بعد (المملكة السوداء 1972) مجموعته القصصية الاولى التي شكلت اضافة مهمة للسرد العربي الحديث، كان الكاتب يبحث عن معالم مدينته في محاولة لاكتشافها ورسم صورة تفصيلية عنها، وهو المحور الذي استندت عليه مجموعته الثانية (في درجة 45 مئوي 1978) لقد قاده هذا الى اكتشاف المدينة في (بصرياثا 1993) كتابه الثالث الذي شكل خلفية، واقعية لقصصه بموضوعاتها ومضامينها واحداثها الى بصرياثا قادتني قدماي، لاقابل مواطنها الابدي والشرفي محمد خضير.
معى جاء شراع النصوص ومؤولوها ليضعوا الحواشي على المتون، ويعلموا لنا الطريق.
لقد استعنا على السفر بالة السفر : البوصلة والخريطة وفي الطريق كنا _ من وعشاء السفر _ نتزود بالماء ونفيء الى ظل نخلة.. ثم نقوم لنبحث عن تاج لطيبوثة، في الصحراء المترامية الاطراف ذلك هو محمد خضير، قامة لا تتوارى مثله مثل العديد من كتابنا المتألقين.
هناك وجدناه، فهو ابن المدينة العريقة التي لم يغادرها يوما الى مسافة بعيدة. لذا احتاج الى كتب الرحالة الذين وصفوا مدنا كبغداد والبصرة والموصل، وصفا جغرافيا واجتماعيا شاملا، هؤلاء الذين كانوا يدخلون المدن من بواباتها المفتوحة على الصحراء او على البحر، وكأنهم يدخلون مدنا خرافية او اسطورية مجهولة.. لقد كان يرى بعيونهم المتسائلة وفضولهم وولعهم وتقنعهم، اما انا فقد كنت متتبع اثر، اريد ان اتعرف على الوجه واتقرى قسماته. اليست (الكتابة : حفلة تنكرية ؟!) كما يقول هو، اذا لنزح القناع عن الوجه وعن الرؤيا التي اكتنفها الخريف. ذلك هو البيت.. رائحة قهوة وجوافة، نطرق.. وندخل :_
(1) تقع قصص المجموعة الجديدة (رؤيا خريف ) في منطقة الخيال والرمز الشعري باتخاذها الغرائبية وتيار الواقعية السحرية مسارا، وتحقق لحظة سريالية في قصة (داما، دامي، دامول) قلادة المجموعة، لماذا هذا النزوع الرمزي او التحليق فوق الطبيعي والواقعي؟
* لم يعد غريبا ولا خارقا للمعقول ان نسلك اتجاها لا واقعيا للوصول الى قلب الواقع، ان الطريق التي اسلكها تخترق اعمق ما في الواقعية من رموز او احلام. الخيال في(رؤيا خريف) محسوب بخطوات موزونة، واردت ان
اخرج في قصة (داما) افضل تقاليد القصة العراقية التي انجزتها اقلام تتطلع الى رؤيا مستقبلية. (داما) قلادة المجموعة فعلا.
(2) في قصة (حكايات يوسف ) شخصيات حقيقية، ما الحدود التي ترسم بها شخصياتك ؟
* شخصياتي تتمثل امامي في موكب طويل. انها تدخل البناء الذهني للقمة بحقيقتها الوجودية فتبعث فيا الحياة، كل شخصية تنبثق من حلم بقي كامنا في ظلال ذاكرتي، و(حكايات يوسف ) مثال على ان مجموعة (رؤيا خريف ) تضم قصصا ذات اصول واقعية وشخصيات تعيش بيننا.
(3) في قصصك ميل نحو السرد الاستطرادي،اورثت ذلك من (الف ليلة وليلة ) ام انه احد متطلبات التحقق الجديد، او التركيبية في البنى السردية ؟
* كل هذا معا، الاستطراد حين يحددني الايجاز، والتركيب حين تعجزني البساطة، في تحقيق رؤيا كاملة لموضوع ملح على البنية السردية، من الممكن ترتيب اكثر من مستوى لبناء قصة، لكن النتيجة ستبدو معقولة ومطابقة للتصور الكلي عن الموضوع. وهذا يتم بعد تأمل طويل وحساب دقيق للبدايات والنهايات، السرد بحث عن الممكن من التصور ونقض التصور بإمكان غيره. بناء جدلي مستمر حتى انتهاء آخر فقرة من القصة. لم ارث هذا من كتاب، فلقد استعنت في كتابتي بجدل الحياة وهي تغير صورها واشكالها، الواقعية والاسطورية والرمزية، السرد يعني ان تتقدم خطوة،"خطوة مع قصتك، وتتراجع معها خطوة خطوة. ان السبق والالتحاق مرحلتان اوليتان، اما تحقق القصة فيمثل هارموني العناصر المتضادة والمستويات المختلفة وهي تتقدم سوية مثل كتيبة جند مدربة تدريبا جيدا.
