ما هو التهكم ؟
في القسم الرابع من «كتاب الضحك والنسيان »، تكون «تامينا» بطلة الرواية بحاجة لصديقتها "بيبي". وهى خطاطة شابة. ولكي تحصل على مردتها، تنظم لها بطلب منها لقاء مع كاتب من الاقاليم يدعى "باناكا". ويفسر كاتب الاقاليم هذا للخطاطة كيف أن الكتاب الحقيقيين اعرضوا اليوم عن فن الرواية البالي: " تعلمين ان الرواية هي ثمرة وهم بشري. وهم القدرة على فهم الاخرىن. لكن ماذا نعرف عن بعضنا البعض ؟ […].كل ما نستطيع أن نفعله هو ان نقدم تقريرا حول ذواتنا[…]. كل ما تبقى كذب في كذب ". ويقول صديق لباناكا وهو استاذ في الفلسفة: "منذ جيس جريس نحن نعلم جيدا ان اكبر مغامرة في حياتنا هي غياب المغامرة […] ان اوديسة هوميروس انتقلت الى الداخل. لقد اصبحت شأنا داخليا،. بعد مرور بعض الوقت على ظهور الكتاب، عثرت على هذه الكلمات في مستهل رواية فرنسية. وقد أفرحني هذا كثيرا، بل وجعلني شديد الاعجاب بنفسي. وفي الوقت ذاته أشعرني بالحرج ذلك أني اعتبر أن ما يقوله باناكا وصديقه ليس غير حماقات مصطنعة. في تلك الفترة، فترة السبعينات، كنت أسمع مثل هذه الحماقات في أماكن عديدة وهي عادة ما تكون ثمرة ثرثرة جامعية تعتمد على تراث البنيوية أو علم النفس الفرويدي.
عقب صدور هذا القسم من «كتاب الضحك والنسيان» في تشيكوسلوفاكيا في طبعة خاصة (أول طبعة لنصوصي بعد مضي عشرين عاما على منعها من قبل الرقابة) بعث لي الى باريس بمقال صحفي: كان الناقد معجبا بي. وكحجة على ذكائه، استشهد بهذه الكلمات التي اعتبرها جد مهمة: "منذ جيس جريس نحن نعلم جيدا ان أكبر مغامرة هي غياب المغامرة " الخ.. الخ وقد شعرت بفرح ماكر وأنا أرى نفسي أعود إلى وطني الأم على ظهر حمار سوء التفاهم.
ان سوء التفاهم أمر مفهوم: انا لم أحاول أن أسخر من باناكا وصديقه الأستاذ. ولم أبد أي تحفظ تجاههما. بالعكس أنا حاولت قدر المستطاع ان اخفي ذلك راغبا في أن أمنح آراءهما أناقة الخطاب الثقافي الذي كان كل الناس في ذلك الوقت يحترمونه ويقلدونه بحماس وحمية. ولو حاولت أن أجعل كلامهما مضحكا، وذلك من خلال ابراز نواحي المبالغة والمغالاة فيه، لكنت قد قمت بما يسمى فن الهجاء. ان فن الهجاء هو فن يدافع عن قضية. وواثق في حقيقته، هو يسخرهن كل ما يقرر مقاومته. ان علاقة الروائي الحقيقي بشخوصه ليست أبدا علاقة تتغذى من فن الهجاء. إنه تهكمي. لكن كيف يمكن للتهكم الذي هو فن محتشم وكتوم بالأساس، ان يعلن عن نفسه ؟ إنه يفعل ذلك من خلال محتوى النص: إن أقوال باناكا وصديقه موجودة داخل فضاء من الحركات والأفعال والكلمات التي تقلل من شأنها. ان العالم البرونفنسيالي الذي يحيط بتامينا يتميز بأنانية بريئة ؛ كل واحد يشعر تجاهها بود نزيه، ومع ذلك لا يحاول أي احد أن يفهم ما تريد ان تقول، وحين يقول باناكا ان فن الرواية هو فن بال لان فهم الاخرىن وهم، فإنه لا يعبر فقط عن موقف جمالي رائج رواجا هائلا، ولكن لكي يكشف دون علم منه عن بؤسه وبؤس الوسط الذي يعيش فيه: عدم الرغبة في فهم الآخر. عمى اناني تجاه العالم الواقعي.
إن التهكم يعني ما يلي: لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تؤخذ الاثباتات في رواية ما معزولة عن بقية الإثباتات الأخرى، ذلك ان كل اثبات يوجد في حالة مواجهة معقدة ومتناقضة مع الاثباتات وأوضاع وحركات وأفكار واحداث أخرى. وحدها القراءة المتأنية، المكررة مرتين أو العديد من المرات يمكن ان تستخرج كل العلاقات التهكمية داخل الرواية والتي من دونها تظل الرواية غير مفهومة.
سلوك جوزف ك الغريب عند الايقاف.
يستيقط ك. في الصباح. ومن فراشه يضرب الناقوس لكي يؤتى له بفطور الصباح. ومكان الخادمة يأتي مجهولون، رجال عاديون، يلبسون لباسا عاديا غير أنهم يتصرفون في الحين بكثير من السلافة حتى أن ك. يستشعر في الحين قوتهم وسلطتهم، ورغم احساسه بأنهم داسوا على كرامته وعلى حويته، فانه لا يجد القدرة على طردهم. بل هو يسألهم بلطف شديد: "ما أنتم ؟".
منذ البداية، نعاين ان سلوك ك. يتأرجح بين ضعفه الذي يجعله مستعدا للانحناء أمام صلافة الدخلاء (لقد قدموا ليعلموه بأنه موقوف) وبين خوفه من ان يبدو مضحكا. هو يقول مثلا وبحزم: "أنا لا أريد أن أبقى هنا أولا أن اكلمكم قبل ان تقدموا انفسكم ".
يكفي ان نعزل هذه الكلمات من علاقاتها التهكمية، وان نقرأها كما هي (تماما مثلما قرأ ذلك الناقد كلمات باناكا) لكي يصبح ك. بالنسبة لنا (تماما مثلما كان بالنسبة لأورسن والس الذي حول المحاكمة إلى فيلم سينمائي) رجلا يتمرد على العنف. ومع ذلك، علينا ان نقرأ النص بانتباه شديد لكي نعاين ان هذا الرجل الذي زعم انه متمرد يواصل اطاعة الدخلاء الذين لا يكتفون برفض تقديم انفسهم، بل يلتهمون فطوره، ويفرضون عليه أن يظل واقفا بثياب النوم طوال هذا الوقت. في نهاية مشهد الاذلال العجيب هذا (هو يمد يده غير انهم يرفضون لمسها) يقول واحد من الدخلاء لـ "ك ": "اعتقد أنك تنوي الذهاب إلى مصرفك ؟ – إلى مصرفي ؟ يقول ك: لقد تصورت اني موقوف:".
