"يا ليتني أطيح طيحة و ينشق رأسي
و أظل شهرا أداويه بالحل واليأس
ويجيء الحبيب مثل الناس لا باس
ويغلط وينسى ويضع يديه في رأسي"
ذات ليلة
لماذا لا يغنين أغاني أجمل من هذه يا أمي؟
– هكذا أغاني العرس.. عقبالك يا بنتي.
قولي آمين
– لا أريد أن أتزوج من هنا. أريده بعيدا بعيدا..
– دمه ليس من دمنا؟.. ناوليني الموز..
– جرحني مرة في امسي وكان دمي أحمر، وتصاعد دمه مرة بقوة إلى و وكان ياللعجب – أحمر أيضا..
– تهذين؟.. كلي. كلي.. يا رب يبني ابن عمك البيت بسرعة ونفرح بك.. "شافها بين البنات, خطفها سكر نبات ".
– بجد يا أمي.. أريده بعيدا..
– يا للفضيحة.. ماذا سيقول الناس؟
– ماذا؟
– سيقولون عشقته.
– وإن كان ذلك صحيحا؟
قذفت الموز من يدها بغضب.. لو أكلته بالعنب لكان لذيذا..
– لا أريد أن أسع هذا الكلام مرة أخرى.. فاهمة؟
يا سيدي العشق.. يا من يسمونه العشق.. على بابك طريح الجسد، منهوب الروح اناديك موصول الجوى وأنوح.. يا سيدي العشق.. من أنت؟
– حاضر يا أمي.
– نفرح بك هذا الصيف.. واذا لم يجهز البيت تعيشين مع
أهله مؤقتا.. ما أجمل ان نصبح موضوعا لفرح الاخرين, يا سيدي اطردني من فردوسك, أغلق دوني ابواب جحيمك.. أيها العشق, أيها الفارس الاهوج.
"أمها أدت نذرها، وهي صبي بكرها.. ويضمها بين الحشا.. ويضمها الحشا"..
– وتفرحون بي؟
– اي والله, ونقيم لك عرسا احسن من هذا..
– وأغاني أجمل؟
"الوجه يا بدر التمام, والغصن غار من القوام ".
– وأغني أنا بنفسي..
يا من يسمونه العشق.. في الصفحة الثالثة بعد المائة: "وهو داء يصيب العوام, دواؤه الوصال, وإلا فليكثر من الحركة وصب الماء البارد على رأسه, والاشتغال بالعلوم والفرائض, ومجالسة أهل الفضل.. ويصر "قراد" علي طاقية العاشق فيكون في ذلك الشفاء والله أعلم"
– اين من الممكن ان أجد القراد يا أمي
– خير؟.. قررت التخصص في الحشرات؟
– لالا.. هذا دواء..
– دواء لماذا؟ هذا البخور رائحته رديئة.
لا تريدين سماع هذا الكلام, وأنا فاهمة, أيها التاريخ.. كل هذا العشق نتوء به؟ "حبيبي طلع بي جو.."
– حبيبي نزل بي أرض!
– أعجبتك الأغاني؟
– لنعد إلى البيت… أريد عب الماء البارد على راض.
"صبوحة خطبها نصيب.. خطبها نصيب.. رغبانة وأبوها رفض.. أوه أبوها رفض.. وسرى الليل يا العاشقين.. يا العاشقين.. يا العا.. يا.."
ذات رؤيا
كنا في زقاق, وهذه الكلمة تتبع عادة بكلمتي "ضيق" و"مظلم", لكن زقاقنا لم يكن كذلك, فقد كان متربا ومسقوفا بالطين والجذوع, ومن حين لآخر كنت أنفض الغبار عن ملابسي, وأختلس النظر الى الغصن الاخضر في يده, كان مخضرا كأن فم الماء مازال يدندن في عروقه, ونما في اعتقاد بتيبسه حالما يفارق يده..
وبغتة انفتح لنا مكان ملون بعبث.. قد بهتت فيه كل النسب الهندسية.. فصاح وقد اختفى الغصن الأخضر:
– مذهل هذا المكان.. هل هو حقيقي؟
– لا أعرف.. لكن قدرتك على الدهشة شيء رائع.
