سها مصطفى
كاتبة سورية
جزيرة هنجام بين مطالبات حكومة مسقط وسيادة الحكومة الفارسية
(ستينيات القرن التاسع عشر الميلادي)
منال بنت حمد القطيطية
باحثة عمانية
شكّل خروج السيد سلطان بن أحمد إلى ساحل مكران عام 1784م حدثًا مهمًا في تاريخ عُمان، فقد كان سببًا للتوسع في الأقاليم والمناطق المكرانية والفارسية
بلغت العوائد التي تدفع إلى خزانة حكومة مسقط في عهد سلطان بن أحمد 4000 تومان فارسي
ارتبطت جزيرة هنجام بعقد إيجار بين حكومة مسقط والحكومة الفارسية، وقد كانت هنجام وغيرها من الجزر الفارسية بؤر توتّر دائمة
لجأت حكومة الهند إلى استخدام جزيرة هنجام لاعتبارات كثيرة، من ضمنها التحديات التي واجهتها محطة التلغراف في مسندم العُمانية
اعتبرت هنجام جزءًا من التقسيم الإداري للحكومة الفارسية، بغض النظر على الكثير من الاعتبارات ومنها الديموغرافية المتمثلة في وجود السكان العرب على أراضيها
أخذت قبائل بني ياس موافقة مسقط للإقامة في الجزيرة، وأقاموا فيها واشتغلوا بصيد اللؤلؤ والأسماك والتجارة والملاحة
شنّ سالم بن ثويني في ربيع 1868م حملةً بحرية على فارس، لاسترادا حق استئجار حكومة مسقط لهنجام وغيرها من المناطق الفارسية المستأجرة
اتخذت فارس تولي سالم بن ثويني زمام الحكم ذريعة للتخلص من استئجار مسقط لجزيرة هنجام لكونه حفيدا لسعيد بن سلطان، وليس ابنا مباشرا له
طرد عرب هنجام نهائيًا بعد تطور البحرية الفارسية في العقود الأخيرة، لتنتهي بذلك صفحة الوجود العربي في هذه الجزيرة المنسية
لا يُعد وصول عُمان إلى الأقاليم الخارجيّة بالمشهد السياسي الجديد عليها في ظل انفتاحها وتوسعاتها خلال القرن السابع عشر الميلادي أو حتى ما سبقه من العقود المُنصرمة، بيد أن هذه الآفاق التي فُتحت أمامها كانت رهانات وبؤرًا مُضطربة ومُتجددة لسيادتها ونفوذها دوليًا ولها أبعاد سياسية واقتصادية باهظة، على الرغم من أنها كانت إيذانًا ببدء عصر جديد لعلاقات تتسم بقدر عالٍ من الدبلوماسيّة على مستوى الساحة الدولية. وكان من ضمن ما ينطبق على ما ذُكر أعلاه الوجود العُماني في الأقاليم الفارسيّة والمكرانية على حد سواء، الذي أصبح عالقًا أمام تحديات عديدة، ومنها تنامي القومية الفارسية من جهة، وتدخّلات حكومة الهند البريطانية British India Government من جهة أخرى، وسنحاول من خلال هذا البحث إظهار بعض تجلياتها من خلال «جزيرة هنجام» في ظل هذه الانفتاحات الإقليمية وتراجعها لحكومة مسقط خلال ستينيات القرن التاسع عشر الميلادي.