ها هو من جديد الرجل الذي يتمرد ضد العنف. انه متهكم ! انه يستفز! تماما مثلما يبرز ذلك التعليق التالي لكافكا: "وضع ك ,،في سؤاله نوعا من التحدي، ذلك انه حتى وان رفضوا الشد على يده. فانه بدأ يشعر منذ ان نهض الحارس بانه اصبح شيئا فشيئا مستقلا عن كل هؤلاء الناس. انه يلعب معهم. وكان في نيته في حالة إذا ما ذهبوا ان يجري وراءهم حتى مدخل العمارة وأن يطلب منهم ايقافه ".
ها تهكم جد حاذق: ان ك يستسلم ويرضخ وفي الوقت ذاته هو يسعى الى أن يرى نفسه شخصا قويا«يلعب معهم »، ويسخر منهم، محاولا ان يتظاهر بشىء من الهزء، بعدم اخذ ايقافه سأخذ الجد. انه يستسلم لكنه يقوم في الحين بتعليل استسلامه بطريقة تساعده على المحافظة على كرامته تجاه نفسه.
في البداية قرأنا كافكا، وعلى وجوهنا مسحة مأساوية. بعدها علمنا ان كافكا بعد ان قرأ النص الاول في «المحاكمة » لجمع من أصدقائه، ضحك هؤلاء كثيرا. وعندئذ بدأنا نحن ايضا نرغم انفسنا على الضحك لكن دون أن نعرف سبب ذلك. وبالفعل ما هو الشيء المضحك في هذا الفصل ؟ سلوك ك ؟ لكن ما هو المضحك في هذا السلوك ؟ ان هذا السؤال يذكرني بالسنوات التي امضيتها في كلية السينما ببراغ. أنا وصديق لي. كنا خلال اجتماعات الاساتذة، ننظر بود ماكر الى واحد من زملائنا وهو كاتب في الخمسين من عمره، رجل حاذق مستقيم غير أننا كنا نشتبه في انه يتميز بجبن هائل لا يمكن قهره أبدا. وقد تخيلنا وضعا كالتالي غير اننا لم نستطع ويا للاسف، أن ننجزه: واحد منا، يطلب منه بغتة ونحن داخل الاجتماع: "اجث على ركبتيك !" وهو لا يفهم في البداية، ولا يدرك مقصدنا. وتحديدا، وسط جبنه الجلي، هو يفهم كل ذلك في الحين غير انه يعتقد انه بامكانه أن يربح قليلا من الوقت حين يتظاهر بانه لم يفهم. وعندئذ نكون نحن مجبرين على ان نصرخ فيه مرة أخرى: "أجث على ركبتيك !". وفي هذه اللحظة هو لن يستطيع ان يتظاهر بانه لم يفهم. وها هو على استعداد لتنفيذ الامر وليس أمامه غير مشكل واحد: كيف له أن يفعل ذلك ؟ كيف له ان يجثوا على ركبتيه: أمام أنظار زملائه دون أن يصاب بالاذلال. وييأس، يبحث عن جملة مضحكة يقولها عندما يجثوا على ركبتيه: "هل تسمحوا لي يا زملائي الاعزاء أن أضع وسادة تحت ركبتي!".
– "اجث على ركبتيك ولا تتكلم !"
وها هو ينفذ الأمر عاقدا يديه، محنيا رأسه قليلا باتجاه اليسار: "أيها الزملاء الاعزاء.. إذا ما انتم درستم الفن في عصر النهضة، فإنه بامكانكم أن تتبينوا ان رفائيل رسم فرانسوا داسيس بهذا الشكل تماما.
كل يوم نتخيل ألوانا من هذا المشهد البهيج، مكتشفين ومبتدعين جملا وتعابير أخرى يحاول من خلالها زميلنا الحفاظ على شرفه.
المحاكمة الثانية لجوزف ك:
على عكس اورسن والس، كان المفسرون الاوائل بعيدين كل البعد عن اعتبارك. مجرد رجل برىء يتمرد ضد التسلط. بالنسبة لماكس برود، يعتبر جوزف ك. مذنبا ولا يمكن الشك في ذلك. ماذا فعل ؟ يعتقد ماكس برود في كتابه: "اليأس والخلاص في أعمال فران كافكا – 1959" ان جوزف ك. مذنب لعدم قدرته على الحب " Lieblosigkeit " ان جوزيف ك. لا يحب أحدا. أنه يداعب ويغازل فقط. لذا وجب ان يموت. (لنحتفظ في ذاكرتنا والى الابد بالحماقة العظيمة لهذه الجملة). وفي الحين يقدم برود حجتين على عدم المقدرة على الحب: حسب فصل غير مكتمل حذف من الرواية، لم يقم جوزف ك. بزيارة امه منذ ثلاث سنوات. وهو يكتفي فقط بارسال حوالات بريدية لها، ويسأل عن احوال صحتها عند ابن عم له. (يا لتشابه الغريب: مار سولت في "الغريب " لكامو يتهم هو أيضا بانه لا يحب امه) اما الحجة الثانية فهي علاقته بالآنسة "بورستنار". وهي علاقة يصفها برود بانها "جنسية من النوع المنحط ". ذلك ان جوزف ك. بسبب انشغاله بالملاذ الجنسية، لم يعد يعتبر المرأة كائنا بشريا.
أما ادوارد جولد ستوكر، الاختصاصي التشيكي في ب.كافكا، فقد أدان بقسوة ك. وذلك في المقدمة التي خصصها لطبعة "المحاكمة " التي صدرت في براغ عام 1964، رغم ان مستنداته في ذلك لم تكن لاهوتية كما هو الحال عند ماكس برود، بل اجتماعية ماركسية: «ان جوزف ك. مذنب لانه سمح لحياته ان تكون مستلبة، وراضخة رضوفا تاما للايقاع التافه للمياة الاجتماعية، وقابلة ان تمتنع عن كل ما هو انساني. وهكذا نرى ان جوزف ك. عارض القانون الذي ترضخ له الانسانية بأسرها حسب كافكا نفسه الذي يقول: "كن انسانيا". وبعد ان كان ضحية لمحاكمة ستالينية اتهم خلالها بجرائم خيالية، أمضى جولد ستوكر خلال الخمسينات اربع سنوات سجنا. وانا اتساءل: كيف سمح جولد ستوكر لنفسه -هو الذي كان نفسه ضحية لمحاكمة ظالمة – ان يحاكم متهما آخر اقل منه ذنبا؟.
