أندريه تاركوفسكي هو واحد من أبرز وأهم الاسماء في تاريخ السينما، أخرج طوال مسيرته الفنية – 25 عاما تقريبا – سبعة أفلام فقط، لكن كل فيلم له كان يعد حدثا فنيا فذا وحاضرا في الذاكرة على الدوام. واذا كان تاركوفسكي في كتابه المهم والقيم "النحت في الزمن" يتوجه الى القاريء المهتم بالسينما، فانه في يومياته، التي طبعت في كتاب لأول مرة في المانيا عام 1989، كان يدون ملاحظاته وانطباعاته وأراءه وتأملاته وهمومه الحياتية اليومية مخاطبا ذاته في المقام الأول، ومع ذلك فإنها تتخطى تخوم الذات لتشمل وضع الفنان في كل مكان من العالم.. الفنان في مختلف حالاته ومظاهره وهمومه.. ومن هنا تكتسب اليوميات أهميتها وضرورتها.
اليوميات تغطي الفترة من 1970 الى 1986، وقد آثرنا ترجمة مختارات من الكتاب المطبوع في بريطانيا عام 1994، المترجم عن الروسية من قبل كيتي هنتر – بلير، تحت عنوان "الزمن داخل الزمن".
* مرة أخرى تحدثنا عن دوستويفيسكي، انا وساشا ميشورين (كاتب مسرحي وسينمائي، شارك في كتابة فيلم "المرآة"). من المبكر ان نفكر في كيفية اخراج فيلم عنه. علينا أولا أن نكتب المشروع. لا نرى أي جدوى من تحويل رواياته الى الشاشة. يجب أن نحقق فيلما عن الرجل نفسه، عن ذاتيته، عن أعماله، في هذا المرحلة، علي أن أقرأ كل مما كتبه دوستويفسكي وكل ما كتب عنه…….. 30 أبريل 1970.
بامكان دوستويفسكي ان يصبح غاية ما أريد ان افعل في السينما.
* في 24 ابريل اشترينا منزلا في الريف. انه المنزل المثالي. الآن، لا يهمني ما يحدث. اذا لم يكلفوني بأي عمل فسوف أجلس في الريف، أربي الخنازير الصغيرة والاوزات، واعتني بالنباتات.. وليذهبوا (القائمون على الانتاج) الى الجحيم…………… 15 مايو 1970.
* لاريسا في الشهر الاخير من الحمل. ان اكثر ما يخيفني هو أن اوصلها الى المستشفى بنفسي.. يا لها من خاطرة مرعبة……….. 12 يوليو 1970.
* أندريوشكا، ابننا، عمره سبعة أيام فقط، لكن شكله يوحي بانه أكبر سنا. هادىء جدا، لا يبكي، أحيانا يتنفس بصوت عال، أحيانا يطلق صوتا قصيرا حادا………. 15 اغسطس 1970.
مفلس، ديون مروعة.. لا يمكنني أن أتخيل ما الذي سيحدث لنا. المنزل الريفي يحتاج الى الكثير من التصليحات.. يجب إعادة بناء السقف. أعدت قراءة توماس مان. انه عبقري. روايته "الموت في فينيسيا" مذهلة، على الرغم من الحبكة العادية جدا.
* أندريويوشكا مضحك جدا. يبتسم عندما يشبع. وحين نناديه باسمه يركز كل انتباهه انه مبهج للغاية………… 26 اغسطس 1970.
الأمور في الاستوديو مريعة جدا. انه انعكاس للوضع العام. الى أين يتجه كل شي ء؟ الله وحده يعلم. الحمقى هم الذين يتولون الادارة.
* لا يتعين على الطفل أن يكون أعجوبة او نابغة، عليه ان يكون طفلا فحسب. المهم الا يظل "عالقا" في الوضع الطفولي………… 1 سبتمبر 1970.
وأنا أراجع الاوراق القديمة. أتوقف عند المناقشة التي دارت في الجامعة حول فيلمي "أندريه روبليوف".. يا للمستوى المخجل ! جدل عقيم، مثير للشفقة، لكن هناك رأيا واحدا، ثاقبا أو لافتا، طرحه استاذ الرياضيات الشاب "مانين"، الحائز على جائزة لينين، والذي يعبر بدقة عما كنت أشعر به اثناء عملي في الفيلم. لقد قال:
"كل متحدث تقريبا تساءل لماذا يجب علينا ان نعاني طوال الساعات الثلاث التي استغرقها عرض الفيلم. وانا سأحاول الاجابة على هذا السؤال". ذلك لأن القرن العشرين قد شهد انبعاث نوع من التضخم العاطفي.
حين نقرأ في جريدة عن ذبح مليوني شخص في اندونيسيا، فان الانطباع الذي يتكون لدينا متماثل تماما مع ذلك الذي يسببه فوز فريق الروكي في المباراة: الدرجة ذاتها من الانطباع أو التأثر!!
اننا نحقق في ملاحظة التعارض الرهيب بين الحديثين. قنوات الادراك الحسي قد أصبحت مخففة الى حد اننا لا نعود نعي ما يحدث. ما أريد ان اقوله هو ان هناك بعض الفنانين الذين يجعلوننا نشعر بالحجم الحقيقي للاشياء. انه العبء الذي يحملونه طوال حياتهم، وعلينا ان نشكرهم على ذلك".
اذا كان أفول الفن جليا، واذا كان الفن هو روح الأمة، فان أمتنا اذن تعاني من داء عقلي خطير.
* المرء لا يحتاج الى الكثير ليكون قادرا على العيش. الشيء الجوهري هو أن تكون حرا في عملك. طبعا من المهم ان تطبع كتابك أو تعرض لوحاتك، لكن اذا لم يكن ذلك ممكنا، فان لديك أهم شيء: القدرة على العمل دون ان تطلب اذنا من احد. لكن في السينما هذا ليس ممكنا. انك لا تستطيع أن تصور لقطة واحدة ما لم تسمح لك الدولة بذلك………….3 سبتمبر 1970.
اذا الكاتب، على الرغم من مواهبه الفطرية، يكف عن الكتابة لأن أحدا لا ينشر له، فانه ليس كاتبا. الفنان يتميز بذلك الدافع الذي يحثه على الخلق، والذي هو ملازم للموهبة.
