ترميم الشرخ أو الجرح- لا تفعل ذلك سوى مؤقتا, بصورة عابرة, خلال الكتابة. وسرعان ما يعود الشرخ- أو الجرح- مرة أخرى إلى قسوته السابقة وحضوره الفادح. فالكتابة.. عزاء العالم وسلوانه. هي صرخة العالم في وجه القبح والألم والظلم والقسوة, احتجاجه على إهدار الإنسان في مملكته الأرضية واستباحته. إنها الحارس اليقظ على روح العالم.
لا أدري إن كانت فكرة »الإلهام« الرومانتيكية ماتزال صالحة للتفسير. لكن حوافز القصيدة وموجهاتها ليست معزولة عن عالم الشاعر, بل مستمدة منه, رغم غموضها واستعصائها على التحديد. وفي شكلها المجرد الأقصى, قد تبدو القصيدة صيغا وحركات »تشكل تراثا من الأصوات والرؤى والضفاف المتقابلة والمتضادة«, لكنها في جوهرها مواجهة مضيئة لظلمة العالم وصلفه, أقصد أن القصيدة يمكن أن تمثل عنفا مضادا جارحا لعنف العالم, لا رد فعل رخو إزاءه, يمكن أن تكون فضيحة له وكشفا ساما لجرائمه الدفينة السرية. إنها- بذلك- طاقة عنف وهدم وتخريب إيجابية, بلا تواطؤ أو مهادنة. ولا يتخذ هذا الدور شكلا معينا, فيما لا يرتهن بصيغة محددة واحدة.
إعداد :أكرم قطريب شاعر سوري مقيم في الولايات المتحدة