وحسب الكسندر خيالات في كتابه: "التاريخ السري للمحاكمة – 1947" فان المحاكمة في رواية كافكا هي ذات المحاكمة التي يقيمها كافكا ضد نفسه. وك. ليس سوى هو نفسه: لقد ألغى كافكا خطوبته مع فيليس. وجاء أبوها "الى مالمو" خصيصا لمعاقبة المتهم. وكانت الغرفة في فندق "اسكاين " حيث حصل هذا الحادث (يوليو / تموز 1914) تشبه بالنسبة لكافكا قاعة محكمة […]. بعد ذلك بقليل شرع كافكا في كتابة "المحاكمة " و"اصلاحية الأحداث ". نحن نجهل جريمة ك. والاخلاق العامة تبرؤها. ومع ذلك فان براءته "شيطانية " […]. لقد ارتكب ك مخالفة بطريقة غامضة تجاه قوانين عادلة غامضة لا علاقة لها بعدالتنا نحن على الاطلاق […]. ان الحاكم هو الدكتور كافكا، والمتهم هو الدكتور كافكا أيضا. وهو يترافع على اساس الاعتراف بجريمة «البراءة الشيطانية ».
خلال المحاكمة الأولى (تلك التي يرويها كافكا في روايته) تتهم المحكمة ك دون ان تقدم أي دليل على الجريمة. والمختصون في أدب كافكا لا يتعجبون بالمرة من ان يتهم احدهم دون أن نعرف سبب ذلك ولا يسارعون للتمعن في الحكمة ولا لتثمين هذا الجمال زي الابتكار الخارق. وعوض هذا، هم يلعبون دور النائب العام في محاكمة جديدة يقيمونها هم أنفسهم ضد ك. ساعين هذه المرة إلى تشخيص دقيق للخطأ الذي ارتكبه المتهم: أنه ليس باستطاعته أن يحب!. ان جولد ستوكر يقر ان حياة ك. تحولت إلى حياة ميكانيكية لا معنى لها، اما خيالات فيلجأ إلى الغاء كافكا لخطوبته من فيليس ! ومع ذلك علينا ان نعترف لهما بهذا المزية: ان محاكمتهما لـ"ك ". هي ايضا كافكاوية تماما مثل "محاكمة " كافكا. واذا ما كان كافكا في المحاكمة الأولى متهما دون ذنب، فانه يصبح في المحاكمة الثانية متهما بأي شيء. لذا يمكن القول ان الوضع لم يتغير بالنسبة اليه ذلك ان ك. في كلتا الحالتين مذنب ليس لانه ارتكب خطأ ولكن لانه كان متهما. ولانه متهم، فانه يجب ان يموت.
ليس هناك غير طريقة واحدة لفهم روايات كافكا وهي ان نقرأها كما نقرأ روايات. وعوض ان نبحث في شخصية ك عن صورة للمؤلف او نحاول العثور في كلمات ك عن مغزى معين، علينا بالأحرى ان نتابع باهتمام شديد سلوك الشخصيات، وأقوالهم، وأفكارهم، ونسعي الى ان نتخيلهم أمام عيني كافكا[…].
كم من وقت نحن نحتاج لكي يكون الانسان
متطابقا مع ذاته:
إن هوية شخصيات دستويفسكي تكمن في ايديولوجيتهم الشخصية التي تحدد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة سلوكهم الشخصي، فكيرولوف مثلا يجد نفسه غارقا في فلسفة الانتحار الذي يعتبره الرمز الأعلى للحرية. كيرولوف اذن فكرة اصبحت انسانا. ولكن هل ان الانسان في الحياة العادية هو اسقاط جد مباشر لايديولوجيته الشخصية ؟" في رواية "الحرب والسلم "، تمتلك شخصيات تولستوي هي أيضا (خصوصا بيار بيزوكوف واندريه بولكونسكي) ثقافة جد غنية، وجد متطورة، بيد أن هذه الثقافة متغيرة حد انه يستحيل علينا تحديدها انطلاقا من أفكار هذه الشخصيات الذين يتغيرون هم ايضا في كل مرحلة من مراحل حياتهم. ان تولستوي يقدم لنا مفهوما آخر للانسان: أنه طريق. طريق متعرج، رحلة لا تختلف مراحلها وأطوارها فقط، بل انها عادة ما تتناقض وتتعارض تعارضا تاما…
قلت "طريق " وهذه الكلمة توشك ان تضللنا ذلك ان صورة الطريق توحي بأن هناك هدفا ما. لكن الى أي هدف تؤدي هذه الطرقات التي لا تنتهي إلا فجأة، بعد ان يوقفها الموت أو الصدفة ؟ صحيح أن بياربيزوكوف يصل أخيرا إلى الموقف الذي يبدو أنه الموقف النهائي والمثالي: هو يعتقد عندئذ أنه أدرك اخيرا انه ليس مجد مواصلة البحث في معنى للحياة، والنضال من اجل هذه القضية أو تلك. انه الله في كل مكان، في كل الحياة، في حياة كل يوم، وما علينا إلا أن نعيش ما هو مقدر لنا أن نعيشه وأن نعيشه بحب. لذا هو يعود فرحا ليربط صلته بزوجته وعائلته بشكل أعمق وأقوى من ذي قبل. هل هذا هو الهدف ؟ الهدف الذي بسببه تصبح كل مراحل الرحلة السابقة مجرد مدارج ؟ واذا ما كانت الحالة على هذه الصورة، فان رواية تولستوي تفقد تهكمها الأساسي لتقترب أكثر من الدرس الاخلاقي الذي يأخذ شكل الرواية. في خاتمة الرواية التي تلخص ما حدث بعد مرور ثماني سنوات على ذلك ! نرى بيزوكوف يغادر بيته وزوجته لمدة شهر ونصف الشهر لكي يقوم في بطرسبورج بنشاط سياسي شبه سري. مرة أخرى هو يجد نفسه مستعدا للبحث عن معنى لحياته، وان يناضل من جديد من اجل قضية معينة. الطرقات لا تنتهي ولا نعرف لها هدفا..
يمكن القول ان مختلف مراحل الطريق تتواجد في مواجهة بعضها بعضا، ضمن علاقة تهكمية، في مملكة التهكم تسود المساواة وهذا يعني ان كل مرحلة من مراحل الطريق ليست اخلاقيا اكثر سموا من الاخرى. هل كان بولكونسكي يريد، حين بدأ يعمل من أجل ان يكون مفيدا لوطنه، ان يصلح الخطأ الذي ارتكبه بسبب كرهه السابق للمجتمع، وبغضه للناس ؟ لا. ليس هناك نقد ذاتي. في كل مرحلة من مراحل الطريق هو يستجمع كل قواه الفكرية والاخلاقية لكي يختار موقفه وهو يعلم ذلك جيدا. كيف له اذن ان يلوم نفسه لانه لم يكن ما كان يريد ان يكون؟ ولاننا لا نستطيع ان نحكم عل مختلف اطوار حياته من الزاوية الاخلاقية، فاننا لا نستطيع ايضا ان نحكم عليها من وجهة نظر الاصالة: من المستحيل ان نقرر من هو بولكونسكي الذي كان اكبر وفاء لنفسه: بولكونسكي الذي انسلخ عن الحياة العامة أو ذلك الذي انخرط فيها بشكل كامل.