* اذا لم يكن ممكنا "الامساك بما لا يمكن الامساك به، ادراك ما لا يمكن ادراكه"، اذن فالانسان لم يبرر وجوده بأية وسيلة……… 5 سبتمبر 1979.
ليس للحياة غاية، لو كانت هناك غاية، فان الانسان لن يكون حرا، بل سيصبح عبدا لتلك الغاية، وحياته ستكون محكومة بمعايير جديدة تماما: معايير العبودية. مثل الحيوان، الذي غاية حياته هي الحياة نفسها، استمرار النوع. الحيوان يتحمل ثقل نشاطاته المستعبدة. لانه يستطيع ان يشعر بغاية حياته غريزيا، بالتالي فان عالمه محدود. الانسان، من جهة اخري، يزعم انه يتوق الى المطلق.
* كيف سيكون مستقبل أطفالنا؟ الكثير يتوقف علينا نحن. لكن الامر سترون لهم أيضا. ما يجب ان يكون حيا في داخلهم هو نضالهم. من اجل الحرية. ذلك يتوقف علينا نحن………….7 سبتمبر 1970.
أولئك الذين ولدوا مجبولين على العبودية، يصعب عليهم التخلص من العادة.
الانسان مركب من سمات وخواص متعارضة. التاريخ يثبت بقوة حقيقة أنه يتحرك دائما في أسوأ اتجاه ممكن. اما ان الانسان غير مؤهل لقيادة التاريخ، أو انه يقوده، لكن فقط بدفعه نحو أكثر الدروب وعورة ورهبة. ليس هناك مثال وأحد يثبت العكس. الناس غير مؤهلين لأن يحكموا الآخرين. انهم فقط مؤملون للتدمير.. والمادية سوف تتمم التدمير.
الجنس البشري سارع الى حماية الجسد ولم يهتم أبدا بحماية الروع. في مسار تاريخ الحضارة، الشطر الروحي من الانسان قد انفصل أكثر فأكثر عن الشطر الجسدي، المادي. والآن في الامتداد اللامتناهي. للظلمة نستطيع فحسب أن نكتشف، مثل أنوار قطار راحل، النصف الآخر من وجودنا فيما ينطلق بعيدا.. على نحو متعذر تغييره، والى الابد. الجنس البشري فعل كل ما بوسعه لابادة نفسه، بادئا بالابادة المعنوية.. الموت المادي هو مجرد النتيجة.
لا تستطيع ان تنقذ الآخرين ما لم تنقذ نفسك.. بالمعنى الروحي. كبشر، نحن نفتقر الى غريزة حفظ النوع والتي يمتلكها النمل والنحل. لا يمكن الغريزة أن تنقذنا، والافتقار اليها سيفضي الى سقوطنا. ونحن لا ننتقد بقسوة مؤسساتنا الروحية والاخلاقية. اذن أين يكمن الخلاص؟ بالتأكيد من العبث التوجه الى قادتنا.
العبقري وحده الذي يستطيع انقاذ البشرية.. العبقري الذي سوف يستنبط المثل الاخلاقية الجديدة.. لكن أين هو هذا المخلص: لا شي ء متروك شنا غير أن نتعلم كيف نموت بنبل وكرامة.
الشيء الوحيد الذي يمكن ان ينقذنا هو طريقة جديدة قادرة أن تعليه بكل المؤسسات الايديولوجية في عالمنا الهمجي، الرث.
إن عظمة الانسان الحديث تكمن في الاحتجاج.
* يجب أن أوضح لهم هذا الشيء: سوف لن أفعل شيئا من اجل المال فقط…….. 12 سبتمبر 1970.
لم أر أبي منذ سنوات كلما طالت المدة ازددت توجسا من الذهاب اليه. واضح أن لدي عقدة ما تجاه والدي. في حضورهما لا أشعر انني بلفت سن الرشد. كذلك لا أظن أنهما يعتبرانني بالغا. علاقتنا تبدو، بطريقة أو بأخرى، محرفة ومعقدة ومكبوحة.. أنها ليست صريحة ومباشرة. اني أحبهما كثيرا لكنني لم أشعر أبدا بالطمأنينة معهما، او بانني كفؤ لهما. أظن انهما يشعران بالخجل تجاهي.. رغم أنهما يحبانني. كل منا يحب الآخر، وكل منا يشعر بالخجل والخوف من الآخر، لسبب ما أشعر بطمأنينة أكثر في الاتصال بالغرباء.
مع ذلك، يجب أن أذهب وأرى أبي قبل أن أسافر الى اليابان. والد تاركوفسكي شاعر معروف، وأمه محنكة.. وهما منفصلان.
الآن سآوي الى الفراش، وأقرأ كتاب هيرمان هيسه "لعبة الخرزة الزجاجية". كنت أبحث عن هذا الكتاب لسنوات طويلة، أخيرا وصل الي اليوم.
كم تخيفني الجنازات. في مراسم دفن جدتي شعرت برعب شديد، ليس لأنها ماتت، وانما لأنني كنت محاطا بأناس كانوا يجسدون مشاعرهم. لا استطيع ان احتمل رؤية الناس وهم يجسدون مشاعرهم.. حتى لو كانت مشاعر صادقة.
أحب أهلي، لكن يستبد بي نوع من الغيبوبة أو الخدر فلا أتمكن من التعبير عن مشاعري. حبي ليس فاعلا. عن الأرجح، كل ما أريده هو أن يدعوني في سلام، وأن أكون منسيا، لا أريد أن اتكل على حبهم، ولا أطلب منهم شيئا فيما عدا الحرية. لكن الحرية لا توجد ولن توجد. عندئذ يعتبرونني مسؤولا عن فشل زواجي من ايرا [زوجة تاركوفسكي الأولى مخرجة وممثلة. مثلت في فيلميه: طفولة ايفان، واندريه روبليوف]. لست قديسا، لست ملاكا. أنا شخص أناني، والذي أكثر ما يخيفه في هذا العالم هو أن يري من يحبهم يعانون من الألم.
* اليوم شاهدت فيلم بونداوشوك "واترلو".. عقل مخجل ومثير للشفقة. سبق ان شاهدت فيلما سيئا جدا لبونويل أسمه "تويستانا" عن امرأة مبتورة الساق تحلم بجرس يتدل منه رأس زوجها. أحيانا يسمح بونويل لنفسه بارتكاب مثل هذه الهفوات……… 18 سبتمبر 1970.
