سئم قرقوش من الطاعة بالغة الأداء والتنفيذ التي توليها الرعية لأوامره، وفكر في وسائل شتى بحثا عن أوامر غير قابلة للتنفيذ، وتوصل إلى فكرة.. أمر بموجبها كل الرعية إلى ترك أعمالهم والانصراف كليا الى عمل يقضي بأن يمسك كل فرد بمنجل ويقوم بعملية حصاد للهواء.
لم يعجب أحد للأمر، ولم يتخلف أحد عن أداء المهمة التي أقرها حاكمهم قرقوش، وظهر خطباء في كل الساحات والمنابر، يباركون في خطبهم هذا الإجراء الذي يدل – كما قالوا – على عقل راجح وفكر متوقد ووعي مسؤول وارادة سامية ومهمة تاريخية نيرة.
وبدأت على الفور عملية التنفيذ.
راح الجميع يعدون أنفسهم لهذه المهمة الجليلة ونيل شرف الاسهام فيها، وأخذوا يتسابقون ويتقدمون بعضهم على بعضهم الآخر لنيل شرف تنفيذ قرار الحاكم العادل قرقوش.. ولم يتخلف أحد عن أداء الأمر بكل حرص ودقة. ومر موكب قرقوش في شوارع المدينة، فصفقت له أكف الرعية وباركت خطوته النبيلة بحصاد الهواء.
أحس قرقوش بالسعادة بعد السأم الذي كان قد انتابه، وبانت على محياه ابتسامة فرح، وأخذ يرفع يده مشيرا بالتحية لرعيته المطيعة: غيران هذه السعادة كانت تعانده أحيانا وتستعص في دواخله..
وقال قرقوش مخاطبا نفسه:
– ليس من المعقول أن تكون كل أوامري سليمة، والا يظهر في طول البلاد وعرضها رجل يدلني على خطأ أقامت على ارتكابه.. ذلك أنه ليس من المعقول أن أكون إنسانا معصوما من الخطأ.
وتذكر قرقوش قصة ذلك الامبراطور الذي ظهر عاريا أمام الناس مدعيا أنه يرتدي ملابس جديدة.. وفيما كان الجميع يصفقون له ويباركون ويعجبون بملابسه ؟ صرخ طفل بكل براءته: الامبراطور عار، الامبراطور عار.
وتفاءل قرقوش، ومنى نفسه بطفل شجاع، وبكاتب مثل هانس أندرسن يصرخ بحنجرة نقية لطفل يرى الحقيقة.
.. واصل موكب قرقوش سيرته، والجميع يظهرون مسراتهم.. ولاحت لعيني قرقوش امرأة، ما أن شاهدته حتى أسدلت ستارة على وجهها، ومنعت عنه مشاهدة ملامح وجهها.
عجب قرقوش لموقف المرأة، وألحت الرغبة عليه لمعرفة أمرها.
أصدر أمره بإيقاف الموكب فورا، واستدعى المرأة المجهولة.
حيت المرأة قرقوش بصوت خاشع ناعم عميق، فسألها عن أمرها وأسباب تسترها عنه، مع أنها مرت بكثرة من الرجال ولم تفعل ما فعلت حين شاهدته !. فقد كانت تكشف عن كامل وجهها وتمشي بكبرياء مشحون بالأسى وكأنها تمشي بين جمع من النساء يشاركنها طبيعتها وعالمها النسوي الخاص..قالت على استحياء دون أن ترفع عنها الستارة التي تغطي وجهها:
– سيدي حاكم هذه المدينة.. قرقوش المعظم.. أقول لك صراحة، إنني وجدت فيك الرجل الوحيد بين جميع من مررت بهم، وقد خجلت من رجولتك، فاستحييت منك.
سر قرقوش لجواب المرأة، وأحس أنه غزل خفي تبديه المرأة نحوه.. وفكر بطلب رفع الحجاب عنها ليتطلع إلى بهاء وجهها، غير أنه خشي من إحراجها.. وعاد يسألها:
– وماذا ينقص كل هؤلاء الرجال ؟
قالت المرأة بلا تردد:
– الشجاعة يا سيدي.. الشجاعة.
قال قرقوش مؤكدا:
– إنهم شجعان يا امرأة، أما ترينهم يعملون بجد ويحصدون الهواء؟ تحدته المرأة بالسؤال:
– .. وهل تعد عملهم هذا شجاعة يا سيدي؟
– وأنت هل لديك شك في ذلك ؟
أجابت المرأة بشجاعة أثارت انتباه قرقوش:
– بل أنا على يقين يا سيدي.
– ما هو يا امرأة ؟
– إنهم ليسوا رجالا يا سيدي، ما داموا لا يملكون الشجاعة، ولو امتلكوا الشجاعة حقا، لوقفوا وقالوا بصوت واحد: الهواء لا يحصد، ولا يعلب، ولا يستأصل من هذا الكون.. وأدرك قرقوش أنه قد وجد في هذه المرأة حقيقة نفسه، وبحثها الدائب عن صوت شجاع يتحدى أوامره وأخطاءه.. إلا أنه لم يحتفظ بهذه الحقيقة التي وجدها بينة أمامه.. فقد أصدر أوامر مستعجلة وفورية بقطع رأس المرأة ومن تبعها.. حتى تكون أمام كل من يفكر بالتمرد على أوامره السامية..
حسب الله يحيى ( قاص وناقد مسرحي من العراق)