عزالدين بوركة
شاعر وباحث مغربي
عتبة أولى:
إننا نعيش اليوم لحظة فنية تتسم باكتمال ملامح رصيد بصري ومعرفي، بدأ ينسج تأثيره المتزايد في حقول التعبير والتواصل، بل وفي النسيج الثقافي العام. هذه اللحظة تنبني على صياغة تصوُّرِية جديدة تنهل من مرجعيات أدبية وفكرية متعددة، متباينة أحيانًا، لكنها تتوحد في البحث عن لغة تشكيلية مبتكرة. يظهر ذلك جليًا في تعبيرات مثل فن الفيديو، والتركيب الإنشائي، وأداءات الجسد، والكولاج الصباغي والفوتوغرافي، إضافة إلى التجارب التي تمزج بين السمعي والبصري والمكتوب.
إن هذا التوجه، الذي يجعل من ممارسة الفنان المعاصر تجربة أدبية وبحثية بامتياز، يرتكز على قيم أساسية تنبع من تقاليد الحقول المعرفية نفسها. في مقدمتها “الكتابة” بعدها عملية إبداعية متجذرة، والعودة إلى “المرجع” كمنبع للإلهام والتأصيل. وتكمن خصوصية هذه التجربة في أن الفنان اليوم لا يكتفي بإبداع الأشكال، بل يغوص في صلب الموضوعات الفلسفية والسياسية والثقافية، مؤسسًا لأسئلتها ومتحديًا لتفاصيلها عبر سنوات من البحث في المواد والخامات، وفي تراكم الوثائق والأرشيفات والمصادر المعرفية.
وهنا، تبرز أهمية إعادة التفكير في مفهوم “المؤلِّف” في سياق الفن المعاصر. فقد تحولت مركزية الشكل الثابت، المنفصل عن البنية الخطابية، إلى جزء من تاريخ تجاوزته الممارسة الفنية. ولم يعد العمل الفني مقصورًا على ذاته؛ بل صار مشحونًا بالتعددية، حيث تتداخل في إنتاجه أصوات عدة، على رأسها الفنان نفسه. فالفنان المعاصر لم يعد مجرد مبدع للمرئي، بل هو مهندس مشروع بصري ممتد في الزمن، ينمو ويتطور مع كل مرحلة، حتى يكاد يبدو كأنه نص مفتوح قابل لإعادة الكتابة والتأويل.
وعموما، حينما نخطو إلى عتبة الفن المعاصر، نجد أنفسنا في مواجهة عوالم متشعبة، يتداخل فيها المرئي والمكتوب، حيث لا يُمكن فصل الصورة عن الخطاب ولا المعنى عن الشكل، ولا المنجز عن قصدياته، ثالوثه المقدس: قصدية المؤلِّف وقصدية المؤلَّف وقصدية المتلقي. كأن هذا الفن يريد أن يعيد رسم العلاقة بين الإنسان والعالم، بين الذات وأثرها، وبين الفنان بوصفه خالقا والأثر بعدّه وجودا مستقلا، في فضاء تغشاه أسئلة عميقة عن الهوية، الحضور، والأثر، والزوال، والغموض الذي يكتنف الكينونة البشرية.