* منذ الحرب، انهارت الثقافة في كل انحاء العالم، تمزقت الى أشلاء.. مع كل المعايير الروحية. هنا، بوضوح تام، وبصرف النظر عن كل شيء آخر، كان ذلك نتيجة الالغاء المستمر، والهمجي، للثقافة. وبدون الثقافة، من الطبيعي أن يسلك المجتمع على هواه من غير ضابط او نظام. لم يحدث من قبل أن بلغ الجهل مثل هذه الدرجة الهائلة………. 20 سبتمبر 1970.
يقول هيسه: "الحقيقة ينبغي أن تعاش، لا أن تلقن".
* سوف أكتب رسالة الى ايرا. يجب أن أرى ابني "سينكا" بانتظام. ايرا تظن بأنه لا يهم كثيرا أن تكون علاقتنا مباشرة، يا للحماقة ! أعرف جيدا ما يعنيه غياب الأب. الاطفال يفهمون كل شيء……… 24 اكتوبر 1970.
* أصيب أبي بنوبة قلبية. انه يرفض، على نحو بات، الذهاب الى المستشفى. يكره المستشفيات ولا يريد أن يرى طبيبا. مع انه مصاب بالانورسما [تمدد الأوعية الدموية]. اعتقد إنه قريبا سيوقع عقدا لطبع كتاب جديد. كم أتمنى أن يكتب الآن الكثير من الشعر………. 17 نوفمبر 1970.
* الموهبة محنة. انها، من جهة، لا تؤهل صاحبها لا للمكانة ولا للاحترام. وهي من جهة أخرى، تفرض عليه مسؤوليات ضخمة. لا أفهم لماذا يجب أن تكون الشهوة هي المطمح الأكبر للفنان، تأويل جوردون كريج لـ "هاملت" ميتافيزيقي، مدع، وأحمق. أما تأويل ستانيسلافسكي، ذلك المعتوه والمصاب بجنون العظمة، فانه عبثي ومضحك. كريج محق حين يقول إن أوفيليا تصبح خارج التراجيديا، وانا غير هامة. في حين يؤكد ستانيسلافسكي (الذي عينه دائما على الجمهور بسبب رعبه الشديد من آرائه وأحكامه) بأنها فتاة جميلة ونقية…… 14 أغسطس 1971.
* ستانيسلافسكي أساء كثيرا الى أجيال المستقبل في المسرح، كما فعل ستاسوف تقريبا في الفن التشكيلي كل تلك المثل الرفيعة تزيف وظائف ومعنى الفن……. 15 أغسطس 1971.
* طلبوا مني اجراء تعديلات مستحيلة بشأن الفيلم [سولاريس].. هذا كفيل بتدمير الفيلم. ما الذي يدور في أذهانهم؟ المسألة كلها تبدو استفزازا، لكنني لا أرى أي هدفا من ذلك…….. 21 يناير 1972.
* إني متعب في ابريل سوف أبلغ الأربعين عن العمر، مع ذلك لم أشعر قط بالأمن والطمأنينة. كان لدى بوشكين الامان والعزم بدلا من الحرية، لكنني لا أملك أيا منهما،………… 15 فبراير 1972.
قصة: شخص ما تمنح له الفرصة لأن يصبح سعيدا. انه يخاف من استخدام هذه السعادة لانه يظن بأنها مستحيلة، وأن المجنون وحده هو القادر على ان يكون سعيدا. الظروف بطريقة ما، تقنع بطلنا بأن ينتهز الفرصة. وبوسيلة اعجازية، يصير سعيدا. عندئذ يصبح مجنونا. إنه يدخل عالم المجانين، الذين قد لا يكونون مجرد مجانين، بل أيضا قادرون على الاتصال بالمعالم بواسطة خيوط صعبة المنال للأسوياء.
لسنوات عديدة أقلقني اليقين بأن الاكتشافات الاكثر روعة تنتظرنا في عالم الزمن. نحن نعرف عن الزمن أقل بكثير مما نعرفه عن أي شيء آخر.
* هل سأظل مرة أخرى جالسا في مكاني لسنوات، منتظرا ان يتكرم شخص ما ويسمح لي بالعمل بحرية. أي بلد استثنائي هذا.. الا يريدون نجاحا فنيا عالميا؟ الا يرغبون في أن تكون لدينا أفلام وكتب جديدة وجيدة. انهم يخافون من الفن الحقيقي. الفن، بالنسبة لهم. لا يمكن الا ان يكون ضارا لانه انساني، بينما غرضهم هو أن يسحقوا كل ما هو حي، كل شعاع انساني، كل توق الى الحرية، كل ظهور للفن على أفقنا الموحش. لن يرتاح بالهم الا اذا أزالوا كل امارة من امارات الاستقلال، وحولوا الناس الى مرتبة القطيع………. 23 فبراير 1972.
* أخيرا وافقوا على عرض الفيلم (سولاريس) دون اجراء أي تعديل.. شيء لا يصدق…….. 31 مارس 1972.
* "من أجل ان تكتب جيدا، يجب ان تنسى قوانين النحو".. [جوته]…. 2 ابريل 1972.
"دوستويفسكي قدم لي أخر مما قدمه أي مفكر" [آينشتاين]
* ها قد بلغت الاربعين. وماذا فعلت طوال هذه السنوات؟ ثلاثة أفلام مثيرة للشفقة. هذا قليل جدا.. قليل بشكل لا يصدق……… 6 أبريل 1972.
البارحة رأيت حلما غريبا:
كنت أتطلع الى السماء، وكانت مشرقة ورائعة، وعاليا، عاليا فوقي، كانت تبدو وكأنها تغلي على مهل، مثل ضوء يتخذ شكلا مثل نسيج قماش مضاء بأشعة الشمس، مثل خيوط حريرية حية في قطعة من الزخرفة اليابانية. وتلك الخيوط البالغة الصغر، الناشرة للضوء، الخيوط الحية، تبدو وكأنها تتحرك وتطفو وتصبح أشبه بطيور تحوم عاليا جدا بحيث لا يمكن الوصول اليها أبدا.. عاليا الى حد أنها لو فقدت ريشها فان الريش سوف لن يسقط، لن يهبط نحو الأرض، بل سيظل متطايرا الى الأعلى حتى يتلاشى من هذا العالم الى الأبد. ومن ذلك الارتفاع الشاحق تتدفق موسيقى ناعمة آسرة.. انها أشبه برنين أجراس صغيرة، أو أن سقسقة الطيور كانت أشبه بالموسيقى، فجأة سمعت شخصا يقول: "انها اللقالق".. عندئذ صحوت من النوم. حلم غريب وجميل. يحدث أحيانا أن أرى أحلاما رائعة.