دخول جزيرة هنجام في حوزة عُمان في عهد السيد سلطان بن أحمد:
تُعد جزيرة هنجام إحدى الجزر التابعة للجمهورية الإسلامية الإيرانية حاليًّا، وهي تقع في الطرف الجنوبي من جزيرة قشم وعلى مقربة من جزيرة لارك، وكان العرب بحكم وجودهم فيها آنذاك يطلقون عليها اسم «هنيام» بقلب الجيم إلى الياء. لقد كان خروج السيد سلطان بن أحمد (حكم: 1206-1219هـ/1791-1804م) إلى ساحل مكران في العام 1784م على إثر النّزاعات الدائمة بينه وبين أسرته فيما بعد حدثًا جذريًا؛ سبب نقلةً نوعية في تاريخ عُمان بشكل عام وغيّر من تفاصيل سياق الأوضاع السياسية فيما بعد. وبما أن السيد سلطان كان شخصًا طموحًا وشغوفًا بالسياسة والسلطة، فمن الطبيعي والطبيعي جدًا أنه لم يكن ليسمح لإخوته أو لغيرهم من أفراد أسرته بالتقدّم عليه في الحكم، وإن كانت الظروف المحيطة به آنذاك أصعب بكثير من رغبته الشخصية هذه، وظل حال السيد سلطان هكذا إلى أن تهيأت له الظروف المناسبة في عُمان. وبوصول السيد سلطان إلى مكران ظل في ضيافة خان كلات، واستطاع خلال هذه الفترة أن يكسب ولاء أحد الولاة التابعين للخان هناك، الذي عمل لصالحه، فهجم بعد تشجيع السيد سلطان له على شهبار، وقام بضمها إلى سيادة السيد، والتي استخدمت بعد توليه الحكم في عُمان كقاعدة عسكرية لشنّ هجمات أخرى على مواقع ومدنٍ مجاورة لها كقشم وهرمز وميناب وهنجام على الساحل الفارسي. حيث تنتشر في هذه الحواضر قبيلة بني معين العربية والتي كانت قد استأجرت هذه المناطق وتوابعها من الجزر من آغا محمد شاه قاجار في وقت سابق، واضطر بنو معين في هذا الموقف الحرِج إلى دفع عائدات هذا البندر للسيد سلطان بعد أن أصبحت مناطقهم تابعةً لنفوذه وبلغت العوائد التي تدفع إلى خزانة حكومة مسقط في عهده 4000 تومان فارسي. ويبدو لنا من خلال ما تم ذكره أن السيد سلطان كان سببًا في توسعات عُمان على حساب الأقاليم والمناطق المكرانية والفارسية، وساعده في ذلك العديد من الاعتبارات السياسية والعسكرية والاقتصادية، هذا إضافةً إلى شغفه الدائم والمستمر في عالم السلطة والنفوذ، ويوثق ابن رزيق هذه الحادثة التاريخية بقوله: « وغزا سلطان شهبار مكران ففتحها ثم فتح القشم بعدها فاستخلصهما، فقويت شوكته ثم غزا القشم وهرموز فاستحلهما من بعد ما اصطلح هو وبنو معين أهل القشم، وكانت البندر-أي بندر عباس- وهرموز للملا حسين فقويت شوكة سلطان وزادت هيبته».
دعوى تبعية جزيرة هنجام بين حكومة مسقط والحكومة الفارسية:
لقد كانت هنجام وغيرها من المناطق والجزر الفارسية المؤجرة لصالح حكومة مسقط منذ عهد السيد سلطان بن أحمد بؤر توتر دائمة له ومن جاء من بعده من السلاطين، إذ كانت الحكومة الفارسية تثير المشاكل حولها بين الفينة والأخرى على حكومة مسقط أمام حكومة الهند البريطانية، وهذا يعني أن المسألة أصبحت مسألة دولية، كما كانت دائمًا ما تنوه بأن جزيرة هنجام هي جزءٌ من أراضيها ولا يُمكن التنازل عنها وأن إمام مسقط كان يضع يده عليها فقط بموجب عقد الإيجار لا أكثر، وأنها تتبع التقسيم السياسي والإداري لبندر عباس الفارسية، وتم تأكيد هذا الادعاء الفارسي من خلال عقد الإيجار نفسه، إذ تضمن العقد أن إقطاعية بندر عباس والجزر التابعة لها، والتي تُعد هنجام جزءًا منها هي أراضٍ ذات سيادة فارسية خالصة، ومع ذلك فلقد كان من حُسن الحظ أن يوافق فتح علي شاه بعد تسلمه مقاليد الحكم في فارس على مسألة تأجير هنجام وغيرها من الأراضي الفارسية لحكومة مسقط مرة أخرى؛ لأنه كان بالكاد يحقق إيرادات من خلالها، وبسبب انشغال السلطات الفارسية في المشاكل الداخلية والحروب والصراعات الدائمة مع جيرانها، وأيًا يكن من أمر، فقد كان عقد الأراضي الفارسية يُلزم حكومة مسقط دفع مبلغ 7000 تومان فارسي سنويًا لحاكم شيراز، كان من ضمنها 1000 تومان فارسي يسلم عن استئجار جزيرة هنجام لوحدها. وبناءً على ما تقدم من توضيح لمصادر الإيرادات التي كانت تدفعها حكومة مسقط فيتضح لنا أن جزيرة هنجام كانت مُدرجة في عقد الإيجار بين حكومة مسقط والحكومة الفارسية، على الرغم من أن المصادر التاريخية لم تقف على هذه الوثيقة الموقعة بين الجانبين والتي قد يكون التلف أصابها بمرور الدهر، ومن هذه النقطة تم اعتبار هنجام جزءًا لا يتجزأ من التقسيم الإداري للحكومة الفارسية، بغض النظر على الكثير من الاعتبارات الأخرى كالاعتبارات الديموغرافية والمتمثلة في وجود السكان العرب على أراضيها. وبعد وفاة السيد سلطان انتقلت صلاحية عقد إيجار جزيرة هنجام إلى ابنه السيد سعيد بن سلطان والذي لم يسلم هو الآخر من الاضطرابات التي تثيرها فارس على وجود العُمانيين على أراضيها، فإما أن ترفع حكومة مسقط مبلغ الإيجار وإما أن تنسحب من أراضيها، وهذه هي الذريعة الدائمة والمستمرة التي أصرت السلطات الفارسية على استخدامها ضد حكومة مسقط إلى أن تم حسم الموضوع بين الجانبين برفع مبلغ الإيجار والاتفاق على العديد من الشروط التي أرهقت حكومة مسقط بالعديد من المبالغ المالية، غير أن الشرط الأصعب كان يتجلى في طلب الحكومة الفارسية أن يكون المؤجر من أبناء السيد سعيد فقط وهي الحجة التي ستدخل حكومة مسقط في العديد من التحديات فيما بعد.