واذا ما كانت مختلف المراحل جد متناقضة، فكيف لنا اذن ان نحدد القاسم المشترك بينها؟ أين المصدر المشترك الذي يسمح لنا بأن نرى بيزو كوف الملحد وبيزو كوف المؤمن شخصا واحدا؟ أين يوجد المصدر القار لـ«الانا»؟ وما هي المسؤولية الاخلاقية لبيزوكوف رقم 1 وبيزوكوف رقم 2؟هل على بيزوكوف المعادي لنابليون ان يتحمل تبعات أفعال بيزوكوف الذي كان قديما شديد الانبهارية ؟ ما هو الفاصل الزمني الذي بامكاننا ان نرى فيه الانسان متطابقا مع ذاته ؟
وحدها الرواية قادرة ان تتقصى هذا اللغز الذي هو واحد من اكبر الالغاز التي عرفها الانسان. ومن المحتمل ان يكون تولستوي هو الأول الذي فعل ذلك..
مكيدة تفاصيل:
ان تحولات شخصيات تولستوي تبدو لا كما لوانها ناتجة عن تطور طويل ولكن كاضاءة فجئية. يتحول بياربيزوكوف من ملحد إلى مؤمن بسهولة مدهشة. يكفي ان يزعزعه الانفصال عن زوجته وان يلتقي مسافرا ماسونيا في احدى المحطات لكي يفعل ذلك. ان هذه السهولة ليست ناتجة عن تقلب سطحي. انها تتركنا بالاحري نحزر ان التحول اعد بسبب تطور داخلي، غير واع، ثم انفجر فجأة في واضحة النهار.
اندريه بولكونسكي الذي جرح جرحا بليغا في معركة "اوسترلتز" هو الان يستيقظ ويعود الى الحياة. وفي هذه اللحظة بالذات ينهار كل عالمه عالم الشاب اللامع. ولا يحدث هذا بسبب تفكير منطقي، لكن بسبب مجرد مواجهة مع الموت ونظرة طويلة تجاه السماء. هذه التفاصيل «نظرة طويلة الى السماء» هي التي تلعب دورا كبيرا في اللحظات الحاسمة التي تعيشها شخصيات تولستوي..
بعد ذلك، منبثقا من شكه العميق، يعود اندريه الى الحياة العملية. هذا التحول كان مسبوقا بنقاش طويل مع بيار على عبارة تقطع نهرا. كان بيار في ذلك الوقت (كان ذلك هو الطور المؤقت في تطوره) ايجابيا، متفائلا، محبا للناس، لذا هو عارض بشدة شك اندريه المعادي للناس. ولكن، خلال النقاش، يبدو بيار بالاحري ساذجا لا يتلفظ إلا بالكليشيهات الفارغة. اما اندريه فقد لمع ثقافيا. والاهم من كلام بيار هو الصمت الذي اعقب النقاش: "حين غادر العبارة، ورفع رأسه الى السماء التي اشار اليها بيار، ولأول مرة منذ "اوسترلتز، شاهد هذه السماء الابدية العميقة التي تأملها وهو فوق حقل المعركة. وفي اعماق روحه، كان ذلك بمثابة تجدد الفرح والحنان ". ان هذا الشعور كان قصيرا، وقد تلاشى بسرعة غير أن اندريه كان يعلم أن هذا الشعور الذي لم يعرف كيف يطوره، كان يعيش في داخله. وذات يوم، وبعد ان مر على ذلك وقت طويل، وكما باليه من الشرارات، اشعلت مكيدة التفاصيل (نظرة الى ورق شجرة بلوط، كلمات مزحة لصبايا سمعت صدفة، ذكريات غير منتظرة) هذا الشعور (الذي «يعيش في داخله »)، وجعله يلتهب. وفجأة، يقرر اندريه الذي كان بالامس سعيدا في عزلته عن العالم «ان يمضي في الخريف الى بطرسبورج، وان يحاول حتى العثور على وظيفة […]. ويداه خلف ظهره، ظل يذرع الغرفة جيئة وذهابا، عاقدا حاجبيه مرة، ومرة مبتسما، مستعرضا في فكره كل هذه الأفكار غير المنطقية، المتعذر التعبير عنها، والسرية مثل الجريمة حيث يختلط بطريقة غريبة، بيار والمجد والصبية الصغيرة في النافذة، وشجرة البلوط،والجمال، والحب، والتي غيرت حياته جذريا. وفي هذه اللحظات، حين يدخل، أحد ما، فانه سيظهر جافا، قاسيا، قاطعا، سيئا ومنطقيا […]. ويبدو انه اراد من خلال هذا المنطق المبالغ فيه ان ينتقم من شخص ما بسبب كل هذا العمل اللامنطقي والسري الذي يتم في داخله». (لنتذكر ان مكيدة تفاصيل مثل بشاعة وجوه، وكلمات سمعت بالصدفة في عربة قطار، وذكرى مباغتة هي التي تولد، في رواية قادمة لتولستوي، قرار اناكارينين بالانتحار).
هناك تحول كبير اخر للعالم الداخلي لاندريه بولكونسكي: مجروحا جرحا بليغا في معركة بورودينو، مهددا على طاولة عمليات في المعسكر، هو يعتلا فجاءة بشعور غريب هو مزيج من السلام والمصالحة مع الذات، بشعور بالسعادة لن يفارقا بعد ذلك مطلقا. بقدر ما نجد ان حالة السعادة هذه جميلة وغريبة، بقدر ما نحن نجد أيضا ان المشهد كان مرعبا، ومليئا بتفاصيل دقيقة بدرجة فظيعة حول الجراحة في زمن لم يكن فيه التبنيج معروفا. والشيء الاشد غرابة في هذه الحالة الغريبة حدث بسبب ذكرى غير منطقية وغير منطقية بالمرة: حين ينزع المرض عنه ثيابه، "يتذكر اندريه الايام البعيدة في طفولته الأولى ". وبعيدا نقرا الجمل التالية: «بعد كل هذه الآلام، شعر اندريه بهناء لم يشعر به منذ امد طويل. ان افضل اللحظات في حياته هي تلك التي كانوا يقومون فيها بنزع ثيابه عندما كان طفلا، ثم يمددونه على السرير، وتفني له الحاضنة تهويدة بينما هو محشو الرأس في الوسادة، يستمتع بالفرح لانه يعيش كل هذه اللحظات، تبرز في مخيلته ليس كماض، لكن كواقع ». بعد ذلك فقط، يشاهد اندريه على طاولة قريبة، غريمه الذي تمكن من إغواء ناتاشا، المدعو اناتول، والذي كان الطبيب يقطع له ساقه: «جريحا، ينظر اندريه الى غريمه ذي الساق المقطوعة. وهذا المشهد يملاه بشفقة كبيرة تجاه نفسه وتجاه الانسان بصفة عامة ». غير ان تولستوي كان يعلم ان هذه الكشوفات الفجئية ليست مستندة الى اسباب واضحة ومنطقية وكانت الصورة الغريبة والعابرة (ذكرى طفولته وهم ينزعون عنه ثيابه مثلما كان يفعل له الممرض قبل اجراء العملية الجراحية) هي التي ولدت كل شي ء، تحوله الجديد ونظرته الجديدة للاشياه. وبعد مرور لحظات على ذلك، لابد ان يكون اندريه قد نسي تماما هذا التفصيل الخارق تماما مثلما نساه جل القراء الذين يقرأون الروايات بنفس الطريقة السطحية الخالية من الانتباه التي يقرأون بها حياتهم.