( 4) في فصل هن كتاب (الحكاية الجديدة ) تتكلم عن تصميم اد غار ألن بو للقمة، وفي مكان آخر من الكتاب تتحدث عن مداهمة الاصوات مع بشائر الرؤيا، الا تنقض المداهمة تلك التصميم المسبق للقمة حسب قانون بو؟
* القصة بناء متكامل من التصميمات الاولية والتأثيرات المتناسقة، هذا ما يقصده بو، لكني تحدثت في الكتاب عن صيرورة القصة خلال مراحل الكتابة الطويلة، وهي صيرورة خاصة بطريقتي في التأليف، كنت ارمي الى تقديم تصور خاص عن البناء المتكامل، وغالبا ما اتوصل الى تصميم نهائي مطابق لتصور بو. القصة في النهاية كيفما تصرفت بها او تصرفت
بك، بناء متماسك من التدبيرات النظرية العامة والرؤى الشخصية. ( 5) قصصك الاخيرة _ كما تقول _ سارت باتجاه البحث عن الشيء المجهول ضمن ما هو مألوف واعتيادي، فالقوة الكامنة في الفكرة الواقعية تولد مسارها الخيالي، كما في قصص نمو غول، كيف انتقل هذا المفهوم الى قصصك ؟
* لاحظت ان هذا المفهوم يتجسد في قصص اسبق من قصص هنمغواي وجيل الواقعيين الكبار. لقد بقي هذا المفهوم جامدا في قصتنا العراقية والعربية زمنا طويلا. ولم يستطع اساتذتنا الرواد تطويره، لقد ذهبت الى مرحلة اسبق، فوجدت ان نمو غول وبو شكين يبحثان عن الشيء الفريد الكامن وراء الشيء الواقعي. وكانا يصلان بالشيء الواقعي الى درجة الاتقاد ليولدا منه شعاعا خياليا، وغالبا ما كانا يفعلان ذلك بافكار بسيطة. الموظف الذي يسرق معطفه، والمغامر الشاب الذي يجد حظه في ورقة بستوني. لكن هذه الافكار تنعطف بنا نحو غايات غير متوقعة، فاذا بالمسار الواقعي يضعنا في نقطة لا عودة منها وحين نواصل المسير كر النهايات المتوقعة، تنفتح فجأة أمام ابصارنا مسارات غير متوقعة، وهكذا كلما اوغلنا في التساؤل والارتياب، انفتحت امامنا ابواب مغلقة، هذا ما اوصلني الى حقيقة ان القصة تبنى على سلسلة من الاحتمالات والتوقعات والتساؤلات.
(6) في قصصك خلفيات متعددة، في قصة (صحيفة التساؤلات ) خلفيات فلسفية، وفي قصة (اطياف الغسق ) خلفية علمية، وفي (الحكماء الثلاثة ) خلفية تاريخية، كيف توجه هذه المرجعيات لخدمة قصصك ؟
* تتعدد المرجعيات بتعدد المداخل في كل قصة، لا اعني بالمرجعيات هنا اقتباسات مشتقة من خلفيات معرفية متعددة، وانما هي امتزاج ذهني وموضوعي بين التجربة والخبرة والمعرفة لانتاج نص متفوق عل مرجعياته ذاتها، بمعنى اننا حين نفكر بكتابة قصة من موضوع واقعي، فعلينا ان نسير خطوات ابعد من حدود الموضوع الواقعية، نحن نصل عادة الى جذور الخبرة الانسانية المشتركة الكامنة وراء اية خبرة محدودة بزمان ومكان وتجربة، بهذا تتفوق القصة على خبرة كاتبها، وتتجاوزه الى خبرتها وهي تعمل بمراجعها، اي انها تتعدى زمانه الى زمانها، وهنا يحدث الافتراق بين القصة والواقع الذي تكتب تحت ظله.