في كتابه “المؤلِّف في الصورة: الكتابة البصرية في الفن المعاصر”1، يأخذنا الأستاذ الباحث والناقد شرف الدين ماجدولين في رحلة استثنائية عبر فضاء يتجاوز المعتاد، حيث تصبح الصورة نصًا قابلا للتفكيك اللغوي والنص صورة قابلا للتعيين البصري، في لعبة دؤوبة من التداخلات بين الفنون البصرية والكتابة. لا يتحدث الكتاب عن الفن بوصفه حالة ساكنة أو رؤية نمطية، بل بوصفه مساحة دينامية تتوالد فيها المعاني من تفاعل بين ما هو بصري وما هو لغوي، لهذا يستعين الناقد بلفظ “المؤلِّف” بكل ما تحمله الكلمة من دلالة، تتجاوز الإنجاز إلى الارتكاز “على طبيعة التشكيل في ارتباطه بتقاليد الكتابة الأدبية والبحث في العلوم الإنسانية” دون أن تستثني “المرأب الذي سعى لتحصيله الفنانون المعاصرون في الغرب”، مستندا على “مكونات التعبير في الفن المعاصر وقواعده الجامعة بين التأليف اللفظي والتكوين البصري”2. يضعنا الكتاب -بالتالي- أمام مرايا مزدوجة، ترى فيها الصورة ذاتها وتكشف من خلالها عما وراءها. ويتجسد الحضور الكتابي في البصري، أو التأليف اللفظي والتكوين البصري بتعبير المؤلِّف، في أبعاد ثلاثة: الدمج، والإضافة والتعليق. وهو ما قاد صاحب كتاب “الرسام والروائي” للوقوف عند مستويات حوارية متجاورة للفظي والبصري، حيث ترتقي النصوص المصاحبة، المعلّقة على العمل، لتوازي المنجز نفسه… وتغدو بديلا عنه في حالة الزوال والأفول. أو يصير القول مندمجا في تكوين البعد الصُوَريّ للأثر. وهو ما يتخذ أبعادًا فنية من إضافة وكولاج وتأثيث للفضاء البصري وغيرهما. لهذا “لعل أشكال وأساليب اللوحة المعاصرة في اجتبائها للمكتوب سيما في التجارب الفنية العربية قمينة بإظهار جدليةً [من جدليات] التبيين والتبليغ، ذلك المتعلق بالتبيين عبر الحروفيات، وبإدماج الكلمات والجمل والمقاطع، حيث يعاد تنظيم الصلة بين المعنى والدال البصري على السند”3، مثلما يؤكد الأستاذ ماجدولين. وهو ما تجسد مع مدرسة البعد الواحد4 نموذجا.
بعين الناقد وبصيرة مفكر باحث، لا يكتفي شرف الدين ماجدولين بإعادة قراءة الصورة، بوصفها التمظهر الفينومينولوجي للمنجز الفني فحسب، بل يسائلها، ليعيد تشكيلها خطابيا، ويضيء زواياها الخفية، حتى تصبح الكتابة البصرية وسيلة لفهم أعمق لما يمكن تسميته بـ«التأليف في الفن». ففي الفن المعاصر، لم تعد الصورة مجرد انعكاس للعالم، بل باتت فعلًا وجوديًا يحمل توقيع صاحبه، تعبيرًا عن الذات وامتدادًا لها.
ومن جانبه، يحاول هذا الكتاب أن يجيب عن أسئلة معقدة: ما الذي يحدث عندما يصبح الفنان مؤلفًا داخل صورته؟ وكيف تُعيد الصورة -بعدها تمظهر العمل- صياغة علاقتها بالنص؟ وهل الكتابة البصرية -كمكون للمنجز- وسيلة لتحرير المعنى أم لتقييده؟
يُدهشك الكتاب بلغته البليغة الرصينة، حيث يمتزج التأمل النقدي باللغة الساردة، ويغدو النص ذاته جزءًا من التجربة الفنية. إنه دعوة للتأمل في معاني التأليف البصري داخل الفن، في زمن أصبحت فيه الحدود بين الفنون هشّة، وسقطت المسافات بين المرئي والمقروء.
عتبة ثانية:
يقودنا هذا المعطى للقول إن الفن المعاصر يُقيم في قلب الخطاب، بل إن كل منجز معاصر يكاد يكون وليدًا أصيلًا للغة وفضاءاتها، قائما في سردية ما. إنه فن لا يكتفي بأن يكون مرئيًا خالصًا، بل يسعى إلى إقامة حوار بين ما هو مدرك بالعين وما هو مدرك باللغة، بين البصري والمقروء، وهو ما يُبرر مجددا لفظ المؤلِّف في عنوان الكتاب. في هذا السياق، يشير شرف الدين ماجدولين إلى أن النص المصاحب للفيديو، أو الأداء الجسدي، أو المنحوتة، لا يُمكن اختزاله في كونه شرحًا خارجيًا أو تعليقًا عرضيًا5. إنه جزء جوهري من العمل الفني، توأم البصر بالكلمة، وصياغة مزدوجة للمعنى والمفهوم. وهو ما يجعل المعلّق مؤلّفا -أو مشاركا في التأليف- والتعليق تأليفا.