وهناك تحول آخر عند بيار بيزوكوف هذه المرة، الذي يتخذ قرارا بقتل نابليون. وهذا القرار كان مسبوقا بواقعة: هو يعلم من خلال اصدقائه الماسونيين انه ورد في الفصل الثالث عشر من سفر الرؤيا ان نابليون يتطابق مع صورة المسيح الدجال: "من له فهم فليحسب عدد الوحش فانه عدد انسان. وعدده ستمائة وستة وستون ". واذا ما نحن ترجمنا الالفباء الفرنسية الى ارقام، فان اسم «الامبراطور نابليون » يعطي رقم 666 " هذه النبوءة رجت بيار. وغالبا ما كان يتساءل عن ذلك الشىء الذي يمكن ان يضع حدا لقوة الوحش، أي نابليون بمعنى آخر" واعتمادا على العدد المذكور، يبذل بيار جهدا كبيرا للعثور على جواب على السؤال. وهو يحاول في البداية ان يتوصل من خلال العمليات التي كان يقوم بها الى ان يبين ان الوحش يمكن ان يكون الامبراطور الكسندر ثم الامة الروسية غير ان مجمل هذا كان اما اكبر من الرقم 666 او اقل منه، ويوما ما جاءته الفكرة بان يكتب اسمه الخاص: كونت بيار بيزوهوف غير انه لم يتوصل الى الرقم المطلوب. وضع حرف "ز" مكان حرف «س »، واضاف «دي» و«لو» غير ان النتيجة ظلت سلبية. وعندئذ ارتأى انه من الضروري أن يضيف جنسيته اذا ما كان الجواب على السؤال يكمن في اسمه حقا. وهكذا كتب: الروسي. بيزوهوف. غير ان هذه الاضافة اعطت رقم 671 فقط حين حذف حرف "و" من "لو" توصل الى رقم 669. وهذا الاكتشاف بلبل أفكاره كثيرا.
ان هذه الطريقة الدقيقة التي وصف بها تولستوي كل هذه التغييرات التي قام بها بيار بخصوص اسمه للتوصل الى رقم 666 هي بالفعل مضحكة الى ابعد حد. هل يمكن ان تكون القرارات الشجاعة والخطيرة لرجل ذكي بلا ريب خاضعة لمثل هذه الحماقات ؟.
وماذا فكرتم حول الانسان ؟ وماذا فكرتم حول انفسكم ؟
تغير الرأي لضبط ما يحدده الزمن:
ذات يوم، قالت لي امرأة ووجهها مشرق بالفرح "لم تعد هناك لينينجراد! سنعود مرة أخرى الى بطرسبورج !". ان تغيير اسماء المدن والشوارع لا يعنيني كثيرا. وكنت على وشك ان اقول للمرأة هذا، غير اني احجمت عن ذلك في اللحظة الاخيرة، في نظرتها المبهورة بسير التاريخ الفاتن، حزرت مسبقا خلافا ولم تكن لي رغبة في خصومة. كما اني في الوقت نفسه تذكرت واقعة من الاكيد انها نستها. هذه المرأة نفسها كانت قد زارتنا (أنا وزوجتي) في براغ بعد الغزو الروسي، وتحديدا بين عامي 1970و1971أي عندما كنا في أردأ فترة الاقصاء والالغاء. من جانبها، كانت تلك الزيارة موقف مساندة أردنا ان ندفع لها ثمنه وذلك من خلال تسليتها. ولقد روت لها زوجتي قصة مسلية (في الآن ذاته كانت قصة تنبئية) عن ثري أمريكي نزل في احد فنادق موسكو. وقد سئل هذا الثري الامريكي اذا ما كان قد ادى زيارة الى ضريح لينين. واجاب هو: "لقد أتي لي بالضريح حتى الفندق مقابل عشرة دولارات". وعندئذ انكمش وجه ضيفتنا. ولانها من اليسار (وهي دائما كذلك) فانها كانت ترى ان الغزو الروسي لتشيكوسلوفاكيا يمثل خيانة للمبادىء والمثل التي كانت تعتبر غالية بالنسبة اليها، ولذا هي ترى انها لا يمكن ان تقبل ان يقوم الضحايا الذين جاءت لمعاضدتهم بالتهكم في هذه المثل والمبادىء المغدورة: "لم اجد هذا مسليا قالت ببرود. ووحده وضعنا كمضطهدين وقانة من القطيعة.
بامكاني أن أروي حكايات كثيرة من هذا الصنف. ان تغير الآراء هذه لا يتعلق فقط بالسياسة، ولكن بجميع الطبائع والسلوكيات بصفة عامة. ان الحركة النسوية عرفت فترة صعود ثم فترة هبوط. وتيار "الرواية الجديدة " في فرنسا عرف المجد ثم الاهمال. وكنست حركات الاباحية الجنسية الطهرية الثورية. واعتبرت "أوروبا الموحدة " فكرة رجعية واستعمارية من قبل أولئك الذين دافعوا عنها في ما بعد بحماس شديد زاعمين انها مشروع عظيم للرقي والازدهار. هل يتذكر جميع هؤلاء مواقفهم السابقة ؟ هل يحتفظون في ذاكرتهم بتاريخ تحولاتهم ؟ انا لا اطرح هذه الاسئلة لاني اشعر بالسخط تجاه من يغيرون آراءهم. لقد اصبح بيزوكوف المعجب القديم بنابليون، قاتله المحتمل، ومع ذلك هو دائما بالنسبة لي شخص لطيف في كلتا الحالتين. أو ليس من حق امرأة كانت تقدس لينين عام 1971 ان تفرح عام 1991 بعد ان استعادت لينينجراد اسمها القديم واصبحت بطرسبورج ؟ مع ذلك انا أرى ان تحولها يختلف عن تحول بيزوكوف.
