في سهل مديد وفي ليلة قمراء ، وقرب نهرين قديمين ، عثرت عليك ، بعد غيابة بحث طويل كدت أنسى نحلاله ملامحك القديمة التي طبعتها على ذاكرة صباي بقسوة ورفق ..
يا الهي ! ما الذي حل بك :؟
هاجعا وجدتك ، يدك اليسرى تحت رأسك فيما يمينك ممسكة بالجرح القريب من قلبك .. الجرح الذي تركته أبلغ طعنة من الطعنات التي اثخنت جسدك ..
كنت غائبا عن الوعي أو تكاد.. وسمعتك تدندن بكلمات قديمة رددها حلان قدماء فيما عيناك تحومان بين الكواكب والقمر..
قمر ساطع وكواكب لامعة لمراساتك في وحدتك الموحشة !!
عريك ، وجسدك المغطى بالضوء، وشحوب وجهك ، والصفرة البادية على محياك ، والوميض المنبعث من عينيك ، وهذا التعبير الغريب الذي امتزج فيه الغضب بالعتاب بايماءات أخرى يصعب علي وصفها.. كل هذا أفزعني، وأنا أنحني على جثمانك …
النصال المتكسرة قرب مضجعك ، وبقع الدم المتيبس حول جسدك ، والكلمات الحارة الحائمة حول شفتيك ، والدمعتان الطويلتان الساخنتان المنحدرتان على نحرك وكيانك الفذ وهو ملقى على التراب المروي بطهر دمك ..
كل هذا أذهلني وشتت رؤاي..
أذكر الى الآن بهاء الحزن الحائم حول مرقدك ، وخلال الكبرياء المشع حول جبهتك ..
أذكر بطنك الخاوي وشفتيك اليابستين ، وكيف وأنت أمير الكرام شح عليك الأقربون بلقمة زاد وشربة ماء.
وبينما أيقن الأخر ون أنك تحتضر وتمضي الى موتك ، كنت دون أن تدري تخلد وتحيا وتنصب نفسك ملكا على الجلال ..
ولكم عز عليك وأنت المربي والسامر والزكي أن تمد يديك طلبا لمعونة من أبناء عاقين وأصدقاء جاحدين وصحب أنذال ..
الشمائل . العظيمة التي لم أعرفها عند غيرك ، والهيبة الكبيرة التي لا يتمتع بها أحد سواك ، والقلب المحب الطاهر الذي لم ينبض الا بين ضلوعك ، والحنان العظيم المتدفق من عينيك كنهرين سخيين : مزاياك وحدك التي سترحل معك ان رحلت ، لذا هجرك الأوغاد وغمرتك بضوء النجوم وشع عليك القمر ، ولذا حفظت لك عهدك ..
صديقي وسميري انت والوتين النابت في قلبي والأشعة المغروسة على هامتي.. وحيث أوغل في البعد عنك أجدني قريبا منك مصغيا لصوتك القديم يأتيني مطرزا بالطعنات والشموس ..
الأديم الرائع أنت الممتد فوق سهوب معطاءة كريمة والضوء القادم من بعيد البعيد والهواء حامل البوح والماء واهب الحياة أنت ..
ولأن الحياة صنيعك تعلقت بها تعلق الشاعر بقصيدته والمثال بتمثاله والرسام بلوحته ..
كي أكون وفيا لك لا أريد منحا منك .. فلقد منحتني ما يكفي لست دعيا حتى أكلفك ما لا تطيق ..
في وحشتك وغربتك ومرضك ومقاساتك وانفضاض الأحباب من حولك وتحديق الوحوش بك واغتسالك بالضوء: أنحني اكراما لك ..
-2-
بينما أنت ذاهب في غيبوبتك ، تقلب طرفك في السماء فتهتز الكواكب لسقمك ، بينما أنت معان وزام على شفتيك ، أرى هدأة تعبر وجهك بين حين وحين فينعكس النور من جبينك وتعبر ملامحك الذكريات : صبايا يعبرن الى الحقول وصبية يترجلون عن الجياد ورجال ينزلون الى القوارب ونسوة يسجون التنانير وقت الغروب وجمهرة من الطيور تعبر نحو خط الأفق البعيد ولم تزل سابحة في دائرتك المديدة ..
غايات من النخيل بلا حدود تقابلها غايات من البراق بلا حدود.. بحر شامع مديد وصحراء مد البصر. هي ذي حدودك .. ولأنها فلتت من المكان الى الزمان لذا استحال تحديدها واحتوتها الأبدية .
بينما أنت ذاهب في غيبوبتك ، تقلب طرفك في السماء فتهتز الكواكب لسقمك ، بينما أنت معان وزام على شفتيك ، أرق الأوغاد يكيدون لك ولي ، نكاية بك وبمحبيك ، وأراك تعود الى الحياة .. انتظرك ، حتى بعد الممات ، مماتي..
كريم الأسدي ( قاص من العراق يقيم في برلين )