لقد كان من سوء حظ السلطان ثويني بن سعيد أن يعايش بعد وفاة والده السيد سعيد العديد من العلاقات المضطربة مع الحكومة الفارسية، التي كان لا يمكن التنبؤ بعواقبها على الإطلاق، غير أنه حاول استيعاب العديد من القضايا المشتركة بين الجانبين، فعمل على تجديد عقد إيجار جزيرة هنجام والمناطق الفارسية الأخرى بحكم كونه وريثًا وابنًا مباشرًا للسيد سعيد بن سلطان وكان من حسن حظه أن توافق الحكومة الفارسية على ذلك، وفي سيرة السلطان ثويني، يقول الدكتور محمد مصطفى محقق وناقد مخطوطة «نبذة تاريخية عن السيد ثويني» في أحد مقالاته التي أفردها لدراسة هذه الفترة: «إن فترة حكم السلطان ثويني بن سعيد كانت فترة حرجة احتاجت إلى قائد قوي يجمع عددًا من الصفات أهمها أولا الالتفاف الوطني ودعم العلماء الإباضيين له، وثانيًا موقف واضح من بريطانيا، وبما أن ثويني لم يكن يتمتع بدعم العلماء فإنه لم يكن يستطيع تحقيق الشرط الأول، وعلى الرغم مما كان له من صلات وثيقة مع بريطانيا واعتماد نظامه عليها ماديًا وسياسيًا؛ فإنه لم يستطع كذلك تحقيق الشرط الثاني، وكان الواقع في عُمان على ما يبدو أكثر من أي وقت مضى في مأزق حاسم، مما لا شك فيه أن سبب الأزمة الوطنية الحقيقية هو الانفصال بين زنجبار وعُمان، فهذا الانفصال كانت له نتائج مباشرة وفورية على الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي مس نظام السلطنة نفسه، فقد كان انفصال زنجبار عن العُمانيين في ذلك الوقت تقسيمًا تعسفيًا للأسرة والقبيلة والاقتصاد والتاريخ والمستقبل وكان في نهاية المطاف تمزيقًا للدولة والوطن».
