يتساءل ستروس في مستهل تحليله لـ " بنية الأساطير" بما فيها أسطورة "أوديب " ومجموع أساطير أمريكا الشمالية الهندية عن السر الذي يجعلنا نتأرجح بين السطحية والسفسطائية كلما حاولنا أن نفهم ما هي الأسطورة. لكنه وبعد عقد ونيف من الزمان وأكثر قليلا راح يعزي هذا التأرجح الى الثقافة بصورة أدق والى العاهة الملازمة أصلا لمعرفتنا والتي تحول بيننا وبين معرفة الأسطورة وتفرض علينا حالة التأرجح بين السطحية والسفسطائية (1).
حالة التأرجح هذه تطال مسيرة الثقافة الأوروبية / الغربية في موقفها من الأسطورة فما أدراك بحالتنا هنا على الضفة المقابلة ؟ حالة ثقافة عربية محكومة بالانقطاع لا التواصل، بالغياب المطلق عن أبحاث في هذا المجال وغيره لا الحضور، وباستثناء الجهود الريادية العراقية في هذا المجال، الجهود التي بذلها طه باقر وزملاؤه في مديرية الآثار العراقية والتي كان للمفكر العربي القومي "ساطع الحصري" شرف توجيهها عندما كان يعمل مديرا لها وساهم في صياغة قوانين جديدة لحفظها وحمايتها من السرقة. ما يعزز هذا الغياب في مجال الأركيولوجيا والأسطورة هو حالة ثقافة عربية اسلامية تنظر الى الأسطورة باعتبارها خرافات وأساطير الأولين التي جبها الاسلام منذ البدء. كذلك غياب الابحاث الآركيولوجية عن معظم البلاد العربية باستثناء العراق، خاصة وأن الأساطير هي من نتاج هذه الحفريات، فقد اكتشفت الرقم الطينية مع بداية هذه
الحفريات وتم فك رموزها لاحقا، أضف الى ذلك أن الثقافة العربية الاسلامية في جناحها الاستشراقي وأقصد تلك التي تكونت في ظلال الاستشراق أو بمحاجاته هي ثقافة في حكم الغائبة عن الانجازات الحديثة في مجال العلوم الانسانية فقد سبق لمحمد أركون أن بين حالة الفوات التي تعيشها الدراسات الاسلاماتية -الاستشراقية في الغرب وتخلفها في هذا المجال (مجال الألسنيات والاسطوريات) (2).
عبر هذا السياق كانت الجهود العراقية في مجال الأركيولوجيا والدراسات الأسطورية وتحقيق النصوص ومقارنتها بأصولها اللغوية (في سومرية وأكادية وبابلية) تظهر كشمس ساطعة في مشرق الأرض العربية ولسوف تحجبها عاجلا الغيوم الكثيفة للسياسات العربية، وستفرز القطيعة السياسية في القطيعة الثقافية وستبرز القطرية الثقافية لاحقا فرحة بمنجزاتها وضيق أفقها المعرفي والأيديولوجي، لا بل إن إرادة المعرفة التي حكمت الجهود الأولى التي بذلها طه باقر وزملاؤه في معرفة الأسطورة، سرعان ما تضيع هدرا ولا يلتفت اليها أحد وذلك أمام إرادة الأيديولوجيا التي قسرت كل معرفة بالأسطورة وحيرتها لصالح الأيديولوجيا المتخشبة.
في هذا السياق جاء كتاب سواح والموسوم بـ "مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة سورية وبلاد الرافدين " معلنا عن نفسه بأنه أول كتاب يعالج الأسطورة بهذه الإحاطة وليس هذا فحسب بل عبر منهج جديد يظن سواح أنه الأول من نوعه أيضا ويقوم هنا المنهج على جمع الأساطير في مجموعات وفق موضوعاتها لا وفق تسلسل زمني أو توزع جغرافي وذلك بغية تفسيرها. يقول سواح "هو منهج جديد في دراسة أساطير المنطقة على ما وصل اليه علمنا" (3).
كانت القطرية الضيقة بمثابة غطاء يستر هفوات سواح الكثيرة والتي سنتعرض لها، ويزكي مزاعمه التي تدعي بأنه الأول في هذا المجال، أضف الى ذلك الغياب الكامل لابحاث جادة أو مترجمة في هذا المجال.
