يرتكز الخطاب الشعري السبعيني- في سعيه لتثبيت وجوده أولا في السياق الشعري العام والى توكيد تميزه ثانيا- يرتكز على جملة من الخواص الأسلوبية التي تعضد سيرورة حركته الأدائية، وتبور وظائفه التعبيرية المختلفة، ليس تبريرا تجريبيا فحسب، إنما تبرير جمالي يتسع في تجليه ليشمل مختلف الصيغ والظواهر التي أنتجتها شعرية الحداثة وبادئا منها نقطة الانطلاق التثبيتية، وجائلا في حركة الوعي الشعري الحداثي الخلاقة ليصل إلى ميزات هي له.. والى محددات تنطلق – بإزارها السبعيني- هي من عندياته.
إن الخواص الأسلوبية لا تتحدد فيما يصير عاما في الوعي البويطيقي الحداثي، أو فيما يصير أسا تركيبيا في أساسات هذا الوعي كالتركيب المعقد، والصورة المحلقة، والترميز، واستثمار العناصر التراثية وابتكار الأسطورة، والاتكاء على أبعاد إيقاعية متنوعة، مع حداثة اللغة التي تتجلى في انتقاء الكلمات الدالة من بين النظام اللغوي، والتقاط الكلمات التعبيرية غير المستهلكة بحيث يتولد عنها وحدات دالة جديدة، وتتخلق هي أيضا وسط سياقات جديدة تحملها الرؤى الشعرية الموغلة في استقصاءاتها.
لا تتحدد الخواص الأسلوبية أيضا في الصيغ المعهودة، ذلك لأن الشاعر الحداثي ليس أولا في سياق الشعر العربي، فوراءه تاريخ عريض من الشعر. وتفرض البلاغة قيما معينة للتعبير في هذا الشعر، ولا يكتفي في الشعر الحر بمجرد إسقاط القافية واقامة التفعيلة، بل إن هناك فوا عل أخرى، سوى ما ذكرت سابقا، من حيث الموقف من العالم، وتطور المفهوم الشعري الغنائي الانفعالي الانشادي الذاتي، إلى مفهوم أكثر قابلية للبناه الدرامي، والنظرة التجريبية الخلاقة.
كل هذه الأمور وغيرها تمثل خلفية إبداعية – تتوارى في تقنياتها- للنص الشعري السبعيني، فلا تعد خصائص أسلوبية، قدر ما تعد خصائص للبناء، وحين تطفو كظاهرة، فإن هذا يتولد حين يلح الشاعر على تكرار هذه الخصيمة أو تلك بشكل فعال، وحين يتسنى له استثمار هذه الخصيمة أو الظاهرة الأسلوبية في نسيج نصوصه.
ولا شك أن هذا الاستثمار يتطلب جهدا مغامرا واعيا من الشاعر المبدع فان "المغامرة الشعرية لا ينحصر همها ولا يقتصر خوض تجربتها في التسمية، وانما في تلك القدرة على جعل ذلك الجانب المعتم من الكينونة يفصح عن غيابه دون أن يخون أو يتنكر لجذره الأصلي". (1) إن هذه المغامرة الإبداعية النصية تجعل الشاعر – لكي يبدع ظاهرته الكلامية – مهموما بالاستقصاء الدائب النشط الفعال لما بين يديه من كلمات وما في مخيلته من أمشاج وهواجس انفعالية، "فالشعر إضاءة ويقظة، إضاءة ما يمكن من الانحراف عن مسار الذاكرة العامة التقليدية، ويقظة تسمى الأشياء تسمية أخرى بلفة أخرى وهو، فيما يفعل ذلك – يقدم صورة للعالم مغايرة، ويتغير هو نفسه، إن استقصاءه هو تحركه الدائم، المتسائل حول العالم، وحول نفسه، في المسافة التي تفصل أو تظل تفصل بين الكلمات والأشياء".(2) إن هذه المغامرة وهذا الاستقصاء هما السبيل الأول لتكوين أساليب شعرية خاصة، وحين نهيب بالمنهج الأسلوبي في رصد ظاهرة ما، فنجد أن "المنهج الأسلوبي يمتلك مسالك متعددة تتيح له ممارسة فاعليته الكثيفة على مستويات مختلفة، فقد يتوجه إلى رصد ظواهر العدول وكثافتها، واتساعها أو ضيقها، وقد يتوجه إلى التعبيرات البراقة ليتابع رصد دورها في خلق التوازن بين التعبير والتأثير، وقد يتوجه إلى رصد البنى التكرارية، ومتابعة دورها في تحريك الدلالة من دوائر التقرير إلى دوائر التأسيس، وكل هذه التوجهات تمتلك أدوات منفردة أو مجتمعة تشارك في خلق الحركة الإيجابية التي تجوس خلال الخطاب فتكشف عن نظامه الكلي، وتحدد مناطق التداخل والتخارج، ثم تطرح شعريته على المتلقي".(3)
وهنا نسعى لتقديم بعض الظواهر التعبيرية البارزة في شعرية السبعينات والمتمثلة في الصياغة التقنية لحركة الأسماء والأفعال داخل النصوص مركزين – في الجوهر- لا على ما هو معهود شعريا، بل على أجلى الخصائص القارة في النصوص من هذه الوجهة النحوية البسيطة، وكيف يمثل النسيج النحوي رافدا تعبيريا من روافد الإبداع النصي الشعري، ولا يمكن للتحليل اللساني للشعر- فيما يقول ياكبسون – "ان يقتصر على الوظيفة الشعرية، فخصوصيات الأجناس الشعرية المختلفة تستلزم مساهمة الوظائف اللفظية الأخرى بجانب الوظيفة الشعرية المهيمنة، وذلك في نظام هرمي متنوع، إن الشعر الملحمي المركز على ضمير الغائب يفتح المجال بشكل قوي أمام مساهمة الوظيفة المرجعية، والشعر الغنائي الموجه نحو ضمير المتكلم شديد الارتباط بالوظيفة الانفعالية، وشعر ضمير المخاطب يتسم بالوظيفة الإفهامية، ويتميز بوصفه التماسيا ووعظيا وفق ما إذا كان ضمير المتكلم فيها تابعا لضمير المخاطب، أو وفق ما إذا كان ضمير المخاطب تابعا لضمير المتكلم".(4)
إن البحث الأسلوبي، والتحليل اللساني، والرصد التعبيري لحركة النص الشعري، هي أمور تسعي كلها لا لمجرد توصيف الظاهرة أو استبيانها، بل تقويلها واستبطان دلالات تجليها ومدى تغايرها عن السياق، ومدى تكوينها لسياقات جديدة خلاقة.
وحين ننظر إلى الأسماء والأفعال في النص الشعري، إنما ننظر إلى التجسد اللغوي شبه الكامل للنص، فبعد الأسماء والأفعال، لا يتبقى من النص سوى حروفه. والأسماء تتجسد – نحويا- في المبتدأ والخبر، وفي الصفات والإضافات، والمعطوفات، وفي الفواعل والمفعولات. وقد تكون أسماء جامدة أو مشتقة، وقد تأتي على هيئة ضمائر بارزة أو مستترة، وهنا سوف نمس بعض ظواهر هذه الأسماء لا بإعرابها نحويا، بل برصد دلالتها التقنية، وآلياتها التعبيرية داخل الخطاب الشعري الأمر نفسه الذي سنرصده في حضور الأفعال بنسقها الثلاثي، مركزين على تجليها الدلالي/ التشكيلي في النص الشعري.
إن الأسماء والأفعال هي جسد النص، بهما يولد، وعبرهما يتخلق جماليا، حيث يمضي بمكنونه الدلالي، وبمكوناته اللفظية المتجاورة، التي تسعي لتبيئة سياقها الجمالي الخاص في سياق الشعرية الحداثية بوجه عام.
خصائص الاسم
تعبر الأسماء فيما تعبر من الوجهة الدلالية – عن. الثبات، وحضورها في النص الشعري يتأدى باعتباره الأساسات اللغوية التي يتكئ عليها النص في ثباته ورسوخه، وفي إشاريته أيضا، فالأسماء هي التي ترن ثقل النص، وتحدد مقدار وجوده المؤثر، ذلك لأنها غير متغيرة، أو بالأحرى غير مرتبطة بزمنية ما مثل الأفعال، الأسماء هي الطرف الآخر للصياغة التي تجذب القارئ إلى أسلوبيتها إلى حملها المعاني المختلفة، إذ تقع دائما في نطاق الفاعلية، والمفعولية، والصفات والاضافات، وبذا فان مجال حضورها الكمي في الصياغة أكبر، وأكثر كثافة من الفعل الذي لا يتواتر، إلا في نطاقه الثلاثي فحسب.
