ربما يثير عنوان هذا البحث جوانب من قضايا الوسائل والقوالب الثقافية في عمان وربما في أجزاء كثيرة من العالم العربي ، وعلاقة هذه الوسائل والقوالب المعاصرة أو التراث ، ومدى صلابة الخط الفقري الممتد بين الشرائح التعبيرية المتعاقبة والتي قد تبدو للوهلة الأولى متغايرة
وأول هذه القضايا ، فكرة لم لم المخطوطة المعاصرة،1 والتي قد تبدو الآن زائرا غريبا على عصر المطبوعات الذي عرفه الحرف العربي منذ نحو قرنين من الزمان . وضاعفت من قدراته العقود الأخيرة بامكانياتها الفنية الهائلة ، التي جعلت آلاف النسخ من سفر ضخم يمكن أن تكون بين، أيدي قرائها في ساعات ، لترسم بذلك صورة للمخطوطة التي تعد في أناة وعلى مهل وتصنع على عيني مؤلفها أو ناسخها في أسابيع أو شهور ، ولا تكاد ترى النسخة التالية منها النور ، الا من خلال مهلة قد تنتج خلالها فرس أصيلة مهرا جديدا .
غير أن هذا التقابل في وسائل البث الثقافي بين المخطوطة والمطبوعة لا ينبغي أن يجعلنا نتصور أن ملف المخطوطة قد تم نفض الأيدي منه ، فمن خلال هذه الوسيلة القديمة تم الامساك بعصارة الحضارة ورحيقها وتم الحفاظ على خلاصة الجهد البشري لحضارة مثل حضارتنا خلال ما يزيد على اثني عشر قرنأ ، وتم أيضأ التأمل في ميراث هذه الحضارة من
خلال عيون معاصرة ومناهج حديثة ، سواء من خلال علمائنا أو علماء آخرين اهتموا بحضارتنا ، وكان جهدهم وحصادهم مبهرا في كثير من الأحايين ، ويسود الاعتقاد أن جانبا كبيرا من مخطوطاتنا لحم يلق يعد العناية الضرورية من أهل الخبرة والاختصاص ، إما لأن أيديهم لم تصل اليه في مظانه قي المكتبات العامة ، أو لأنه حبس في مكتبات خاصة أو أقبية أسرية بحسبانه جزءأ من ميراث خاص ، مع أن الثقافة في كل الأمم هي ميراث عام ، والأمة العربية والاسلامية في مقدمة الأمم التي حفلت بهذا المبدأ أ قي تاريخها الطويل ، ويؤكد وجود هذه المخطوطة العمانية المعاصرة بين أيدينا اليوم أن هذه الوسيلة الثقافية في البث ما تزال حية . وأنه لا ينبغي أن يظن أن ملف عصرها قد طوى وأن الحديث محوله قد انتهى .
واذا كانت هذه القضية التمهيدية الأولى قد اتصلت بالوسيلة الثقافية وهي "المخطوطة" فهناك قضية تمهيدية ثانية تتصل بالقالب الثقافي للمخطوطة التي بين أيدينا وهو قالب "المقامة" وهو قالب قي يبدو كذلك زائرا غريبآ على عصر الرواية والقصة القصيرة والفيلم السينمائي والمسلسل التليفزيوني ، فضلأ عن الأجناس القصصية العريقة كالمسرحية ، أو الأجناس القصصية الصامتة مثل البانثوميم وغيرها من الأجناس التي تعتمد على الحركة المقروءة بالعين لا على الصوت الموجه للأذن والواقع ان المقامة ، شأنها شأن المخطوطة ، تمثل مظهرأ ثقافيأ يضرب بجذوره بعيدأ في تربة الفن القصصي العريي ، واذا كانت قد تولدت عنه كثير من الأشكال القصصية الأخرى التي استجابت الى تطور وسائل التقديم المرئية أو المسموعة أو المقروءة ، والى سرعة الايقاع في الحياة وما ترتب عليه من وجود الوان من التخفيف في قيود الوحدات اللغوية المتتالية ، مما لحم تكن المقامة تسمح بالتخفف منه غالبا ، واذا كانت هذه الأشكال القصصية الأخرى قد غطت معظم المساحة الممنوحة للنثر القصصي حتى جرى الظن بأن كتابات المويلحي وحافظ ابراهيم ومعاصريهما مثلث لحن الوداع لهذا الجنس القصصي القديم ، اذا كان ذلك الانطباع قد تكون لدى دارسي النثر العربي ، فان وجود مخطوطة لمقامات الخليلي ، لم يكن يجف مدادها بعد ، تؤكد ان ذلك الجنس الأدبي ، لم يمت ، وأن الحوار حول بعض جوانبه يمكن أن يثار من جديد .