(7) انك تحاول دائما ان تجد تبريرا كافيا، تبريرا نظريا، لمحاولات كتابتك القصصية، كيف تقوم قصصك الجديدة بعيدا عن (السيرة النظرية ) التي حواها كتابك (الحكاية الجديدة )؟
* لا أبرر قصصي ان لم تبرر نفسها بنفسها كل على حدة، هذا ما اسميته برهانا قصصيا، اجد ان الكاتب في مرحلة من مراحل ممارسته الكتابة مسؤول عن تقويم قصصه، اي وعيها حين تبلغ مجموعة يجمعها برهان مشترك، لاحظت ان الكتابة التي لا تسندها تجربة نظرية جيدة هي كتابة قد تحيد عن غاياتها الاساسية. يجب الا يغيب عن البال الجواب الشافي على سؤال الكتابة الملح : لماذا نكتب ؟ ان محاولات تقويم التجربة تشكل بحق (سيرة نظرية ) اجدها منوا لسيرة الكاتب الذاتية ولا تختلف عنها الا في الموضوع، اما طريقة عرض الحقائق في النوعين فهي واحدة.
(8) لقد وضعت عنوانا فرعيا تحت عنوان (الحكاية الجديدة ) نقيضا
لمفهومك عن السيرة النظرية. كيف تجنس هذا الكتاب ؟
* اعتذر للقراء عن فذا الالتباس في عنونة الكتاب الاجناسية، اتفقت مع الناشر على تصنيف الكتاب في بطاقة الفهرسة بانه "نقد ادبي" فظهرت هذه التسمية تحت العنوان الرئيسي على الغلاف، ولو كانت العنونة بمشيئتي لجنست الكتاب بـ"سيرة نظرية "، وتبريري لذلك كما اشرت واضح، فموضوعات (الحكاية الجديدة ) خلاصات ونواتج ثانوية وخواطر وتأملات ترشحت عن كتابة القصص. بمعنى آخر هي (يوميات لم كتابة قصص (رؤيا خريف )،وهي لا تدخل مدخل النقد الادبي العام، لكنها، خرجت لكاتبهإ كخروج (وجهة النظر) من (النظرية ) او كانتساب (السيرة الذاتية ) الى (الحياة العامة ).
(9) الا تشكل السير النظرية اماطة لثام أو كشف أسرار مؤلف تدافع أنت عن مجهوليته ؟
* المؤلف يجهل هويته الاسمية (التعريفات الاولية التي تبدأ باسم العلم ) مقابل تثبيت معلومية ثانية، معلومية وجودية تبدأ بانتاج اثر _ قصة كانت ام فنا آخر من فنون الكتابة.
ان الكتابة محاولة لاسقاط اسم المؤلف ليحل محله توقيع من نوع آخر (حسب دراسة جاك دريدا لمؤلفات جان جينيه فإن هذا المؤلف يوقع مؤلفاته باسم الصفة _ زهرة _ بدلا من اسمه الصريح ). وهذا يشمل تسميات الشخصيات القصصية ايضا. وحين تسقط التواقيع، كتوقيع الزهرة، تترسخ مجهولية مؤلف معلوم بترقيعاته الوجودية الدفينة في الوجود الاسمي العابر. ازاء الوجود الكلي للكاتب في عمله، هناك انزياح ونفور واختفاء من اي وجود محدود (مرصود) بتعريفات سابقة. اطمح يوما الى كتابة سيرة ذاتية لا اجد نفسي فيها على الاطلاق، بأي صفة من الصفات وبأي اسم من الاسماء، سوى ما ارسمه من وجوه مجهولة واخري معلومة تتبادل مع مؤلف السيرة حياة بحياة واسما باسم او صفة بصفة.
(10) اتقني ان المؤلف الواحد يرتدي الاقنعة جميعها ليوهم الآخرين انه اكثر من واحد، او انه ليس احدا بالذات، كما ورد في فصل (القصاص المجهول )؟
* أعني بهذا القول نوعا واحدا من المؤلفين هو (المؤلف المقنع ) وهو نوع من المؤلفين المجهولين يدفن صفاته الجوهرية خلف قناع من الصفات والاسماء كي يفلت من التحديد ويخترق نصوصه بحرية. علينا ان ننسى اية معلومة عن مؤلف يشاركنا الوجود في رقعة جغرافية او حقيقة تاريخية او صفات فكرية، قبل ان تتحقق كلها فعلا وبصورة مؤثرة في عمله. ان مثالي في ذلك دستويفسكي، الذي قرأته باعتباره كاتبا روسيا مرة، وكاتبا عراقيا مرة ثانية، وكونيا حين يرتدي اقنعة شخصياته جميعها ويحاور النفوس القلقة في كل مكان، اي كاتب مثل دستويفسكي هو اكثر من واحد، حين لا يكون روسيا فقط.