ونركز على بيان خواص الاسم في النصوص الشعرية السبعينية من حيث انبثاقها في التركيبة للنص، وكيفية التشكيل بها في السياق الجمالي للنص، وفي أسلوبيته، حيث نجد عدة ظواهر مارسها الشعراء السبعينيون، يمكن أن نشير إلى أبرزها.
أولا: تكرار الاسم
يتكرر الاسم – غرض التشكيل الفسيفسائي به – بصيفه المتعددة إفرادا وتثنية وجمعا في نصوص سبعينية كثيرة، بما يعطي نسقا أسلوبيا بينا، يدمجه الشاعر في بنية نصه، ويعبر به عن هذا الثبات الأسمى المركون الذي يدل على- ويفضي الى- جمالية ما يختزنها، النص ويفجرها أيضا ويحمل للمتلقي مشهدا اسميا جاذبا لفعل القراءة.
من ذلك هذا النموذج الذي نزجيه بوصفه دليلا على تكرار الاسم بشكل متوال يمثل ظاهرة جلية لدى الشاعر السبعيني، يقول أمجد ريان:
كنت أنحني والخلايا تشب
الروح والرواح، الدهشة، الحريق،
الأشداق، الوشيش، الفيضان،
المباغتة، المتاريس، التوحد، التطوح،
اليقظة، التلاطم، الشرخ، التمشيط،
الإشراق، التشابك، الايقاع،
التوقيع، الاصطخاب، الخمش، الشهيق، الشهوة،
الأطراف الحنين، الهرج، اليأس
الصعود، الملمس، الهيجان، النهضة، الانبجاس
يسكن الجبروت.(5)
إن تأمل هذا النموذج يفضي بنا إلى أن ندل على عدة أمور، أولها أن الأسماء تتوالى بين فعلين مضارعين هما: (تشب) و(يسكن) وهما يصوران هذا البعد الايروسي للذات داخل النص. هما فعلا نقيض بين بدء التوتر العالي الذي يسبق الممارسة العاطفية الجسدانية، وبين نهايته، وتتوالى الأسماء معبرة عن ثبات اللحظات الايروسية من جهة، وتجددها من جهة ثانية بتجدد دلالات الأسماء وتعددها ويصبح الاسم هو مدار الحركة النصية الثابتة – إذا جاز التعبير- فيه تدار دلالات كل دال على حدة، وتتجمع وتتكثف لتصب في نهاية الأمر في البؤرة الكلية للمعني، حيث يعبر النص عن هذا التوتر والرهج الايروسي الطافي حتى يسكن الجبروت.
ويتحقق الأمر نفسه بالنسبة للأسماء في نص حسن طلب: "بنفسجة للجحيم" وفيه ينجز الشاعر شكلا هندسيا شعريا مصنوعا من توالي بعض الدوال وادراجها في نسق هندسي محدد، يصاغ ويبدأ على شكل مثلث قائم الزاوية، تمثل دالة (الكساد) رأسه في نقطته العليا، وكل من كلمتي: (السواد، والكساد) طرفي قاعدته، ويختتم بالشكل نفسه، ولكن بقلب المثلث، فتصبح قاعدته كلمتي: (السواد والكساد)، فيما تمثل كلمة (السواد) رأسه المقلوب إلى أسفل وما بين المثلثين نحو عشرة أبيات شعرية تربط ما بينهما.
ويبدأ المثلث العلوي الأول بكلمة واحدة في السطر الأول ثم كلمتين، ثم تزاد الكلمتان إلى ثلاث والثلاث إلى أربع، وهكذا حتى يصل السطر الأخير من المثلث إلى نحو سبع عشرة كلمة ويحدث العكس في المثلث الثاني السفلي حيث تتناقص الكلمات من سبع عشرة كلمة إلى كلمة واحدة.
ويبدأ النص كالتالي:
الكساد
الوجوه الكساد
الجراد الوجوه الكساد
الفساد الجراد الوجوه الكساد
الجسوم الفساد الجراد الوجوه الكساد
اصطفتني الجسوم الفساد الجراد الوجوه الكساد
إلى آخر النص حتى يصل إلى قاعدة المثلث، ثم يبدأ الشاعر في مثلث آخر تتناقص فيه هذه الكلمات حتى يصل إلى كلمة واحدة في نهاية المثلث الشاي كما يبين هذا الشكل:
وبغض الطرف عن أن النص يندرج في سجل الألاعيب اللغوية والشعرية، وانه لا يحرك ذهنيتنا في التلقي، أو يثير المخيلة المعمقة لدى أدائه لانصرافه إلى الشكل الهندسي فحسب، والى تكوين أية كلمات تخدم هذا الشكل، وبغض الطرف عن ذلك، فان الشاعر اتكأ على الاسم في هذا التشكيل بوصفه أساسا لهذا الثبات الشعري الذي عبر عنه بالكساد السواد.
وتحقق الأسماء لدى رفعت سلام بنية وصفية داخل فضاء النص الشعري، ففي نصه (منية شيبن)، يعمد الشاعر إلى تكوين وحدات وصفية، يقف، بها معبرا عن المشهد الشعري معطلا، زمن النص بشكل مؤقت حتى يتم توصيف مشهده، ورصده بحيث يمثل حيالنا آخر الأمر باعتباره مشهدا وصفيا تتحرك فيه العدسة الشعرية من خلاله لتلتقط أبعاده وزواياه: "القطارات، الرحيل اللوعة، الأبناء للحرب، مناديل الأمهات، الصبية، الفتيات، السواد، الرصيف المقفر الخالي، نشيج، بائع الكولا، مواء القطة الحامل، نظرة الدهشة من عين المدينة، المحطة، الأوراق طائرة من السلة للأسفلت، صوت الريح يأتي من بعيد، دقة الساعة، رعب دهشة، صفارة البدء صوت العجلات، بكاء".(7) إن مشهد المحطة، محطة القطار، يتشكل من هذه الأسماء المتكررة التي يكاد أن يغيب فيها الفعل، وكأن هذا المشهد بمثابة بنية وصفية – كما ذكرت – تتأكد دلالاتها عند حضورها عبر السياق الكلي للنص.
إن هذه التقنية التي يقوم فيها الشاعر بتشكيل مشهده الشعري عبر الأسماء فحسب بوصفها دلالات مركزية تصويرية واصفة، راصدة من التقنيات البارزة في شعرية السبعينات، وتتخذ مداها الاستقصائي حين يخلق الشاعر من تجاورها الأفقي أعداءه النصية المشهدية، ويوسع من آفاقها خاصة وأن الأسماء هي أساسات النص وأثاثاته، وهي ركيزته الجوهرية التي تقله إلى كثافة التعبير وثرائه الدلالي البين.
ثانيا: أسماء والأعلام والشخصيات
تحمل أسماء الأعلام التي تشير إلى الشخصيات أو الأماكن المختلفة دلالاتها المباشرة، فكل اسم علم مثلا يشير مباشرة إلى صاحبه.. ولا يحتاج الأمر لتأويل دلالته أو تفسيرها، من هنا فان انبثاق هذه الأسماء في النصر الشعري إنما يشير إلى أصحابها الذين هم على الأغلب – في تجارب السبعينيين – شعراء أو تشكيليون، كأن الشاعر في اشارته اليهم انما يشير إلى هذا الفلك الشعري الواحد/ المتعدد الذي يجمعهم في مدار واحد، بوصفهم أصحاب الكلمة المشكلة المرقومة في نص شعري، أو المصاغة بطريقة تشكيلية بصرية.
إن ذكر أسماء الأعلام، من الأمور البارزة في شعر السبعينات، وتشكل نوعا من الأساليب الخصوصية التي لم تكن معهودة في الشعرية السابقة عليهم، ولم تكن تحوز هذا القدر من الانتشار الذي نجده في النصوص السبعينية.