– قدرتي على الدهشة؟
– نعم, فأنت تفقدها بحكم العادة..أما أنا فظلت أندهش كل
صباح لمرآك, ولكل "لبنى" تخرج من فمك, ولكل "صباح الخير".
– يا إلهي..
– وحين افترقنا احتفظت بالدهشة..
– بعدم وجودي؟!
– بوجودعدم وجودك, كان هذا مركزا بشكل مدهش تماما.. أعني
المكان طبعا.. كنت أصحو فجأة فأرى أوقاتا عجيبة.. آه ليس الغروب وليس الفجر.. شيء ما بينهما، كانت السماء تبدو بنفسجية, تتهادى فيها ظلال واجفة, وكنت ملتصقاا بذهني بعنف, وأجرب فصلك عني كما نفل بورقتين ملتصقتين تماما.. انا نستخدم السكين حينها.. اليس كذلك؟.. حسنا، كانت السكين تضل الطريق وتتسلل الى فؤادي، فأرى قطرات حمراء تسيل على الافق وأكاد ألمس الظلال.
– تألمت كثيرا!
– آه ليس الألم.. حتى البراعم تتوجع حين تتفتح.. انه
اليأس.. أخرج الساعات أهيم في الشوارع.. للون الخضرة في النخيل طعنه, للاسفلت سهامه القصيرة, لأعمدة الانارة السيوف المخترقة بصمت, للصوت الغياب ولكل الايدي الجليد لليأس كيه المرير.ز أتعرف؟ بالأمس حدثت أمي عن الزواج بعيدا..
– اتفقنا على غير ذلك.
– بالتأكيد، كنت أعبث معها، كنت أجس النبض حين يشرد بعيدا ولا يحتفظ بذبذباته المنتظمة تحت جلد الساعة الأملس.
– اشتقتك لبنى..
– ما الذي تشتاقه بالضبط؟
– لا أعرف.. كل شيء.. أنت.. كلماتك..
– تفتقد الكلمات لتولهها بك, حبك لها جزء من تأكيدك ذاتك. تريدين القول اني لا أفتقدك لأجلك بل لأجلي؟
– نعم.
– تريدين أن نختلف؟
– لا.. لا وقت لدينا، سينتهي الحلم الآن.
– الحلم؟
– طبعا.. نسيت أنا لا نلتقي في الواقع؟
– ونحلم الآن؟
– أحلم أنا، وأنت داخل حلمي.
لماذا افترقنا؟.. أعني في الواقع.
– لماذا افترقنا؟.. ل م ا ذا.. اف ت رق نا..؟
– تعالي.. ماذا ترين؟
– نبع ماء..
– اقتربي أكثر ماذا ترين على صفحة النبع؟
– وجهينا..
الا نبدو متشابهين؟
– لم تخطر لي هذه الفكرة من قبل.
– الا نبدو أجمل كثيرا؟
– ربما.. لماذا؟
– لأننا افترقنا.
– لكننا نلتقي الآن.
– عدت الى النسيان.. هذا حلم.. حلم..
– حلمي. آه صحيح..
– لنتسلق هذا الشعاع الاخضر من الشمس..
– مازلت مولعا بالشمس, ألن نحترق؟
– لا.. هذه شمس خاصة لنا فقط.. هيا.. كم تبدين متألقة !
– يؤسفني الا أتألق إلا على ضوء الشعاع.
– دائما متألقة.
– لا أصدق..
– هذا حلمك يا لبنى
– ماذا تقصد؟
– انتبهي، طائرة..
– من حديد؟
– الا ترين؟
– أنت أدخلتها إلى الحلم, كنا نستمتع بالكون الغض كأنما خلق للتر، لو استمررنا لكنا دخلنا الشمس.
– ولكنا هبطنا الآن..
– وهذا يعني أن الواقع ينوي التقاطع معنا.. يا الهي.. يجب أن أستيقظ الآن..
– وهذا يعني أن الواقع ينوي التقاطع معنا.. يا إلهي.. يجب ان استيقظ الآن..
ذات رسالة
في البدء كان النظام:
يقسم الحديد زجاج النافذة الى مربعات متساوية, فتبدو السدرة خلفها مبعثرة, ويقسم هذا القرار روحي إلى مربعات يبدو من خلفها السديم منظما تماما.