( 11) في فصل (ذاكرة العطار) ورد ان عظمة هذا الفن (القصة القصيرة ) في انه لا يملك مقومات العظمة والبقاء، فالقصة القصيرة فن عابر كاوراق الاشجار التي تجرفها الريح، وكيف تبني وجودا كبيرا عل فن عابر؟
* كنت بذلك ادحض اوهاما حول عظمة فن القصة القصيرة. اردت ان
اقول ان عظمة هذا الفن وعبوره وهميان كوهم (الوجود الكبير) و(الوجود الصغير ) اننا لا نبني وجودا عل أبنية توصف بانها قصيرة او طويلة، او نقير عظمة وجود على اساس (العبور) او (الثبات ). ان الوجود العابر كالثابت كلاهما يخطف كلحظة حلم، لا بالقياس الزماني الثابت، او القياس المكاني المحدود، والقصة القصيرة فن (عابر) او (عظيم ) قياسا بصورة مجازية، بأوراق شجر تجرفها الريح. ما يبقى من فن القصة القصيرة اثره الخاطف، الرؤيا الكونية (الكبرى) او (الصغرى)« مازلت اجهل قيمة الحجوم والصفات قياسا بالاثر الاكبر الذي يخلفه سقوط نيزك في ظلمات الكون او ظلمات العقل. بذلك اردت ان اثبت ان النسخة الكبرى لبصرياثا مطابقة تماما للنسخة الصغري منها في قصة (أطياف الغسق ) وان الظهور مساو للاختفاء بالنسبة لكائناتها..
(12) هناك من يشير الى تأثير كالفينو في (بصرياثا) التي كررت بناءها في قصصك.
* بناء كالفينو في (مدن مرئية ) بناء روائي مستقل وخاص جدا، لا اجد له نظيرا في رؤى مدينة (بصرياثا). انبثقت بصرياثا من رؤيا هيتروتوبية (قبل ان اعثر عل تسميتها هذه عند فو كو) وكنت عنصرا مشاركا في بنائها، بالاتجاه المعاكس لمدن كالفينو، الذي كان (يشاهد ) مدنه ولا يصنعها، يصف غرا بتها ولا يعيش فيها. بصرياثا مدينة مرئية، وهي جزء من سيرة مؤلف عالق في رؤياها، لذا يتكرر صنعها بأبنية مختلفة.
(13) يشاركك في اتجاهك القصصي الجديد كتاب أمثال محمود جزاري وجليل القيي ولطفية الدليمي وجهاد مجيد ونعيم عبدمهلهل ومحسن الخفاجي، كيف تميز قصصك بين هؤلاء، او بين كتاب الموجة الشابة الجديدة من الكتاب ؟
* أجد أن كل مؤلف من هؤلاء المؤلفين الذين ذكرتهم كان له مدخله الخاص الى عالمه ورؤياه، مع ´ذلك مازالت الموجة تقرع جدران القلعة الصامتة بقوة، وسيمر وقت طويل على هذه المحاولات كي تتضح الأصداء وتقترب الاصوات من الجدار الشاهق لقلعة الرؤيا الجديدة. من المؤسف اننا فقدنا جند اري في بداية الرحلة. لكنني أثق بقوة في الموجة الجديدة من الكتاب، واحترم جهود جيل الكتاب الذي انتسب اليه باتجاهاته الابداعية كافة.