وفي مقطعين شعريين لكل من: عبدالمنعم رمضان ورفعت سلام سيتبدى لنا كيف يذكر الشاعر السبعيني أسماء الأعلام، وكيف يرتبها، يقول عبدالمنعم رمضان في نص لم السلالة):
انتظروا معي
آدم العجوز
…
أدم الساقط من الجنة
…
ثم احشوه، احشوه وقولوا له:
ابنك أدونيس
ابنك والت ويتمان
ابنك بريفيو
ابنك أحمد طه
ابنك أنسي الحاج
ابنك نابليون
ابنك هتلر
ابنك جمال عبدالناصر
ابنك تروتسكي
ابنك محمد
ابنك نيتشه
ابنك سارتر
ابنك النفري
ابنك هنري ميلو
ابنك الحلاج
ابنك سعيد عقل
ابنك كفافي
ابنك بن جوريون.(8)
ويقول رفعت سلام في اشراقاته: "أين أنت يا طرفة، يا نير ودا، يابوشكين، يا سعدي يوسف، يابتهوفن، يا أصلان، يا ريتسوس، يا دستويفسكي، يا تشايكوفسكي، يا ماياكوفسكي، يا رامبو، يا منيف، يا جويا، ياسميح، يا سيد درويش، يا طه حسين، وبيكاسو ياتل الزعتر، يا يارا، يا لوركا، يا حيدر، يا حيدر، ياجيفارا، يا مايكل انجلو".(9)
فكما نلحظ في المقطعين فان أسماء الأعلام والشخصيات البارزة تتواتر بشكل متجاور، كأنها تشكل خارطة إنسانية لها وجودها الفعال في مسيرة الزمان، بنضر النظر عما اذا كان هذا الوجود سلبيا أم ايجابيا.. فنجد الشعراء إلى جانب الروائيين والأدباء والسياسيين والمناضلين، والمفكرين، والأنبياء، والفلاسفة، والموسيقيين، والتشكيليين، والعفنين، جنبا إلى جنب كأنهم يمثلون جحيما أرضيا أو كوميديا أرضية تصاغ في نص شعري تجريبي يحتفي بالجديد، ويأنس إلى الخارق واللامألوف.
ويتضمن ديوان جمال القصاص "ما من غيمة تشعل البئر" نصا يذكر فيه أسماء بعض مجايليه من الشعراء وهو نصر: "الكائن يراود خفته" (10) حيث يذكر أسماء عدد من الشعراء هم: فريد أبو سعدة، وحلمي سالم، وماجد يوسف، ورفعت سلام، وحسن طلب، ومن هذا النص:
لا تفتش في جيوبك السرية عن حلمي سالم
دعة نائما قرب مقبرة النبلاء
ولا في أضابير رمزك..
عن ماجد يوسف
دعة يصلح ما قد تساقط من جرة الفصول.
ربما تعثر قبل البئر / بعد المرآة
على كائن غامض
مهوش الشعر..
حول عنقه محارة زرقاء
ربت على كتفيه
ابتسم له
وسمه رفعت سلام
فاذا عبرت السور
واقتربت من الكوخ
ونفضت عن يديك صوف الحكايات
وغشيك (البلل) الشفيق
قل هو حسن طلب
هؤلاء هم الطاعنون في العشق
وعصبة الماء والنار
سارقو الأيقونات والفرح الصغير.
إن ذكر هذه الأسماء، يمثل نوعا من التضامن الذاتي مع هذه الكوكبة الشعرية التي تضيء جنبات الواقع بابداعها، لذلك فإن المسألة تتخطى حدود الظاهرة الأسلوبية لتصبح ظاهرة سيميولوجية لها مغزاها وحضورها المتمثل في اقامة التواصل الذاتي مع آخر له كينونته الإبداعية وله سياقه الجمالي المتميز، فهؤلاء هم "سارقو الأيقونات والفرح الصغير" بتعبير النصر السابق.
فضلا عن ذلك فان حضورهم في الني، يؤكد على هذه الوحدة الجمالية التعبيرية التي تنبثق منها التجربة السبعينية، وتنبثق عنها الرؤى المتقاربة والمتحالفة، وتجعل للنص شكلا من أشكال التعاصر، حيث ان هذه. الأسماء تدل – نوعا ما- على منشئ النص، ويدل منشئ النص عليها.
إنها ظاهرة متكررة في شعرية السبعينات بشكل لافت، وهي تفارق هذه الأسماء المجلوبة من الماضي، لتقدم وجوها من الحاضر، وكأنها لا تكتفي بالإشارة اليهم، إنما تتناص معهم، وليكن أن هذا القناص البعيد من قبيل توحد الرؤية، والموقف من العالم، وائتلاف واختلاف الوعي التجريبي السبعيني المتميز عن سياقه.
ثالثا: ترميز الاسم:
يتحول الاسم إلى رمز، ويفارق مدلوله الاول، في هذه المفارقة تنبثق تلوينات استعارية، بحيث يتخلق الدال من جديد. وكأنه حين يتم ترميزه، يتحمل شحنات دلالية جديدة، يشحن بها، يكتنزها داخله، ويصبح تكراره الرمزي بمثابة تأكيد على صورته الجديدة فالوردة – على سبيل المثال – كثيرا ما تم تحويلها عبر الترميز- إلى أفق دلالي آخر يقتنص لونها وحرمتها، وذلك للاشارة إلى الدم. كثيرا ما تكررت تركيبة (وردة الدم) في الشعرية العربية المعاصرة خاصة لدى رواد الشعر الحر، وكل من الدالين يأخذ – بعد ذلك – مدلولات الدال الآخر فتقترن الوردة حينا بالجرح، او القتل أو النزيف، ويصبح الدم متوردا، أو مهتزا اهتزاز الورد في غصنها، او يسفر عن أكمامه ويناعته، ولا تحتاج هذه التركيبة إلى نماذج، ذلك لان تجليها في نصوص عدة يجعل منها ظاهرة مألوفة في الشعرية المعاصرة. التركيز يحول الاسم عن نطاقه، يوسع من مداركه، الدال حين يكون اسما يقع عليه فعل الترميز، ولا يقع الترميز على الفعل لأنه مقرون بزمن ثلاثي متغير، أما الاسم فيمثل الثبات لذلك فان ترميزه من قبيل تثبيته على صورته الجديدة التي تتبدى قيمتها في قدرة النص على تخليقها واستثمارها تصويريا.. كما في هذا النموذج من أمجد ريان الذي يخاطب فيه الشاعر الأنثى ويصنع من أوتار جسدها، أفقا موسيقيا مرمزا:
وتر يتهادى
وتر يتشهى
وتر يتفتح
وتر يسأل
وتر يتشقق
وتر يكشف
وتر يغسل
وتر يتأوه
وتر يفيض
ماذا
أتنوين احتلال الموسيقى؟(11)
فالوتر هنا يتم ترميزه ليشير إلى كلمة "العضو" كأن كل عضو من أعضاء الأنثى بمثابة الوتر الذي يعزف موسيقاه، هنا تتوسع كلمة "الوتر" ويبقى معناها الأول الذي يشير إلى العزف والنغم، في سطح المعنى، أما المعنى الداخلي فهو تحوله إلى رمز إلى هذه الانوثة الطاغية المتفجرة. بالأفعال المذكورة في النص، فهي تتهادى وتتشهي وتتفتح… الخ.
ويصبح هذا الترميز – بذلك – صانعا للأفق الأسلوبي النصي، بتوسيعه مجال الدال، وتوسيعه بالتالي فضاء اللفة بحيث ينحرف النص عن المعنى الحقيقي الأول للدال، إلى أفق رمزي، قد ينحرف مرة أخرى وثالثة ورابعة في تجارب نصية أخرى، ليتوارى هذا المعنى الأول، ويحمل النص طبقات متعددة من المعانى والدلالات المتكثرة الرحبة.