في سورية قوبل الكتاب بترحاب بالغ، وكانت له ضجة في الوسط الآيديولوجي العلني منه أو ذلك المضمر بمار كسوية مبتذلة وعلى حد تعبير سمير أمين، وفي الأوساط الاثنية بكل دلالاتها السوسيولوجية. وفي الأوساط الثقافية فقد احتفلت "المعرفة السورية " على طريقتها واحتفت بصدور الكتاب وكان مناسبة لاصدار عدد خاص عن الأسطورة ومقارباتها المنهجية (4).
فقد اعتبر الكتاب نقدا للفكر الديني يكمل بشكل أو بآخر جهود صادق جلال العظم في نقد الفكر الديني الجهود التي نالت اعجاب المفكر العربي عبدالله القروي صحيح أن جهود صادق جلال العظم طالت ميثولوجيات دينية بكل حضورها الديني ممثلة بالثقافتين المسيحية والاسلامية الا أن جهود فراس السواح ذهبت الى الجذور البعيدة الى أساطير الأولين (أساطير سومر وأكاد وبابل وآشور) في إطار محاولة تهدف بصورة غير مباشرة لنقد أكثر جذرية، بصورة أدق للكيفية التي تشكل بها وتبلور وتفضي الى النسق الديني أي كيف ظهر الدين (جهود طيب تيزيتي في كتابيه الموسومين بـ "الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى" و "من يهوه الى الله " في جزءيه (5). وقد استندت هذه الجهود الى فتوحات سواح في مجال الأسطورة بعد مضي عقد كامل على صدر. الكتاب، أكد سواح على أنه لم يكن يريد لكتابه ان يكون بمثابة – مقدمه – لنقد الفكر الديني (6)، خاصة، واذن سواح بقي لفترة طويلة يعاني من حالة التأرجح بين الدين والأسطورة فلم تتضح لديه أبدا حدود العلاقة بين الأسطورة والدين، بين الأسطورة والتاريخ، بين الأسطورة كمغامرة أولية وبين القداسة التي تهبها الأسطورة هالة ميثولوجية ترفعها الى مستوى التدين المحض.
قبل أن نقف عند رؤية سواح للأسطورة أود أن أقف عند البواعث العديدة التي حدت به الى دراسة الأسطورة والى وقوعه في براثنها دون أن يتمكن لا من الافلات منها ولا من رؤيتها على حقيقتها فالدارس لسواح يلحظ مباشرة أن سواح ينحو باتجاه تفسير الأسطورة لا تحليلها وهذا ما يجعل من عمله الاتنوغرافي عملا بعيدا عن الانجازات الحديثة في مجال تحليل الأساطير (وأشير هنا الى جهود ستروس والتي غابت نهائيا عن أعمال سواح) لكن توسيع حدود المقارنة المستمر في جميع أعماله من شأنه أن يفتح آفاقا جديدة، لكن الحضور الآيديولوجي في رؤيته للأسطورة جعل من الصعب جدا وفرض أن تضيع الافاق الجديدة في الانفاق الأيديولوجية القديمة.
يرى سواح أن السبب الذي قاده الى دراسة الأسطورة هو أن عالم الميثولوجيات يهتم بالبدايات والنهايات، بتفسير نشأة الكون والوجود وهذا ما يجمع عالم الميثولوجيات بالنظريات العلمية الحديثة التي تبحث في نشأة الكون، من هنا تحوله من دراسة النظريات الحديثة في نشأة الكون الى البحث في عالم الميثولوجيا عن سر الوجود (7)، أما البواعث التي حدت به الى دراسة الأسطورة السورية (سورية وبلاد الرافدين) فهي ثلاثة:
أولها: الوحدة الثقافية في هذا الجزء من المنطقة.
ثانيها: اتساع الموضوع وتشعبه.
ثالثها: شخصي ويرجع الى ميل خاص عند المؤلف للبحث في آداب هذه المنطقة (8).
البواعث الثلاثة سوف تمهر نجاتها منهج سواح في دراسة الأسطورة وسوف يختصر الميل الشخص عنده هذه البواعث وستؤول العلاقة لاحقا الى ثلاثة في واحد، أي ثلاثة بواعث في ميل واحد، وسر عان ما يؤول هذا الميل الشخص الى هوى أيديولوجي، وسيركض سواح لاهثا وراء الأسطورة السورية الأم ساعيا الى لملمة شظاياها من جزيرة كريت الى مجامل آسيا الوسطى الى جنوب العراق وكما يظهر ذلك في كتابه الموسوم بـ"لغز عشتار" والذي سنأتي اليه.