لقد كان من المُحزن ومن المُخزي أن تنتهي حياة السلطان ثويني بن سعيد نهاية مأساوية باغتياله في قلعة صحار في العام 1866م على يد ابنه السيد سالم بن ثويني وإن أشار العديد من الباحثين إلى أيدٍ ضليعة في مسألة اغتياله وهو حديث يطول شرحه، وقد نتفق جميعًا على مرارة الموقف وهوله ومدى ما خلقه من اشمئزاز واسع في نفوس المجتمع المحلي والخارجي، وهذا أمرٌ لن نختلف عليه إطلاقًا، ولقد سجلت المصادر المحلية والبريطانية والفارسية هذا الحدث وتناولته في العديد من المواقف، غير أن العاقل لا يستطيع تجاهل إصرار السلطان سالم بن ثويني على حق حكومة البلاد في استمرارية عقد إيجار جزيرة هنجام وغيرها من الإقطاعيات المهمة كبندر عباس، ولا يستطيع تجاوز إلحاحه الدائم أمام بريطانيا للاعتراف بحكمه الشرعي وحكومته على المستوى الدولي، ولا إلى مسألة تصديه لسلاطين زنجبار بعد رفضهم تقديم المعونة السنوية التي يعود تاريخها إلى 2 أبريل 1861م، عندما تم فصل زنجبار عن عُمان بموجب قرار تحكيم كاننج Lord Canning والذي نص على قرار الفصل، على أن يدفع السلطان ماجد بن سعيد وخلفاؤه من بعده مبلغًا وقدره 40000 دولار( ريال نمساوي) سنويًا للسلطان ثويني بن سعيد وخلفائه كتسوية لما نتج عن عدم المساواة في توزيع الثروة بين الأخوين وكتعويض مادي عن تنازل حكام عُمان عن السيادة على زنجبار، ونص الحكم أيضًا على اعتبار هذه المعونة التزامًا مستمرًا من قِبل حاكم زنجبار لحاكم مسقط، وأنه لا يجوز قطع هذه المعونة المالية لأي سبب من الأسباب، إلا في حالة واحدة تتمثل في اعتداء حاكم عُمان على زنجبار، أو في حالة تقاعس حاكم زنجبار عن دفع هذه المعونة، فإن المسألة تعرض بدايةً على حكومة الهند البريطانية قبل القيام بأي عمل عسكري لعُمان. وفي ظل هذه الظروف المتردية بدأ السلطان سالم بن ثويني بتهديداته الشديدة للحكومة الفارسية حول عزمها إسقاط حق استئجار حكومة مسقط لهنجام وغيرها من المناطق الفارسية المستأجرة مرة أخرى، فرأى أن يشن حملةً بحرية على فارس وعمل على تنفيذ وتأكيد تهديداته هذه على أرض الواقع، وهذا ما قام به بالفعل في ربيع 1868م، إذ فرض حصارًا بحريًا على بندر عباس في هذه السنة. وأجد من الغرابة أن يقوم السلطان سالم بهذا الحصار وفي تلك الفترة الحساسة بالتحديد وفي ظل هيمنة حكومة الهند على المنطقة، والتي كان من المفروض عليها أن لا تسمح له أو لغيره بأن يتم أي تحرك بحري وعسكري في حدود مناطق الجزيرة العربية وفارس، وذلك بموجب معاهدات الأمن أو السلام البحري وهي الذريعة الدائمة والتي استطاعت بريطانيا من خلالها فرض قيودها على الكيانات والقوى السياسية الموجودة في المنطقة، ومع ذلك نجح السلطان سالم في تنفيذ ضغوطه المستمرة على الحكومة الفارسية، وفي الوقت ذاته لجأ إلى طلب تدخل حكومة الهند في هذه المسألة، وذلك عن طريق مُقيمها السياسي في بوشهر العقيد لويس بيلي لدى بلاط شاه فارس بشيراز. لقد خلق هذا الوضع جوًّا من التوتّر والمخاوف على مستوى السلطات الفارسية التي لجأت في بادئ الأمر إلى الوزير البريطاني المفوض في طهران لحلّ هذه الأزمة، كما خاطبت السلطات الفارسية حكومة الهند، وطلبت منها أن تزودها بقوة بحرية خاصة لاستخدامها في مثل هذه الأزمات الطارئة، وتم سؤال الوزير المفوض عن إمكانية إعارة بعض الضباط البحريين للحكومة الفارسية لقيادة الأساطيل ضد السلطان سالم بن ثويني وتصرفاته الجريئة بحق فارس، غير أن حكومة الهند ومكتب شؤون الهند التزما الصمت في ظل هذه الأوضاع المتوترة.
جزيرة هنجام بين المصالح البريطانية وحكومة مسقط في عهد السلطان سالم بن ثويني:
لنا أن نتصور وفي ظل هذا المنعطف الخطير الذي تعيشه عُمان ما بعد عام 1866م والمتمثل في مقتل السلطان ثويني بن سعيد والاعتراف بالسيد سالم بن ثويني سلطانًا شرعيًا على البلاد، وخروجه فيما بعد من عُمان على إثر اضطرابات داخلية في عُمان، وخلو العرش من صاحبه الشرعي، واضطراب الأوضاع الداخلية للبلاد كنتيجة لهذه الأحداث الحاصلة، أنه أصبح في وسع ومقدور الحكومة الفارسية التخلص النهائي من مشاكلها مع حكومة مسقط، فالقصة تبدأ بعد أن تسلم زمام الأمور وبشكل مبدئي في عُمان السيد سالم بن ثويني الذي يُعد حفيدًا للسيد سعيد بن سلطان وليس ابنًا مباشرًا له، وهذا ما تذرعت به الحكومة الفارسية بالفعل للتخلص من استئجار حكومة مسقط لجزيرة هنجام، وقد يرى البعض من المهتمين بهذا الجانب أن السيد سالم بن ثويني بن سعيد هو أيضًا من نسل السيد سعيد بن سلطان كونه ابنًا لابنه، وهو أمرٌ مقبول بطبيعة الحال غير أنه لا يمكننا تجاوز العديد من الاعتبارات المهمة، فهذا السبب ليس كافيًا تمام الكفاية حتى تجدد الحكومة الفارسية عقدها الاستثماري مع حكومة مسقط، كما أن اقتصاد حكومة مسقط كان مُتهالكًا إلى أقصى الحدود، وسمعتها الملاحية كانت تئن تحت وطأة وشدة الأساطيل البريطانية البخارية، ولا أغفل عن ذكر الدور السياسي لحكومة الهند في بوشهر لويس بيلي Louis Pelly ، فمن الأفضل الإبقاء على حكومة السلطان سالم بن ثويني تحت رعاية حكومة الهند على أن تلجأ إلى قوى أخرى تستنجد بها.