( 14) حددت أربع مجرات تأثير في القصة العراقية : الواقعية وتيار الوعي والشيئية والواقعية السحرية. الا ترى قصصا منجزة خارج هذه المجرات الاربع ؟
* أشرت الى أقوى التأثيرات. ويمكن اضافة المجرة الوجودية، والسردية العربية القديمة التي استقت منها قصص كثيرة في الآونة الاخيرة. اما المجرة الخيالية العلمية فما يزال تأثيرها ضعيفا في قصصنا، ولابد من فصل تأثيرها عن تأثير الخيال الفانتازي المحض. اعتقد ان تمييز هذه التأثيرات في القصة العراقية يعكس غناها وتنوع التيارات التي جددت اشكالها وغزارة الموضوعات التي حركتها، وفعاليتها بين السرديات العربية المعاصرة. لقد أشرت الى هذه التأثيرات على أنها عوامل قوية في تجديد الاشكال والرؤى وصيغ تفاعل ومقابسة ايجابية، لذا لم اجد قصة عربية واحدة تعمل خارج تأثير مجرة من هذه المجرات.
(15) أظنك استفدت من بورخس في (الحكماء الثلاثة ) وكذلك في (رؤيا البرج ) في طبقاته ومتاهته تحت الارض. ان قسمي البرج وانعكاسه في
الأرض يعتمد على فكرة التناسخ التي اغرم بها هذا الكاتب اللاتيني. كما يوجد ثمة مقترب في قملا (حكايات يوسف ) من (مكتبة بابل ) لبورفس، وهو يحكي عن مؤلفين وكب ايضا – كيف تحدد قيمة هذه التأثيرات ؟ – (الحكماء الثلاثة ) و(رؤيا البرج ) كانتا الخطوة الأولى في وعي تجربتي الجديدة. لم يكن بورخس وحده من ساعدني على كمس تدابير هذه التجربة. كان هناك غوغول وبو شكين، واد غار الن بو، بالدرجة الأولى، يليهم في الاهمية ماركيز وراي برا دبري وكتاب الخيال العلمي. كل هؤلاء اشاروا معا الى الينابيع القديمة، ينابيع الفكر العربي الاسلامي والاسطوري العراقي، كي استقي منها لبناء شكل جديد ورؤيا اساسية، في اطار فن رسخت قواعده المحكمة نصوص هؤلاء الاساتذة. اكرر ما قلته في حوار سابق بأن تاريخ القصة القصيرة هو تاريخ افراد حازوا على مرتبة الاستاذية، ولا يحرجني ابدا ان تذكر قصصي مع نصوصهم بنبا الى جنب، بل ان ذلك يسعدني حقا، فالانتماء ال حقل هؤلاء الاساتذة هو حلم كل كاتب معاصر. بت اعتقد اكثر من زي قبل ان قصة ما لابد ان تنجز في ظلال مناخ قصص أخرى، وان وجود الكاتب في نطاق التأثيرات المتضادة يساعده على موضعة نصوصه بين الاصوات التي كفم جو الانجاز. انني استطيع اليوم أن أضع نصوصي بمنأى عن تأثيرات بور نس وغيره من الكتاب، لانها تستطيع ان تميز مصادرها بوضوح، وهي مصادر تسبق مصادر اكأب الذين ذكرتهم. لا توجد مكتبة في (حكايات يوسف ). المكتبة موجودة في قصة (صحيفة التساؤلات ) وهي تلعب دورا تحفيزيا فيه. اما المكتبة في قصة بورخس (مكتبة بابل ) فهي بناء فلسفي اساسي اراد بها مماثلة الكون لشكل مكتبة دائرية نضدت الكتب فيها بطريقة مقصودة. القصص التي تعتمد نظام المكتبات في تحفيز السرد كنيرة، ولا يعني وجود مكتبة في احداها اقتباسا لنظام قصة بورخس. لقد ذكرت في فصل (براهين بسيطة ) ان المخطوطة والسفر والمتاهة بؤر سردية متكررة، وانها من الموضوعات الخالدة التي ستوجه اعمالا الى براهينها الصائبة على حقائق الفكر والوجود.
(16) انتقلت من (المملكة السوداء) الى (رؤيا خريف )، من الذاكرة الجمعية الى الذاكرة التأويلية، كيف تبرهن على ذلك ؟
* انتقال اساسي. من الصوت الى الصدى، من الاسم الى الهوية، من المأثور الى الاثر، ما يتبقى اشارات متصادمة تحت السطح، في العمق المكنون للرؤيا. لقد انتقلت من القصة ال الرؤيا، وهنا وصلت الى (الحد النهائي) الذي عبرت انت عنه في أحدى قصائدك، اقول (وصلت ) عل سبيل الافتراض، فأنا أبحث، وقد أقول أحيانا (أجد). ولم اقل قط اني (وجدت ) ما هو نهائي. لا استطيع أن أبرهن على حد نهائي. لا استطيع ان ابرهن على كل شيء. القصص (تبرهن ) بالمعنى الذي نقول فيه انها (تعمل ) على البرهان. لا شيء نهائي في عمل السرد، بالرغم من انه يمسك بغاياته جيدا.
