ذات صباح شتائي نهضت باكرا وتلفعت بمعطفي الشتوي وخرجت الى شرفة منزلي الفسيحة في الطابق الثامن والأخير من أحدى عمارات حي الفاكهاني في بيروت الغربية..
كان الجو باردا وغيوم كثيرة تدفعها الرياح في اتجاه الشمال، ومن الزاوية النائية في الشرفة لمحت جزءا من بحر بيروت الذي هو جزء من البحر الأبيض المتوسط..
وفيما أنا أتأمل المنظر الشتائي البارد والموحش انتابتني هزة وذهول ووجدتني أقول:
والمدينة الغارقة في الأبخرة وشاي الصباح فتحت نافذة /كوة في الغيوم وأخذت تنظر معي مذهولة الى البحر المغرور أه يا خنجر الشوق الغامض لماذا تطعن قلبي؟
كانت تلك قصيدتي الأولى، أو هبة الشعر الأولى في شتاء عام 1981 وكان عمري أربعة وأربعين عاما..
وكنت قد بدأت قبل ذلك بأربع سنوات بكتابة مجموعة من القصص كان أولها قصتي المعروفة، "قط مقصوص الشاربين اسمه ريس" والتي حملت اسم مجموعتي القصصية الأولى والتي نشرت عام 1980 في بيروت.. اذن.. كانت هذه بدايتي الشعرية المتأخرة جدا. حيث أنني لا أعرف أحدا بدأ بكتابة الشعر في تلك السن، بحيث أن أحد الأصدقاء العراقيين علق ساخرا ومندهشا، الناس يموتون في الاربعين.. وأنت تبدأ شاعرا في الرابعة والأربعين.. أليس هذا غريبا؟ نعم، يبدو الأمر غريبا وغير مألوف، ولكن الأمر كان هكذا فلابد من "مرة أولى" لكسر القاعدة ويبدو انني توليت هذا الأمر كما فعلت في أمور أخرى عديدة..
لكن المسألة ليست بهذا التبسيط أيضا.. فلا شي ء يأتي من فراخ ولابد أن "روح الشعر" كانت جاثمة في أعماقي. وانني عبرت عنها بأشكال مختلفة، لكن ليس بالشكل المألوف للشعر..
وبالفعل لاحظ أكثر من ناقد أن مناخا شعريا يحيط بمجموعتي القصصية دائما مليئة بروح الشعر رغم واقعيتها.
والشعر لا يتجلى في الكتابة فقط.. انه مجال سحري
يضربه الانسان حوله عبر جماليات معينة، ليتمظهر في كل سلوك وفي كل تعبير مهما كان صغيرا أو كبيرا..
أريد أن أقول بأن "الشاعر الحقيقي" هو ليس الذي يكتب شعرا فقط.. ولكنه قد يكون واحدا من الذين لم يكتبوا قصيدة واحدة في حياتهم.. ومع ذلك فهو شاعر، وربما يكون شاعرا أكثر من الذين كتبوا عددا من الدواوين.
لكن وبما أننا محكومون بمعايير ومقاييس متعارف عليها، فلابد من تطبيق هذه المعايير، واذن فلن أتحدث عن المناخ الشعري في قصصي دائما سأتحدث عن شعري كما ظهر في مجموعتين شعريتين هما "لا تشبه هذا النهر" ونشرت في دمشق عام 1984. و"ذات مقهى" ونشرت في عمان عام 1977.
بيروت.. بيروت
وأريد أن أبادر الى القول بأنني مدين لبيروت بكتابة هاتين المجموعتين.. بيروت كمدينة ومختبر ومغامرة وحالة استثنائية..
وكما هو الأمر غريب وغير عادي انني بدأت في سن متأخرة بكتابة الشعر، فان الأمر الغريب الثاني هو أن شعري ارتبط ببيروت، بيروت الحرية، بيروت الجنون.. بيروت الفوضى وأخيرا: بيروت الجنة -الجحيم.
وربما لو أنني لم أعش في بيروت – رصيفا لها كما أعلنت عام 1981 – إذن لما كتبت شعرا..
وربما لو عشت في بيروت قبل عام 70 أو بعد عام 1982 – خروج المنظمة، إذن فلربما لم تكن لتتم تلك المعادلة الكيماوية السحرية التي كانت البوتقة لتفجر ذلك الشعر من داخلي".
اذن الشعر بالنسبة لي مرتبط تماما وجذريا وعضويا بتلك البيروت المجنونة، لأنه ما إن خرجت جسديا ونفسيا من الحالة البيروتية حتى توقفت عن كتابة الشعر، أو لاقل بأنني كتبت بعض القصائد المتفرقة، لكنني لا أعتد بها كثيرا.
الشعر كسلاح يومي
وأدرك الآن أن القصيدة كانت سلاحنا اليومي فقد كان كل من في بيروت مسلحا حتى الأطفال، وكان لابد لنا نحن الشعراء المتمردين الرافضين لكل شيء تقريبا، ان نتسلح بدورنا،، بسلاح فعال لا يقل فعالية عن السلاح الأخر، فكانت قصائدنا التي كانت تظهر فجأة في صفحات "النهار" الثقافية وسيلة هجوم واعلانا عن حضور وجودي وثقافي وسياسي..