أعود للقول أن تأكيد سواح على الوحدة الثقافية للهلال الخصيب دون سواه، سوف يحظى بقيمة استثنائية جديدة وسيقع هذا العمل الريادي كما يدعي مؤلفه وبصورة مباشرة وغير مباشرة في المتن من ثقافة قومية سورية سوف تستشهد به لتأكيد أمالتها وانعزاليتها عن المحيط العربي وستنشأ في الظلال الوقائية لهذا الكتاب أعمال أخرى في دراسة الأسطورة السورية وأشير الى أبحاث وديع بشور عن "الميثولوجيا السورية " و "أساطير سومر وأكاد" وأبحاث جورجي كنعان عن الميثولوجيا التوراتية بهدف اثبات زيفها والتي أختتمها بالبحث في "تاريخ الآلهة " الذي سيؤول في طبعته اللاحقة الى تاريخ يهوه " وبذلك ينسجم هذا العنوان مع مساعيه الحميدة في هذا المجال(9).
على طول الصفحات السابقة كنا قد أغفلنا البحث عن موقع الأسطورة في عمل سواح الكبير. والآن نعود الى التساؤل عن معنى الأسطورة في عمله وكيف تظهر بعد بحثه في تاريخية الثقافة الغربية والتحول الذي طالها في مجال الدراسات الأسطورية، فقد جلب القرن التاسع عشر ثورة فنية وجمالية أعادت الأعتبار للأسطورة التي ازدريت كثيرا، وبالرغم من أن هدف سواح هو دراسة الأسطورة لا التنظير لها. فقه انزلق في مجامل التنظير وبالأخص في كتابه الموسوم بـ "لغز عشتار" إلا أن التعاريف العديدة للأسطورة والتي يسوقها سواح تقول الشيء الكثير الذي غاب عن سواح. ولنتأمل مجموع التعاريف التي يسوقها الباحث:
– الاسطورة قفزة أولى نحو المعرفة، وهي مرحلة لاحقة على السحر بعد أن يئس منه الانسان القديم.
– وهي نظام فكري متكامل، ومجمع الحياة الفكرية والروحية للانسان القديم.
– الأسطورة حكاية، حكاية مقدسة، لكنه سيعود للتأكيد على أن للاسطورة نسيجها المتميز بالرغم من تداخلها مع الخرافة والحكاية.
– الأسطورة مغامرة العقل الأولى.
– الأسطورة نص ادبي، وضع في ابهي حله فنية ممكنه (10).
مجمل التعاريف السابقة تشي بالحضور الآيديولوجي في فهم الأسطورة وتفسيرها. وسيلغي هذا الحضور الأيديولوجي عند الباحث سواح كل إمكانية للتفسير والفهم، وسيحكم على جهوده بأن تكون جهودا أولية في تفسير الأسطورة وأبعد عن كونها عملا مؤسسا أو هكذا أراد له صاحبه.
إن القول بأن الأسطورة مغامرة أولى وقفزة أولى قام بها الانسان البدائي/ القديم هذا القول يشي بحضورين أيديولوجيين. الأول على مستوى القول بوجود انسان بدائي، فهذا القول وان كان يفزر حقل النيا سة (الانتوغرافيا) والإناسة (الانتربولوجيا) فهو لا ينم عن حضور معرفي بل عن غياب هذا الحضور والتأكيد بالمقابل على الحضور الأيديولوجي كما بين ستراوس في بحثه عن مقولة الغبور في النياسة " أضف الى ذلك أن الأسطورة ليست مغامرة أولى، فالأبحاث الحديثة تؤكد أن الأسطورة ملكة ثابتة، وهنا يصح تساؤل ستروس: إذا كان محتوى الأسطورة عرضيا أو اعتباطيا لا يخضع لقواعد المنطق أو لقواعد الكلام) فكيف نفسر تشابه الأساطير من أقصى الأرض الى أقصدها وليس هذا فحسب بل الحضور الكبير. للميثولوجيات الكبرى في هذا الزمان (11).