* قال لي سيزوف بأن ما هو "متوقع" مني أن انجز أعمالا "محلية" ولا علاقة بالأحداث الجارية،. هذا يعني ضمنا أن سيناريوهاتي ليست صالحة…….. 9 يونيو 1972.
كل ما استطيع التفكير فيه الآن هو تسديد ديوني. الانتقال من شقتي، واعادة بناء المنزل الريفي.
* ايقاع المونتاج، مدة الكادر.. هذه ليست مجرد أشياء تمليها الحاجة المهنية لتأسيس صلة بالجمهور.. انها تعبر عن شخصية وأصالة وجدة، مؤلف الفيلم……. 14 يونيو 1972.
في الوقت الحاضر، يستخدم السينمائيون الايقاع السريع لتمويه حبة الدواء التي يتعين على الجمهور البائس ابتلاعها.. بالاحرى، هذا الايقاع موظف لكسب المال فقط.
لم ينصف أي "سولاريس" كفيلم، بل كشيء مماثل للأدب، وذلك بسبب الايقاع الداخلي، غياب الوسائل المبتذلة، والكم الهائل من التفاصيل التي كل منها يؤدي وظيفة محددة في السرد.
* المال الذي حصلت عليه من فيلم "سولاريس" لم يكن كافيا حتى لتسديد ديوني………….. 22يوليو 1972.
* عدنا، انا ولاريسا، من سويسرا، كنت رئيسا للجنة التحكيم في مهرجان لوكارنو………. 19أغسطس 1972.
* سويسرا بلد نظيف جدا على نحو لا يصدق. يصلح تماما لأولئك الذين تعبوا من النشاط الصاخب. أنه أشبه بمصح عقلي…….. 23 أغسطس 1972.
* الجميع يريد مني أن أحقق شيئا جديدا وهاما للوطن، والذي يتضمن ابراز التقدم العلمي والتكنولوجي. أخبرتهم ان هذا ليس خطي وتوجهي، وبأنني أكون أكثر انسجاما مع نفسي عندما أتعامل مع القضايا الانسانية…….. 12 سبتمبر 1972.
* منذ ثلاثة شهور لم أدون شيئا في اليوميات. زرت ايطاليا وبروكسل ولوكسمبورج ثم باريس……….. 23 ديسمبر 1973.
باريس جميلة. تشعر بالحرية هناك: لا أحد يحتاجك، ولا أنت تحتاج الى أحد.
أخيرا سمحوا لي بالشروع في تحقيق فيلم «المرآة».
فاديم يوسوف [الذي صور: طفولة ايفان، اندريه روبليوف، سولاريس] خذلني في اللحظة الأخيرة برفصه العمل معي في هذا الفيلم. أنا وأثق بأنه تعمد اختيار هذا الوقت ليحرجني. كان دائما يكرهني دون أن يفصح عن ذلك. انه شخص حاقد، مليء بالضغينة الطبقية تجاه الانتلجنتسيا.
كان من الأفضل ان يحدث هذا الانفصال الآن. حقي في "سولاريس" بما أنجز سابقا، ولم يستطع احتمال فكرة أن أحقق فيلما عن ذاتي.
* في وقت مضى، كنت أظن أن للفيلم، بخلاف الاشكال الفنية الأخرى، ولكونها اكثر الاشكال ديموقراطية، تأثيرا كليا.. التأثير ذاته على كل متفرج. وان الفيلم، في المقام الاول، هو سلسلة من الصور المسجلة، وأن الصور ممثلة بدقة، لا لبس فيها، ولكونها كذلك، ولانها تبدو واضحة، فان كل من يشاهدها سوف يفهمها بالطريقة الوحيدة ذاتها……….. 24 يناير 1973.
لكنني كنت مخطئا، على الفنان أن يستنبط مبدأ يتيح للفيلم بأن يمارس تأثيره على انفراد. الصورة "الكلية" يجب أن تصبح شيئا خاصا (كما الصور في الرواية والشعر والرسم والموسيقى). المبدأ الاساسي- النابض الرئيسي، اذا جاز التعبير- هو، في اعتقاديه عرض أقل مما يمكن عرضه، ومن ذلك القليل يتعين على المتفرج أن يبني فكرة للبقية، للكل. في رأيي ذلك هو ما ينبغي أن يكون الأساس لبناء الصورة السينمائية، واذا نظر أليها المرء من وجهة نظر الرموز، فان الرمز في السينما يكون رمزا للطبيعة، للواقع.
بالطبع هي ليست مسألة تفاصيل، بل ما هو مستتر.
* ثمة نوعان من الأحلام. في النوع الاول، يستطيع الحالم ان يوجه احداث الفيلم كما لو عن طريق السحر. انه يسيطر على كل ما يحدث أو سوف يحدث. انه قوة خلاقة……………. 26 يناير 1973.
في النوع الثاني، لا سلطة للحالم.. انه سلبي، خاضع، يعاني من العنف الذي يمارس ضده، ومن عجزه عن حماية نفسه، ما يحدث له هو ما لا يريده تماما. انه أكثر الاشياء ارعابا وألما (كما في أعمال كافكا).
"لحظات الاشراق عند الرسام لا يجب أن تأتي اليه عبر وعيه. ان اكتشافاته، التي هي غامضة حتى بالنسبة اليه، يجب أن تتجاهل طريق التأني الطويل، وتمضي بسرعة فائقة، نحو عمله الى حد ان الوقت لا يسعفه لملاحظة الانتقال. اذا اراد ان يكمن لها. أن يرصدها، أن يكبحها، في فانها سوف تتحول الى غبار.. مثلما يحدث للذهب في الحكاية الخرافية. (ريلكه، رسالة الى زوجته، عن سيزان، 1951)
* كم هي كئيبة الحياة. أني أحسد كل شخص قادر على مواصلة عمله من غير خضوع للدولة. عمليا كل شخص حر.. ما عدا أولئك الذين يعملون في المسرح والسينما (أستثني التليفزيون لأنه ليس فنا)………. 27 يناير 1973.