يتحدث الأستاذ ماجدولين في كتابه عن هذه العلاقة بوصفه “مجاورة حوارية”، حيث تتجاوز الكلمة حدود التفسير إلى أن تصبح جزءًا أصيلًا من التكوين البصري ذاته. هذه “المجاورة” ليست مجرد تكامل بين وسائط مختلفة، بل هي إعادة تشكيل للمعنى، حيث يصبح الخطاب المكتوب امتدادًا للعمل الفني، ليس بعدّه ترجمة أو توضيحًا، بل عنصرا تكوينيا يساهم في بناء الصورة المفاهيمية الكلية6.
لا يعترف الفن المعاصر، في هذا السياق، بالحدود التقليدية بين النص والصورة -صيغتي التأليف-؛ فهو يمزج بينهما بجرأة فلسفية وفنية، ليخلق أعمالًا يتداخل فيها المرئي مع السردي، حتى إن الخطاب أحيانًا يظل البُعد الوحيد الباقي من العمل الفني بعد اختفاء شكله المادي. وهنا، يصبح النص المصاحب بمثابة عمل فني موازٍ، كيانًا قائمًا بذاته لكنه مرتبط بجذوره البصرية، ووسيلة لفهم المعاني التي يطرحها العمل، بل وربما الوسيلة الوحيدة أحيانًا.
هذا التزاوج بين الخطاب والبصري ليس جديدًا في مسيرة الفن، إذ وَجد في مدرسة الفن-اللغة (Art & Language) نموذجًا حاسمًا لتأصيله. تأسست هذه المدرسة في ستينيات القرن العشرين على يد مجموعة من الفنانين البريطانيين، مثل مايكل بالدوين وديفيد بينبريدج وتيري أتكينسون، وقد استشهد الكاتب بمنجز جوزيف كوسوث الدال؛ “وهو من أكثر الفنانين المعاصرين، مزاوجة بين الكتابة والممارسة الفنية”7، وتمثل ذلك في أعماله التي تجمع بين الشيء (كرسي، مرآة…) وتمثلاته الثلاثة: ماديًا، فوتوغرافيًا ومعجميًا. وهؤلاء الفنانون رأوا أن النص ليس عنصرًا ثانويًا أو مكملًا، بل هو جوهر العمل الفني نفسه. بالنسبة لهم، الفن لا يُعرَّف فقط بما يُرى، بل بما يُكتب ويُناقش حوله، حيث يصبح الخطاب جزءًا لا يتجزأ من الممارسة الفنية8. وقياسا بالأفكار التي يتناولها الكتاب والتي تتقاطع لسانيا مع بعض نظريات الفيلسوف الأمريكي ويلارد فان أورمان كواين Quine، فالمفاهيم مثل “الفن” أو “الجمال” ليست كيانات في حد ذاتها ولكنها تركيبات نستخدمها لتنظيم العالم. وبهذا المعنى، فإن “الجميل” ليس خاصية جوهرية للأشياء ولكنه حكم يعكس التقاليد اللغوية والثقافية9؛ وهو بعد هام من أبعاد التأليف في الكتاب الذي نحن بصدده.
عتبة ثالثة:
لا يمكن النظر إلى أي منجز نقدي في الفن المعاصر إلا بوصفه مغامرة تأويلية تنبع من قلق الفكر وصخب التساؤل. في هذا المجال المفتوح على احتمالات لا نهائية، يغدو الناقد رحّالة بلا خرائط، يسير في غياهب فضاء لا جغرافيا ثابتة له، سائل، متبخر، وعائم، حيث لا حدود تفصل الشكل عن المفهوم، ولا المادة عن الفكرة. الفن المعاصر، بطبيعته الطيفية، لا يمكن أن يُحتوى ضمن قوالب الأكاديمية، ولا أن يُختصر في حدود المنطق المنهجي الصارم؛ فهو يقاوم التعريف، مثلما يقاوم التحديد، ليصبح فعلًا حرًا يعيد تشكيل معنى العالم.