وبالعودة مرة أخرى إلى حصول حكومة الهند على موافقة الشاه لاستثمار جزيرة هنجام على الرغم من معرفتها التامة باستئجار حكومة مسقط لها، وذلك في سبيل تحقيق مصالح مشاريعها في مجال الاتصالات والبرق، فقد اعترفت الحكومة البريطانية اعترافًا رسميًا بالسيادة الفارسية عليها وأكدت على ذلك، وفي ذلك يقول جون كيلي: « أما وقبل ذلك فقد كانت هذه الجزيرة ومنذ بداية القرن تابعةً لحكومة مسقط، ولم تدخل ضمن عقود الإيجار المُبرمة بين مسقط وفارس شأن بندر عباس وملحقاتها، فإذا ما رأت حكومة الهند الآن أن تتدخل في موضوع استئناف المفاوضات بشأن تجديد عقد الإيجار فإنها ستورط نفسها في النزاع على موضوع السيادة على هنجام مما قد يؤثر على عمليات نقل المحطة التلغرافية إليها». بيد أن هذا التصريح يفتح علينا بابًا آخر من حيث اعتراف حكومة مسقط نفسها بكون جزيرة هنجام جزيرة فارسية خالصة وفق الاتفاقية الموقعة بين عُمان وفارس في عهد السيد سلطان بن أحمد، وكأنها بمثابة من شهدت على نفسها بذلك، الأمر الذي أدخلها في العديد من المواقف الحرجة أمام القوى والكيانات السياسية الأخرى التي كانت في غنى عنها بلا أدنى شك… وسأتصور هنا موقف حكومة الهند الخانق، حيث أدركت هي الأخرى أنها وقعت في معضلة كبيرة وفي إحراج دبلوماسي خطير، فهي من جهة أولى تريد الحفاظ على علاقاتها الجيدة مع السلطات الفارسية؛ وذلك في سبيل مواصلة سير أعمال مشروع تلغرافها على أراضي السيادة الفارسية الذي تطمح من خلاله إلى ربط جميع مستعمراتها في شبه القارة الهندية ببريطانيا الأم، ومن جهة أخرى كان لابد لها من أن تحافظ على وضع حكومة مسقط في الأراضي الفارسية، وأن لا تشعل فتيل الصراع العُماني الفارسي على هنجام وغيرها بعد أن تجاوزتها أساسًا في هذه المسألة. وبعد أن أكدت حكومة الهند على تبعية هنجام للحكومة الفارسية وذلك حفاظًا على مصالحها الإمبريالية في المنطقة كما ذُكر آنفًا، كان من حسن حظها أن تسير الأمور وفقًا لصالحها العام، إذ إن السلطان سالم لم يدخل في صراع فعلي وقوي معها ومع الحكومة الفارسية على جزيرة هنجام لاعتبارات كثيرة لم تكن بحسبانه، كما أن العرب الموجودين في هنجام آنذاك لم يدخلوا في صدام سياسي مع هذه الأطراف إلا في فترة متأخرة جدًا، حيث كانت الحكومة الفارسية قد عملت على تأصيل وجودها وتدعيمه بشكل كبير في هنجام، وكانت قد خطت خطوات واعدة في هذا الشأن.
