في مسرحيته "منمنمات تاريخية " التي يكشف اسمها عن التجاور والتجادل والتكرار اللانهائي يقدم لنا " سعدالله ونوس " بذكاء وصدق واقتدار واتقان هزيمة العرب في الحاضر باستدعائه الماضي بعد تفكيكه ،وهو يستنبط مجموعة من القوانين التي تحكم البناء التراجيدي،بإحالته الى تفصيلات عادية تسخر منه حين تنقلب البطولة التراجيدية الى ممارسة يومية ..
بينما الهزيمة التاريخية على وشك الحدوث ، يأتي الى القلعة المحاصرة التي دافع عنها الأمير "أزدار" ورفض تسليمها " لتيمورلنك " وجيشه الغازي في بداية القرن التاسع الهجري، ويأتي " محمد بن أبي الطيب "أحد الخصوم السياسيين للأمير طالبا تسليم القلعة .
محمد : أيها الأمير إنك تتلاعب بمصير المدينة .
_ كاتبة مصرية .
أزدار : أنا الذي أتلاعب بمصير المدينة أم أولئك الذين تراموا على حذاء العدو، يلعقونه ، ويسلمون له أرواحهم وأموالهم ! محمد : ربما لن يعجبك كلامي ، لكن ألم يخطر لك أيها الأمير أن تتساءل عمن رمانا تحت قدمي العدو، تقول إننا بلا حياء،ولكن من الذي قتل حياءنا وبدد عزمنا ! أليس هو
الحاكم الذي تحمل رايته ،أليس هو ذلك الغلام المشغول بذكره وخمره والذي فر بعساكره دون أن يقول لنا كلمة ، أو يترك لنا تدبيرا أو خطة ! وأنت أنت أيها الأمير ألم تقتل حياءنا، وتبدد عزمنا قبل مجيء الحاكم وهروبه
الشائن ألم تحرمنا السلاح حين طلبناه ! ألم تجعلنا أغرابا في سدينتنا لأننا نخالفك الرأي..).
ولكننا لا نستطيع أن نمنح مشاعرنا لمحمد بن أبي الطيب ،ولا أن نتخلى عن الأمير الذي قاتل حتى النهاية ليحفظ شرف الأمة كما راه لا ليحقق ميتا كما اتهمه خصومة .فعلى امتداد المسرحية سوف تتكرر كل منمنمة ونقيضها ولكن في إطار من الجدل والصراع الدرامي الحي الذي يلقي بظله على الواقع الراهن ، وكأنما يتكرر بدوره كواحدة من المنمنمات التي تجعل مستويات النص متجاورة لحظة تجادلها مع مسافة حرة لخيال المخرج أو القاريء يملؤها التشخيص حين تخرج الشخصية من جلدها لتعلق أو تتحدث باسم نفسها. أي الراهن .
وهي تقنية وإن ارتبطت في شكلها العالمي بمسرح بريحت إلا أن البحث في أشكال الأداء الملحمي للقصيدة الشعبية كما درسها "عبدالقادر علولة " المسرحي الجزائري الشهيد، وبين لنا أنها تقنية موجودة في أشكال التسرح العربي الشعبية .
ثمة مقابلة دائمة بين مثقف ومثقف ، بين رجل دين ورجل دين ، عسكري وعسكري، حلم وحلم أخر، مؤرخ ومؤرخ (والبلاد التي تنوع عليها مهترئة وغزوة بدون غزو) كما يقول ابن خلدون لتلميذه " شرف الدين " ثمة وعي بالحالة الواقعية العارية ، ووعي ممكن ينهض على الثقة بالناس وتسليحهم لمواجهة الهزيمة . ولكن هذا الوعي الأخير أعزل ، فالقوة والسلطان والجيوش والثقافة تحت إمرة الذين لا يحلمون ولا يرون إلا ما هو تحت أقدامهم سواء الوقائع الدر امية أو في الحاضر الذي تخاطبه المسرحية .
الشعب غريب وعاجز أمام عربدة جيش الحاكم قبل جيش العدو يقول مروان ابن الشعب البسيط النموذج المليء بالأسئلة والشكوك : " إنهم يتصرفون مع المدينة وكأنها مباحة لهم ، يستطيعون أن يأخذوا ويغتصبوا ما يشاء ون ..".
وتقول " ريحانة "، التي باعها أبوها كجارية بعد أن جاع وجاعت ، باعها لتاجر يرى في الاستسلام للعدو مجرد صفقة تجارية ، وفي تجارة المواد الغذائية الشحيحة شطارة . تقول " كلهم تتار يا شعبان .. قومنا تتار.. والتتار تتار.. كلهم تتار وأنا وأنت غريبان .."