رابعا: النسب الشعري
من المعهود في اللغة العربية أن النسب يكون إلى البلد، أو المدينة، أو العائلة والقبيلة، وذلك باضافة ياه النسب إلى آخر الكلمة مع تغيير ما يلزم من حذف أو ترخيم آخر الكلمة، كما انه من المعهود النسب إلى مصطلحات حضارية أو ثقافية أو سياسية وغيرها مثل: عصري، مدي، تقدمي، رجعي، يميني، يساري، اقتصادي… الخ. لكن في شعرية السبعينات يجيء النسب بإسناده إلى أية كلمة لها دلالاتها النصية، ودلالتها لدى الشاعر نفسه، فنجده ينسب الي القلب أو الروح أو الغصن أو الشجن، بمعنى أنه يتخطى النسب إلى العيان، إلى النسب إلى المعاني، ولعل أبدى شاعرين وظفا هذا النسب الشعري الخاص هما محمد سليمان وأمجد ريان. فلدى محمد سليمان يتوالى النسب إلى بعض الكلمات الدالة بشكل لافت، ففي ديوانه: "القصائد الرمادية" نلحظ وجود هذه التعبيرات:
– غازلك الشجر المبتسم والمطر اللؤلؤي:
– يمدد أطياف وجهك.. فوق المحار
ودائرة الشجر الغريني
– ترقص في الزمن النرجسي
– في الزرقة الرغوية
– تصبغ وجهه الزيتي
– القلب ينشر ارواقه الشفقية
– كنت تدهن الأحجار بانتصارك الغيمي (12)
وفي ديوان "مرآة للآهة" لأمجد ريان تتجلى هذه التعبيرات:
– أخالط النغم العذري
– القفص الليلي يحاصرني
– ماذا ينتظر حنيني في جسر
الطيف الرملي
– شراعك يقرأ متسعات فضاء شجني
– كان صبي يخرج في الثمر الجنري
– ليشعل أهوال الوطن السري.(13)
في التعبيرات السابقة يتم النسب إلى كلمات لا تحمل تحديدا ما، لكي ينسب اليها كأن تكون وطنا أو قبيلة أو مكانا، هي كلمات تندرج في سياقها الشعري ليعبر بها عن جمالية ما للنسب. بحيث يتولد من تركيبها مع كلمات أخرى صورة جديدة، وفعل تعبيري جديد.
ومن الملاحظ أن هذه الكلمات تقع جميعها في إطار وصفي، فهي –نحويا- تجيء في وضع "الصفات" التي يوصف بها موصوف ما:
– المطر اللؤلؤي، الشجر الغريني، الزمن النرجسي
– النغم العذري، الوطن السري، الثمر الجنزي… الخ
ان هذه الصفات تعطي للكلمة المجاورة لم الموصوفة) بعدا جماليا عبر الاستعارة البسيطة، مما يزيد من وقع تخلقها في السياق النصي ويؤكد فاعلية حضورها. إن النسب لهذه الكلمات يعطيها نوعا من الاشعاع النحوي الدال داخل سياق النص، يلفت انتباه الوعي القارئ إلا ان هذه الكلمة أو تلك أضيفت اليها ياء النسب، وهي ليست من الكلمات التي تدل على وطن أو مكان أو مصطلح، بل هي لا تعين ولا تحدد، ولا تعطي هوية ما، قدر ما تعطي هويتها الاستعارية وبعدها الجمالي الذي يتولد – تحديدا- عن طريق وصفها في سياقات متغيرة مختلفة.
خامسا: أسلوب النداء:
من الأساليب الانشائية البارزة التي كثيرا ما تتردد في شعر السبعينات أسلوب: النداء، وهو أسلوب يجعل من العبارة الشعرية عبارة مثيرة لانتباه المتلقي، انها تدل على أن ثمة أمرا دالا ينادي عليه. ففي النداء ثمة طرف آخر (المنادى) ينادى عليه، باحدى أدوات النداء، لكأن حضور هذا الطرف الآخر بمثابة حضور لصوت آخر داخل النص، أي بمثابة تكوين بنية دراسية أولية سببها حضور هذا الآخر، سواء كان منادى قريبا أم بعيدا، وسواء كان كائنا حيا أم كان جمادا. فإذا ما كان حيا، مثل ذلك نوعا من أنواع الحوار، أو نوعا من تعدد الأصوات، سوى صوت الشاعر أو الذات الشاعرة داخل النص، واذا ما كان المنادى جمادا أو كائنا غير عاقل. أدرج في التو في خانة ما هو استعاري، حيث يتم تشخيصه وأنستنه.
ومن علامات الاسم نحويا- دخول النداء عليه، وهو ما يتميز به عن الفعل، الذي لا يدخل عليه النداء وهذا ما يجعل للاسم خصوصية ما في ثباته الدرامي مع أدوات النداء، وأسلوب النداء من الأساليب المتكررة في الشعرية العربية قديما وحديثا. ولكن ما يلفت الانتباه في شعرية السبعينات أن التعامل مع هذا الأسلوب لا يتم فحسب من خلال ترداده في بعض العبارات او الأسطر الشعرية، لكنه قد يصبح بنية لها كينونتها داخل النص الشعري، او أن النص الشعري ذاته يتم توليده من خلال النداء، وهو ما نجده حاضرا في هذا النموذج من أمجد ريان:
يا وديعة، يا حنان، يا صفاء، يا أغرودة، يا نشيد الأناشيد… يا بضة، يا طرية، يا حقل، يا انفراج كامن، ووعد لا يموت، يا وداد، يا نتيلة، راقصات ديجا يتهن من حولك، والإوزات الفرعونية الست تميس تحت قدميك يا ليل، يا نجوى، يا امتثال، يا صمت يتحدث، يا فردوس، يا سكينة يا فائزة، يا نوال، يا سامية، يا بشجرة الدر، يا فيوليت، يا كنزي الذي لا أملكه، حتى لو ملكته، يا سيدة، يا مليحة، يا رومانطيقية، يا زاهدة، يا لوليتا، وجهك يسكن بؤبؤي في الليل والنهار، في الشرق والغرب".(14)
ان تكرار النداء، ومعه الاسم المنادى، وانسرابه في هذا المشهد من ديوان "لاحد للصباح" إنما يشكل بنية أسلوبية تؤكد على حضور الآخر المتعدد، ويأتي المنادى هنا لا في شكل شخصيات أو أسماء فحسب، بل يتم النداء على النصوص: (نشيد الأناشيد)، وعلى الصفات (يا بضة، يا طرية، يا انفراج كامن) أيضا، وعلى اللوحات التشكيلية (راقصات ديجا) وقد تكون هذه الاسماء جميعا، والصفات، والنص المنادى عليه (نشيد الأناشيد) واللوحة التشكيلية مسمى وصفة لاسم واحد هو اسم المحبوبة، وما يؤكد ذلك هو أن الخطاب يأتي للمفرد بعد تكرار عدة أسماء، فبعد أن ينادى مثلا على: فردوس، وسكينة، وفائزة ونوال وسامية، يأتي الخطاب في صيغة المفرد، فيقول: "يا كنزي الذي أملكه…. الخ" بدلا من صيغة الجمع فيقول مثلا: "يا كنوزي التي أملكها".
وفي بقية النص ينادى هكذا مستمرا في نداء الأسماء النسوية المختلفة: "يا لطيفة، يا زينة، يا سارة، يا نفرت، يا سوسن" ثم يتبع ذلك بخطاب للمفرد حيث يقول:
"ترقصين فوق تل القطيفة، والمدى خشبة مسرحك" بدلا من الجمع: ترقصن فوق تل القطيفة، والمدى خشبة مسرحكن.
ان أسلوب النداء من الأساليب البارزة شعريا حيث يضفي دراسية على الأسماء، ويصنع شكلا من أشكال التواصل بين المتكلم والمنادي، والتخاطب بين الشاعر والمتلقي، ويعطي تعدد أدوات النداء دلالة متغيرة للاسم خاصة وأن المنادى ينقسم إلى قسمين: منادى للقريب ومنادى للبعيد، كما أن دلالاته مختلفة من اسم لآخر، فاذا كان النداء من الصفير إلى الكبير يحمل نوعا من الرجاء، واذا كان من الكبير إلى الصفير يحمل نوعا من الطلب والأمر. إن ذلك كله يعطي مدى أرحب للعبارة الشعرية بحيث تتخطى سطوح الأشياء، فيتم النداء على أي شيء وكل شيء حتى إن الشاعر قد ينادي على نفسه أحيانا داخل النص الشعري.
ويتكرر هذا الأسلوب نفسه: أداة نداء + منادى (اسم علم) لدى رفعت سلام. وقد سقنا هذا النموذج في الفقرة الخاصة بتكرار أسماء الاعلام.