كم هي جاهلة السلطات! حقا يحتاجون الى الأدب والشعر والموسيقى والفن التشكيلي والسينما؟ بالطبع لا. على العكس، بدونها الحياة ستكون أبسط بكثير.
بوريس بارتسنال كان محقا عندما قال لي بأنني سوف أحقق أربعة أفلام أخرى فقط. حققت "سولاريس"، ولا أعرف متى سأنفذ البقية. [في الواقع، أخرج تاركوفسكي بعد سولاريس أربعة أفلام: المرآة، stalker نوستالجيا، القربان].
كل ما أريده هو أن أعمل، ولا شيء آخر، انها جريمة فعلا ان يكون عاطلا عن العمل مخرج لقبته الصحافة الايطالية بالعبقري. أعتقد أن الاشخاص الضئيلين، الذين شقوا طريقهم الى مراكز النفوذ، يضمرون لي الأذى. الضئيل والتافه لا يطيق الفنان، او هل ينبغي أن أقول: ليذهب الجميع الى الجحيم.
ما هي أكثر الاشجار جمالا؟ لابد أنها الدردار.. وهي تستغرق زمنا طويلا حتى تنمو.
* سوف يعرضون فيلمي "سولاريس" في صالة عرض من الدرجة الثانية.. انهم يتعاملون مع فيلمي كنتاج متواضع القيمة……….. 29 يناير 1973.
لقد حان الوقت لأدرك أن أحدا لا يحتاج الي، وانه ينبغي ان اتصرف على هذا الاساس. علي أن أكون أرفع من ذلك. أنا تاركوفسكي، ولا يوجد غير تاركوفسكي واحد، في حين يوجد أكثر من جيراسيموف في هذا العالم.
[جيراسيموف مخرج وممثل سوفييتي.. أعماله محافظة فنيا].
الحبكات والقصص التافهة، الممثلة والمعروضة على الشاشة، لا يمكن أن تسمى سينما. انها لا تتصل بالسينما الحقيقية على الاطلاق، العمل السينمائي هو الذي لن يكون ممكنا في أي شكل فني آخر. بمعنى آخر، هذا العمل لا يمكن ابداعه الا بواسطة السينما.. السينما وحدها.
* اليوم عيد ميلاد زوجتي. أنا مريض، ونحن مفلسون، يا للمسكينة !
لا بأس. سوف نؤجل الاحتفال قليلا……… ـ فبراير 1973.
خطرت لي فكرة: أن أحول رواية دوستويفسكي "الأبلة" الى مسلسل تليفزيوني في سبع حلفات. ليست فكرة سيئة.
* "أندريه روبليون" حاز على الجائزة الكبرى في مهرجان دولي في يوغوسلافيا. هذه هي الجائزة العالمية الرابعة التي يحرزها هذا الفيلم "غير المعترف به" غير الشرعي. لا يزال المسؤولين يتصرفون ازائي ببغض شديد……. 5 فبراير 1973.
* قيل لي بأن الجمهور استقبل "سولاريس" بشكل جيد. الصالة كانت مليئة ولم يخرج أحد احتجاجا. بعد انتهاء العرض صاح أحد الحضور "يعيش تاركوفسكي"……….6 فبراير 1973.
* في مهرجان لندن، منح "سولاريس" جائزة أفضل فيلم للعام 72، حتى الآن حاز فيلم "اندريه روبليوف" على ست جوائز و "سولاريس" على ثلاث ……. 18 مارس 1973.
* يا صديقي، يا صديقي المخلص…………… 3 يونيو 1973.
القلب يطلب المغفرة.
وليس ثمة أمل لفرحي.
* "اندريه روبليوف" يعرض الآن في السويد. وفق ما قالته بيبي اندرسون (الممثلة السويدية) فقد صرح برجمان بأنه افضل فيلم شاهدا في حياته…… 17 يونيو 1973.
* خاطرة غير سارة: لا أحد هنا يحتاجك. انت غريب كليا عن ثقافتك. أنت شخص غير موجود. عدم. لكن في اوروبا، وفي أي مكان آخر، لو سأل أحد من هو افضل مخرج في الاتحاد السوفييتي، فسوف يجيبونه: تاركوفسكي…….. 20 اكتوبر 1973.
أما هنا: تجاهل تام، أنا غير موجود، مجرد فضاء خال. صعب جدا ان تشعر بأن أحدا لا يحتاجك.
* أعدت قراءة كتاب توماس مان "كتور فاوست": عزلة الفنان، والثمن الذي يدفعه لقاء فهم الحقيقة……….. 2ديسمبر 1973.
الكتاب مزيج متقن ومدروس من ماضي المؤلف، آماله المحطمة، توقه الى وطنه المفقود، المعاناة، عذابات الفنان، خطاياه.
* ابتهاج متواصل، على شاشة التليفزيون، بشأن انجازاتنا في مجال الصناعة والزراعة والسياسة الدولية…………. 5 ديسمبر 1973.
مع ذلك، ولسبب ما، ترتفع أسعار السلع الغذائية.
واضح انه كلما كانت الانجازات أعظم، ازدادت المعيشة سوءا. الفنان، من جهة، شخص عادي. ومن جهة أخرى، لا يستطيع ان يكون عاديا، وبالتالي يهب روحه ثمنا لموهبته.
الفنان محكوم بأن يحمل عبء الموهبة، ذلك لان الفنان كائن يناضل – ليس سرا ولا في الخفاء- من اجل فهم الحقيقة المطلقة.
* شاهدت كيروساوا في الاستوديو. تعشينا معا. انه في وضع مرعب: محاط بفريق من المخبرين والمتخلفين عقليا. ينبغي تحذيره، بطريقة او بأخرى، بأن كل شخص يكذب عليه………… 30 ديسمبر 1973.
* هدفي ان أضع السينما بين الاشكال الفنية الاخرى: أن تكون في مستوى الموسيقى والشعر………… 31 ديسمبر 1972.
* – المنظر الطبيعي المفضل: الفجر، السديم………… 3 يناير 1974.