وفي السياق نفسه، أبرق الحاكم العام للهند في وقت سابق بتعليماته إلى المقيم السياسي في بوشهر لويس بيلي في يونيو 1868م، يأمره فيها بضرورة الذهاب إلى شيراز وأن يحاول قدر المستطاع الحصول على موافقة السلطات الفارسية على تجديد عقد إيجار بندر عباس وتوابعها لصالح حكومة مسقط كحل بديل ومقبول لدى جميع الأطراف ووفق شروط معقولة، وإذا ما فشلت محاولاته هذه، فعليه أن ينسحب كليةً من هذا النزاع مع توجيه تحذير شديد اللهجة إلى جميع الأطراف بعدم جر نزاعاتهم إلى البحر. وإني أرى أن حكومة الهند قد ارتأت أو هكذا ذهب التفكير بها إلى أن تحاول محاولة أخيرة في أن تجد حلا يرضي حكومة مسقط، فإن وافقت الحكومة الفارسية على مسألة تأجير أراضيها لمسقط فكان بها، وإن لم توافق فلم يعد بوسعها بذل المزيد من الجهود لصالح السلطان سالم بن ثويني وحكومته وهذا ما حدث في الواقع.
لقد كادت حكومة الهند تدفع الثمن باهظًا في هذا الموقف، لاسيما بعد أن غادرت بعثة لويس بيلي مسقط باتجاه فارس للتوسط لحكومة مسقط في مسألة تجديد عقد الإيجار لبندر عباس وتوابعها والتي تُعد هنجام جزءًا منها لدى بلاط الشاه بشيراز، ومما زاد الأمر سوءًا أن الحكومة الفارسية رفضت بالفعل مسألة التوسط البريطاني لصالح حكومة مسقط وأصبح المقيم السياسي في مأزق لا يحسد عليه، غير أن جهوده الحثيثة هو والوزير المفوض في طهران تشارليز أليسون Charles Alison آتت ثمارها في نهاية الأمر، لقد كانت مسألة الرفض الفارسي لتدخل حكومة الهند في هذه المسألة نابعًا من تشككها في مصداقية بريطانيا بشأن السيادة الفارسية على كل من جزيرة هنجام وغيرها من أراضي السيادة الفارسية والتي برزت أهميتها الاستراتيجية خلال تلك الفترة، غير أن بيلي وأليسون أكدا على أحقية الحكومة الفارسية لهذه المناطق جميعها وأنها لن ولم تشكك في هذه القضية على الإطلاق. ولقد أكد جون جوردن لوريمرJohn Gordon Lorimer على هذه المسألة وذكر أن حكومة الهند لجأت إلى استخدام جزيرة هنجام لأسباب واعتبارات كثيرة، كان من ضمنها التحديات التي واجهتها محطة التلغراف في منطقة مسندم العُمانية؛ بسبب شدة الحر الذي أودى بحياة موظفي هذه المحطة إضافةً إلى المناوشات المستمرة مع قبائل الجوار في هذه المنطقة؛ لأجل ذلك عملت حكومة الهند على نقل محطة التلغراف إلى هنجام على الرغم من مطالبات حكومة مسقط بها، كما أن الحكومة الفارسية كانت قد أصدرت في وقت لاحق موافقتها الرسمية على استخدام هذه الجزيرة لصالح السلطات البريطانية وذلك بتاريخ 29 مارس 1868م، على الرغم من أنها وافقت في وقت سابق على طلب السلطان سالم بن ثويني لتجديد عقد إيجار جزيرة هنجام مرة أخرى والمناطق المستأجرة الأخرى في فارس على إثر المفاوضات الطويلة بين كل من الحكومة الفارسية والمسؤولين البريطانيين، بيد أن قيام نظام الإمامة في عُمان وخروج السلطان سالم بن ثويني منها كان مما أدى إلى سير الأمور في صالح الحكومة الفارسية وحكومة الهند في جزيرة هنجام، لتتبخر بذلك جميع الجهود المبذولة في سبيل حفاظ حكومة مسقط على جزيرة هنجام وعلى عوائدها التجارية والتي تبعثرت شيئًا فشيئًا، فسجلت عُمان بذلك فقدًا آخر على مستوى الأقاليم الخارجية التابعة لها، وإن كانت هذه التبعية تبعية استثمار وتجارة ليس إلا، بعد سلسلة طويلة من الانفتاحات الإقليمية على المستوى الخارجي، في ظل تجاهل الأطراف الأخرى لجميع الجهود المتعثرة في سبيل الحفاظ على هذه الرقعة.