إن مجالات الاسم – من جهة الأسلوبية – متعددة، وقد أشرنا إلى بعض هذه المجالات في النقاط السابقة، حيث يسعى الشاعر السبعيني إلى استثمار كل ما هو متاح لفريا، وبلاغيا، وأسلوبيا لكي يبتكر خصوصية نصه، وخصوصية عالمه الشعري.
خصائص الفعل
يعبر الفعل في العربية عن أمرين: فهو ينقل ماهية الحدث وفحواه، ويعبر عن زمن وقوع هذا الحدث، في الماضي أم الحاضر أم في المستقبل. الفعل اذن يرتبط بنوع من الحركة، أو بالأحرى ينتقل من الثبات إلى الحركة والعكس، ولأنه مرتبط بالزمن، فانه يأخذ تبدلاته وتغيراته. من هنا جاء تقسيمه النحوي ليصبح هو المعبر الأول عن الزمن في اللغة، وعن الزمن في الواقع، الذي يمضي في شكل سلسلة متوالية دائرية من البدء للنهاية، ومن النهايات إلى البدايات.
وفي الشعر، فان استثمار الفعل يتأدى على أنه ينطوي على هذين البعدين: الحدث والزمن، وبارتباطه بالنسق السياقي الأفقي يصبح حضوره دالا عليهما، ويصبح حضوره أكثر دلالة حين تتوالد عنه العلاقات الأخرى، الغائبة، المحذوفة وجوبا أو جوازا، أو حين يعبر عن الضمائر في تبدلاتها وتغيراتها.
إن بنية الفعل النحوية والصرفية ليست ثابتة، إنها تتغير بتغير الضمائر وبتغير موقع الإعراب وحالات إسنادها وبشكل الفعل زمنيا. بيد أنه يصبح له السطوة الأولى في تغيير معنى الجملة، وفي ترتيبها، وفي جذب العناصر الأخرى اليه في الجملة الشعرية بكل أشكالها، وبكل فواعلها ومفعولاتها.
إن قيمة الفعل، شعريا، تتحدد وفقا لمعادلات نحوية وصرفية وتقنية، ويتجلى بزوغها من خلال دخولها الدائرة البلاغية، وأبرزها دائرة الاستعارة، حين تتغير دلالة الفعل، وتتبدل معانيه الأول والثواني والى ما لا نهاية، في اتساقه مع الاسم (الفاعل) الذي يتغير أيضا بدوره ويصبح فاعلا استعاريا في تركيب بلاغي مميز. لقد تعامل شعراء السبعينات مع الفعل تعاملا تجريبيا، ونجم عن ذلك تعدد في أشكال صياغة العبارات، وتنوع في حضور الفعل سواء بتكراره، أم بالتشكيل به، أم بتركيب صيغ معينة نحوية تعبيرية تطل من خلال فاعلية الفعل، وتؤدي من خلال اعرابه وبيانه. وقد انبثق هذا التعامل في عدة ظواهر فعلية تتواتر في شعر السبعينات، سنكتفي منها برصد كيفية استثمار الفعل المضارع، في هذا الشعر، وصياغاته حيث يتمثل ذلك في:
– الفعل المضارع المسبوق بهمزة المضارعة (أفعل)
– الفعل ورد الفعل.
– التشكيل بالفعل.
– صيغ عبارية تتكئ على الفعل.
وتمثل هذه النقاط جسرا أسلوبيا، يصل ما بين الشعر والتشكيل باللغة حيث يعد الفعل أبرز أنساقها النحوية.
أولا: الفعل المضارع (أفعل)
يعبر هذا الفعل المضارع على صيغة (أفعل) عن حضور الذات الشاعرة، عن حضور المتكلم الذي يستتر ضميره الفاعل (أنا) لينبثق في همزة المضارع، وتكرار هذا الفعل بهذه الصيغة إنما يؤكد على أن الذات الشاعرة متوهجة في كل تعبير، وفي كل حدث يعبر عن زمنها الحاضر. من هنا يحر.ء تكرار هذه الصيغة من الفعل المضارع في شعر السبعينات ليمثل ظاهرة ناتئة في هذا الشعر، ويؤكد على جوهرا لخطاب الشعري السبعيني الذي يضخم "الأنا"، ويعلي من حضورها. هذه "الأنا" الفردية الواعية بحداثتها، والواعية بانشطارها، حين تتطلب التجربة أو الحالة ذلك الانشطار. ولعل أبرز من تتكون عنده هذه الصيغة الشاعر عبدالمنعم رمضان، ففي ديوانه (قبل الماء فوق الحافة لم يتواتر الفعل المضارع (أفعل) بشكل بارز، إحصائيا: يتضمن الديران نحو (35) نصا شعريا، وعدد الأفعال المبدوءة بهمزة المضارعة نحو (377) فعلا. أي أن كل نص شعري يتضمن أكثر من عشرة أفعال بهذه الصيغة وهي نسبة كبيرة إذا ما لحظنا الصيغ الأخرى من أفعال وأسماء وصفات وغيرها من الصيغ.
أما ديوان: "لماذا أيها الماضي تنام في حديقتي" فتبلغ الأفعال المضارعة بصيفها المبدوءة بحروف (أنيت) نحو ( 670) فعلا مضارعا منها نحو (237) فعلا مضارعا مسبوقا بهمزة المضارعة أي بنسبة 35.373% وهي نسبة كبيرة مقارنة بالصيغ الأخرى. ومن نماذج هذه الظاهرة لدى الشاعر، قوله في "ثلاثية العاشق":
هكذا كنت أبوح الليل
أعطي غيبتي صوتا جديدا
وأصلي للوطاويط
التي تصدح في رأسي
وأطو فوق هامات طيوري
هكذا كنت أمشي النفس القابع
في صدري
وأعطيه مدارا من رياحين فتوري
وأمشي رغبتي في أن أكون الملك المفرد
أعلو
حيث يعلو العصبة الفتاك
أدنو
حيث يدنو الطيبون
هكذا كنت أخون
واذا جاءت غيوم الشوق بالومضة
أمشي.(15)
فتكرار المضارع المسبوق بهمزة المضارعة على هذا النحو الذي نجده في هذا المشهد يمثل خاصية أسلوبية في شعر رمضان على الأخص، وفي شعر السبعينات بوجه عام، ذلك لأن هذه الصيغة تمنح النص الشعري بعدا حركيا حدثيا، مع توالي الأفعال وتتابعها، خاصة حين تعضدها أفعال أخرى بصيغ أخرى، كما تهب النص نوعا من الايقاعية المنبثقة من التكرار، وتؤكد على حضور الأنا في النص. وفي نصه (وثن) يقول عبدالمقصود عبدالكريم:
أترنح مثل الذي مات،
أحمل خارطة الوثن الوطني
وأحمل ما يشبه الغيمة
…
وأجازف
أضحك لا مرأة لست أعشقها
وفتى لست أكرهه
أبصق القلب
أمضي إلى وطن يشبه الغيمة
أنقب بين القديم وبين الحضاري
رائحة تتسلل
من جثة الوثن الوطني.(16)
تتكرر الصيغة الفعلية المضارعة (أفعل) في نص عبدالمقصود بشكل لافت، كأنها هي التي تحرك السطور، تحرك الدلالة الكلية للنص، خاصة أن هذه الصيغة لها صدارة الجملة بعد حذف ضميرها الفاعل المستتر وجوبا، فإذا ما حضر الضمير تنقلب الجملة إلى اسمية اذا تقدم الضمير على الفعل، وتبقى في فعليتها اذا ما استتر. لكن هذه الصيغة تمنح النص تميزا فعليا أكثر، خاصة وأنها تند~ على المستوى القولي لأنها تحتضن المتكلم / الذات الحاضرة داخلها- الصيغ الأخرى في معدلات تكرارها، وأيضا في ايقاعيتها. وفي نصوص أخرى عند جمال القصاص، وعلي قنديل، ومحمود نسيم، وحلمي سالم – على سبيل المثال – تتكرر هذه الصيغة لتؤكد على أنها من الخواص البارزة التي نمتها شعرية السبعينات. (17)
إن صيغة الفعل المضارع (أفعل) هي صيغة مثلى للتعبير الشعري المتكلم. التي تؤكد حضور الأنا الشاعرة الغنائية، وتؤكد على أن الشاعر هو الحاضر الغائب في النص إذا ما كانت مرجعية الضمير تؤول اليه مباشرة، لا إلى أحد أصوات النص الشعري. هذه الصيغة قريبة جدا من الشاعر، لانها تحمل بوحه، وصوته الغنائي الخاص. تحمل كلماته مباشرة. لا سبيل فيها إلى التجريد أو الالتفات.. حين يقول الشاعر: أنا أفعل، فانه يدل على ذاته مباشرة على تجربته الخاصة وهمومه الذاتية ربما ذلك كله كان المبرر لحضور هذه الصيغة بشكل متكرر لدى شعراء السبعينات الذين كانوا يحتاجون لكثير من البوح، والكثير من الغناء علي الرغم من آفاق نصوصهم التجريبية الدرامية.