– العمل الموسيقي؟ آلام القديس جون (باخ).
– الرواية الروسية؟ الجريمة والعقاب.
– الرواية الاجنبية؟ دكتور فاوست.
– اللون المفضل: الأخضر.
– الشاعر؟ بوشكين.
– مخرج روسي؟ لا أحد.
– مخرج أجنبي؟ روبين بريسون.
* شخص ما قرأ لقاء صحفيا مع برجمان، في هذا اللقاء اعتبرني برجمان أفضل مخرج معاصر.. أفضل حتى من فلليني (!).. أريد أن أقرأ هذا اللقاء.. أتساءل ان كان هذا صحيحا.. لا يبدو لي مناسبا………. 7 يناير 1974.
* الحقيقة التاريخية تصبح كذبة فنية، صورة فنية، الصورة الفنية هي لك التي تضمن تطورها الخاص، قابليتها للحياة التاريخية……… 3 فبراير 1974.
الخلق الفني، تحديدا، هو انكار للموت.
* في السينما – كما في الحياة – الكلمات لا تعني شيئا.. الكلمات مياه…… 4 فبراير 1974.
لا اعتقد ان السينما تتألف من طبقات عديدة. في السينما، تعدد الاصوات لا يأتي من تعددية المستويات لكن من التعاقب والتراكم. إن المعاني المتعددة لصورة ما مي متضمنة في نوعية وخاصية تلك الصورة.
* البارحة حلمت انني ميت. لكن بامكاني أن أوى، أو بالاحرى، ان احس بما يجري حولي. أشعر ان لاويسا بقربي مع أحد أصدقاني، أشعر اني بلا ارادة ولا قوة. كنت شاهدا فحسب على موتي……… 27 يونيو 1974.
في حلمي كنت اشعر بشيء كان منسيا منذ زمن طويل، شيء لم يحدث لي منذ فترة طويلة.. الاحساس بأن هذا ليس حلما بل حقيقة. كان إحساسا قويا جدا الى حد ان موجة من الحزن ملأت روحي، موجة من الرثاء للذات.
كنت أنظر الى نفسي من الخارج. كما لو ان ألمي هو ألم شخص آخر. كما لو أن حياتي الماضية هي حياة طفل.. بلا تجربة، بلا حماية.
* لم يصرحوا بعرض فيلم "المرآة". يزعمون انه غامض، يصعب فهمه…… 29 يوليو 1974.
* رفض المسؤلون ارسال فيلم "المرآة".. الى مهرجان كان دون ابداء الأسباب……. 2 مارس 1975.
* عرض فيلم "المرآة".. في صالتين من الدرجة الثالثة.. بدون اعلان. وبلا ملصق واحد…….. 8 ابريل 1975.
* أنتونيوني كان حاضرا في مهرجان موسكو، وصرح بأنه سوف يغادر فورا ما لم يشاهد "المرآة"، اخيرا اضطروا الى عرضه، وقد اعجبه كثيرا، حتى انه اراد الالتقاء بي……… 25 يوليو 1975.
سمعت أن برجمان دعاني أربع مرات (!) للاقامة عنده في السويد. لم يخبرني احد بذلك.
* ما هو الحب؟ لا أعرف. هذا لا يعني أنني لا اعرف الحب، بل لا أعرف كيف أحدده……….. 14 سبتمبر 1975.
* أعدت قراءة رواية كافكا "المسخ".. هذه المرة لم تحرك مشاعري……. 17سبتمبر 1975.
* تونينو جويوا [شاعر وسيناريست ايطالي، شارك في كتابة "نوستالجيا"] جاء من ايطاليا. انهم يريدون مني أن أحقق فيلما هناك، لكن السلطات تعارض هذه الفكرة……….. 13 نوفمبر 1975.
* معيشتنا خاطئة تماما. الفرد لا يحتاج الى الة المجتمع، المجتمع هو الذي يحتاج الى الفرد. والمجتمع آلية دفاعية، شكل من أشكال الدفاع عن النفس. بخلاف الحيوان الاجتماعي، يتوجب على الفرد أن يعيش في عزلة، قريبا من الطبيعة، من الحيوانات والنباتات، ويكون على اتصال مباشر معها. أستطيع أن أرى بوضوح، أكثر فأكثر، بأن من الجوهري تغيير طريقتنا في الحياة وتنقيحها. وعلينا ان نبدأ في العيش بشكل مختلف. لكن كيف؟ قبل كل شيء علينا أن نشعر بالحرية والاستقلال، أن نؤمن ونحب. علينا أن ننبذ هذا العالم التافه ونعيش من أجل شيء آخر. لكن كيف أين؟ ذلك هو سوء الفهم الاول، العائق الاول……. 23 يونيو 1977.
* منذ مدة طويلة لم أدون شيئا. أشياء كثيرة حدثت، ذهبت مع زوجتي الى باريس لحضور العرض الأول لفيلمي "المرآة" نجاح كبير……… 7 أبريل 1978.
بالأمس شعرت باضطراب في القلب. زوجتي المسكينة كانت مصعوقة من الخوف. سمعت عن اختيار "أندريه روبليوف" كواحد من أفضل مائة فيلم في العالم.
* اتضح ان لدي انسدادا في شريان القلب. يتعين علي ان ألزم الفراش شهرين حتى أتعافى…………. 9 أبريل 1978.
من الطبيعي الا يفكر المرء في الموت، لكن لم لا ينبغي أن يؤمن بالخلود؟ كثيرا ما أخطىء في تقييم الناس. يجب أن أغير حياتي. علي أن أتوقف وأبدأ من جديد.
أقرأ هيسه. انه جميل.
* كنت طريح الفراش لتسعة أيام. اليوم قد يسمح لي الأطباء بالجلوس على الفراش. لم أتخيل قط أن أصاب بنوبة قلبية وأنا في السادسة والأربعين لكن من جهة أخرى، سوف أندهش فعلا لو لم تحدث هذه النوبة……. 15 أبريل 1978.
تلقيت بضع برقيات من فرنسا وايطاليا: من مارتين، ماستروياني، وتونينو جويرا، ودافو، وسيرجيو ليوني.
لو لم يتخل ليوني عن فكرة صنع أفلام "ويسترن" لبادرت الى كتابة فيلم ويسترن له.