فقط حين يتغير عالمهما الداخلي، تتأكد فردية كل من بيزوكوف وبولكونسكي. ان يفاجئا، ان يظهرا بشكل مختلف. ان يلتهب شعورهما بالحرية، ومعه الشعور بهوية ذاتيهما… كل هذا يمكن ان ننظر اليه كما لو أنه لحظة شعرية: انهما يعيشان حياتهما بكثير من الانفعال والقوة حتى ان العالم بأسره يهرع للقائهما مصحوبا بموكب من التفاصيل البديعة. عند تولستوي، بقدر ما يكون الانسان نفسه، بقدر ما يكون قادرا على ان يمتلك القوة والخيال والذكاء لكي يتغير ويتحول.
مقابل هذا أرى ان الذين يغيرون موقفهم من لينين، ومن اوروبا ومن قضايا أخرى، يكشفون عن فقدانهم لذواتهم. ان هذا التحول ليس من ابتكارهم، ولا من اكتشافهم، وهو ليس نزوة عابرة، ولا جنونا، ولا فكرة مفاجئة. انه خال من الشعر. انه ليس إلا ضبطا نثريا لمتغيرات التاريخ. لذا هم لا ينتبهون إلى ذلك. وفي آخر المطاف، هم يظلون على صورتهم السابقة. ودائما على حق معتقدين ان عليهم ان يفكروا نظرا لانهم ينتمون الى أوساط المثقفين. انهم يتغيرون ليس ليتقربوا من جوهر ذواتهم لكن لكي يمتزجوا بالاخرىن ويذوبوا فيهم ذوبانا تاما. أن التحول يسمح لهم بالا يتحولون.
يمكنني ان اعبر عن هذا بطريقة اخري: هم يغيرون افكارهم اعتبارا للمحكمة اللامرئية التي هي نفسها بصدد تغيير أفكارها. ان تغيرهم ليس اذن غير رهان جديد على ما سوف تقرره المحكمة في اليوم التالي. افكر في شبابي في تشيكوسلوفاكيا. طالقين من الافتنان الشيوعي الأول، كنا نحس أن كل خطوة صغيرة ضد الخطاب الرسمي كما لو أنها فعل شجاع. كنا نحتج على ملاحقة المتدينين، وندافع عن الفن الحديث الممنوع، ونقاوم حماقة الدعاية الرسمية، وننتقد انعدام استقلا ليتنا تجد« روسيا… الخ.. وعندما كنا نقوم بذلك، كنا نعرض أنفسنا لبعض المخاطر ليست جسيمة.. غير ان المخاطر (الصغيرة) كانت كنافية لكي تمنحنا ارتياحا نفسيا واخلاقيا رائعا. ويوما ما، جاءتني فكرة فظيعة: هل هذا التمرد ناتج عن حرية داخلية، وعن شجاعة يمتلكها الفرد أم هو ناتج عن رغبة في ارضاء المحكمة الأخرى التي في الظل، تعد التهم القادمة.
نوافذ:
ليس بامكاننا ان نذهب ابعد من كافكا في "المحاكمة ". لقد ابتكر الصورة الشعرية القسوى للعالم غير الشعري بامتياز. ان "العالم غير الشعري بامتياز" يعني بالنسبة لي العالم الخالي من أي حرية فردية، ومن اصالة الفرد، عالم حيث الإنسان ليس سوى وسيلة في يدي قوى غير بشرية: البيروقراطية، التقنية، التاريخ. اما "الصورة الشعرية القسوى" فتعني تغيير جوهر العالم غير الشعري وطبيعته. وقد استطاع كافكا ان يعيد تركيب هذا العالم بفضل خياله الشعري الجبار.
إن ك. يجد نفسه مشغولا تمام الانشغال بالمحاكمة التي فرضت عليه حتى انه لا يجد الوقت للتفكير في شىء اخر غير ذلك. ومع ذلك، بامكاننا ان نقول ان هناك نوافذ تنفتح بين الحين والحين داخل هذه الوضعية التي تبدو دون مخرج، وهو لا يستطيع ان يفر من هذه النوافذ. انها تنفتح غير انها سرعان ما تنغلق من جديد ورغم ذلك هو باستطاعته ان يرى خلال ذلك الوقت القصير الشبيه بلمعة برق، شعرية العالم هناك في الخارج، هذه الشعرية التي رغم كل شيء، توجد كوسيلة دائما حاضرة وتلقي داخل حياته، حياة الرجل الملاحق، شعاعا فضيا ص 60
صغيرا.. ان هذه الفتحات القصيرة هي مثلا نظرات ك: هو يصل إلى شارع الحي الذي دعي اليه خلال التحقيق الأول. وقبل ذلك، كان قد ركض ليصل في الوقت المحدد. الآن هو يتوقف. هو واقف في الشارع، وللحظات ينسى المحاكمة وينظر حوله: "كان هناك اناس في كل النوافذ تقريبا، رجال بقمصان بأكمام قصيرة، مرتفقين يدخنون، أو هم يسندون أطفالا إلى النوافذ بحذر وحنان. على نوافذ أخرى كانت ترتفع شراشف وأغطية والخفة ريش يمر فوقها بين الحين والحين رأس امرأة شعثا، الشعر". ثم يدخل ك الباحة. "أغير بعيد عنه، جالسا على صندوق، كان رجل حافي الساقين، يقرأ جريدة. وثمة طفلان يتأرجحان على ناحيتي عربة يدوية. أمام مضخة تقف فتاة هزيلة في قميص النوم تنظر إلى ك. بينما كانت جرتها تمتلىء بالماء".
هذه الجمل تذكرني باوصاف فلوبير: ايجاز، امتلاء بصري، دقة في التفاصيل الخالية تماما من الكليشيهات. وهذه القوة في الوصف تجعلنا نشعر إلى أي درجة كان ك. متعطشا للحرية، وكيف انه كان يشرب العالم بنهم حالما نسي المحاكمة. غير ان فترة الاستراحة قصيرة جدا مع الأسف، وفي اللحظة الموالية، لم يعد باستطاعة ك ان ينظر إلى الفتاة الهزيلة في قميص النوم والتي كانت جرتها تمتلىء بالماء لأن تيار المحاكمة داهمه من جديد. ان الحالات الايروتيكية في الرواية هي ايضا شبيهة بتلك النوافذ التي تنفتح بسرعة.. بسرعة فائقة: ان ك. لا يلتقي إلا نساء على علاقة بطريقة أو بأخرى بمحاكمته. فالآنسة بورستنار مثلا هي جاريته التي تم ايقافه في حجرتها. ويروي لها مضطربا ما حدث، ويتمكن أخيرا حين يصل إلى الباب من أن يقبلها: "امسك بها وقبلها في فمها، ثم على وجهها مثل حيوان ظمآن يرتمي على النبع الذي اكتشفه أخيرا". وأنا هنا اشدد على كلمة "ظمآن " لانها جد معبرة بالنسبة لرجل فقد حياته الطبيعية والذي لا يستطيع ان يتعامل معها إلا من خلال نافذة.