جزيرة هنجام مقرًا وسكنًا لبني ياس إلى تاريخ الخروج العربي الأخير منها:
ذكرنا سابقًا أن حكومة الهند كانت قد تنبهت إلى ضرورة إعادة النظر في مسألة تجديد عقد إيجار هنجام مع حكومة مسقط في عهد السلطان سالم بن ثويني، إذ إن قوته في هنجام ستؤدي إلى تقوية حركة التجارة البريطانية في المنطقة، غير أنها كانت متخوفةً وبشدة من موقف الحكومة الفارسية، لاسيما وأنها كانت بصدد الاتفاق معها من أجل إنشاء محطة تلغراف في هذه الجزيرة ذات الموقع الاستراتيجي المهم، بيد أن الأوضاع السياسية المتردّية في عُمان كانت مما ساعدها في التخلص من هذه المسألة، ومن موقفها الحرج أمام الحكومة الفارسية، والمعضلة الأخرى كانت تتمثل في أن معظم سكان هذه الجزيرة كانوا من قبائل بني ياس العربية الذين استقروا فيها منذ عام 1826م، فلم تعلم كل من حكومة الهند والحكومة الفارسية أنها على موعد آخر للاصطدام بهم في فترة لاحقة، وكما هو معلوم أن جزيرة هنجام كانت تتبع حاكم بندر عباس إداريًا، الذي كان يتبع حكومة مسقط في تلك الفترة؛ بحكم عقد الإيجار الموقع بين عُمان وفارس، فأخذت قبائل بني ياس موافقة سمو إمام مسقط للإقامة في الجزيرة حسب العادة، وأقاموا فيها واشتغلوا بصيد اللؤلؤ وصيد الأسماك والتجارة والملاحة، واصطدم سكانها لأول مرة بالحكومة الفارسية قبل الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) وكان عليها آنذاك الشيخ عبيد بن جمعة الفلاسي، وخلفه في إدارة شؤون الجزيرة ابنه الشيخ أحمد بن عبيد بن جمعة الفلاسي، الذي التجأ بدايةً إلى حكومة مسقط لمساعدته ودعمه ضد التدخل الفارسي لكن دون جدوى. ثم التجأ بعد ذلك إلى حاكم دبي الشيخ سعيد بن مكتوم الذي كانت تربطه به صلات قرابة ومصاهرة، وعرض عليه أن يكون من أتباعه، وفي مايو من العام 1928م دخل شيخ هنجام في نزاع مع السلطات الفارسية، إذ بدأ هذا النزاع بعد أن احتجز رجال الجمارك الفرس مركبًا تابعًا للشيخ؛ مما أثار غضبه على تصرفاتهم هذه، ودفعه إلى اقتحام ومهاجمة مكتب الجمارك التابع للسلطات الفارسية، ودار بين الطرفين قتال عنيف أسفر عن مقتل مدير الجمارك الفارسي في شهر أبريل من العام 1927م، فأرسلت الحكومة الفارسية على إثر ذلك حملةً إلى الجزيرة في شهر مايو من العام نفسه، التي أدّت إلى خروج العديد من العرب من هنجام إلى المناطق المجاورة، وللأسف الشديد كانت حكومة الهند في ظل هذه المناوشات تميل إلى الحكومة الفارسية ضد عرب هنجام لتحقيق مصالحهما المشتركة على أرض هذه الجزيرة، وفي شهر سبتمبر قام مبعوث فارسي بدعوة الشيخ أحمد بن عبيد الذي كان من ضمن من خرجوا من المنطقة للعودة إلى هنجام مرة أخرى فقبل الشيخ هذا العرض، غير أن المسألة ظلت معلقة بين الجانبين وظلت الحقوق الإقليمية في صمت طويل هي الأخرى. الغريب في الأمر أن الحكومة الفارسية لم تكن راغبةً في إحدى الفترات في هجرة العرب من جزيرة هنجام وقامت بتشجيع العديد من المهاجرين للعودة مرة أخرى إلى الجزيرة وذلك عن طريق منع نسائهم من اللحاق بهم، بعد هجرة الكثير منهم إلى منطقة «بخا» مما أدى إلى تصعيد التوتر وتزايده بين عرب هنجام والحكومة الفارسية، ولقد حالت بريطانيا بين قيامهم بأي محاولة انتقامية ضد السلطات الفارسية. وتم طرد عرب هنجام من هذه الجزيرة نهائيًا بعد التطور الذي شهدته البحرية الفارسية في العقود الأخيرة وقتئذ، إذ بدأت بممارسة العديد من الضغوطات على سكان هذه المنطقة، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى خروجهم النهائي منها واحتلال الحكومة الفارسية لها تمامًا لتنتهي بذلك صفحة الوجود العربي في هذه الجزيرة المنسية.