وفن المقامة في النثر العربي ، فن وسط بين القصصي المكثف ، والقصصي المطول ، ويمثل النمط الأول فنونا مثل الحكم والأمثال والتوقيعات ، وقد عرقت على فترات متعاقبة ، وانتمى بعضها الى عصر الكتابة كالتوقيعات ، بينما انتمى البعض الآخر الى عصور المشافهة كما هو الشأن في الحكم والأمثال ، ولكن التكثيف والايجاز ، كان هو الطابع المميز لهذه الفنون القصصية ، تسهيلأ لحفظ النثر الذي لا يمتلك خواص الشعر في التعلق بجدران الذاكرة في عصور المشافهة ، واحتراما لهيبة الحكام وأولي الأمو الذين كانت تصدر عنهم التوقيعات ، وهم لا يميلون في كل العصور إلى البسط والايضاح ، وفي الطرف الآخر ، كان يوجد فن القصص المطول ، فمثلأ في الحكايات والمواعظ والملاحم ، ويكاد يلفت النظر ترك هذا الفن لأدباء الشعب ، أو أدباء العامة ، فلم تهتم العربية بالقصص الطويل على يد أدباء معروفين ، كما كان الشأن مع "هوميروس " في الأدب اليوناني ، و "فيرجيل " في الأدب اللاتيني ، وانما ظل مؤلفو هذه القصص الطويلة اما مجهولين كما هو الشأن في ملاحم عنتره وأبي زيد الهلالي ، وألف ليلة وليلة أو منتمين الى طبقات الوعاظ والقصاصين ، وكانوا كذلك شبه مجهولين ، أو الى طبقات الرحالة الجغرافيين ومؤلفي كتب العجائب والغرائب والمسالك والممالك ، ولم يجر الاهتمام بدراسة آثار أولئك جميعا في اطار تطور النص الأدبي .
المقامة إذن كانت الغالب الوسط ، بين كثافة المثل ، وترهل الحكاية ، ولم تكن معروفة منذ بداية الفن القصصي العربي ، وانما عرفت في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري وازدهرت في القرن الرابع ، ولم تعد قضية نشأة المقامات ، وارتباطها بابن دريد الأزدي ، أو ابن دريد العماني كما كان يسميه المؤرخ "المسعودي " ، لم تعد هذه القضية تحتاج الى مزيد من المناقشة ، فهي مثارة بين دارسي الأدب منذ القرن الخامس الهجري ، وقد وردت الاشارة اليها في كتاب زهر الآداب للحصري القيرواني المتوفى عام 453 5 ، عندما قال عند حديثه عن بديع الزمان الهمذاني "ولما رأى أبا بكر محمد بن الحسين بن دريد الأزدي أغرب بأربعين حديثا ، وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره ، واستنتجها من معادن فكره ، وأبداها للأبصار والبصائر وأهداها للأفكار والضمائر . .. . عارضها بأربعمائة مقامة في الكدية تذوب ظرفا وتقطر حسنا" .. ، وقد أشرنا في دراسة مفصلة أخرى الى العلاقة بين أحاديث ابن دريد ومقامات بديع الزمان .
أنظر كتابتا : "ابن دريد الأزدي " وتأثيره في الدرس والنص الأدبي ، الهيئة العامة للرياضة والأنشطة الشبابية – سلطنة عمان 1992 م ) .