يخوض شرف الدين ماجدولين في كتابه هذه المغامرة بشجاعة مزدوجة، تمتد بين صراع الذات وسؤال الباحث، بين رؤية شخصية راسخة تستند إلى التجربة والمعاينة، وإطار علمي صارم يحيل إلى إرث فكري يمتد من الجماليات إلى السيميائيات، ومن الفلسفة إلى النقد الثقافي. إنها مواجهة ليست مع الفن وحده، بل مع الذات المؤوِّلة عينها، تلك التي تحاول أن تجد في فوضى الشكل وتناقضات الرؤية معنى متماسكًا يعكس تجربة إنسانية أعمق.
في مقدمة كتابه، يكشف الأستاذ ماجدولين، بصدق ووضوح عن منطلقات مشروعه النقدي، حين يقول إن “فكرة الكتاب تعود في بداياتها إلى سلسلة محاضرات ألقيتها حول ‘المفاهيم المؤسسة للفن المعاصر في الغرب’… ولم أكن متحمسًا لأساليب الفنانين المعاصرين، ولا لطرقهم في خرق قواعد الفن الأكاديمي”10. ومع ذلك، فإن هذا التحفظ الأولي يتحول إلى محرك فلسفي لاستكشاف الجوانب الخفية في الفن المعاصر، حيث يصبح الخرق ذاته فعلًا إبداعيًا يعيد النظر في الحدود بين المألوف والاستثنائي، بين النظام والفوضى، وبين القاعدة والاستثناء.
إن الفن المعاصر، كما يوحي الكتاب، ليس مجرد حركة فنية تسعى لتجاوز الكلاسيكية أو الحداثة، بل هو سؤال فلسفي عميق عن ماهية الفن ذاته: كيف يمكن للصورة أن تكون خطابا تأليفيا؟ وكيف يمكن للخطاب أن ينطق بلغة الصورة؟ إنه البحث عن جوهر الإبداع في زمن تغدو فيه الحدود بين الوسائط وهمية، وتتشابك فيه التعبيرات لتخلق فضاءً جديدًا يرفض التصنيف.
لا يقف المنجز النقدي هنا، عند حدود الوصف أو التحليل الأكاديمي؛ إنه فعل تأويل يحمل في طياته تواشجات ذاتية وموضوعية: من جهة، يستند إلى إرث معرفي متراكم، يتجذر في الأطر النظرية والفكرية الكبرى، ومن جهة أخرى، ينبثق من تجربة فردية عميقة، حيث يتحول الناقد إلى مؤلف، والفن إلى نص متعدد الطبقات يحتاج إلى قراءة فكرية وشعورية في آنٍ واحد.
في هذا السياق، يبدو الفن المعاصر، مثلما نتلمس من الكتاب، مساحة للتأمل الفلسفي الذي يَهدم وينشئ في الوقت نفسه. فهو ينزع عن الأشياء قناعها المألوف ليكشف عن اللاعقلاني، اللاوعي، واللامحدود. إنه فن لا يقدم إجابات، بل يثير أسئلة لا تنتهي، فيحيل إلى الغياب بقدر ما يشير إلى الحضور، ويصبح بذلك نوعًا من اللعبة التأويلية التي لا تستقر على معنى محدد، والتي تقود إلى لهو واعٍ مرتبط بالخبرة الفنية11.