من طرف آخر فالأسطورة ليست نصا أدبيا وضع في أبهي حلة فنية ممكنة، إنها أكثر من نص، بل وأكثر من نص ملقى (12)، ومن هنا تأكيد ستروس على ان اكثر الاساطير لا يمكن في أسلوب صياغتها ولا في نمط سردها ولا في تراكبيها النحوية وانما يتوقف على التاريخ الذي ترويه (13). ومن هنا نفهم اعتراض بعض الاسلاميين المعاصرين على المساواة بين النص القرآني الكريم والنص الأدبي، لا بل أنهم محقون.. دون أن يدركوا ذلك باعتراضهم حتى على كلمة نص وانها لا تنطبق على القرآن الكريم. نعم إن الأسطورة تنتمي الى الكلام، لكن هذا الكلام له خصائصه ليست الجمالية فحسب، بل ما يسميها محللو الأساطير بالوحدات الأسطورية أو الوحدات الدلالية السمينة التي تميز الأسطورة عن الحكي وعن أنماط اللغة الأخرى بكل حضورها الدلالي والبلاغي. من هنا نستطيع أن نفهم لماذا كانت لغة القرآن الكريم في مستوى أعلى بكثير من اللغة العادية، ولماذا كان القصص القرآني في مستوى أعلى من مستوى الحكي الذي كان يرد على لسان كفار قريش والذين كانوا يأتون به من فارس ويروونه في حضرة الرسول ليضايقوه.
إن الوحدات الأسطورية التي ترتكز عليها بنية الأساطير تجعل من الأسطورة بنية تمارس حضورها على الماضي والحاضر والمستقبل في حين أن الحكي ينتمي تماما الى الزمان المبرم وبهذا أيضا كانت الأسطورة تؤكد استقلاليتها عن الحكي والحكاية. ومن هنا تأكيد ستروس في حواره مع ويمون بيللور على أن الأسطورة لا تدرس باعتبارها نصا بل باعتبارها لسانـا آخــر (14).
ما بين الطبعة الأولى 1976 من كتاب سواح "مغامرة العقل الأولى " وطبعة 1986 التي حملت توثيقا جديدا وترجمة جديدة لبعض النصوص الأسطورية أقول ما بين الطبعتين أود أن أقف عند صورة الغلاف في كل من الطبعتين، خاصة وأنها قضية غير محايدة. فقد حملت الطبعة الأولى على غلافها رسما يمثل دفاعا انسانيا قد فجر جمجمته وطار محلقا بأجنحته في حين أن طبعة 1986 قد تواضعت ورسمت على الغلاف صورة لمنحوتة أثرية تمثل أحد الهة أشور أو بابل وبالأصح أحد أبطالها ونرجح أنه سرجون الأكادي.
على طول المسافة الزمنية التي تفصل بين الطبعتين، أرى أن غلاف الطبعة الأولى ظل وفيا لمصطلح الأسطورة أكثر من غلاف الطبعة الثانية. فغلاف الطبعة الأولى يؤكد أن الأسطورة طائر، لنقل مع ستروس طائرة، فقد شبه ستروس الأسطورة بالطائرة التي تتحرك على مدرج اللغة حتى اللحظة التي يتوصل فيها المعنى الى الاقلاع (15). من هنا أرى ان سواح لم يهتد الى هذا في حين أن الفنان بحسه قد اهتدى اليه. وبالرغم من محاولات سواح للاقلاع إلا أنه ظل مشدودا الى ربقة السلف الآيديولوجي وظلت جهوده تتأرجح بين السطحية والسفسطائية في فهمه للأسطورة وتفسيره لها وظلت طائرته تتدحرج على مدرج الآيديولوجيا.
اللغز الضائع: لغز عشتار
يقول سواح "إن هدفه هو دراسة الأسطورة لا التنظير لها، وتقديم رؤيه على عجاله بلا اطاله " (16).
وفي رأيي أن هذه العجالة هي التي دفعته الى أحضان الأدلوجة فتغلبت بذلك إرادة الأدلوجة على إرادة المعرفة.
أعود للقول بأن طغيان الهم الأيديولوجي في المسيرة الفكرية عند سواح، يظهر على عدة أصعدة وفي مجموعة من المستويات.
أولا: فقد دفعته العجالة والفوز بالسبق الى الانزلاق من مستوى رؤية الأسطورة الى التنظير لها، بصورة أدق الى البحث عن نظرية في انتشار الأسطورة كما سنلحظ في كتابه الموسوم ب "لغز عشتار" نظرية تؤكد على المركزية السورية كونها أصل الحضارات والأصل الذي انبثقت منه الأسطورة المركزية إن جاز التعبير.