لكن الذي يمكن أن يثار حول التساؤل من جديد هو مدى تأثير نمط الأدب القصصي عند عرب جنوب الجزيرة ، وابن دريد وأحد منهم ، على نشأة وامتداد فن المقامة في الأدب العربي ، ومقاومة هذا الفن لعوامل الفناء ، حتى إن واحدا مثل الشيخ عبدالله الخليلي يواصل الكتابة على هذا النمط حتى العصر الحديث ، قد لا يكون من المصادفة أن يكون أول كتاب المقامات من عمان وأن يكون آخرهم من عمان كذلك ، وأن يمتد هذا الفن بين ابن دريد والشيخ عبدالله الخليلي ، ليشهد مقامات للغشري وابن رزيق والحارثي وغبرهم من الكتاب الذين فقدت مقاماتهم أو ما تزال حبيسة المخطوطات .
ان ذلك التساؤل نفسه يمكن أن يمتد الى طبيعة الحوار الممتد والتأثير والتأثر المتبادل بين النتاج الأدبي في شمال الجزيرة العربية وجنوبها منذ أقدم العصور ، وهو نتاج كان يحمل مذاقا متميزأ لكل طرف دون شك ، وان كانت كثير من الملامح الخاصة ، قد ذابت في مليح اللغة الأدبية المشتركة ، التي جرت كثير من التساؤلات حول مدى تطبيقها الصارم في العصر الجاهلي ، وليست قضايا الانتحال واثارتها منذ عصر ابن قتيبة وابن سلام الى عصر طه حسين الا جانبا من جوانب هذه القضية المتعددة إلأطراف .
ان كثيرا من النقاش حول حوار أدب الجنوب والشمال في القديم دار حول الشعر ، ولكن النثر القصصي لم يحظ بقدر كاف من النقاش ، مع أف كثيرا من روايات النثر القصصي القديم قبل المقامة يرد إسنادها الى شخصيات من الجنوب ، فيجرى الحديث عن ملك حمير أو عن قيل من أقيال اليمن أو عن مرثد الخير بن نيكف بن معد يكرب ، أو ذى جدن ، وهيثم بن مثرب بن ذي رعين ، أو ذى فائش الملك الحميري ، وغيرهم من أسماء أبطال الجنوب التي تعمر بها الروايات القصصية النثرية على وجه خاص .
إن تتبع هذه الروايات وتصنيفها التاريخي والفني ، يحتل مكانة وسطى بين كثافة الحكمة والمثل ، وترهل الحكاية الشعبية ، واذا كان عمر هذه المقامة أو نمطها في الأحاديث تمتد جذوره المروية الى أدب الجنوب من ناحية ، وتمتد بداياته الفنية الى واحد مثل ابن دريد من ناحية ثانية ، ويواصل امتداداته لدى كاتب معاصر من مثل الشيخ عبدالله الخليلي من ناحية ، دون انقطاع تقريبا على مر العصور في منطقة مثل عمان ، فلم لا يكون ذلك النمط القصصي واحدا من الخصائص الفنية القديمة للأدب العربي النثري في الجنوب ، ذ ابت في الخصائص المشتركة التي أرستها لغة القرآن الكريم ، وطبعت بها الأدب العربي بطابع مشترك ، وان ظلت الملامح الخاصة في اطار هذا الطابع المشترك ، تظهر بين الحين والحين ؟ تقودنا هذه القضايا التمهيدية الى مخطوطة المقامات ، التي كتبها بخطه الشيخ عبدالله بن علي الخليلي ، شيخ شعراء عمان المعاصرين والذي ولد في أوائل العقد الثالث من هذا القرن العشرين ، واشتهر بعطائه الشعري الغزير ، في دواوينه المتتالية "وحي العبقرية" و "وحي النهى" و "على ركاب الجمهور" ، الى جانب قصائده المتفرقة الكثيرة ، ولكنه الى جانب ذ لك يمتلك حصادا نثريا لم ينشر معظمه ، يتمثل في رواية ومجموعة القصص القصيرة ، وهذه المقامات التي نحن بصدد الوقوف أمامها .
وتتكون هذه المخطوطة من ست مقامات ، تغطي ثلاثا وتسعين صفحة من القطع الكبير ، وتشير أربع من المقامات في عناوينها الى أسماء مدن عمانية ، وهي المقامة النزوية ، والمقامة الجعلا نية والمقامة السمائلية ، والمقامة السمدية ، على حين تشير اثنتان أخريان الى موضوعين يطرحان للمعالجة وهما المقامة التساؤلية والمقامة اللغوية .