كنا قد أطلقنا مجلة "رصيف 81" في صيف عام 1981 وكانت مجلة للشعراء الرصيفيين.. فابتدعنا ظاهرة جديدة اذ أعلنا أنفسنا رصيفا لبيروت التي لم يكن لها رصيف في السابق كما كتب الياس خوري في ملحق النهار قبل بعض الوقت.
ان حديثنا هنا ليس بمن "الرصيف" فهذا له حكاية طويلة قد نكتبها في مناسبة قادمة.. وان كان من الممكن القول بأنها حركة "الهامشيين الرافضين لفساد المؤسسات وبيروقراطيتها سواء كانت مدنية أو ثورية "..
ذلك أن المشروع الثوري الفلسطيني واعتبارا من عام 74 تقريبا تم اختزاله في مؤسسات بيروقراطية، متضخمة، مشوهة، فلم تجد لنا مكانا في هذه المؤسسات وكان طبيعيا أن نقبع على مقهى "ام نبيل" في قلب الفاكهاني مشهرين تمردنا ورفضنا لكل هذا التشويه والروح السلطوية لمشروع يفترض أنه تحريري.
ولذلك كان بديهيا أن نستخدم نصوصا مغايرة برية صادمة هازئة أردنا بها أن ننال من هيبة وقدسية كل ما هو سائد.
غير أننا لم نكن سذجا نقع لقمة سائغة في يد خصومنا الذين أباحوا دمنا تقريبا.
كنا ندرك أن نقوم بعمل ثوري تغييري محاولين اختراق البنية الثقافية الفوقية للمؤسسات كنا ندرك أننا لا نستطيع أن نهاجم الرموز بالاسم ولذلك كنا نهاجم رموزا مجردة أو غير سياسية وذات مرة نشرت قصيدة عن "البحر" أقول فيها:
لا أدري لماذا يكثرون من الحديث عن البحر
مع أنه – في رأيي ليس أكثر من طبق شاسع من شوربة السمك ".
وقد فهم الأذكياء منهم مغزى هذا الكلام فإذا كنا لا نحترم البحر والذي يفترض أنه محترم ومهاب أكثر من أي رمز بشري.. فهذا معناه أننا لا نحترم أحدا..
فهم أحد الشعراء القوميين المتشددين مغزى القصيدة البعيد فاستل قلمه وكتب مقالا في مجلة أسبوعية يتهمنا فيها بأننا مخربون وعملاء للامبريالية..الخ.
أما صديقنا الشاعر محمود درويش فكتب مقالا في مجلة "الكرمل" وأعاد نشره في جريدة "السفير" اللبنانية تحت عنوان "انقذونا من هذا الشعر".. معتبرا أننا حولنا الشعر الى نكتة الصباح اليومية..
وهذا صحيح.. غير أن هدفنا لم يكن التنكيت وان كنا بصراحة نميل الى الضحك والعبث كطبيعة متأصلة فينا ولإفهام من يريد بأننا لا نخافهم ولا نخاف ارهابهم، لا المادي ولا الفكري. كما أننا كنا – ولا نزال – مؤمنين بحرية التعبير الى أقصى حدود التجريب والهذيان كما أننا لم نسلم ان هناك مثلا شعريا وحيدا للشعر يحدد مرجعياته فقد رفضنا الوصاية في الثقافة كما رفضناها في السياسة وفي كل شأن أخر.. وأمنا بالتعددية والديمقراطية الحقيقية – ولا نزال -.
كنت أنا وصديقي ابو روزا وولف قد شكلنا ثنائيا ثقافيا – اشكاليا – تهريجيا.. كنا شبه مهرجين – وكنا نحب ان نرسم ابتسامة على وجه الفكهاني الدامي المقطب.. فأي حذر في هذا؟ وكنا نعرف أن الذين يتوعدوننا نهارا هم أنفسهم الذين يستلقون على أقفيتهم من الضحك ليلا عندما يتبادلون أخبارنا..
نعم.. كنا نوعا من المهرجين. ولكن من النوع الدموي الانتحاري. كنا أكثر من جادين وأكثر من ثوريين.. ولكننا كنا نحب أن نلعبها، ضاحكين، ومقهقهين..
تذكرتك.. فهرشت رأسي..
فمتى تهرش رجلك لتذكرني؟
كنا نعرف أن هذا ليس شعرا.. فليكن ! من يبالي بالشعر ؟ كنا نريد أن نسخر مما كان سلفا.. وآلت اليه الأمور أثبت أن السخرية وحدها كانت جديرة،ما كان.. وبما حاولوا اضفاء الجدية والمهابة عليه.. لكننا كنا أول من التقط العبث واللاجدوى في قلب ذلك الشيء الذي كان يبدو محترما.. فهل ذنبنا أننا كنا أبرياء مع علما أن الملك عار منذ اللحظات الأولى ؟
رسمي أبوعلي (شاعر وكاتب من فلسطين)