عتبة رابعة
يخبرنا آرثر دانتو بأنه “مثلما أن الحديث ليس مجرّد مفهوم زمني يعني، على سبيل المثال، الأحداث، فإن المعاصر ليس مجرّد مصطلح زمني يعني كلّ ما يحدث في اللحظة الراهنة”12. لهذا يتجاوز شرف الدين ماجدولين البحث في راهن التأليف البصري المعاصر، إلى الحفر في حاضر ومستقبل المنجز الفني، ليس بمعناه الزمني ولكن في بُعده البراديغمي، وفي علاقته المتشعبة والمتداخلة مع ما هو مكتوب، حيث نتبيّن هذا الأخير ونقرأه وهو مندمج أو منصهر في لبّ العمل إلى أن يصير دلالة من دلالاته ودالة من دواله؛ ولبنة من لبنات تكوين معانيه. يخبرنا صاحب المؤلَّف -في هذا الصدد- بأنه “مما يلفت الانتباه في دراسة التجارب الفنية المعاصرة المفردة، بوصفها كتابة بصرية، في ضوء ما تستمده من رمزيات متصلة بسياقات تاريخية متبدّلَة، أن الأسلوب الفني، يعكس بعدًا مزدوجا تتقاطع داخله الدلالة التعبيرية المتصلة بالأداة، والمغزى الوظيفي المرتبط بالتواصل ذي الطابع الثقافي ‘اللازمني’، أو المجرد من لحظته، تقاطع يرتبط بالحواضن الاجتماعية والسياسية والاجتماعية”13. وفي هذا السياق إما يأتي النص المكتوب في قالب المشهد التشكيلي المؤطر للمنجز، مقروءًا وواضحًا، في تكامل يهدف إلى إثراء المعنى والتعبير عن أفكار معقدة لا يمكن التعبير عنها بلغة واحدة. أو عبر التلاعب اللغوي البصري بالمكتوب، حيث يقوم الفنان بتشويهه وإعادة تركيبه، غايةَ خلق معان ودلالات جديدة وتأثيرات بصرية عفوية أو غير متوقعة. يتجسد المثال الأخير في تجربة كل من العراقي فؤاد حمادي والمغربييْن عبد الكريم الوزاني وعبد الكبير ربيع، هذه التجربة الأخيرة التي يستدل بها شرف الدين ماجدولين، بعدها تجربة تعتمد الكتابة التي بقدر ما تعلن عن نفسها تدريجيا تنمحي ملامحها14، مثلما تخبرنا إليزابيث شامبون Chambon.
عتبة خامسة:
لا يتكئ الفن المعاصر على أي أسس ثابتة، ولا يستند إلى أي جغرافية منغلقة، يكاد يكون وليد السوق الحرة ونهاية الحدود والفضاءات المفتوحة والعولمة المنصهرة، متبنيّا كل أشكال التحرر والحرية، لهذا تندمج في طياته الثقافات وتختفي الهويات في انصهار شبه تام، وإنْ ينطلق من المحلي فهو يبتغي الكوني. كأن نظرية إيمانويل كانط يُعاد تدويرها ها هنا، أو إعادة تشكيلها، مثلما فعل دانتو وتلامذة فيتغنشتاين الآخرون. وهو ما قاد فناني ما بعد الحداثة، أن يثوروا على المسمى «الزمنية»، فتارة يعاودون مساءلة الأسطورة وتارة يفكرون في الآتي وأخرى يعيدون تفكيك الحاضر، أو يعملون على معاودة التفكير في الأرشيف عينه، حيث لا يصير هذا الأخير دالا على ما كان فحسب، بل مقيما في الآن وحاملا أثر المستقبل.كما أن سؤال التوثيق، والإبقاء على العمل قائما في شواهد دالة عليه وهو ما خلق (ويخلق) إرباكا في عالم الفن المعاصر، وذلك في ضوء أعمال مفاهيمية لا تحتكم إلى أي بعد مادي، أو أخرى تتحول في حالة إلى وثيقة في سياق معين وفي أخرى تصير عملا فنيا. لهذا يخبرنا الأستاذ ماجدولين أنه “تشكل أسئلة الحدود ما بين أرضية البحث الوثائقي وقواعده، وتشكيل مدونة بصرية مستوفية لكل مقومات العمل الفني إحدى الانشغالات المركزية، للفن المعاصر، سواء في الممارسة الإبداعية أو النظر النقدي”15. وخاصة أمام الزخم الهائل لأعمال اختفت لم يتبق منها سوى النُزر: وريقات صحفية وخبرية فحسب؛ أو صورة فوتوغرافية عابرة.