وتصطنع المقامات هنا الهيكل الفني المعهود في فن المقامة العربية القائم على وجود الراوي الموحد والبطل الموحد ، اللذين تلتقي من خلال وحدة الشخصية لديهما ، الموضوعات المتفرقة التي تحفل بها مجموعة من المقامات لمؤلف واحد ، وقد كان بديع الزمان الهمذاني هو أول من اهتدى الى شخصية الراوي الواحد ممثلآ في عيسى بن هشام ، والبطل الواحد ممثلا في أبي الفتح السكندري وتبعه الجريري الذي جعل راويه الحارث بن همام وبطله أبا زيد السروجي ، وسار على هذه الطريقة كتاب المقامة من العمانيين فاختار سعيد بن راشد الغشري لمقاماته ، شخصية اليافث بن تمام راويا ، وشخصية أبي عبيد الفلوجي الذى يقترب اسمه من أبي زيد السروجي بطلا ، واختار ابن رزيق لمقاماته ، راويا ، شخصية الوارث بن بسام الذي يروي مغامراته عن أبي جواب الضريك واختار البرواني لمقاماته هلال بن أياس راويا .
وعلى هذا النمط جاء اختيار عبدالله الخليلي لراوية "ابو الصلت الشاري بن قحطان " ، ولبطله ا"فراهيد بن هود" ، ولكن اختيار الأسماء هنا لكل من الراوي والبطل ربما يحمل دلالة خاصة تستحق الوقوف قليلا أمامها ، فكنية الراوفي "ابو الصلت " تذكر باسم الصلت وهو اسم أثير في التراث العماني ، حمله أعلام من أمثال الصلت بن مالك الخروصي اليحمدي الامام الذي ازدهرت عمان في عهده في القرن الثالث الميلادي والفقيه الصلت بن خميس الخروصي المكنى بأبي المؤثر من فقهاء القرن الثالث .
أما اسم الراوي "الشاري " فهو إشارة واضحة الى الأئمة الشراة ولا شك أن اسم "قحطان " الذي يتوج الاسم هو إشارة الانتماء العرقي لعرب الجنوب ، فنحن إذن أمام راو يحتفظ من خلال اسمه بهذه الملامح الخاصة للبطل الجنوبي ، وهي تذكر بما كان قد صنعه ابن دريد في مقصورته الشهيرة حين رسم ملامح لبطل مقصورته تقودنا عند التأمل في النهاية الى التعرف على ملامح بطل جنوبي ، يفاخر بأطال قحطانيين قبله ركبوا الصعاب وحققوا الأمجاد حين يقول:
ان "أمرأ القيس " جرى الى مدى
فاعتاقه حمامه دون المدى
وخامرت نفس ،"أبي الجبر" الجوى
حتى حواه الحتف فيمن قد حوى
و"ابن الأشبح " القيل ساق نفسه
الى الردى حذار إشمات العدى
وأضرم "الوضاح " من دون التي
أملها سيف الحمام المفتضى
وقد سما "عمرو" الى أوتاره
فاحتط منها كل عالي المستمى
وهؤلاء جميعا ، أبطال جنوبيون قحطانيون ، يفاخر ابن دريد قديما بأنهم نماذج يحتذى بها ، وينحت عبدالله الخليلي حديثا اسم راويه لا ابو الصلت الشاري بن قحطان لما من معجمهم . ولا يقل اسم البطل الذي اختاره الخليلي لمقاماته دلالة في هذا الاتجاه ، فاسمه " فراهيد بن هود " يذكر بفرعين من فروع المعرفة والهداية برز فيهما عرب الجنوب فمع ان الاسم الأول يذكر بفراهيد بن مالك بن فهم أحد أبناء الملك الأزدي المشهور ، وأحد قواد جيوش المنتصرين على الفرس ، فانه يذكر كذلك بالفراهيدي ، وهو لقب ينصرف عند الإطلاق الى الخليل بن أحمد شيخ علماء العربية، على حين يذكر الاسم الثاني بجانب من ميراث النبوة يعتز به عزب الجنوب ، وكأن اجتماع الاسمين معا في شخصية البطل مع حفظ التسلسل التاريخي بينهما ، يشير الى التقاء العلم والنبوة ، أو العقل والنقل ، في شخصية البطل التي تؤكد فكرة الخبرة والحكمة اليمانية القديمة .