ثانيا: سعيه المتواصل الى رسم خطية ايديولوجية للتطور البشري من السحر الى الأسطورة والى الدين والى الفلسفة فالعلم. وكان هذا يتطلب الاعتماد الكلي على أطروحة فر يزر في الغصن الذهبي والى تقليبها على أطروحات لاحقة. وقد لاقت هذه التطورية ترحيبا في الوسط الماركسي آنذاك، وسيحتفي بها بعض الباحثين العرب وأخص منهم طيب تيزيني والذي راح يركض لاهثا للجمع بين الخطية السابقة وخطية التطور على مستوى المادية التاريخية، وكان يعني هذا الوقوع في التبسطية في براثن المادية المبتذلة وعلى حد تعبير سمير أمين.
ثالثا: فقد دفعته العجالة الى اصدار النسخة الأولى من "مغامرة العقل الأولى" وهي تفتقد الى التوثيق الأكاديمي الدقيق والذي عاد الى استدراكه في الطبعة الثانية مشكورا.
رابعا: وقوعه في التناقض، فمع أن المقدمة التي كتبها لطبعة 1976 مستعارة كلية من أفكار "مرسيا إلياد" إلا أنه أغفل ذلك ثم عاد ليشير إشارة هامشية الى ذلك وفي طبعة 1986. هذا من جهة ومن جهة أخرى. فإن تأكيد الباحث على أن الأسطورة حكاية مقدسة أبطالها الآلهة وهو تعريف مستقى من إلياد، يناقض قوله الذي يكرره دائما بأن الفكر القديم ابتدأ ماديا حسيا، وبعيدا عن التجريد" وأن الأسطورة صيفت في قالب حركي مليء بالفعل وانطلاقا من ذهنية بعيدة عن التجريد".
هذا الكلام هو محض أيديولوجي، يخدم الخطاطة التطورية السابقة ويقول بأن الأسطورة بدايات أولية للتفلسف، مع أن تعريف الأسطورة بأنها حكاية مقدسة وأبطالها آلهة وبشر في مرتبة الآلهة يجعلها إن جاز لي التعبير في مستوى العقل المحض فمشكلات العقل المحض وعلى حد تعبير كانط تتمحور حول الآلهة والحرية والخلود وهي موضوعات تقع في المتن من الاسطورة (17).
في هذا السياق وعبره، سيتجه سواح الى البحث عن اللغز الضائع والذي صر لغز عشتار. وسيكون العنوان الفرعي للكتاب دالا بما فيه الكفاية وهو يبحث في "الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة " إنه كعادته يختصر ثلاثة في واحد. الألوهة والدين والأسطورة في شخص الأم الكبرى عشتار واهبة الحياة وراعية الوجود البشري، لكنه سيتيه في متاهة الدين والأسطورة دون أن يصل اليهما.
في مغامرة العقل الأولى، فان سواح قد تطرق الى نشأة الدين وعن صلة الدين بالأسطورة فمن وجهة نظره أن الدين قد ظهر وتطور بشقيه. الشق الأول اعتقادي يستخدم الأسطورة كأداة للمعرفة والكشف والفهم والثاني طقسي يستهدف ارضاء الآلهة (18) والتعبد لها.
على طول المسيرة الفكرية لسواح، لم يتمكن سواح من رسم حدود العلاقة بين الأسطورة والدين، وظل حاملا هذه الاشكالية، ومع أن العنوان الفرعي للفن عشتار يؤكد على البحث في أصل الدين والأسطورة إلا أنه سيظل محكوما في بحثا عن أسطورة الأصل بالركض واللهاث وراء السراب.
يمكن تقسيم الكتاب الى قسمين رئيسيين لا صلة لهما ببعضهما البعض، المتن والمقدمة، فالمتن وهو القسم الرئيسي بالكتاب كشكول ضخم لنقل وثيقة اتنوغرافية تبحث في ظهور وتجلي الأم الكبرى في الوثائق والأدبيات والمنحوتات والأختام وعلى مسار تاريخ طويل يصل الى ما قبل الألف التاسعة قبل الميلاد ويتجاوز في جفرافيته حدود الهلال الخصيب ليطال بلاد الاغريق وحتى بلاد الازتك باحثا عن الأم الكبرى كل تجلياتها (عشتار القمر، عشتار الخضراء وعشتار العذراء والبغى المقدسة والسوداء وسيدة الاسرار…الخ).