(17) قصص (رؤيا خريف ) قصص متضامنة في البراهين، متجانسة في الرؤيا والتقنية، اتشكل (رؤيا خريف ) انقطاعا اسلوبيا مع قصص مجموعتيك السابقتين ؟
* أميل الى طرح رؤيا متجانسة في الكتاب الواحد، هذا ما صنفه النقاد عل انه انقطاع اسلوبي، او تحولات تقنية، لا تحد بمسار منتظم، او برؤية
واضحة التطور. والتطور المقصود الذي يعنونه هو مواصلة ما بدأته في نقطة ثم الانتقال الى نقطة اقرب وهكذا. هذا التطور ينطلق من مستوى اقل نضجا الى مستوى انضج. وفي نظرهم ان الكتب المتعددة تؤرخ لتطور او نمو تجربة كاتب او نضج فنه في مسار منتظم. والحق أني لا أرى في كتبي تطورا اسلوبيا او فكريا منتظما او غير منتظم. وأن عوامل كثيرة تتدخل في تنظيم هذا الاقتراب، وهي تتجمع في مسار لا تزامني، لا تطوري، بل تؤثر في أعمالي تأثيرا متداخلا. أشعر وكأن مجموعاتي الثلاث صدرت في لحظة نمو واحدة، واني أجد نفسي فيها جميعا في وقت واحد. وهي تمثل اطوار رؤيا بوجوهها المختلفة، تدور معا حول مركز عقل فعال يتجاذبها ويلفظها، ولولا تماسكها ووحدة مكوناتها لتحطمت نثارا. اني لا ارسم خطا تطوريا لقراءة أعمالي، لاني اجد نفسي في اية نقطة من تاريخ كتابتها، ما قبل وما بعد زمنان متداخلان ومتحولان، متساويان في الرتبة والتطور. الرؤيا المتحولة لا زمان لها.
(18) حددت للحكاية ثلاثة عصور في كتابك (الحكاية الجديدة ): عصر النشأة، وعصر اكتشاف الحكاية، وعصر العودة الى الحكاية. كيف تواجه الانتقادات التي وجهت اليك بسب هذا التقسيم ؟ وهل يتحدد عصر العودة الاخير بالاساليب او المحتوى او النوع ؟
* كان لابد من الدخول ال العصور الذهبية للحكاية بمدخل تاريخي يعين قلاعها وينصف حكاتها. وهي قلاع في بلدان متر امية الاطراف، وهم حكاة حقيقيون ووهميون، لذا كان التعرف والاستطلاع سمتين وصفيتين في هذا المدخل، وقد استدعى مني تصنيفا زمانيا أوليا، ومطالعة خيالية في كتاب الحكايات الكبير، اخرج منها بحكمة اساسية توضح سبب العودة الى القلاع القديمة. وهذه الحكمة ليست واحدة، اذ انها تتكرر في كل حكاية جديدة بشكل ومحتوى مختلفين، يعرض فيهما الحاكي الجديد قصة اللقاء بين الانسان وقوى الطبيعة الظاهرة والباطنة. قد يحصر باحث أطوار الحكاية في ثلاثة عصور، وقد يختزلها آخر في عمرين، او قد تتزامن عند باحث آخر في عصر واحد، تجتمع فيه خصائص السرد القديم والجديد عل المستويات كافة، الشكل والمحتوى والنوع. ولا يعني ذلك الا ان الرحلة متواصلة، وان شعورا يتضاعف بأنها رحلة لا عودة منها، بعد أن تبلغ نقطة الصفر المطلق في التصور.
(19 ) استخدمت الحوار العامي في قصة (أطياف الغسق ) حين نشرها اول مرة في مجلة الآداب، ثم استبدلت به حوارا فصيحا عند اعادة نشر القصة في المجموعة. أتجد مبررا لهذا التبديل ؟ وهل تجري تعديلات كثيرة عل قصصك ؟
* وجدت أن الكلام العامي الذي تنطق به شخصية النحات منعم فرات في النسخة الاول من (أطياف الغسق ) لا يعدو ان يكون كلاما مقصودا لتحديد نمط سابق لشخصية معروفة، فاستبدلت به كلاما فصيحا لاخرج بالشخصية الى فضاء قصصي اوسع من دون ان اسلبها ملامحها الاصلية. فالقصة في مظهرها الاخير مدونة تنصهر فيها المراجع واللهجات.