إن هذا الاطار اللغوي لشخصية كل من الراوي والبطل تؤكده الملامح النفسية والجسدية التي يرسمها المؤلف لهما ، وتجعلهما يختلفان اختلافا جذريا عن نموذج أبطال " الشطار" والمغامرين آو أبطال " الكدية " وطلب النوال ، الذين دأبت المقامة العربية عل رسمهم منذ شخصية أبي الفتح السكندري عند بديع الزمان ، إن البطل عند الخليلي يحمل ملامح بمتزج فيها الشعور الديني العميق بالتذوق الجمالي والأدبي العميق ، بل ان كثيرا من المقامات هنا ، تطور حوارا هدفه إثبات آن لا تعارض بين هذين اللونين من المشاعر ، ويقدم الخليلي في مفتتح المقامة الزوية صورة لملامح البطل حين يقول على لسان الراوي ابو الصلت الشاري بن قحطان :
" فلما وقفت منه على السارية الكبيرة لأصلي ركعتين تحية المسجد قبل الظهيرة ، لم أكد أنفتل من صلاتي وأكمل تحياتي ، حتى رأيت شيخا عليه سمة الوقار ، وسمت الصالحين ، يعلوه الخشوع والانكسار لله رب العالمين ، وكأنما أمسك بيده اليمنى ناصية الجنة فتهلل وجهه نورا يغشى الناس والجنة ، وكأنما دفنت يده اليسرى والعياذ بالله في بؤرة النار ، فبكى وأبكى من حوله خوفا من دار البوار ، وهو يهيب بالناس اليه ، ويجمعهم لديه في لسان زلق ، وصوت صهر لصق " والناس اليه كالسيل الجارف ، والحلقة تجمع الجاهل والعارف " . ولعل هذا النص يقدم الى جانب رسم ملامح البطل ، فكرة عن لغة المقامة وهي لغة كانت دائما ذات طبيعة خاصة ، تختلف عن لغة الشعر من ناحية وعن لغة الأجناس النثرية الآخرى كالرسالة والمقالة والرواية من ناحية أخرى ، وبقدر ما كانت لغة المقامة ، التي تميل الى الغرابة ، سببا لشهرتها وتوجيهها الى أهداف تعليمية في عصور كثيرة ، بقدر ما كانت سببا في جفاف العناصر القصصية في المقامة وضمورها عصرا بعد عصر حتى أوشكت على الاختفاء ، والواقع أن لغة المقامة عند الخليلي كانت تعمد أحيانا الى استعراض المهارات اللغوية ، وحشد الكلمات الغريبة ، وخاصة في تلك المقامات التي تكون اللغة نفسها هدفا لها ، كما حدث في المقامة الثالثة ، التي تحمل عنوان لما المقامة اللغوية مما حيث احتشدت الكلمات الغريبة المتتالية لدرجة اضطر معها المؤلف لآن يضع للصفحة الأولى من المقامة وحدها خمسة وأت بعين هامشا لتفسير الكلمات الغريبة وتبدأ هذه المقامة على النحو التالي .
"حدثني ابو الصلت الشاري بن قحطان ، قال خرجت من سمائل الى جرنان ، وكنت في كوكبة من الفرسان ، وكانت السكة نائبة ، والشكة واهية ، والريض خالية ، حتى لنكاد نزرد الردعة ، منحدرة لا يحس بها اللثغة ، حتى أشرفنا على واد بهور ، وكان الجن كنهور ، فما إن حططنا به الرحال ، أو كدنا ننيخ الجمال حتى نزلت علينا سماؤه " وزلفت بنا صفواؤه ، فرأفنا القلص حثا فزأزأت بنا كالظيلم وطثا" . ونحن في مقطع كهذا ، نجد أنفسنا مع لغة تاريخية ، ليسر القص هدفها ولا القارىء العصري طرفها الآخر الذي يوجه اليه الخطاب ، وانما تتحول اللغة نفسها بطياتها التاريخية وتراكماتها في بطون الكتب والمعاجم " الى مجال للحركة يكاد في بعض الأحيان أن يشكل دائرة خاصة محكمة الأطراف .
