حسن الربيح
شاعر سعودي
( 1 )
أسئِلةٌ إِلى آدَم
يا أَبانا
الَّذي ما رآنا
أُنادِيكَ
من زَمَنِ السَّحقِ، والحَرقِ:
لو كُنتَ خَلَّفتَنا في الجِنانِ
أَكانَت لـ(قابِيلَ)
فِكرتُهُ في الدِّماءِ؟!
وهَل سيُنادي هُنالكَ (فِرعَونُ):
إِنِّي أَنا ربُّكُمْ
بيَمينيَ رِزقُ الرِّضا
وبيُسرايَ للرَّافِضِينَ
سِياطُ عَذابْ؟
يا أَبانا، الَّذي لم نَرَهْ
كيفَ جِئْتَ إِلى الأَرضِ؟
من أَيِّ دَربٍ هَبَطتَ
وأَيُّ المَراكِبِ قادَتْكَ
بينَ السَّحابْ؟
دُلَّنا؛ لنَفِرَّ
إِلى ذَلكَ المَلجَأِ المُشتَهَى
والمآبْ
ما تَبقَّى هُنا من بَنيكَ
وُحُوشٌ تَدُبُّ عَلَى النَّومِ..
تَترُكُ في الفَجرِ
رُعبًا يُطارِدُ طَيرَ النَّهارِ
ويَحتَلُّ أَعشاشَهُ في المَساءِ
فأَينَ المَفرُّ
وكُلُّ الجِهاتِ ذِئَابْ؟
زادتِ الأَرضُ قُبحًا
فكيفَ لنايِ المُغَنِّي
يُراقِصُ هَذا الخَرابْ؟!
( 2 )
جُرأةٌ خائِفة
أَيُّها المُستَقِرُّ
عَلَى غابَةِ الصَّمتِ
فَأْسُكَ تَصرُخُ:
آنَ أَوانُكَ
فلتَحتَطِبْ
اتَّخِذْ قَفَصًا لعِنادِ السُّكُوتِ
وكَسِّرْ سُجُونَكَ..
غَرِّدْ كما غَرَّدَ الخارِجُونَ
عَلَى القَفَصِ المُحتَجِبْ
أَيُّهذا الضَّعِيفُ المُكوَّمُ
وَسطَ الضُّلُوعِ
انتَفِضْ، واستَجِبْ
لنِداءِ اللَّواعِجِ
والفِكرَةِ العاصِفَةْ
فلتَكُنْ نَبضَةً
يَستَدلُّ بها الآخَرُونَ عليكْ
إِن تَواطأَتِ الأَلسُنُ الزَّائِفَةْ
نَبضَةً هي أَنتَ
بها تَستَدِلُّ عَلَيهِمْ
فتَمتَلِكَ اللَّحظَةَ الخاطِفَةْ
نادرًا ما تَميلُ السُّدودُ
لدَغدَغةِ الماءِ فيها
فتَندَكُّ مَسرُورَةً بالتَّحرُّرِ
راقِصَةً بالأَمانْ
(مَأْرِبٌ) لم يَكُنْ شاعِرًا
لم يَكُنْ عاشِقًا
لم يَكُنْ جائِرًا
كانَ يَفتَحُ أَبوابَهُ للزَّمانْ
ويُغيِّرُ من نَفسِهِ
فأَراقَ هُمُومَ المَكانْ
( 3 )
سُؤَال
يَنتَهي الشُّعَراءْ
والقَصيدَةُ لا تَنتَهي
من مُلاحَقَةِ الأَسئِلةْ
يَرحَلُ العاشِقُونَ
وتَبقَى عَلَى الأَرضِ رِيحُ الوَلَهْ
يَرحَلُ الفَرَحُ المُتَعَجِّلُ
لكنَّ في الوَقتِ عَدوَى ابتِسامتِهِ
تَتَنَزَّهُ ما بينَ ثَغرٍ، وثَغرٍ
عَلَى شَكلِ ذِكرَى
مُحَمَّلَةٍ أَخيِلَةْ
يَرحَلُ الوَقتُ..