الجدير بالذكر أن بريطانيا استخدمت جزيرة هنجام فيما بعد كقاعدة حربية لقواتها في الحرب العالمية الأولى، كما قامت بتهجير السياسيين العراقيين المعارضين إلى هذه الجزيرة، ولقد أصدر الأستاذ الدكتور محمد حسين الزبيدي كتابًا في العام 1985م تحت عنوان «السياسيون العراقيون المنفيون إلى جزيرة هنجام سنة 1922م» غير أني لم أستطع الوقوف عليه للأسف الشديد لعدم توفره.
المراجع والمصادر
Al-Askari, Bushra Kazem, Louis Bailey and his role in Omani internal Events, International Journal of Psychosocial Rehabilitation, vol 24, Issue 04, Apr2020, p7977.
Floor, Willem, Bander Abbas the natural Trade gateway of southeast Iran, Mage publishers, Washington DC, 2011.
Group of authors, Encyclopedia Iranica, Vol III, Fasc7, Encyclopedia Iranica Foundation, Washington DC, 1988. Accessible at: www.Iranicaonline.org.
ابن رزيق، حميد بن رزيق بن بخيت، الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيدين، تحقيق: محمد حبيب صالح ومحمود بن مبارك السليمي، ط6، ج2، وزارة التراث والثقافة، مسقط، 2016م.
البلوشية، فاطمة بنت سالم، العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين عُمان وساحل بلوشستان (1206هـ/1792م-1332هـ/1913م)، جامعة السلطان قابوس، مسقط، 2012م.
الحجري، سالم بن مبارك، علاقات عُمان الخارجية في عهد السيد سلطان بن أحمد 1206هـ/1792م-1219هـ/ 1804م، جامعة السلطان قابوس، مسقط، 2006م.
الريس، عفراء عطا عبد الكريم، بنو ياس ودورهم في ظهور إمارة أبو ظبي 1761-1914م، ط1، دار ومكتبة عدنان، بغداد، 2015م.
العابد، فؤاد سعيد، سياسة بريطانيا في الخليج العربي 1853-1914، ط1، ج2، منشورات ذات السلاسل، الكويت، 1984م.
العيدروس، محمد حسن، التطورات السياسية في دولة الإمارات العربية المتحدة، منشورات ذات السلاسل، الكويت، 1983م.
العيدروس، محمد حسن، دولة الإمارات العربية المتحدة من الاستعمار إلى الاستقلال، ط1، منشورات ذات السلاسل، الكويت، 1989م.
القاسمي، سلطان بن محمد، صراع القوى والتجارة في الخليج 1620-1820م، منشورات القاسمي، الشارقة، 2016م.
كيلي، جون، بريطانيا والخليج، ترجمة: محمد أمين عبد الله، ط2، ج1، وزارة التراث والثقافة، مسقط، 2017م.
لوريمر، جون جوردن، السجل التاريخي للخليج العربي وعُمان وأواسط الجزيرة العربية، ترجمة: جامعة السلطان قابوس ومركز الشرق الأوسط بكلية سانت أنطوني بجامعة أكسفورد، ج1، مج1 و2، دار غارنت للنشر، إنجلترا، 2015م.
مجموعة مؤلفين، الموسوعة العمُانية، ط1، وزارة التراث والثقافة، مسقط، 2013م.
مجموعة مؤلفين، موسوعة أرض عُمان، ط1، مكتب مستشار جلالة السلطان لشؤون التخطيط الاقتصادي، مسقط، 2005م.
مصطفى، محمد مسعود محمد، ترجمة للسيد ثويني بن سعيد سلطان عُمان 15 صفر 1273 – 26 رمضان 1282 هـ = 14 / 10 / 1856- 11 / 2 / 1866 م: مخطوطة نبذة عن السيد ثويني: نشر وتحقيق ونقد مع دراسة تاريخية أرشيفية دبلوماتية، حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية، الحولية 41، الرسالة 552، جامعة الكويت، الكويت، 2020م.
المعمرية، هيفاء بنت أحمد، تحكيم اللورد كاننج والنتائج التي ترتبت عليه في تاريخ عُمان الحديث (1278-1332هـ/ 1861-1913م)، ط1، بيت الغشام، 2017م.
الوثيقة رقم: IOR/L/PS/18/B405 الوثيقة متوفرة على موقع مكتبة قطر الرقمية www.qdl.qa.
الوثيقة رقم: IOR/L/PS/20/CA8 الوثيقة متوفرة على موقع مكتبة قطر الرقمية www.qdl.qa.