والمقامات الست التي بجن آيدينا تتراوح لغتها بين هذين المستوين اللذين رأينا واحدا منهما في صدر المقامة النزوية ، ورأينا الآخر في صدر المقامة اللغوية ، كما يتم التراوح كذلك بين ملمحين فنيين آخرين هما السردية الخطابية ، والدرامية القصصية ، فعلى حين تجنح بعض المواقف الى صب المضامين التي يراد ايصالها من خلال خطبة مباشرة ، أو حديث يكاد يتوجه الى القارىء ، تعمد مواقف أخرى الى التخفيف من حدة السرد بالتركيز على لمسات في وصف الموقف ، والاقتراب من الوسائل القصصية ، على حساب الوسائل الخطابية كما جاء في المقامة النزوية ، عندما تقطع المقامة خطبة مسترسلة للراوي ، لكي تقول :
"وهنا صعق الخطيب ، ولم يكد يتكلم ، فوقفت انظر اليه ، والى الدموع من عينيه وكأنها السحاب المنهمر ، أو السيل المنحدر ، فبقى كذلك هنيهة والناس من حوله ينتحبون ، حتى أفاق وقال ة " انا لله وإنا اليه راجعون " ثم عاد الى خطبته واستمر في القاء كلمته فقال :
وهذا اللون من المراوحة بين النزعة الخطابية : والنزعة القصصية يكسر من فكرة الهدف التعليمي المباشر قليلا ، ويجعل مفهوم الحدث القصصي ادرامي يجد سبيله الى التجسد بين الحين والآخر . على أن هذا الحدث الدرامي في ذاته تتفاوت درجات التجسيد داخله بين تجسيد ذى طابع فردي يجعل الحدث عادة أقرب الى المجال القصصي ، وتجسيد ذى طابع جماعي ينمو بالحدث منحى خطابيا وتلك واحدة من الملامح التي تردد حولها فن المقامة العربية منذ بداياته ، وظلت نقاط القوة الفنية بارزة في مقامات التجسيد الفردي ، التي تترك قارئها أو سامعها بعد الانتهاء منها وقد ترسب في ذهنه نموذج بشري أكثر مما ترسبت مجموعة من الأسس المعنوية على النحو الذي يحدث في مقامات التجسيد الجماعي ، ولم يكن النجاح الكبير لمقامات بعينها مثل المقامة المضيرية لبديع الزمان ، الا من خلال التجسد الصارخ لشخصية الضيف المسكين الذي وقع ضحية مضيف ثرثار يصف له تفاصيل كل شيء في البيت والأثاث والخدم ، ويهمل تقديم الطعام والكف عن الكلام ، وعندما يهم بوصف المضيرية ، الطبق الذي يحلم به الضيف ، يولي الضيف الأدبار هاربا قبل أن يحطم الوصف رأسه ، وشخصية الاعرابي الساذج الغفل التي رسمتها المقامة البغدادية ، وتركته يقع فريسة لبغدادي متحضر ، قاده الى مطعم للشواء على أنه بيته ، وتركه بعد الطعام فريسة لصاحب المطعم القاسي " شخصية اكسبت المقامة قيمتها من خلال التجسيد ذى الطابع الفردي ، وحققت من خلال ذلك ، ما لم تحققه مقامات بديع الزمان الأخرى ، ذات الطابع الجماعي في التجسيد . والواقع ان مقامات الخليلي تتراوح بين هذين النمطين من التجسيد الفردي أو الجماعي ، فعندما يتم في أحد مواقف المقامة النزوية جسيد مواقف السبق الحضاري للحضارة الاسلامية ، وتجسيد بطولات الرجال الذين شادوا هذه الحضارة من خلال مواقف بطولية يتم اللجوء إلى رسم المشهد لجماعي الملحمي ، اكثر من اللجوء الى رسم الموقف الفردي القصصي ، مثل قوله في أحد المواقف :
"عشقوا الموت في سبيل الله ، فألقت اليهم أزمتها الحياة ، ووالوا في الله كل من والاه ، وعادوا فيه كل من عاداه ، أقرب القريب اليهم ، من صدق ايمانه ، لو كان من قوم عدولهم ، وأبعد البعيد من ظهر لله عدوانه ، لو كانوا أباءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم ، اذا انتصروا لا يعجبون ، واذا ملكوا لا يستعلون ، واذا حكموا لا يجورون ، واذا كان عليهم الحق لا يأنفون " .