لا يَرحَلُ الوَقتُ
فَهوَ المُقِيمُ المُسافِرُ في نَفسِهِ
والعَجُوزُ الفَتيُّ
الَّذي يَمنَحُ الزَّهرَ رِقَّتَهُ
ويُسِرُّ إِلى العُشبِ
لَحظتَهُ المُقبِلَةْ
تَنتَهي المُدُنُ المُفعَماتُ
بلَهوِ العَصافِيرِ وَسطَ الحَدائِقِ..
بالضَّوءِ في أَوَّلِ اللَّيلِ..
بالمَوعِدِ البِكرِ بينَ مُحِبَّينِ
في السِّينَما، آخِرَ الرُّكنِ..
باللَّغوِ بينَ الرِّفاقِ عَلَى (شِيشَةٍ)
في المَقاهي..
تَنتَهي كُلُّها بمِزاجِيَّةِ القَصفِ للقَصفِ
والطِّفلةُ المُستَفيقَةُ فوقَ الخَرابِ
تَقُومُ..
فتُهزَمُ في وَجهِها القُنبُلَةْ
تَنتَهي كُلُّها
والحياةُ الفَتيَّةُ لا تَنتَهي
فلماذا إِذا انتَهَتِ الحَربُ
لا تَضحَكُ السُّنبُلةْ؟!
( 4 )
صُنَّاع المَوت
“كُلُّ قَتيلٍ قَتيلانِ”: ميخائِيل نعيمة
دَعُوا المَوتَ يَقطِفُنا غَفلَةً غَفلَةً
دَعُوهُ يمرُّ
كما تعبُرُ النَّسمَةُ الخاطِفَةْ
دَعُوهُ كما هُوَ
يأْتي بما اعتادَتِ الكائِناتُ عَلَيهِ
دَعُوهُ يُتِمُّ مُهمَّتَهُ بهُدُوءٍ
ولا تَسرِقُوها بأَحزِمةٍ ناسِفَةْ
سيأْتي عَلَينا جَميعًا..
سيأْتي، ولن يَنتهي قبلَ أَن نَنتهي
فلماذا إِذن تُعجِلُونَهْ؟
فتَرتَبكَ الأَرضُ في الدَّورانِ
وتكبُو النُّجومُ عَلَى وجهِها
في أَماسي الفَرَحْ
فخلُّوا الحَياةَ
تمرُّ عَلَى دَكَّةِ البَيتِ..
تَركُضُ خَلفَ الفَراشاتِ..
تَدخُلُ مِحرابَها في أَمانٍ..
تَعودُ إِلى البَيتِ للصِّبيَةِ اللَّاهفَةْ
إِذا لم تكونُوا سَلامًا على الأَرضِ
فامضُوا دُعاةً بغَيرِ سِلاحٍ
وخَلُّوا الوُرُودَ لكُمْ طائِفَةْ
تَعِبْنا! تقولُ خُطاكُم
فعُودُوا إِلى شاطئِ البَحرِ
تَنمُ العَشِيقَةُ في الصَّدرِ
حتَّى إِذا لَسَعَ المَوجُ أَقدامَكمْ
دَبَّ مَشيٌ خَفِيفٌ عَلَى المَاءِ
هل تشعُرونَ بدَغدَغَةِ المَوجِ
والنَّشوَةِ الجارِفَةْ؟
هُنالكَ حُلْمٌ لهذا القَتِيلِ
وحُلْمٌ لقاتلِهِ
الأَوَّلُ انتَظَرَ اللَّيلَ
حتَّى يفوزَ بمَوعِدِ بَسمَتِها في الصَّباحِ
والآخَرُ انتَظَرَ اللَّيلَ
حتَّى يُخبِّئَ بارُودَهُ المُتلَمِّظَ للحُورِ..
دَوَّى المَكانُ، وطارَت مَباهِجُ..
طارت مواعيدُ..