كل شيء على ما يرام, كل شيء يلبس ثيابه المناسبة, ويؤدي دوره المرسوم, لكل كلمة موقعها من الاعراب, ولكل ابتسامة مناسبتها المحددة, ولكل العيون وظائفها المنتقاة, ولي الالتزام المعلق بالنظام, بالاثواب والادوار والعيون والكلمات, ولي الطريق المحدد والسرعة المحددة, ولا مفترقات على الطرق ولا تحرر لي مخالفات الوقوف بالدوار.
كل شيء يسير على نحو جيد، سينبض قلبي بالمعدل المناسب لكل البشر, وستكتب يدي كل الاشياء الهامة والجادة, وسيتعلم معراج أحلامي الا يتجرأ على مناطق مد المحال لرجليه, وسأمشي بثقة وتوازن كأي رصاصة منطلقة نحو الهدف, لا تزيغ.
كل شيء على ما يرام, كل شيء له حدود. وقيود.، وكل حلم يوجه صوته الخاص وشوقه الخاص, ويمارس النظام والأمان.
نفترق.. ما المشكلة؟.. كل شيء جيد ومنظم.
في المنتصف كانت الحرية:
نفترق؟.. يا لمباهج الحرية !
نتحرر من سجن المعاني في كلمات, من اصطياد الغزلان الشاردة في ارواحنا وارقادها على مشرحة الفهم والتحليل, من تشبيك الغيوم في الصخور الواطئة, من محاولة تفسير ضوء النجوم, وتوهج الشمس, وبزوغ الفجر وهبوط الليل, من تفاهات الاستفهام: لماذا تقوم الزلازل؟ لماذا تندلع الاعاصير؟ لماذا تثور الباكين؟ لماذا تنمو الاشجار؟ لماذا تتمدد الظلال؟ لماذا نحب؟
يا لمباهع الحرية !.. نتملل من قضبان الانتظار.. لا نصبح رهن العقارب خلف الاغطية الزجاجية.. لا نغدو مكبلين بالطرقات والخطوات المتأخرة والرنات الضعيفة التي قد لا تأتي.. الا ننتظر الانتظار.. نتحرر من عذابات الطين وارتقاءات السماء ومن يأس خيوطنا الواهنة بينهما، من شباك نغزلها لنمزقها لنغزل أخرى، من حصر ضوء العيون في ضوئها، من وقر الصبر والعقل, من كتمان اننفجاراتنا في وجه الثالث البليد الذي لا يسمع صراخ كل ذرة:,"اذهب.. اذهب.. اذهب.." وكأنما تصرخ فيه كل ذرة: "أنا باق.. باق.. باق"، نتحرر من تغطية نرجس الحروف بزجاج الظروف, من ربطة عنق الازهار بحبال تنتحل اسما جديدا كل يوم..
نفترق؟.. يا للحرية حين لاننتظر اللقاء.
في الختام كان الصدق:
هذه الاكاذيب الصغيرة من النظام والحرية تسلية عابثة يا صديقي.. لا تصدق:
ذات صباح
لأنا مخلوق – يعطب ويغضب ويكسل ويصيبه ما يصيب المخلوقات من انواء – مرض.
وحين رقد في غرفة غير قصية في المستشفى المهووس بالبياض, عبقت في الممرات وملصقات التحذير الملونة وعلب الادوية رائحة غامضة, وتكدست في روحي الى جانب الاكوام الاخري من الامكنة والازمنة والاصوات وبعض الاشياء التي لا داعي لها، وتحول الاطباء والممرضات الى موضوعات للحسد.
كان شعره الخشن منحسرا كالعادة عن جبينه وبدا شاربه أطول من المعتاد، وأبهجني بشكل خاص إهمال أظافره.
بدا نبيلا بدرجة تتخطى المسرح به في عالمنا، وبدأت اقشر عن الصمت رموزه.. كنا بسيطين كالعطش, كالنعاس, كاغماءة مباغتة.
ملاحظة: لم أره صباح مرضه اذ كان الرحيل قد آن.
ذات توهم للختام
"وها أنا بعدما لاح لي
أن كل شيء قد انتهى
أستعيد جانبا من الوميض
الغصن يأس في يدي
والذئب على جاب الطريق "