إنها غربة الشعب المنفي لأن الشرط الانساني الحق الذي ينمو في ظل حرية داخلية وبيئة خارجية توفر الأمن والعدل لم يتحقق أبدا لا في الماضي ولا في الحاضر. وكأن " شعبان " هو ذلك العراف الأعمى تيريزياس في التراجيديا الاغريقية ، أو هو وريحانة كورس هذه التراجيديا، رغم أننا إزاء عمل تحددت فيه المصائر التاريخية سلفا فأصبح وجودهما المنذر إحالة دائمة للجموع الصامتة التي تحرقها
النيران وتحصدها الحرب دون أن تتمكن من الدفاع عن نفسها، ويصادر الاستبداد الروحي على وعيها فتنخرط بحماس باسم الدين في إحراق " بيوت الخنا" وكبس الأماكن التي تعمل فيها الخمور «دفأ راقوها وأمسكوا من يعملها" ويتواكب ذلك كله مع وصول جيوش التنار الى بعلبك ،وعودة نائب حمص هاربا الى دمشق .
" وصلت طلائع جيش الحاكم " وفي السادس منه كان دخول السلطان الناصر فريج بن برقوق الى دمشق ، وكان دخوله يوما مهولا من كثرة صراخ الناس وبكائهم والابتهال الى الله بنصرته ..
إنهم يصرخون طلبا للنصر دون أن يتقدموا لصنعه فقد فعل الاستلاب الروحي فعله .
وهنا تبرز حقيقة إبعاد الشيخ جمال الدين بن الشرائجي وإحراق كتبه ليكون الناس بعيدين عن التفكير العقلاني الحر، ويتقدم التجار ليبرروا تسليم المدينة لتيمور لنك على أساس القراءة المتخلفة للدين التي هي على العكس تماما من قراءة ا بن الشرائجي التي تعلي من شأن العقل والإرادة ، وترى في مشيئة الله عدلا وحرية .
ويأتي التفسير العصري للمخرج " عصام السيد" الذي قدم عرضا بديعا للمسرحية على خشبة المسرح القومي في القاهرة الذي أطر الشيخ " برهان الدين الشاذلي "الذي شارك في فتوى احراق الكتب ونزل به الى الصالة وعقد صلة بينه وبين الجمهور وجعل منه محرضا عصريا ضد الغزو أي ضد التنار المعا هوين تاركا للمشاهد أن يستدعي الاحتلال الصهيوني ومقاومة كل من " حماس " و"الجهاد" في فلسطين و "حزب الله " في لبنان له . . دون أن يستكمل المخرج الصور العميقة الحية في النص للقراءات الأخرى فهو لم يفعل نفس الشي ء مع الشيخ جمال الدين بن الشرائجي الذي دعا بدوره الى المقاومة ولكنه وضعها في إطار من التحرير الأشمل للإنسان وذلك النص البديع الذي قدمه لنا المؤلف كتفصيل آخر وكأنه شهاد ته فيقول الشيخ الذي ينتظر الموت مرفوعا على صليب :
" أنا الشيخ جمال الدين بن الشرائجي،آمنت أن العقل خير من النقل ، وأن الله عادل لا يقدر ر على عباده الفقر أو الذل ، فأذاع أحدهم أمري،فاستدعاني قضاة دمشق الأربعة .وبعد السب والضرب وإحراق كتبي، وموني في سجن القلعة .وحين حل تيمور في ظاهر المدينة ، وجاء سلطان مصر والشام لمدا فعته ،أبكا ني القهر، وعز على الا أكون مع الأمة في مواجهة هذه المحنة ، فالتمست من السلطان النظر في أمري فلما سأل وعرف مقالتي، غضب وأمر أن يضيق على من سجني ثم رحل الحاكم فجأة ، وترك دمشق أكلة لتيمور، فقرر القضاة والأعيان أن يسلموا المدينة للعدو إلا قلعتها،فقد أبى الأمير أزد ار إلا أن يقاوم ويقاتل فاتصلت بالأمير، ورجوته أن يطلق سراحي ويضمني الى مقاتليه ، فخشي أن يلومه الناس أو أن يؤخذ بذنبي، وطلب مني مترفقا أن أتجمل بالصبر وان استعين بالله عل بلاشي، ثم انهزم صاحب القلعة ، واستبيحت دمشق وذات يوم قادني عساكر الى حضرة تيمور، وكان يجلس عند قدميه نفر من علماء المسلمين ،عرفت منهم الشيخ محيي الدين بن العز،والشيخ عبدالرحمن بن خلدون ، فإستفسر عن خبري ونحوى خطابي، ولما أخبر وه بلسانه الأعجمي علا وجهه الغضب ، وأمر أن أجلد وأصلب حتى ينفذ في قضاء الله . فعجبت من اتفاقهم في أمري على ما بينهم من الحرب وسفك الد ماء..".