غالبا ما اجري تعديلات طفيفة على قصصي عند النشر الثاني؟ لكنني اجريت تعديلات هامة عل قصص غير منشورة في مجاميعي السابقة وأزمع طبع ثلاث منها في الطبعة الجديدة من (المملكة السوداء).
( 20) اخذت قصصك تميل الى ضرب من الطول والتعقيد ورسم المشاهد العديدة، وهو ميل روائي، الديك مشروع روائي بقبل ؟
* غالبا ما يشار ال القصة القصيرة باقترانها الدائمي مع الرواية بهدف ترسيخ خاصيتها البسيطة التي لا يمكن خرقها. لكني حاولت أن أوسع الحدود المشروعة، وتصميم مشاهد عدة تتمكن من احتواء أفكار وشخصيات في فضاءات تتاخم الفضاء الروائي. وقد اغناني هذا التوسيع عن التفكير في كتابة رواية. احاول الآن التحضير الى عمل يتحرك في المنطقة المشتركة بين القصة والرواية أطلقت عليه عنوان (خالد السروجي) سيوسع من المدى المشروع للقمة كي تتحول الى رواية.
( 21) أود أن تشير الى وضع القصة العراقية الحالي، ومقارنته بالوضع القصصي العربي والعالمي.
* لدي تصور عن القصة العراقية منقطع عن تصوري للقمة العربية والعالمية، وهذا وضع شاذ كما ترى لا يشبه وضعنا قبل ثلاثة عقود. كنا نستطيع ان فموضع قصصا بين قصص اشقائنا العرب من خلال نشرها في الاعداد الخاصة من المجلات العربية كالآداب والهلال والمجلة وغيرها. لكننا الآن نجهل النصوص المجاورة لنا، ناهيك عن النصوص البعيدة عنا. ومثل هذا الانقطاع والتجاهل يؤذيان مخيلتنا التي تتطلع الى معانقة الانجاز العربي والعالمي، والامتزاج بالسر ديات المحجوزة هنا وهناك. اعتقد أن تقييم انجازنا بمعزل عن الانجاز العربي والعالمي حكم لا ينفعنا في شيء.
(22) تمسك بلفة ذات متانة او جزالة تعبر عن منهج كلاسيكي، الا تساوق اللغة عندك تطور الاشكال ؟
* لغة القصة امتياز اتمسك به لنفسي استثناء من عناصر القصة الاخرى التي أدعو القارىء الى تلقيها عل وجه المشاركة الكاملة. اللغة تخفي تبريراتي ونواياي القصصية، لذا فهي جزء هام من شكل القصة وبنيانها. هكذا يتضح ان الكاتب يتصرف بلغته على وجه الامتلاك الخاص، ويجرب فيها ما لا تقبل العناصر الاخرى تجريبه. وأول ما أجربه في لفتي قابلية العبور من مستوى اللفظ المفرد ال مستوى التركيب العام، فاستخلص بواسطتها الروح الشعري الخفي من الجسد الظاهر للكلمات واني أتوخى الدقة في التركيب والانتقاء في المفردات، لكني لا أقع في وهم البلاغة الفارغ من المعنى. اللغة وسيلة من وسائل الوصول الى المعنى الدقيق للاستعمالات القصصية المختلفة. وما أكثر المشكلات التي تحلها لفة القصة حين يستعملها القصاص استعمالا دقيقا. وهذا هو روح التقليد الادبي القديم الذي يتوخى الترابط العضوي بين اجزاء العمل الادبي، وهو روح التقليد الأدبي الجديد كذلك، الذي يهدف الى الربط الدقيق بين الفكرة والتجربة، او الفكرة والواقعة. لكن الاستعمال الجديد للغة القصة يتمثل في اعتبار أساسي، وهو أن القصة مدونة، تعمل عناصرها اللغوية على تحويلها الى واقع كتابة بدلا من كتابة واقع. بمعنى أن لغة القصة ليست وسيلة تعبير عن واقع سابق على الكتابة، وانما هي واقع تجيري يتولد في النص اثناء كتابته.
حسين عبداللطيف ( كاتب من العراق)