من مظاهر المراوحة في مقامات الخليلي ، الانتقال بين مظاهر الحياة القديمة مظاهر الحياة الحديثة ، واذا كنا قد رأينا في النص الذي اقتبسناه من مقدمة "المقامة اللغوية" كوكبة الفرسان وهي تصعد من سمائل الى جرنان ، وأقصى ما تبلغ بها السرعة أن تكون كالظيلم وطثا، أي كذكر النعام في سرعة ضربه الأرض بحوافره ، فان مشهدا مقابلا للحياة المعاصرة تطالعنا به صدر "المقامة التساؤلية"، حيث السيارة الفارهة وألانثى الجميلة الحاسرة ، التي ترد مجالس الرجال ، وتطرح السؤال تلوالسؤال ، وترد حكايتها أيضا على لسان نفسى الراوي وتلتقي بنفس البطل ، مفتتح المقامة التساؤلية :
"أخبرني ابو الصلت الشاري بن قحطان ، قال خرجت مرة لبعض الشأن ، وكنت على سيارة فخمة المظهر ، أنيقة المنظر ، متينة المخبر ، ان ركبتها قرت ، وان وطئتها فرت ، فكنت أجوب بها الطرقات ، لقضاء بعض الحاجات ، حتى انتهيت بطريقي ، أمام محل لصديقي ، فأوقفت هنالك رحلى لأذرع الطريق رجلي ، فبينما كنت -أحاول اجتياز الطريق العام .. .. إذا بيد تقبض على كتفي من الخلف ، ونفحة يهيمن على الروح ما بها من العرف فنظرت فاذا فلقه قمر ، ونشقت فاذا نسمة سحر ، فبقيت ساعة لا أفهم خطابا ، ووقفت حائرا لا أحير جوابا ، حتى زالت الدهشة ، وعادت الهشة ، فقلت ما الشأن ، وهل أنت من بني الانسان ، أم من عباقرة الجان . .. فقالت دعك من الفلسفة ، وهلم بنا الى رحاب المعرفة " .
إن هذا المدخل للمقامة التساؤلية مع ما فيه من تنوع مناخ الحياة الذي أشرنا اليه ، يقودنا الى مقامة تختلف بدورها عن المناخ السائد في مقامات الخليلي ، وهو مقام المدن العمانية التي تدور حولها المقامات الست ، ان المقامة التساؤلية تشغل قضية المعرفة والمعرفة عند النساء خاصة ، وهي تقدم نموذج المرأة العالمة التي تتغلب على علماء الرجال بما تطرح من أسئلة فتثير حيرة وإعجابا بالقوة غير المتوقعة ، وغالبا ما يصحب ذلك جمال آسر أيضا ، وهذا النموذج عرفه التراث الأدبي العربي وان كان في خارج المقامة ، عرفه القصص الشعبي ، وحفظت لنا حكايات الف ليلة وليلة قصة شهيرة من هذا النمط هي حكاية "تودد الجارية" التي صمدت في مجلس الرشيد لحوار طويل مع كوكبة من العلماء في مختلف التخصصات .