أما المقدمة فهي لاحقة على الكتاب وكما يقول الباحث سواح إنني في الحقيقة قد كتبت الفصل الأول آخر ما كتبت لا أوله، فكان بالنسبة الي نتيجة لا فرضا مسبقا موجها للبحث " (19) وفي هذه المقدمة يقدم سواح للملامح العامة لنظريته في أصل الدين والأسطورة والألوهة المؤنثة. وفي رأيي أن المقدمة كتبت تحت ضغط الأدلوجة وهاجس السبق أو ما أسماه الباحث بالعجالة. وهذا ما جعل المقدمة مقطوعة الصلة بصورة مباشرة. بطروحاتها الأيديولوجية مع المتن الغني بوثائقه. وقد دفع الباحث بأوهامه الأيديولوجية شوطا بعيدا، حتى استقرت حول بؤرتين مركزيتين. الأول محض أدلوجية وكذلك الثانية. فقد تمحورت اجتهادات سواح حول البحث عن البؤرة الحضارية الأولى والأسطورة الأولى، فمن وجهة نظره أن نظرية البؤرة الأولى الواحدة ضرورية لتجديد منطلق الدراسة عن " الألوهة المؤنثة " ويضيف الباحث بقوله:(نظريتنا في هذا الكتاب تقوم على القول بنشوء ديانة مركزية واحدة وأسطورة أولى في العصر النيوليتي كانت ذات تأثير مباشر على الأشكال الدينية والأسطورية لدى جميع الثقافات اللاحقة، فمع انتشار الأسباب المادية للثقافة النيوليتية في بؤرتها الأولى، انتشرت معها الأفكار المرتبطة بحضارة الاستقرار والزراعة، وقام كل شعب من الشعوب التي تبنت الثقافة الجديدة بابتكار تنويعه الخاص انطلاقا من هذه المعطيات الأولى. وهذا ما يفسر لنا بحق، تشابه الأساطير الأساسية لدى شعوب العالم القديم، هذا التشابه الذي سنعمل على كشف جوانبه عبر فصول الكتاب)(20).
إن البؤرة الأولى عند سواح هي الرقعة التي بدأت ونضجت فيها تأملات الانسان البدائية وتصوراته الدينية وأساطيره والبؤرة الأولى عنده تنتج عنها أسطورة أول وهي أسطورة زراعية تتركز حول إلهة واحدة هي سيدة الطبيعة، الأم الكبرى (21).
أسطورة الأم الكبرى تظهر كانعكاس لواقع اجتماعي كما يرى سواح. فمن وجهة نظره أو لنقل نظريته أن المكانة الاجتماعية للمرأة في تلك العصور والصور المرسومة لها في ضمير الجماعة لعبت دورا كبيرا في رسم التصور الديني والعبادي الأول في ولادة الأسطورة الأولى (22).
أما البؤرة الثانية فهي محض أيديولوجية ومحض أسطورية بالمعنى الشائع لكلمة أسطورة – وهي بصورة دقيقة مجموعة تنويعات أيديولوجية يستقيها سواح من "إنثربولوجيي المقاعد الوثيرة "، وتمتد على مساحة زمنية وجغرافية واسعة من مورغان الى باخوفن Bachofen الى انجلز في كتابه الشهير "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة ".. الى غيره. ومجموع هذه التنويعات الأيديولوجية تتمحور حول المجتمع الأمومي وسلطة الأم، في تلك المجتمعات، وهي انشاءات نظرية ذات طابع يوتوبي، يمنحها سواح وبأسلوبه مزيدا من الشاعرية. يقول سواح "في المجتمع الأمومي، أسلم الرجل قياده للمرأة، لا لتفوقها الجسدي بل لتقدير أصيل وعميق لخصائصها الانسانية وقواها الروحية وقدراتها الخالقة وايقاع جسدها المتوافق مع ايقاع الطبيعة، فاضافة الى عجائب جسدها الذي بدا للإنسان القديم مرتبطا بالقدرة الالهية كانت بشفافية روحها أقدر على التوسط بين عالم البشر وعالم الآلهة، فكانت الكاهنة الأولى والعرافة والساحرة الأولى. بهذه الأسلحة غير الفتاكة، معنى الجنس الأضعف قوة بدنية فتبوأ عرش الجماعة دينيا وسياسيا واجتماعيا، وأمام هذه الأسلحة أسلمت الجماعة قيادتها للأمهات " (23).