طارَ النَّهارُ
وطارَتْ بحارُ
التَقَى الحُلُمانِ بأَعلَى شَظيَّةْ
رَأَى الآخَرُ البَسمَةَ اللُّؤْلُئِيَّةْ
تُرفرِفُ فوقَ القَتيلِ
وما من وعودٍ لقَتلَتِهِ المَسرَحيَّةْ
تَساقَطُ مِثلَ الرَّمادِ
كأَوهامِهِ الخاسِرَةْ
وبَسمَتُها نَجمَةٌ
في مَدَى الأَبَديَّةْ
دَويٌّ..
دَويٌّ..
دَويّ…
فمَن يَتدارَكُ عَبسًا، وذُبيانَ
قَبلَ انقِراضِ الحَمامْ؟!
زُهيرَ السَّلامْ
لماذا مَدحتَ القَذيفةَ
تلكَ الَّتي قَوَّضَتْ فَرحًا، وقَصيدَةْ؟
لماذا تَلُوذُ بخَوفِكَ
من سَيفِ (ذُبيانَ)؟
كيفَ تبرَّأْتَ من (أُمِّ أَوفَى)؟
وكيفَ أَضعتَ الحَنينَ
وأَنتَ الَّذي أَلهمَ الصَّخرَ معنَى الشَّذا، والغَرامْ؟!
أَتَركُضُ خَلفَ السَّرابِ
وخلفَكَ سِربٌ من النَّخلِ
والأُمنياتِ الوَليدةِ؟!
هذا الدَّويُّ
يُحاصِرُك الآنَ
قُل لي بربِّكَ:
أَينَ الوَراءُ؟
وأَينَ الأَمامْ؟
( 5 )
أعِيدُوهُ إِلى الأَرض
لم أَذُقْهُ تَمامًا
كَما هُوَ في نفسِهِ
ذُقتُ ما هيَّأَتْهُ الخَيالاتُ لي
أَنَّهُ الرَّاحُ مُمتَزِجًا بالعَسَلْ
ذُقتُهُ، ورَضِيتُ بهِ خُدعَةً حُلوَةً
تُلهِمُ القَلبَ
مَعنَى النَّدَى، والزَّجَلْ
أَن تَعيشَ الخَديعَةَ في الحُبِّ
خَيرٌ لقَلبِكَ
من أَن يَعيشَ الخَديعَةَ في الحَربِ
أَن تَتَخَيَّرَ وَردَ النِّفاقِ الجَميلِ
لوَجهِ المَليحَةِ
خَيرٌ لكَفِّكَ
من قَتلِ طِفلٍ
عَلَى هَمَساتِ القُبَلْ
هَكَذا قالَ عَرَّافُ وَقتيَ
ثُمَّ اختَفَى، واضمَحَلّ
وما الحُبُّ إِلَّا ما جَهِلتُمْ، وعِفتُمُ
وما هُوَ عَنَّا بالبَعيدِ المُعَتَّمِ
مَتَى يَنتَفِضْ في كُلِّ قَلبٍ كَتَمتُمُ
نُكابِرُ، لَكِن في القِلَى لم نُكَتِّمِ
ها قَتيلُ الهَوَى
ثائِرٌ لا جُنُودَ لَهُ
غَيرُ بِضعِ أَغانٍ مُشَرَّدَةٍ
في الأَزَلْ
يَتَوسَّدُ نَشوَتَهُ الأَبديَّةَ
من خَلفِهِ العاشِقاتُ يَهِمْنَ
ويَحلُمْنَ بالعاشِقِ المُحتَمَلْ
وقَتيلُ الحُرُوبِ
أَرَى ثأْرَهُ
يَستَحيلُ إِلى خِنجَرٍ
في الظُّهُورِ البَريئَةِ
أَو مِخرَزٍ في ابتِهاجِ المُقَلْ
يَتَوسَّلُ طائِرَهُ المُتعَطِّشَ
من خَلفِهِ الثَّاكِلاتُ يَهِمْنَ
وتغرُبُ فِيهِنَّ شَمسُ الأَمَلْ
هَكَذا بَثَّ حِكمَتَهُ عاشِقٌ
للَّيالِي البَعيدَةِ
ثمَّ ارتَحَلْ
رَحَى الحُبِّ راحٌ في كُفُوفِ حَبيبَتِي