وفي السياق ذاته المتعلق بالأرشفة والتوثيق، يتحول الفنان بدوره إلى باحث وموثق، وهو ما يرفع الرهان وخاصة حينما يتحول التوثيق إلى إنشاء فني16، ويخلق بعدا تأليفيا بصريا مفتوحا على كل الاحتمالات التأويلية. في هذا المستوى الفني-التوثيقي يجعلنا صاحب كتاب “الصورة السردية” نختبر أعمال ثلاث تجارب عربية: منير الفاطمي (المغرب) وريان ثابت (لبنان) ونادية الكعبي (تونس). وهي تجارب “ساهمت في كتابة نصوص وفية لمقترحاتهم التركيبية(…) [بالإضافة لـ] احتلال الأرشيف، والمستندات التاريخية، والمرويات العائلية والألبومات الشخصية، والخرائط، وغيرها من الوثائق الجاهزة، مكانة جوهرية في تآليفهم البصرية”17؛ فيصير الفنان باحثا موثقا والعمل الفني صيغة من صيغ البحث والتقصي l’enquête والأرشفة والإبداع في آن. وأساس ذلك كون الأرشيف ليس فقط وسيلة للحفاظ على المعلومات بل هو إطار تأويلي يمكن من خلاله إعادة بناء الأنظمة الفكرية التي تنتج المعرفة، مثلما يذهب كل من فوكو ودريدا معا18. في هذا السياق، يبدو الأرشيف عند فوكو أشبه بعمل فني، حيث يُشكل من إعادة ترتيب وتفسير النصوص والمعارف السابقة19، مما يخلق نظامًا جديدًا من المعاني.
عتبة سادسة:
ليس المغزى هاهنا إعادة القول التحليلي للباحث والناقد شرف الدين ماجدولين حول تلك الأعمال الفنية التي اختار الاستدلال بها أو الوقوف عندها لما تكتنزه من أبعاد دلالية تزكي أطروحته النقدية النظرية، لكن المبتغى عندنا هو استخراج الأسّ النظري الذي يتبناه الكتاب، والذي يجعل منه حاملا لسمة مميزة له داخل كارطوغرافيا النقد الفني المغربي والعربي.
من إحدى سمات الفن المعاصر الارتهان إلى بعد الهوية والمحلية والثقافة الخاصة والذات المبدعة في علاقتها ببيئتها ومحيطها، وهو ما لا ينفصل عن الغير والغيرية. فنحن لا نقيم في العالم بوصفنا جزرا منفصلة أو أجسادا هائمة في الفضاء. إذ تربطنا علائق جذمورية خفية، لكنها قادرة على توليد لغة رمزية مشتركة نفهمها جميعا، وفي هذه الحال يعمل العمل الفني وظيفة حامل رمزي ومساحة حوارية وفضاء خلاقا للتلاقح والتحاور والتجاور الكوني. فالفن المعاصر لم يعد مقيما في النظر فحسب، إذ بتعبير دانتو “إنه لم يعد شيئا أساسيا جديرا بالنظر. ربّما كان جديرا بالتحديث ولكنّه ليس جديرا بالنظر أساسا”20. إذ ترتهن المعاصرة على التداخلات البينية وعلى نظرية إزاحة التخوم، وعلى السرديات الصغرى والحكايات الذاتية، التي تعيد النظر في علاقتنا الفعلية مع الآخر. وبناء على ذلك، يخبرنا الأستاذ ماجدولين “إن أساليب فنية عديدة محكومة بخطاب الغيرية، ستشد الأنظار بحدتها وعنف ما اقترحه من تراكيب بصرية، مع تطور خطابات ‘النسوية’ وما بعد الاستعمار’، بالتوازي مع استشراء ظواهر تمثيل فنانين معاصرين من ثقافات غربية وأفريقية وآسيوية، للأقليات المهاجرة، وبروز معارض وكاتالوغات فنية تستهدف تصوير شرائح اجتماعية منبوذة من قبل الحضارة المعاصرة”21. وهو ما عددّ تيارات الفن، إلى جانب الحديث عن الأساليب والمذاهب، تجعلنا نتحدث عن فن لكل أقليّة على حدة ولكل طائفة حقوقية. مما يساهم في تطوير خطابات الفن كونيًا. وفي هذا المنحى يقترح صاحب الكتاب ثلاث تجارب نسائية، كل من منى حاطوم (فلسطين)، هيلدا حياري (الأردن) وباتول السحيمي (المغرب) وهن فنانات، المشترك بينهنّ الاعتماد التأليفي البصري على أغراض منزلية والاستناد إلى مرجعية الكتابة البصرية وإدماج القول اللفظي في لوحاتهن ومنشآتهن وكولاجاتهنّ… همهن تفكيك الخطاب النسائي الاجتماعي وخلق عنف سجالي أساسه التفكير في العلاقة مع الغير.