ثانيا: الفعل / ورد الفعل:
إذا كان النص الشعري يعتمد في انتاجيته على الوحدات اللغوية المتماثلة التي تتبدى عبر التكرار، واذا كانت البنية المقابلة لها وهي الوحدات المتحالفة، تمثل الطرف الآخر لبناء النص بمعنى أن التماثل والتخالف القائم ما بين العناصر اللغوية الصوتية لم المفردات والجمل) وبين الصيغ النحوية (الأفعال / الأسماء والحروف والصفات… الخ) هما المكونان الرئيسيان للنص الشعري فان هذا يتحقق – بمعنى ما- على نطاق جزئي صفير في صيغة لغوية فعلية، يمكن أن أسميها: (الفعل ورد الفعل) حيث يأتي فعل ما من قبل الطرف الأول (المتكلم) مثلا، ثم يأتي فعل آخر يتمثل في حدث آخر من قبل الطرف الثاني (المخاطب أو الغائب) وهذه الصيغة، تمثل أيضا خاصية أسلوبية من خصائص الشعر السبعيني حيث يتم توارد الأفعال بشكل متجاور- دون نظر (لزمنية هذا الفعل) وبشكل يحاور الفعل الآخر، اذ يخالفه ويتضاد معه.
وتتكرر هذه الصيغة لدى طائفة من شعراء السبعينات مثل: رفعت سلام ومحمود نسيم، وعبدالمقصود عبدالكريم، وحلمي سالم، ومحمد سليمان، وأمجد ريان وعبدالمنعم رمضان، وفي نصه لم وردة الفوضى الجميلة) الذي يصور تجربة الحب المعاصر وما فيها من ألم ونزق وايروسية أيضا، يعبر رفعت سلام في مشهد جسداني يتحقق فيه الفعل ورد الفعل من قبل الطرفين: العاشق والعاشقة، يقول رفعت سلام: "امرأة من الزبد المراوغ، تلتوي
أمتد
أوغل.. تنئني
تلتم.. أدفع
تحتوي.. أمتد
تدخل.. ألتوي
تمتد.. أفتح
أنثني.. أمتد.. تدفع.. نلتوي.. نمتد.. ندخل ننثني.. نلثم.. ندفع.. نحتوي.. نمتد حتى نبلغ الأفق الموازي لانفجار الأرض عن بدء الخليقة".(18)
إن صياغة الأفعال المضارعة على هذا الحذو الذي يتجسد في هذا المقطع، انما يؤكد أولا على هذه الحركية والحيوية والحوارية الضدية – إذا صح التعبير- ما بين الفعل والفعل المقابل له الذي يمثل حركة أخرى مساوية له ومتضادة معه في آن.. كما يدل – ثانيا- على هذه الزمنية الحاضرة المتجسدة في لحظة الآن التي تفصل ما بين زمني الماضي والمستقبل.. التي تجعل الطرفين يقطعان طرفي الزمان الآخرين وينهمكان في إقامة لحظتهما الحاضرة.. وقد نجم عن هذه الأفعال المتكررة المتواجهة إيقاع آخر يفارق النسق العروضي، ويؤكد على إيقاعية التراكيب نفسها، ولعل اللحظة الغارقة هي هذا التوحد في ضمير الفعل بعد ذلك، حيث كانت الأفعال تشير في البدء إلى (فعل ورد فعل) ما بين طرفين:
أوغل تنثني
تلثم أدفع
تحتوي امتد
ثم يستثمر الشاعر دور الفعل في تشكيل الدلالة فيقوم بتوحيد الضميرين معا
المتكلم والمخاطب، في الضمير لم نحن) وتتحول الأفعال من نسقها الثنائي المتواجه بين طرفين إلى نسق واحد متوحد (نلتوي… نمتد… ندخل… ننثني.. نلتم… ندفع.. نحتوي) وكأن صورة العاشقين قد تم تجسيدها في فعلها العاطفي على هذا النحو الثلاثي المتراتب:
حيث يبدأ التعرف واللقاء أولا (امرأة من الزبد المراوغ تلتوي)، وأنا (امتد) ثم يبدأ الفعل الجسداني الشهواني، ثم ثالثا، يحدث التوحد والاندماج، وهو ما قامت به الأفعال في شكل بارز، ومؤثر.
وفي نصه لم وحدة ا يقول عبدالمقصود عبدالكريم، راسما أيضا المشهد العاطفي من خلال الفعل ورد الفعل:
"ينام على عشبة
وتنام على عشبة الموت
يعبث
تعبث بالنار هامدة بين أعشابه
يدلق النهر
تدلق بيتا من البرتقال
يعتق رائحة الأمهات
ينام على رجفة
تحت سروالها الشبقي)). (19)
لا يختلف نص عبدالمقصود عن نص رفعت سلام إلا في التجريد إلى (هو) حيث نقل المشهد من أنو يته، وآنيته، وحضور الطرفين إلى صيغة الغياب، إلى التجريد، باعتبار أن هذا الحدث يتكرر بشكل أو بآخر في تجارب أخرى غائبة، لا تعبر بالضرورة عن الذات الشاعرة نفسها.
أما حلمي سالم فيصور المشهد بشكل أكثر مباشرة، حيث تحضر الذات الشاعرة والطرف الانثوي الآخر، وهي حبيبة من نوع آخر، حبيبة رمزية ترمز إلى الوطن:
حبيبتي تنام في الصقيع
ضريرة رأيتها على الرصيف ضائعة
حضنتها.. تباعدت
مسحت فوق خدها.. نأت
وحيدة وجائعة.(20)
يتمثل رد الفعل هنا من خلال المقابلة بين الأفعال الماضية، وهو فعل آخر يناقض ما يقوم به المحب، إذ تختار البعد والتنائي دائما، وهنا يحدث نوع من التضاد، نوع من التقابل الذي يفضي إلى دراسية أكثر في النص الشعري، على المستوى الدلالي الكلي والد رامية والحوارية من خواص النص الشعري الحداثي، الذي فارق الأنا الغنائية الاشارية البسيطة، إلى عوالم شعرية تتعدد فيها الأ نوات، ويختفي الصوت الواحد المفرد أو يتلاشى، نزوعا لتشكيل تجربة شعرية إنسانية كلية لا تقف عند حدود الذات الشاعرة الأحادية ~ بل إن الذات تحاور نفسها وينشطر وعيها- وانما تتخطى ذلك إلى حوارية الإنسان مع الإنسان، وحواريته مع الأشياء والكائنات.
ويتمثل رد الفعل عند محمود نسيم في عدد من الأفعال التي تلي فعلا واحدا رئيسيا مركزيا، وكأنها ناتجة عنه، أو حادثة بسبب من وجوده، يقول نسيم:
"أحببتك…
فانبعثت من فوق الجبل تراتيل العذراوات،
وانفتحت بوابات الدهشة، وامتلأ القلب بالأسئلة المليئة بالعشق،
واحتقن وذاب".
فالأفعال الماضية: انبعثت، وانفتح، وامتلأ، واحتقن، وذاب، ناجمة كلها عن الفعل الأول، فعل الحب (أحبب) وكأنها ردود فعل عليه، أو كأنها إفادات دالة على أثر الحب في الذات الشاعرة.
إن هذه الخاصية الفعلية، خاصية بارزة في شعرية السبعينات لها وهجها الدلالي الذي ينم عن أغوار الحركة النصية الشعرية الحداثية التي لا تقف عند حدود المعهود المألوف، وانما تبتكر تقنياتها وهواجسها الجمالية.