المقطع السابق بكل حضوره الشعري لا الإناسي (الانثربولوجي) مأخوذ ومقتبس من باخوفن، ومن المعروف أن باخوفن حقوقي وسياسي وليس باحثا في مجال الاناسة، وآراؤه باجماع الإناسيين هي افتراضية لم تأخذ بها النياسة والاناسة إلا على سبيل الاستئناس والمحاججة، ولا تقل عنها افتراضية أبحاث مورغان التي ألهمت انجلز لكتابة أصل العائلة، ولكن سواح لم يكتف بهذا فقد ألهمته فكرة وفرضية الأم الكبرى والتي تصل عنده الى مستوى النظرية، بالركض وراء خطية تطورية أخرى هي ناتج فرضية المجتمع الأمومي. وتقول هذه الخطاطة أو الخطية بأنه وفي البعيد كانت هناك فوضى جنسية (لم تكشف الأبحاث الاناسية وجودها أبدا) ثم أعقبها في مرحلة من التطور الزواج الثنائي ثم الزواج الأحادي والذي هو الشكل الحضاري الأعلى الذي وصلت اليه البشرية.
هذه الخطية كما أسلفت محض أيديولوجية وشديدة الغنى بالمركزية الأوروبية والتي هدفت الى تزكية المسيحية وقد جاءت الأبحاث الاناسية لتؤكد خطر هذا التصور والفرضية التي تسير في ظله، فالزواج الأحادي ليس شاهدا على تطور ولا على تأخر فهو موجود في أقدم المجتمعات وفي أكثرها بدائية إن كان لابد من استخدام هذا المصطلح، وفي أحدثها. هذا من جهة ومن جهة أخرى ترى إحدى الباحثات في مجال الاناسة أن فرضية الأم الكبرى ليست أكثر من فرضية أيديولوجية، فعدا عن كونها خرافية فهي تسعي لأن تثبت أن النساء عاجزات عن استلام. السلطة والاستمرار بها (24).
أعود الآن الى فكرة الانتشار – انتشار الأسطورة من بؤرة مركزية – والى مسألة تشابه الأساطير والتي يعتبرها الباحث بمثابة شاهد على وجود أسطورة مركزية انتشرت الى جميع الأصقاع، خاصة وأن هذا التشابه يفرق المتن بكثرة شواهده الى درجة الملل، يحدوه في هذا المجال سعي أكيد لمحاصرة القاريء بكثرة الأمثلة والشواهد وذلك بهدف اثبات وصحة نظريته حول انتشار الأسطورة وفي رأيي أن الركض وراء أسطورة مركزية ومرجعية بان، هو شاهد على غياب سواح عن الجهود المبذورة في دراسة الأساطير وفي تحليلها، فمنذ فترة بعيدة كف دارسو الأسطورة عن البحث عن أسطورة مركزية. إذ لا وجود لوحدة أو لمصدر مطلق للأسطورة، فالبؤرة أو المصدر هما، دائما، ظلان أو امكانان يتعذر الامساك بهما ويتعذر تحيينهما، ولا وجود لهما بدءا، وقد شبه ستروس في كتابه الموسوم بـ "الفكر البري" عمل المؤسطر بعمل المحرتق الذي يستعمل دائما "الوسائل المتوافرة لديه " في منح جديده وهذا هو المنهج الذي ارتكز اليه في دراسته لأساطير أمريكا الشمالية ومنها أسطورة البورورو bototo ليؤكد على أن البحث عن الأسطورة المرجعية ليس أكثر من بحث عن سراب. (25).
أما فيما يتعلق بالتشابه، أي تشابه الأساطير، فالتشابه لا يعني الانبثاق من أسطورة مرجعية فقد سبق لستر وس أن أكد على التشابه بين أسطورة أدونيس وبعض الأساطير الهندية في أمريكا الشمالية ذات الطابع الأدونيسي (أدونيس واشكاليته كفرد وسيط) بين افردوديت وبوسيفوني) (26) فهل نفسر هذا أيديولوجيا على أن قوارب الفينيقيين وصلت الى الشاطيء الأمريكي وعلمت الهنود أبجدية أسطورة أدونيس وهي أسطورة شائعة ؟، وليس هذا فحسب فقد سبق لستروس في دراسته البنيوية والتحليلية لأسطورة أوديب أن راح يبحث عن أوجه الشبه بين بعض جوانب الفكر اليوناني الغابر وبين فكر هنود البوبيلو ؟ (27)
في بحثه عن "كيف تموت الأساطير" لاحظ ستروس أن انتقال الأسطورة من مجموعة بشرية الى أخرى يؤثر على هيكلية الأسطورة وعلى كودها حينا آخر، أو على المرسال المقصود منها. حينا ثالثا (28).