العتبة السابعة:
هي إذًا سبع عتبات لولوج منجز “المؤلِّف في الصورة”. ومن ثمة فإن هذا النص يعبر عن تصور خاص للفن، حيث يتماهى المرئي مع المكتوب، ويتشابك البصري مع اللفظي، لتتولد لنا صياغة فنية تخاطب العقل والوجدان معًا، متمردة على الحدود التقليدية بين الفنون، ومبدعة لرؤية تعيد تشكيل علاقتنا بالواقع. هذا الأخير الذي لا نذكره إلا من خلال ما نكوّنه عنه في الذاكرة.. التي تعمل عمل التأليف والاستعادة، فتتحول إلى أثر وكتابة، ومعها تكتسي الذات حضورها ويتحقق وجودها؛ كأن الكوجيطو يصير “أنا أتذكر إذن أنا موجود”. فنتساءل مع صاحب المؤلف “هل السيرة البصرية إذن إلا نفي للعدم الذي صارته الحياة الماضية؟” يجيب ماجدولين، “قد تكون صيغة تحقيقية لرغبة النفي، عبر تجميع المبدد في سديم المكثف لما انقضى، عبر إعادة نحت الأثر بالصور”22. فيخترق بالتالي المنجز هشاشة الذاكرة، ويعيد تأليف ما كان بصريا ويلملم شظايا ما مضى ليكتب حكاية على حكاية، ويخلق سردية ذاتية لما يكاد يُنسى ويفقد، وهو أمر شبيه بإعادة تدوير المنسي في الطبيعة عبر فنّ الزائل والعابر.. لكن في هذه الحالة يتم قلب المعادلة، حيث نعمل على تثبيت المتروك للنسيان.
ارتهن في هذا الصدد الأستاذ ماجدولين للوقوف عند أسماء تشدها إلى الفن مسامير الذاكرة، المغربيين حسان بورقية وسعيد المساري والفلسطيني بشار الحروب، وذلك “لانطلاقها جميعا من قاعدة الذاكرة لأجل البحث عن صيغ تمثيلها، في الخامات والأشكال (…) ولاستنادها لمرجعية التنويع في صيغ الاستناد إلى المحكية الجماعية واستفرادها من الأرشيف الخاص (…) ثم نهل التجارب مجتمعة من قيم التأليف اللفظي واستنادها لمرجعية الورق والكتابة”23.
وبشكل عام، أخاطر وأقول بأن الفن هو “تأليف بالنسيان”، محو على محو، وكتاب بالمحو، أو بتعبير فرنسي repentir، هذا الفعل الذي يحيل على ندم وعلى كفارة وعلى إعادة الرسم بمحو ما كان.. خلق طبقة منسية أسفل ما هو ظاهر. فيصير “الأثر المرئي ناطقا بذاكرته”24، مثلما يقول شرف الدين ماجدولين.
الهوامش
شرف الدين ماجدولين، المؤلف في الصورة، الكتابة البصرية في الفن المعاصر، المركز الثقافي للكتاب للنشر والتوزيع، الدار البيضاء/بيروت، 2024.