ثالثا: التشكيل بالفعل:
ومن الخواص البارزة أيضا لدى شعراء السبعينات: التشكيل بالفعل، سواء بتكراره بشكل فسيفسائي منتظم يرصع به الشاعر المساحة الكلامية التعبيرية لنصه.. أو بتقطيعه إلى وحدات صوتية صغري في حروف متقطعة، ومن ذلك نص محمد عيد ابراهيم (انهمار الضحية) (22) الذي يتكون من نحو (41) سطرا شعريا، يكرر في أولها الفعل (أحب) بحيث يصبح الفعل بمثابة الجوهر الفسيفسائي الدلالي للنص الذي يومئ إلى شكله المتضمن المحتوى- والى أسلوبيته الخاصة في التكرار القائم على انفصام هذه السطور دلاليا، وانسجامها مشهديا عن طريق الفعل يقول عيد ابراهيم:
احب الحروب بأن تنحني
أحب سحابتي السوداء فوق العقوبة
أحب الطبول على بطنها قد تحنت بفخر الهدف
أحب أكويها بمحورها
أحب ضمني كي أراه
أحب حواليك أرغفتي خلسة
أحب الفضيحة في شعرها بارتجال
…
أحب أن أمر في فمها المشقوق بالراحة
إن هذا النسق التكراري إنما يمنح النص اطلاقيته، وقد يتكرر الفعل إلى ما لا نهاية، بيد أن معدل تكراره، قد يؤول إلى دلالة معينة لدى الشاعر نفسه، كأن يكون عدد التكرار هو تكرار لحظات للحب، أو هو عدد سنوات العمر، أو هو عدد الأصدقاء، أو أية دلالة أخرى. وهذه الاطلاقية تسم التجارب الشعرية الحداثية بسمة النصوص المفتوحة التي تتعدد تأويلاتها ولا تقف عند حد معين، كما أنها تكسر ألفة التوقع من لدن القارئ. ويوحد الفعل – عبر الضمير نحن – ما بين الطرفين: العاشق والعاشقة، ويصبح تكراره دالا على انهمار التجربة الوجدانية / العاطفية واندياحها بشكل متوال كما في نص جمال القصاص: (أرمي عليك بياض الحجر).(23)
الذي يرد فيه مقطع شعري يهيمن الفعل على نسقه، ويغير هجراه التعبيري عبر ايقاعيته المتتالية وزمنيته المتحولة:
ننهض..
نرتجل اللحن والناي، نمشي وحيدين، نقطف من شجر الروح غصنين، نقذف للنار غصنا تصير سلاما وبردا، وفاكهة تطلب الآكلين، نمد يدينا، ونقضم تفاحتين، نلفهما كوكبين صغيرين، نشعل بينهما جمرتين، ونغفو.
لقد تحقق المقطع ما بين حدثين (ننهض – نغفو)، وأصبح الفعل هو المشكل له والمكون لحركته، ما بين الفعلين حدثت أفعال أخوى بشكل تزميني من النهوض إلى الإغفاء كما تحقق التوحد ما بين الطرفين عبر الضمير.
ويتحدث شعبان يوسف شعريا عن هذا الصغير الذي يؤانسه كل ليلة و "يسرق منه وميض الكلام"- على حد تعبيره – فيسمه عبر الفعل الذي يتكرر في فضاء الصفحة بشكل رأسي متدرج كأنه ينقل صفة الصفير نفسه وهو يكبر عبر التجذر إلى أسفل لا إلى أعلى، أو إلى الأبعد لا إلى الأقرب الواضح:
صغيرا
يجئ كنجمة
ويكبر
يكبر
يكبر
حتى يصير كوردة
ويكبر
يكبر
يكبر
حتى يصير كنقمة (24)
وهذه الطريقة التشكيلية تستثمر البعد الرأسي لفضاء الصفحة، وتلفت انتباه القارئ إلى الدلالة الكامنة في الأفعال المتكررة من جهة، والى إيمائية المقطع نفسه بإشارته إلى هذا الشكل من توزيع السطور الشعرية حيث يستحوذ الفعل على سطر مستقل بذاته. والطريقة نفسها نجدها عند رفعت سلام في تكراره وتقطيعه للفعل المضارع (تنحدر في نصه اشراقات.(25)
رابعا: صيغ فعلية متكررة:
لأن شعراء السبعينات احتفوا – جميعا- بذواتهم الشعرية، وسعوا إلى استنطاق مكامنها من جهة، والى التوكيد على حضورها المغاير وسط السياق الشعري العام من جهة ثانية، ولان الفعل الشعري الحداثي قد نجم عنه – ضمن ما نجم – هذا الإعلاء من شأن الذات الفردية الدرامية التي تفارق هذه الذات الغنائية الرومانتيكية البسيطة، لتقدم ذاتا أخرى منشطرة الوعي، متمردة منحازة إلى ما هو رافض، انقلابي، متفجر، لأن هذا كله يجعل من الكتابة الشعرية في سعي دائب إلى اكتشاف صيغ مغايرة فإننا نعثر على صيغ خاصة ما فتئ يرددها الشعراء السبعينيون، وما انفكوا يزاولونها في تجاربهم الشعرية المتجددة، هذه الصيغ ترتبط بالفعل بشكل أساسي. يصبح الفعل هو مركزها،
ويضاف اليه حرف ما، فيغير من دلالته المألوفة، ويصبح ذا تركيب خاص يفتح به الشاعر أفق تجربته الكتابية وأفق تعبيراته.
ومن هذه الصيغ ما يرتبط بالمستقبل حيث يضاف حرف السين إلى الفعل المضارع، ويفضي تكراره إلى انفتاح النص، والى إطلاقه مثل هذا الفعل الذي يكرره جمال القصاص فاتحا به أفقا تعبيريا يجعل الكلام الشعري لا نهائيا في توارده وتكراره:
سأحتاج خمس حواس جديدة
…
سأحتاج حلما أقل مسوخا
وأردا بلاها
سأحتاج جرحا أشد صديدا
أرق نقاهة (26)
ثم يتكرر الفعل لم احتاج) مقترنا بالسين نحو ثلاث مرات أخرى بحيث يصبح فاتحا مبدئيا لمعان متعددة، وصور متنوعة.
ونجد هذه الصيغة لدى محمود نسيم أيضا في نصه (قصيدة الرجع) (27)
هناك صيغة أخرى تعبر عن الملكية ء وتتكون من:
لي + حرف مصدري (أن) + الفعل
وتتواتر في شعرية السبعينات على هذا النحو الذي يتكرر في أغلب نصوص السبعينيين:
– لي أن أسمي.
– لي أن أرى
– لي أن أقول.
– لي أن أجيء.
ثم تأتي بعد هذه الصيغة الوحدات النصية الأخرى التي يراد لها أن تخلق وتنتج. ونعثر على هذه الصيغة بشكل فعال في ديوان (إشراقات) لرفعت سلام.(28) ومن الصيغ الأخرى الأثيرة في شعرية السبعينات صيغة تتكون من:
الفعل المضارع + نون الوقاية + ياء الملكية
وهي صيغة تتكرر باطراد في أغلب النصوص السبعينية الشعرية، فإذا كان من المألوف شعريا في هذه الصيغة أن ياء الملكية تأتي دائما في محل (مفعول به) مثل: يكتبني، يرسمني، تحبني، تعشقني.. الخ فإن هذه الصيغة التي ترد في شعر السبعينات تجعل الفعل المضارع مبدوءا بهمزة المضارعة تأتي الصيغة هكذا: اكتبني، أرسمني، أضمني، احتويني، ليصبح ضمير المتكلم المحذوف رياء الملكية بمثابة فاعلين، من الوجهة الدلالية أو أن الضمير أنا يحتضن ذاته، أو أن الذات تحتضن نفسها وتكتب نفسها وترسم نفسها… الخ. هي صيغة مختلفة تطورت عن بعض الصيغ التي تصف الحال أو الهيئة أو تؤكد على تشبيه ما مثل: كأنني أو أخالني أو أحسبني، وكما جاء في القرآن الكريم )أراني أعصر خمرا( )سورة يوسف) حيث جاء الكلام ليعبر عن رؤيا، لكن النصوص السبعينية خرجت. عن هذه الحدود التشبيهية الرؤيوية لتجعل المجال مفتوحا أمام كل الأفعال، ليقع الفعل على الأنا الفاعلة، المفعولة في آن.
ومن نماذج ذلك تعبيرات عبدالمقصود عبدالكريم:
– أرى أني أبصقني دما.