نعم لقد بدأ سقوط دمشق عندما أحرقت الكتب ونفي الجدل كما تضع المسألة الناقدة الشابة " مايسة زكي" في مقالها البديع عن النص – العرض في عدد ابريل 1995 من أدب ونقد .
وهكذا سعد الله لا يكتفي بعرض روح فترته المعاشة من وقائع العالم القديم التاريخية بل " يدفع الى الحياة تلك الأحداث التراجيدية الموغلة في القدم التي كانت تستند الى تجارب تاريخية أخلاقية مشابهة داخليا لتجارب عصره بالذات ، وبذلك يكشف شكل الدراما ألمع السمات التي يتشارك فيها العصران موضوعيا .."، وتتكشف لنا نحن قواء ومشاهدي المسرحية الجدلية الداخلية لأزمة عميقة يدخل اليها نظام من العلاقات والقوى آخذ في التحلل والتناثر شظايا، في إطار بنية الفلسفة العربية الاسلامية القائمة على توحيد المتناقضات ،
فهل معنى هذا أن تطابق العصرين لا يعني ـ دراميا ـ أن تغيرا ما قد حدث على امتداد ما يزيد على الخمسمائة عام كلا، بل إن التغير ماثل منذ اللحظة الأولى بتلك النظرة المتفحصة الجدلية لما هو أبعد من الظاهرة بشكلها المتطور والتي تجعلنا نكتشف القانون الأساسي وهو يفعل فعله .
وهو يراهن على وعي القاريء المتفرج ، ووعيه هو كمسرحي معاصر لنرى جميعا ذلك التغير والفارق الكبير بين هزيمة وقعت في الماضي وأخرى نعيشها وحقيقة تطور الوعي التاريخي تطورا غير مسبوق إذ أصبح وعي البشر بدورهم حقيقة ، والفعالية الإنسانية والإرادة الحرة حقيقة ،صحيح أن " الشرائجي" قد صلب . لكن سعاد التي لم يكن حلمها سوى صور لغزو بيروت المعا صرة قد اختارت طريقة موتها بكامل ارادتها وبعد أن سألت حبيبها أين الله ؟
وأصبح من الممكن خروج مسرحيات تاريخية ناجحة على صعيد الكتابة ، واندلاع الثورات الكبرى والانتفاضات الشعبية على صعيد الواقع بصرف النظر عن المصائر.
ومن الكتابة عموما، الكتابة المسرحية هنا فإن الصدق الموضوعي لابد أن يكون أولا صدقا فنيا يصور الصدامات المركزية الكبيرة وتشابك المصائر تبرز فيه نقاط التحول على أعلى درجة من التكثيف وهنا يكون السؤال ما إذا كان الماضي شيئا قابلا للمعرفة كما يطرح لوكاش ويرد إنها المسألة التي تعتمد دائما على مدى معرفة الحاضر، ومدى ما يستطيع الموقف المعاصر أن يكشف بوضوح الاتجاهات الخاصة موضوعيا في الحاضر. وموضوعيا تعتمد المسألة على كيفية ومدى التوسع أو الكبح أو المنع الذي تلتاه مقس فة تطور المامي على يد التركيب الاجتماعي للحاضر ومستوى تطوره وطابع صراعه الطبقي.."
إننا نستطيع أن نتبين كيف أن كل المفاتيح الرئيسية لهذه البنية المسرحية المعقدة بتيماتها المتداخلة وتقنياتها الدقيقة كالوشي والزجاج المعشق وفن الخط العربي تصل جميعا الى هذه الرسالة البسيطة الواضحة كشمس الصباح حين تحكي سعاد حلمها لحبيبها شرف الدين نموذج المثقف الذي يحمل القلم والسيف دون ادعاء" وحضر أبي الى جواري، وقال لي كئيبا أتعر فين هذه الأحياء، فقلت له لا فأخذ يسمي الأحياء واحدا واحدا، هذا عرب نعير. وهذا عرب بني حارثة وهذا عرب الشام .. وهذا عرب مصر والقاهرة ، وأولئك من عرب قحطان وأولئك من عرب إفريقيا" كانوا جميعا يتفرجون ولا يبالون ، وظللنا طائر كبير يهدر، وصرخت ثم صحوت مقهورة وحزينة ، كان مناما موحشا ومخيفا..
ألم يكن هذا هو حال العرب لدى غزو بيروت .
لكن علينا أن نراهن على حضورنا ووعي ذلك المثقف الآخر شرف الدين " قال ابن خلدون ، ولعله محق ، إننا نعيش زمن الاضمحلال ، ولكن اذا لم يعمل المرء شيئا في مثل هذا الزمن ففي أي زمن سيعمل ؟! سألت كم سيصمد! وأقول لك : إننا سنصمد حتى يتغير شي ء في هذه الأمة . لابد أن يتغير شي ء وإلا فقدنا حقنا في الوجود..".
فريدة النقاش (كاتبة مصرية)