والسؤال هو كيف نفسر تشابه الأساطير في أقصى الأرض الى أقصدها، خاصة وأن التشابه يتجاوز حدود الوحدة الثقافية الموجودة في الهلال الخصيب ؟ ليطال العالم كله هذه المرة ؟ إن القول بوجود أسطورة مركزية وبالتبسيطية التي يتحدث عنها سواح لا تكفي لتفسير وحدة المغامرة البشرية على صعيد الأسطورة.
ستروس كان يرى أن التشابه يجد تفسيره في بنية الوعي البشري والتي هي بنية أسطورية منطقية تفعل فعلها على صعيد الفكر الأسطوري والفكر العلمي على السواء. وليس على صعيد الأسطورة المرجعية التي يحلو لسواح الركض وراءها ووراء سرابها الأيديولوجي.
الدين والاسطورة
كما أسلفت فقد شغل الباحث سواح نفسه ومنذ البداية بين حدود العلاقة بين الاسطورة والدين، وكان عليه وفي كل مرة يجد نفسه مدعوا لتأليف كتاب جديد، أن يوضح من جديد مفهوم الأسطورة.
ثمة ملاحظة وددت أن أقولها في الختام، فلم يكن هدف أبدا أن أحاكم سواح بأفكار ستروس، بمقدار ما كنت أهدف في حضور ستروس الى حقيقة مرجعية هامة في دراسة الأسطورة حقيقة ظلت غائبة باستمرار عن اجتهادات سواح لكنها قدمت اسهامات هامة في دراسة عالم الأسطورة، العالم الذي ما يزال بعد مشوشا ومجهولا؟.
الهوامش:
1- كلود ليفي ستروس، الإناسة البنيانية، الجزء الأول ترجمة حسن قبيس (بيروت المركز الثقافي العربي، 1995) ص. 226.
2- محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الاسلامي (بيروت، مركز الانماء القومي، 1986) ص 209.
3- فراس السواح، مغامرة العقل الأولى (دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1976) ص 23.
4- المعرفة السورية عدد خاص عن الأسطورة، العدد 197- تموز 1978 – دمشق.
5- طيب تيزتي -أ – الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى (دمشق، دار دمشق، 1982).
ب – من يهوه الى الله (دمشق دار دمشق، 1989).
6- فراس السواح، لغز عشتار (قبرصي، نيقوسيا، 1985).
7- فراس السواح، مغامرة العقل الأول، ص 12.
8- المصدر نفسه، ص 23- 24.
9- جورجي كنعان، تاريخ الله (بيروت، مودرن برس، 1990).
10- المصدر نفسه، ص 12 وهى 21.
11- ستروس، الاناسة البنيانية، ص 227. وبشأن مقالة الغبور في النياسة " فهي تشكل أحد فصول الكتاب.
12- ستروس، مجلة بيت الحكمة، عدد خاص عن ستروس، العدد الرابع، يناير 1987. ص 14.
13- ستروس، الاناسة البنيانية، ص 230.
14- ستروس، بيت الحكمة، ص 14.
15- ستروس الاناسة البنيانية ص 226.
16- فراس السواح، مغامرة العقل الأول، ص 20.
17- كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة (بيروت،مركز الانماء القومي، 1989) ص 47.
18- فراس السواح، مغامرة العقل الأول، ص 13.
19- فراس السواح، لغز عشتار، ص 11.
20- المصدر نفسه، ص 23- 24.
21- المصدر نفسه، ص 32.
20- المصدر نفسه، ص 23- 24.
21- المصدر نفسه، ص 32.
22- المصدر نفسه، ص 25.
23 – المصدر نفسه، ص 32.
24- جون بارمبرجر، أسطورة المجتمع الأمومي، ضمن كتاب المرأة والثقافة والمجتمع، ص 391- 417 وزارة الثقافة -دمشق.
25- ستروس، بيت الحكمة، ص 103.
26- ستروس الاناسة البنيانية، ص 236.
27- ستروس المصدر نفسه 6- 236.
28- ستروس، الاناسة البنيانية، الجزء الثاني (بيروت، مركز الانماء القومي، 1990) ص 235.
تركي على الربيعو (كاتب من سوريا)