المرجع نفسه، ص. 13 و14.
نفسه، ص. 35.
يخبرنا شاكر حسن آل سعيد، بأن “ظهور البُعد الواحد، سواء كمدرسة أو كمعطيات تقنية وأسلوبية، يعتمد أساسًا على ثنائية العالم ‘اللغوي’ والعالم التشكيلي، أو بشكل أدق، التوفيق بين الحرف من حيث دلالته اللغوية والمقروءة -وربما عبر الكلمات والعبارات على أساس ‘ألسنة’ الخطاب اللغوي، وبين السطح التصويري وما عليه من إضافات لونية وخامات مختلفة. باعتباره قناة لغوية تعتمد على المرئي والحسي قبل عملية القراءة”. انظر كتاب: شاكر حسن آل سعيد، أنا النقطة فوق الحرف، دار خطوط وظلال، الأردن، 2024، ص. 192.
نفسه، ص. 27.
نفسه، انظر: ص. 29.
نفسه، ص. 30.
من بين الأعمال التي تُمثل هذا الاتجاه، يمكن أن نذكر “النصوص الفنية” لمايكل بالدوين، حيث كان النص ذاته الوسيط الأساسي للعمل الفني. هذا النهج أعاد صياغة العلاقة بين الفنان والمتلقي، حيث لم يعد المطلوب من الجمهور أن يشاهد فقط، بل أن يقرأ، يُفسر، ويُعيد بناء المعاني، أن يصير مؤلّفا في الصورة ومنخرطا في الكتابة البصرية.
Willard van Orman Quine, Le mot et la chose, trad. Joseph Dopp et Paul Gochet, éd. Flammarion, Paris, 1977.
شرف الدين ماجدولين، م. م.، ص. 14.
يقول غادمير إنّ “الخبرة الجمالية تتأسس على وجه التحديد عندما لا يكون هناك تمييز من جانبنا بين الأسلوب الخاص الذي ندرك به العمل وبين هوية العمل ذاته”. أنظر: هانس جورج جادامير، تجلي الجميل، ترجمة سعيد توفيق، منشورات رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2019، ص. 111. بالمقابل يقول جون دوي، “ولما كانت الخبرة هي بمثابة تحقيق يضطلع به الكائن الحي في صراعه مع عالم الأشياء ومحاولته الظفر ببعض المكاسب، فإنها تمثل الفن في بذوره الأولى”. أنظر: جون دوي، الفن خبرة، ترجمة زكريا إبراهيم، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2011، ص. 36.
أرتر دانتو، ما بعد نهاية الفن، الفن المعاصر وحدود التاريخ، ترجمة هادية العرقي، منشورات هيئة البحرين للثقافة والآثار، المنامة، 2021.، ص. 48.
شرف الدين ماجدولين، م. م.، ص. 73.
Abdelkébir Rabi’, L’Œuvre à l’absolu, (sous dric.) Mohamed Rachdi, édi. H2/61.26, Fondation TGCC, Casablanca, 2019, p. 31.
المرجع نفسه، ص. 123.
Nathalie Heinich, Le paradigme de l’art contemporain, Structures d’une révolution artistique, éd. Gallimard, Paris, 2014, p. 104.
شرف الدين ماجدولين، المؤلّف في الصورة، م. م.، ص. 126.
أنظر كتاب:
Jacques Derrida, Mal d’archive, Une impression freudienne, éd. Galilée, Paris, 1995.
الأرشيف ليس مجموعة، بل هو ممارسة. وهو “النظام العام لتكوين الأقوال وتحويلها”. أنظر:
Michel Foucault, L’archéologie du savoir, Gallimard, Paris, 1969, p. 179.
آرتر دانتو، ما بعد نهاية الفن، م. م.، ص. 62.
شرف الدين ماجدولين، المؤلف في الصورة، م. م.، ص. 170.
المرجع نفسه، ص. 219.
نفسه، ص. 222.
نفسه، ص. 262.