خلال الاستجواب الأول، يشرع ك. في القاء خطاب معين لكنه سرعان ما يرتبك بسبب حادث غريب: في القاعة، كانت هناك زوجة الحاجب، وطالب بشع هزيل استطاع ان يمددها ارضا، وان يواقعها امام هيئة المحكمة. مع هذا اللقاء الذي لا يمكن تصوره، والذي يتم بين احداث متعارضة (الشعر الكافكاوي البديع، الغريب والمستبعد الحدوث)، تنفتح نافذة جديدة على المشهد بعيدا عن المحاكمة، وعلى السوقية الفرحة، وعلى الحرية السوقية الفرحة التي منع منها " ك ".
إن هذه الشاعرية الكافكاوية تذكرني برواية أخرى هي ايضا تروي قصة ايقاف ومحاكمة: 1984 لجورج اورويل. تلك الرواية التي ظلت على مدى سنوات طويلة مرجعا اساسيا للمناهضين للانظمة الشمولية. في هذه الرواية التي تريد أن تكون وصفا مرعبا لمجتمع شمولي خيالي، ليس هناك نوافذ. ونحن هنا لا نشاهد الفتاة الهزيلة التي تملا جرتها بالماء. إن هذه الرواية مغلقة تماما أمام الشعر. هل هي رواية ؟ انها بالاحري فكرة سياسية مقدمة في شكل رواية. ان الفكرة هي بالتأكيد صحيحة وواضحة، غير أنها شوهت بسبب القناع الروائي الذي يجعلها نسبية وتفتقد إلى الدقة. واذا ما عتم الشكل الروائي فكرة اورويل، فهل يمنحها شيئا مقابل ذلك ؟ هل هي تضيء لغز الأوضاع الإنسانية التي لاتستطيع السياسة ولا علم الاجتماع النفاذ اليها؟ لا.. ابدا، ذلك ان الأوضاع والشخصيات جد مسطحة. هل يهدف الشكل الروائي على الأقل إلى تقديم بعض الافكار الطيبة ؟ هذا الجانب مفقود ايضا لأن الافكار التي وضعت في قالب روائي لم تعد تفعل فعلها كما لو انها افكار بل كما لوانها رواية. وفي 1984 هي تعمل عملها كما لو انها رواية رديئة مع كل التأثير السيىء الذي تحدثه رواية رديئة.
ان التأثير السيىء لرواية جورج اورويل يكمن في التقليص الشديد للواقع وذلك بتقليب جانبه السياسي على بقية الجوانب الاخرى. كما يكمن ايضا في تقليص هذا الجانب المشار اليه وذلك بابراز نواحيه السلبية لا غير. وانا ارفض رفضا قاطعا ان أغفر للكاتب هذا التقليص بحجة انه مفيد كوسيلة من وسائل الدعاية في النضال ضد الشر الشمولي. ذلك ان هذا الشر الشمولي. هو تحديدا تقليص الحياة السياسية والسياسة نفسها التي تصبح عندئذ مجرد دعاية للنظام القائم أو للحزب الحاكم. وهكذا يمكن القول أن رواية أورويل رغم نودياها الطيبة تنتسب هي نفسها إلى العقلية الشمولية، عقلية الدعاية. انها تقلص (وتعلم كيف تقلص) حياة مجتمع مقيت وذلك من خلال الاقتصار على ابراز جرائمه فقط.
حين اتكلم مع التشيكيين عقب مرور عام أو عامين على سقوط الشيوعية، أسمع من كلام كل واحد منهم هذه الصيغة التي أصبحت طقسا من الطقوس المقدسة، هذا الاستهلال الاجباري لجميع ذكرياتهم، وأفكارهم: عقب مرور ار بعين عاما على الرعب الشيوعي أو "عقب الاربعين عاما المرعبة "، وبالاخص "اعقب مرور الاربعين عاما التي بددت فيما لا يعني"… انظر إلى محدثي: هم ليسوا مجبرين على الهجرة خارج بلادهم، ولا هم مسجونون، ولا مطرودون من عملهم، ولا هم مقصيون أو مراقبون جميعهم عاشوا حياتهم في بلادهم، في شققهم، يذهبون الى عملهم كل يوم، ويتمتعون بعطلهم، ولهم صداقات، وقصص حب. ومن خلال عبارة "أربعون عاما" هم يقلصون حياتهم مقتصرين في ذلك على إبراز جانبها السياسي لا غير، ولكن هل عاشوا حقا الأربعين عاما كما لو انها كتلة واحدة غير متميزة من الهول والرعب؟ هل نسوا تلك السنوات التي كانوا يشاهدون خلالها أفلام "فورمان " ويقرأون كتب "هرابال " ويذهبون إلى المسارح الصغيرة غير الرسمية، ويروون مئات الطرائف ساخرين من النظام الحاكم ؟ وان هم اقتصروا فقط على ذكر "الاربعين عاما المرعبة " فلأنهم كانوا قد فعلوا بذكرياتهم ما فعله جورج اورويل في روايته السالفة الذكر، أي أنهم اعدموا كل ما يتصل بحياتهم الخاصة، وحقروا من شأن كل ما ليس له علاقة بأهوال النظام الشيوعي… وهكذا أصبحت السنوات الأربعون سنوات ضائعة بالنسبة لهم…
إن " ك "، قادر حتى في أقصى حالات الحرمان من الحرية إن يرى فتاة هزيلة تمتلىء جرتها بالماء ببطء. وقد سبق لي ان قلت إن هذه اللحظات هي بمثابة النوافذ التي تنفتح بسرعة على مشهد يوجد بعيدا عن محاكمة " ك ". أي مشهد؟ اريد ان اوضح الاستعارة: ان النوافذ المفتوحة في رواية كافكا تنفتح على مشاهد تولستوي، أي على ذلك العالم حيث الشخصيات حتى وهي في أقصى حالات الهول والفزع، تحتفظ بحرية القرار الذي يمنح الحياة هذا الارتياح الذي هو مصدر الشعر. إن العالم الشعري جدا لتولستوي هو على طرفي نقيض مع عالم كافكا. ورغم ذلك، وبفضل النوافذ المفتوحة، تماما مثل نسمة حنين، أو ريح خفيفة بالكاد تحس، يلج هذا العالم الشعري حكاية كافكا ويظل موجودا فيها حتى النهاية.