والخليلي يعيد الينا هذه الصورة في مقامته التساؤلية ، في الحوار بين الحسناء والشيخ ، فهي حينا تسأله عن رأيه في أبيات من الشعر وحينا تسأله عن رأيه في شاعر تبدو لديه رقة القول ، وصرامة الفعل ، وكأنه بذلك يثير قضية رئيسية تشغل مقاماته ، وهي ما يمكن أن يسمى بأزمة الشاعر الفقيه ، الذي يعرف مواطن الجمال وبواعته ، وطرائق التعبير عنه ، ويعرف كيف يذوب كلامه رقة في الغزل ، ولكنه يخشى ان يكون ذلك مما يؤخذ عليه عند عارفي مكانته الفقهية والدينية ، وفي هذا الاطار تسند أسئلة تحاول التفريق بين فتوى الشاعر وفتوى الفقيه ، وتسأل الحسناء الشيخ عن رأيه في قول الشاعر .
حجبوها وكيف تحجب شمس شع في الخافضين منها ضياء وعن رأيه فيمن يقول ان الشاعر أشار الى السفور ، وحث المرأة على ارتكاب المحجور ومن يقول : انها الفصاحة والخيال ، والتغني بالحسن والجمال ، لا استهتار ولا فك عرى ، فماذا ترى .
والواقع ان كثرة هذه التساؤلات حول محور الشاعر الفقيه وارتباطها بأبيات وقصائد شعرية من نسج المؤلف تجعلنا نشم في هذه المقاطع روائح من السيرة الذاتية للمؤلف وهي روائح يزيدها المؤلف وضوحا وتأكيدا حين يروي مقاطع أخرى في المقامة التساؤلية ، يتحدث فيها بضمير المتكلم المفرد عن مواقف حقيقية مر بها أو شهدها في اطار الحوار حول عدم التعارض بين تجنيح الخيال في التعبير الغزلي في الشعر وعفة السلوك يقول : "وكثيرا ما يتخيل الشعراء أشياء فتجري على السنتهم بدون عناء فمن ذلك على سبيل المثال ، قول ابن النبيه في شبه هذا المجال : زارت ففككت عرى جيبها بالفم عن رمان كافور فهل ترى أنها زارته ، ورامها ورامته ، أم هي الفصاحة وجودة الوصف والتأنق في البناء والرصف ؟ سئل الإمام الخليلي رحمه الله وكنت قاعدا عنده أترسم خطاه ، قال السائل . ما ترى إمامنا الجواد ، في صاحب السيف النقاد ، أعني الإمام الحضرمي .. . ان هذا الامام الشاعر والبطل المغامر ، يتغزل في الحسان .. . أتراه يعني أهل أم الحور وحاشاه عن التطرق الى المحجور ؟ فالتفت الامام الي متعرفا ما لدقي وقال لهم ؟ هذا هو الشاعر فاسألوه ، وما أتاكم منه فاقبلوه ، فقلت في الحال ، الأمام الحضرمي تغزل في الجمال ، ولان ألانثى للرجل مطمح الغريزة جعلها المتغزل لغزله ركيزة ، ولم يرد امرأة بعينها ، والا فقد حمل نفسه على شينها .. . . فاستحسن الامام الجواب ، وهش له كل الأصحاب ".
انها جوانب إذن من التجربة الشخصية للمؤلف الشاعر ، ترد حينا على لسان الراوي ابي الصلت الشاري بن قحطان ، وحينا بضمير المتكم المفرد علىلسان المؤلف ، وتشف عنها في الحالات الشواغل الرئيسية للشاعر الفقيه من ناحية وللشاعر المولع باللغة المعايش لها عقودا طويلة ،والذي لا يكاد يكف عن التقليب في امكانياتها الجمالية ، وهو ما تشف عنه على نحو خاص ، المقامة اللغوية، التي تقترب في بعض الأحيان ، من الولع الشديد بفكرة المحسنات البديعية والأغراق فيها ، حتى انه ليجمع في احدى القصائد التي ترويها المقامة .
ان مخطوطة مقامات الشيخ عبدالله بن علي الخليلي تثير كثيرا من القضايا الفنيةالمتصلة بالفن القصصي العربي منذ جذوره الأولى التي مضى عليها ما يزيد على ألف عام الى واقعه المعاصر المليء بالامكانيات والتنوعات ، التي يمكن أن تزداد من خلال البحث عن روافد تراثية تغني الجمال القصصي الذي أثبتت التجربة أنه زاد ضروري لعاشقي المتعه الأدبية في كل زمان ومكان ، وعلى اختلاف مستويات الثقافة والمعرفة .