– أحولني إلى قلب الأرض.
– أغضب مني وأكاد أقتلني
– أبخرني
أكثفني مطرا على طمي أجسادهم.(29)
وقول محمد سليمان
– ترقص النار لي
– يلهث البحر خلفي
– ويوما أراقصني
فالأفعال: "أبصقني" أحولني، أقتلني، أبخرني، اكثفني، أراقصني، من المألوف شعريا أن تقع من الخارج على الذات، أو من الآخر على الأنا، لكن ورودها على هذا النحو يمثل صيغة مخالفة للمعهود الشعري، حيث تصبح الذات هي مناط الفعلية / الفاعلية المفعولية جميعا، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على احتفاء شعراء السبعينات – كما ذكرت سابقا- بذواتهم الشعرية التي تحرك الفعل، وتؤكد على الحدث، وتومئ إلى الأنا الشعرية المتمردة.
لقد رأينا كيف صاغ الشعراء السبعينيون الخواص الكامنة بصيغ الأسماء، و كيف صنعوا منها صيغا جمالية لافتة – حيث جاء ذلك من خلال فاعلية تكرار الاسم، وابرازه بشكل فسيفسائي حينا، وبشكل هندسي- كما رأينا حسن طلب – حينا آخر.
ورأينا أن تكرار الاسم يجيء بمثابة بنية وصفية – كأنها بمثابة الكولاج، تلصق في النسق النصي، معطلة فعل الزمن – كما في نموذج رفعت سلام – وراصدة بشكل متجاور لمشاهد ولقطات مختلفة.
كذلك ركز الشاعر السبعيني على ذكر أسماء الأعلام والشخصيات بشكل لافت كما عند عبدالمنعم رمضان ورفعت سلام وجمال القصاص، وهي أسماء واعلام شخصيات تجيء من مجالات عدة شعرية وتشكيلية وتاريخية وسياسية، لتحقق نوعا من التجاور الدلالي الذي يحدث تضادا أو تآلفا أو تقابلا بين هذه الأسماء المختلفة.
أو تحدث نوعا من التضامن الذاتي مع هذه الشخوص – كما ألمحنا سابقا- ولكي ينتج الشاعر السبعيني دلالة جديدة، فقد أخذ في اشاعة تقنية جديدة تتمثل في ترميز الاسم، عن طريق ترميز أحد مفردات اللغة، وكأن هذه المفردة أو تلك تصبح بمثابة قناع لغوي، أو قناع صوتي يختفي فيه الصوت الإنساني ليحل محل الصوت اللغوي الذي قد يحمل طائفة متعددة من الأبعاد الدلالية منفتحة على مختلف التأويلات وقد أبرز الشاعر السبعيني بعض خواص الاسم في النداء والنسب، ودل على أن هذه الخواص يمكن استثمارها بفاعلية إذا ما أنتجت في إطار رؤى شعرية جديدة خلاقة.
وكما تعامل الشاعر السبعيني مع الاسم تفاعل مع الفعل، وشكل به، وأنتج به دلالات مختلفة عن طريق حضور الأنا، وعن طريق الفعل ورد الفعل، والتشكيل بتكرار الفعل دلاليا وبصريا، واستثمار بعض الصيغ الفعلية التي تكون جملة مكثفة مختزلة باستثمار الضمائر البارزة أو المستترة، مثل ضمير المتكلم، رياء الملكية وغيرهما.
إن المجال اللغوي يعطي تجلياته الكثيفة، إذا ما توافر عليه الشاعر تبصر بما يكنزه هذا المجال من فواعل يتم التبصر بها عبر الوعي الشعري المتأمل، الصانع، الذي يجسد الكلمات، ويقرن بينها، ويقدم صياغاته المائزة وهذا ما فعله الشاعر السبعيني في تعامله مع اللغة، ووقوعه على بعض الطاقات الكامنة بها، التي صيغت في أنواع تقنية مختلفة، وفي أنماط من التشكيل متعددة وهذا هو دأب النص المختلف، في انبثاقه وتجدده، واندراجه في سياق الرؤية الحداثية للغة، وللذات، وللعالم.
الهوامش
1- جورج نوننمشار: دلالات الأثر، ترجمة عبدالعزيز عرفة دار الحوار، اللاذقية، الطبعة الأولى، 1992م ص 22.
2- أدونيس: النص القرآني وآفاق الكتابة، دار الآداب، بيروت الطبعة الأولى 1993م.
3- د. محمد عبدالمطلب: تقابلات الحداثة في شعر السبعينات سلسلة: كتابات نقدية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1995م ص 20و21.
4 – رومان ياكبسون: القضايا الشعرية ترجمة: محمد الولي ومبارك حنون، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1988م ص 32.
5- أمجد ريان: أوقع في الزغب الأبيض دار شعر/ القاهرة 1990م ص 49و50.
6- حسن طلب: سيرة البنفسج مطبوعات كافا نون، القاهرة 1986م ص37.
7- رفعت سلام: وردة الفوضى الجميلة الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 1، 1987م ص7و8.
8- عبدالمنعم رمضان: قبل الماء فوق الحافة، دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى 1994م ، ص 60 و 61.
9- رفعت سلام: اشراقات الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الاولي 1992م ص 68.
10- جمال القصاص: ما من غيمة تشعل البئر، دار النهر، القاهرة 1996م، ص 57و70.
11- أمجد ريان لا حد للصباح، دار الحداثة، القاهرة، 1990م ص 17.
12- محمد سليمان: القصائد الرمادية، على نفقة المؤلف، القاهرة، 1983م الصفحات 6، 7، 8، 14، 26، 31، على الترتيب.
13- أمجد ريان: مرآة للآهة، دار شعر، القاهرة الطبعة الأولى 1991م، الصفحات: 9، 32، 38، 40، 43، على الترتيب.
14- أمجد ريان: لاحد للصباح ص 42- 43.
15- عبدالمنعم رمضان: قبل الماء فوقة الحافة، ص 103، 104.
16- عبدالمقصود عبدالكريم: أزدحم بالممالك 88، الهيئة المصرية العامة للكتاب ط 1، 1992م ص 94و97.
17- توجد هذه الصيغة / الظاهرة في نص (الشارع الكبير من ديوان جمال القصاص (خصام الوردة)، وعند علي قنديل في نص (افتتاحية للهجرة) الآثار الشعرية الكاملة ص 90، وعند محمود نسيم في نصه: "دمي في وردة تنزف" من ديوانه (السماء وقوس البحر) ص ا 10: 108، حيث يبلغ عدد الأفعال في هذا النص نحو (68) فعلا منها نحو (39) فعلا مضارعا بصغية (أفعل) والصيغ الأخرى نحو (29) فعلا.
كما توجد هذه الصيغة عند حلمي سالم في ديوانه (حبيبتي مزروعة في دهاء الأرض) في المقطع الشاي من نص: "مكابدات كتابة قصيدة" ص 11 وفي نصه "ثرثرة المهرج القديم" من الديوان نفسه ص 14: 19. على سبيل المثال.
18- رفعت سلام: وردة الفوضى الجميلة ص 32-33.
19- عبدالمقصود عبدالكريم: يهبط الحلم بصاحبه هيئة قصور الثقافة 1993، ص 14.
20- حلمي سالم: حبيبتي مزروعة في دماء الأرض، المؤلف، القاهرة 1974ص 41.
21- محمود نسيم: السماء وقوس البحر كتاب "إضاءة" القاهرة 1983م ص 104و105.
22- محمد عيد ابراهيم: فحم التماثيل، دار شرقيات، القاهرة، الطبعة الأولى 1997م ص 62و64.
23- جمال القصاص: شمس الرخام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى 1991م، ص 52و62.
32- شعبان يوسف: مقعد ثابت في الريح، دار سينا للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى 1993م ص 42.
25- رفعت سلام: إشراقات ص 98.
26- جمال القصاص: شمس الرخام ص 25.
27- محمود نسيم: كتابة الظل، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى 1994، ص23.
24- عبدالمقصود عبدالكريم: أزدحم بالممالك ص 21، 33، 36.
29- محمد سليمان: أعلن الفرح مولده، مطبوعات (أصوات) القاهرة، الطبعة الأولى 1980م، ص 30.
عبدالله السمطي (ناقد من مصر)