* واقع أن الزمن يترفق بالطريقة ذاتها في كل الرؤوس، فذلك يبرهن، على نحو حاسم أكثر من أي شيء آخر، أننا جميعا نحلم الحلم نفسه. ليس هذا فحسب ؛ كل الذين يحلمون ذلك الحلم هم كائن واحد. [شوبنهاور]……. 23 أبريل 1978.
* تونينو جويرا يتصل هاتفيا من روما يوميا تقريبا. أشعر بتحسن. "اذا كنت ترغب في فهم الشاعر، فاذهب الى أرضه". [جوته]…….. 28 ابريل 1978.
* تونينو أرسل لي كتابا الذي يحتوي على 68 قصة قصيرة شعرية مع بعض القصائد. اقترح ان أكتب ردا، بالطريقة ذاتها، على كل نص "النتيجة ستكون مبارزة في 136 طلقة………. 16 مايو 1978.
* وجد الانسان على هذه الأرض منذ زمن طويل، مع ذلك هو لا يزال غير واثق بشأن أكثر الأشياء أهمية: معنى وجوده.. أمر محير فعلا……. 20 سبتمبر 1978.
* لم غالبا ما يحلم الناس بأشياء لم تحدث لهم على الاطلاق؟ يطيرون مثلا؟ ذلك هو حلم الطفولة الذي يتكرر كثيرا…….. 17 نوفمبر 1978.
* في فرنسا، أختير "المرآة" كأفضل فيلم للعام 78، واختيرت تريكوفا كأفضل ممثلة………… 31 ديسمبر 1978.
* بالأمس وصلت روما كنت متعبا…….. 17 يوليو 1979.
عنوان الفيلم: نوستالجيا.
هل ينبغي أن يتزوج البطل: امرأة ايطالية؟ لا.
* أنا وتونينو نناضل من أجل اكتشاف السبب (بالمعنى الشعري، بلغة الصور) لرحلة البطل. يمكن أن يبدأ الفيلم بحلم فيه يتجادل البطل مع زوجته……… 18 يوليو 1979.
* نحن نفتقر الى الفكرة الاساسية. المفهوم. نوستالجيا. استحالة أن تكون وحيدا في ايطاليا الجميلة لا ترقى الى الفكرة. نحن نقترب أكثر من الفكرة.. انها مسألة بحث،…… 28 يوليو 1979.
* البرتو مورافيا، الذي كان في موسكو، كتب مقالة يمتدح فيها فيلمي stalker هو لم يفهم الفيلم على الاطلاق. واضح أنهم لم يوفروا له مترجما…… 25 أغسطس 1979.
* شاهدت فيلم برتولوتشي "القمر".. بشع، رخيص، مبتذل……..7 سبتمبر 1979.
* تناولنا العشاء مع انتونيوني وانريكا. انتونيوني شخص فاتر ومتكبر. مفرط في الانانية.. هذا هو حكمي من واقع علاقته المهنية بـ تونينو…….. 9 سبتمبر 1979.
* موسكو. ظهر اليوم توفت أمي. لقد عانت كثيرا………. 5 أكتوبر 1979.
ما الذي نعرفه عن الموت اذا كنا لا نعرف شيئا عن الحياة؟ وحين نعرف شيئا نبذل جهدنا لنسيانه.
يا إلهي أمنحها الراحة الابدية.
* اليوم جنازة أمي. أشعر الآن أني بلا حماية. لا أحد في هذا العالم سوف يحبني كما أحبتني……. 8 أكتوبر 1979.
المعرض الذي أقيم بمناسبة مرور ستين عاما على السينما السوفييتية لم يتضمن أي فيلم من أفلامي، باستثناء "طفولة ايفان".
* يا الهي، كم أشعر بالبؤس والتعاسة الى حد الغثيان، الى حد أنني أرغب في شنق نفسي. أنا وحيد تماما، وهذا الشعور يصبح أسوأ عندما تبدأ في ادراك أن الوحدة هي الموت. كل شخص خانني او سوف يخونني. إني وحيد، وكل مسام في روحي ينفتح ويتسع، وروحي بلا حماية ولا دفاع، لأن ما ينز هو الموت. أخاف أن أكون وحيدا. لا أريد أن أعيش. أنا خائف. حياتي أصبحت لا تطاق…… 22 أكتوبر 1979.
* لم يعجبني السيناريو الذي كتبناه أنا وتونينو "نوستالجيا" انه يفتقر الى الأساسي والمهم. ليس هناك مشاهد حقيقية. لا بأس. سنعيد كتابته……22 نوفمبر 1979.
* سمعت أنهم سوف يعرضون فيلمي stalker [الدليل: كترجمة غير حرفية] في صالات من الدرجة الثالثة، وبدون اعلانات. كما حدث مع "المرآة"…… 3 ديسمبر 1979.
* انهم يرفضون السماح لابني "اندريوشكا" بالسفر معنا الى ايطاليا……29 ديسمبر 1979.
* عام قد انتهى. عام مليء بحالات القلق التي لا تتبدد، بالافلام التي لا تتحقق، والخطط التي لا نعرف أين تنتهي……… 31 ديسمبر 1979.
* أخبرني فولشيك بأن "اندريه روبليوف" أختير من بين أفضل عشرة أفلام في العالم…………. 15 يناير 1980.
* زرت والدي. سجلت لقاء معه عن تاريخ عائلتنا……..3 فبراير 1980.
* لورا اتصلت هاتفيا مرة أخرى. أخبرتني عن جائزة فيسكونتي التي تمنح سنويا الى مخرجين أجانب (خارج ايطاليا). حتى الآن حصل عليها بريسون واندريه فايدا. الجائزة سوف تقدم في احتفال خاص في سبتمبر………….. 28 مارس 1980.
* روما. الليلة الماضية كلمت صوفيا في السويد، طلبت منها ان تنقل الى برجمان فكرة فيلم مشترك نحققه نحن الثلاثة: انتونيوني وبرجمان وأنا. أذا رفض فسوف نفكر في شخص آخر. كيروساوا؟ بونويل: أظن انه لم يعد يرغب في تحقيق أفلام أخرى………. 13 مايو 1980.
* فيلمي stalker حقق نجاحا باهرا في مهرجان كان. روندي قال عنه انه فيلم عظيم حققه عبقري. في الواقع، يربكني أن أكرر ما قاله……. 14 مايو 1980.