تُدارُ، فأَهلًا بالعِراكِ المُكَرَّمِ
أَلا فاطحَنِيني طَحنَةً بَعدَ طَحنَةٍ
وصُبِّي بَقايا الكَأْسِ أَرجِعْ لها ظَمِي
قُلْ هُوَ الحُبُّ
أَنفَى إِلى القَتلِ
واقرَأْ عَلَى القَومِ
تَعوِيذَةً من (نِزارٍ)
وخَلِّ (نَجاةَ) الَّتي خَنَقَتْها
طُبُولُ المَعارِكِ
تُرْقِ القَبيلَةَ باللُّعبَةِ المُشتَهاةِ
فتَمضي الخُطَى
باتِّجاهِ الحَمامَةِ
لا باتِّجاهِ الحِمامِ
أَعِيدُوا إِلى الأَرضِ
رَقصَ الحَجَلْ
هَكَذا قالَتِ البُندُقِيَّاتُ
حينَ اعتَراها الخَجَلْ
سَيَطرُدُ هَذا الرَّقصُ وَحشَ صُدُورِنا
ويُفني أَزيزَ الحَربِ طُولُ التَّرَنُّمِ
تَرنَّمْ، ورَقِّصْ كُلَّ سَيفٍ، وخِنجَرٍ
لَعَلَّ سِنينَ القَتلِ تُفطَمُ عن دَمِ
( 6 )
حِوارٌ زَمَنيٌّ
قال لي: الدِّماءُ تُقصِّرُ عُمرَ الطُّغاةْ
قُلتُ: إِنَّ النِّساءَ يُروِّضنَ وَحشَ الطُّغاةْ
وافترَقْنا
بعد قَرنٍ منَ الدَّمِ عادَ، وعُدتُ
وقالَ، وقُلتُ
وما قصَّرَ الدَّمُ أَعمارَهم
والنِّساءُ توحَّشنَ في جَبَهاتِ القِتالْ
بعد حَربٍ، وحَربَينِ عُدنا.. رَأْينا:
(مِياهًا بلَونِ الغَرَقْ)
بعد أَلفٍ، وأَلفَينِ عُدنا.. سَمِعْنا:
(على هَذهِ الأَرضِ ما يَستَحِقُّ الحَياةْ)
قال لي:
لا حياةَ بلا ثَورَةٍ
قُلتُ: فهيَ إِذنْ مَجزَرَةْ!
وافترَقْنا
بعد ثَورٍ، وثَورَينِ عُدْنا،
فصِرْنا عُجُولًا
نُساقُ إِلى الحَلَبَةْ
قالَ لي:
ما الحياةْ؟
قُلتُ: أَنتَ.. أَنا
وافتِرارُ الشِّفاهْ
قال: لا
الحَياةُ رُؤًى، وجِهادٌ طَوِيلْ
وافتَرَقْنا
بَعدَ مَوتٍ، ومَوتَينِ عُدنا..
جَلَسنا عَلَى دَكَّةٍ للكَلامِ
سَمِعنا أُناسًا
يُعيدُونَ نَفْسَ الَّذِي قَد طَوَيناهُ من قَولِنا
ضَحِكنا ضَحِكنا
إِلى أَن تكَشَّفَ في الضِّحْكِ
مَعنَى الحَياةْ
( 7 )
ذِكرَى يَمامة
اليَمامةُ كانت تُغنِّي على (الأَرْزِ)، و(النَّخلِ)
طارت..
وطارت إِلى (اللَّبَخِ) المُرِّ
فاختَرقَتْها الرَّصاصْ
الغِناءُ بغابتِنا منذُ أَن كانتِ الطَّيرُ
تَرضِيَةً للوُحُوشِ
وأَيُّ خُرُوجٍ يكونُ انتِقاصْ
اليَمامةُ لم تحذَرِ الوَحشَ
حينَ اشتَهَتْ جُرأَةً، واقتِناصْ
اليَمامةُ ذِكرَى غِناءٍ يَسيلُ على كُلِّ غُصنٍ
ويَنسَى وعُودَ القَصاصْ
اليَمامةُ ذِكرَى
ووَعدٌ لمَعنَى الخَلاصْ