* بالأمس اتصلت صوفيا من استوكهولم. برجمان مهتم كثيرا بفكرة العمل المشترك في فيلم، لكنه – للأسف – مشغول متى 1983. انه يرغب كثيرا في رؤيتي. صوفيا تقول ان برجمان شاهد "اندريه روبليوف" عشر مرات……. 16 مايو 1980.
* جاء البرتو مورافيا ليرى تونيو. أراد أن يلتقي بي. انه يمشي ببطء وبصعوبة، يبدو هرما ومريضا. هو في السبعين، انه الرجل الذي لا يستحق شهرته الادبية، وهو يدفع ثمن ذلك بالعيش في وحدة، اذ ان المحيطين به يدركون هذا الشيء. لقد شعرت بالشفقة عليه………. 19 مايو 1980.
* شاهدت الفيلم الامريكي "امرأة غير متزوجة". جيل كلايبرج ممثلة رائعة، ليس هنأك أفضل منها لفيلم "نوستالجيا"……… 20 مايو 1980.
* في هذا المساء شاهدت على شاشة التليفزيون فيلم كوكتو "عودة أورفيوس". أين ذهب كل اولئك العظام؟ أين ذهب روسللليني، كوكتو، رينوار، فيجو؟ أين ذهب الشعر…………. 6يونيو 1980.
لم يبق غير المال، المال، المال.. والخوف. فلليني خائف، انتونيوني خائف، الوحيد الذي لا يخاف من شيء هو بريسون.
في مهرجان كان، قالت الصحف أن فيلم فلليني الأخير كان كارثة، وانه – كفنان – قد كف عن الوجود. هذا فظيع، لكنها الحقيقة.. فيلمه عديم القيمة.
* كم من الأشياء الرائعة سيكون بمقدورنا ابداعها لو استطعنا أن نتجاهل كليا جميع القوانين والحرائق المسلم بها عموما…….. 9 يونيو 1980.
لقد نسينا كيف نلاحظ. عوضا عن الملاحظة، نحن نمارس الأشياء وفق الانماط.
* إني أفتقد الجميع.. زوجتي، ابنائي، الجميع.. حقا يستحيل على الروسي أن يعيش خارج الوطن.. ليس مع كل ذلك الحنين الروسي………. 21 يونيو 1980.
* موسكو.. اليوم جاء عمال الكهرباء وقطعوا التيار لاننا لم نسدد الفاتورة.
لاويسا تظن انه من الأفضل ان أذهب الى السويد وحدي [ثمة دعوة موجهة من السويد لالقاء محاضرات ولتحقيق فيلم هناك] لكنني أكره الذهاب وحدي. يا الهي. هل يحدث هذا في أي بلد آخر؟ السلطات تمنع رجلا وزوجته عن السفر الى الخارج لتلبية دعوة؟ وهم يعلمون جيدا أنها تعمل مساعدة لي في كل فيلم حققته وتشرف على ادارة أعمالي. انهم خائفون، هؤلاء الأوغاد…….. 31 مارس 1981.
* لست في صحة جيدة. ذلك "التيار" نفسه مرة أخرى.. كما لو أرى الاشياء من خلال تيار مائي. وهذا الصداع الرهيب. نوع من التشنج.. حدث هذا عدة مرات…………. 8 مايو 1981.
* ربما أنا مأخوذ بالحرية. اني أعاني بدنيا عندما أفتقر الى الحرية. الحرية هي أن تكون قادرا على احترام الاحساس. بالنبل والكرامة في ذاتك وفي ذوات الآخرين……. 3 يونيو 1981.
* كيف تستطيع أن تعيش، ما الذي تهدف اليه، ما الذي تتوق اليه.. اذا كنت محاطا بالضغينة والغباء والانانية والتدمير؟………. 8 يوليو 1981.
* تحدثت مع كوستيكوف وأخبرته بأن ابننا لن يسافر معنا. لكن لنا الحق في العودة الى موسكو بين وقت وآخر لرؤية عائلتنا……… 23 يوليو 1981.
* بسبب ما أواصل التفكير في أنتونيوني.. أنه أفضل مخرج في ايطاليا اليوم……….13 أغسطس 1981.
* "أفضل وسيلة ان تتجنب أولئك الذين ليسوا مثلك، والذين تشغلهم رغبات أخرى" [سنيكا]……. 3 سبتمبر 1981.
* كم هو رائع هذا الرجل [المخرج سيرجي باراد جانوف] كم هو حنون وسخي أنا سعيد لأنني أعيش في الزمن الذي يعيشه. انه ليس عبقريا في مجال فنه فحسب، بل عبقري في كل شيء. انه فذ…………. 16 يناير 1982.
* روما. تنأون العشاء عند انتونيوني. انه رجل رائع. متحفظ جدا لكنه لطيف. روحه رقيقا للغاية…………. 31 مارس 1983.
* فيلمي "نوستالجيا" حاز على ثلاث جوائز في مهرجان كان.. من بينها جائزة الاخراج………. 23 مايو 1983.
* روما يوم سيئ. أفكار مريعة. أنا خائف. أشعر أني تائه لا استطيع أن أعيش هنأ ولا في روسيا………. 25 مايو 1983
* استوكهولم. بالأمس خرج الدم مع السعال. اليوم أيضا، لكن بكمية أقل. أفتقد لاريسا كثيرا.. خاصة عندما تكون صحتي سيئة………… 11 نوفمبر 1985.
* استوكهولم. كلما تقدمت في السن ازداد الآخرين غموضا. يبدو أنهم ينزلقون بعيدا عن بصري………….. 11 ديسمبر 1985.
* باريس. آلام شديدة لا تحتمل…………. 5 ديسمبر 1986.
* أشعر بضعف شديد. هل سأموت؟……………. 15 ديسمبر 1986.
لم أعد أملك القدرة على فعل أي شيء.
* [في 29 ديسمبر 1986، توفى تاركوفسكي نتيجة اصابته بالسرطان.. وهو في الرابعة والخمسين.. وذلك بعد أسابيع من سماح السلطات السوفييتية لسفر ابنه الى الخارج].
ترجمة: أمين صالح ( ناقد سينمائي وقاص من البحرين)