محكمة أو محاكمة:
الفلاسفة الوجوديون يحبون ان يبعثوا معنى فلسفيا في كلمات اللغة اليومية. من الصعب علي ان اتلفظ بكلمات "اقلق " و"ثرثرة " دون أن أفكر في المعنى الذي وهبه أياهما هايدجر. ان الروائيين سبقوا الفلاسفة في هذا المقام. حيث يفحصون اوضاع شخصياتهم، يبتكرون لغة تحتوي احيانا على كلمات تشبه المفاتيح، كلمات يكون لها وقع المفهوم ولها معنى يتجاوز المعنى المحدد لها في القواميس. وهكذا فان "كريبيون الابن " يستعمل كلمة "لحظة " وكأنها "كلمة – مفهوم " للعب الداعر (الفرحة المؤقتة حين تغوى امرأة) ثم هو يتركها لعصره أو لكتاب أخوين وهكذا نجد ان دستويفسكي يتحدث عن "الاذلال " وستندال عن "الابتذال " وبفضل "المحاكمة "، خلف لنا كافكا على الأقل كلمتين لهما وقع المفهوم: المحكمة والمحاكمة. "خلف لنا" يعني انه ترك لنا هاتين الكلمتين تحت تصرفنا حتى نتمكن من استعمالهما، ومن التفكير فيهما، واعادة التفكير فيهما انطلاقا من تجاربنا الخاصة.
إن المحكمة لا تعني المؤسسة القضائية التي تقوم بمعاقبة جميع الذين يجرأون على مخالفة قوانين الدولة. ان المحكمة هي هنا بالمعنى الذي منحه اياها كافكا، أي انها القوة التي تحاكم.
وهي تحاكم لانها قوة. ان قوتها وليس أي شي ء أخر هي التي تمنحها الشرعية. وحين يرى الدخيلين يلجان غرفته، يعاين ك. هذه القوة منذ اللحظة الأولى ويرضخ.
إن المحاكمة التي تقيمها هذه المحكمة هي دائما مطلقة. وهذا يعني: هي لا تتعلق بفعل معزول عن أفعال أخرى، ولا بجريمة محددة (سرقة، اغتصاب، احتيال)، لكنها تتصل بشخصية المتهم (بفتح الهاء) في مجملها: ان ك. يبحث عن خطئه في «الاحداث الاقل قيمة » في حياته كلها. وفي عصرنا هذا، كان بامكان بيزوكوف ان يحاكم بتهمة حبه لنابليون وكراهيته له في نفس الوقت. ويمكن ايضا ان يحاكم ايضا بتهمة السكر ذلك لان المحاكمة مطلقة، وبالتالي هي على صلة بالحياة العامة والحياة الخاصة. ان برود يحكم على ك. بالموت بتهمة انه لا يرى في النساء غير «الجانب الجنسي الاشد وضاعة ». اتذكر المحاكمات السياسية في براغ عام 1951. وفي طبعات وفيرة العدد، وزعت حياة كل متهم من المتهمين. وعندئذ ولأول مرة في حياتي قرأت نصا اباحيا: حكاية عن حفلة اباحية قام اثناءها بعض المتهمين بلحس جسد متهمة كان مغطى بالشوكولاتة ( في زمن الحاجة). في بداية الانهيار التدريجي للنظام الشيوعي، بلغت محاكمة كاول ماركس (محاكمة بلغت أوجها الآن مع تحطيم تماثيله في روسيا وفي اماكن أخرى) حد ان البعض هاجم حياته الشخصية (أول كتاب قرأته ضد ماركس كتاب يروي قصة علاقته الجنسية مع خادمته). في روايتي "الدعابة "، تقوم محكمة مكونة من ثلاثة طلبة بمحاكمة "لودفيك " بسبب جملة كان قد ارسلها لصديقته. وهو يدافع عن نفسه قائلا انه كتب تلك الجملة بسرعة ودون ان يفكر. وعندئذ يقول له الطلبة الثلاثة: "وهكذا بامكاننا على الاقل ان نعلم ما هو مخفي في داخلك !" ذلك ان كل ما يقوله المتهم "بفتح الهاء" أو يهمس به أو يفكر فيه أو يخفيه في داخله لابد أن يوضع تحت تصرف المحكمة.
ان المحاكمة مطلقة لانها لا تمكث في حدود حياة المتهم. يقول العم ل "ك": "إذا ما انت خسرت الدعوى، فانك سوف تفسخ في المجتمع تماما، ومعك عائلتك باسرها". ان ذنب اليهودي يحتوي على ذنوب يهود كل العصور. وتحت تأثير فكرة الجذور الطبقية، تضم النظرية الشيوعية إلى اخطاء المتهم اخطاء والديه واجداده. وفي المحاكمة التي يقيمها ضد أوروبا الاستعمارية، لا يحاكم سارتر المستعمرين (بكسر الميم)، بل أوروبا كلها، أوروبا في جميع العصور والأزمنة ذلك ان "المستعمر (بكسر الميم) يوجد في داخل كل واحد منا" و«كل واحد منا، هو بالتالي شريك في الجرم لاننا جميعا استفدنا من الاستغلال الاستعماري». ان المحاكمة لا تعترف بأي تقادم. ان الماضي الاشد ايغالا في القدم موحي مثل أي حدث في احداث هذا اليوم. وحتى أن مت فأنت لن تفلت، ذلك أن هناك وشاة وجواسيس في المقبرة. إن ذاكرة المحاكمة هائلة غير انها ذاكرة من صنف خاص يمكن ان نصفها بأنها نسيان كل ما هو ليس جريمة. ان المحاكمة اذن تقوم بتقليص حياة المتهم الى جريمة فقط. واعتقد ان كتاب فيكتور فارياس حول هايدجر كتاب من هذا الصنف، ان مؤلف هذا الكتاب يعثر في طفولة الفيلسوف وشبابه على جذور فازيته دون ان يهتم بالبحث عن جذور عبقريته. ولكي تعاقب احدهم على هفوة ايديولوجية تقوم المحاكم الشيوعية بمنع كل مؤلفاته واعماله.. وهكذا تم منع مؤلفات لوكاتش وسارتر بما في ذلك النصوص التي كانت متعاطفة مع الفكر الشيوعي. ومنتشية بانهيار الشيوعية، تساءلت صحيفة باريسية عام 1991، قائلة: "لماذا تحمل شوارعنا الى حد الان اسماء بيكاسو واراجون وايلوار وسارتر؟" وقد نحاول ان نجيب على هذا التساؤل بالقول ان احتفاظ شوارعنا بهذه الاسماء يعود الى قيمة اعمال اصحابها. ولكن في محاكمته لاوروبا، يرد سارتر على حجتنا قائلا: "ان قيمنا واعمالنا العزيزة تفقد اجنحتها. وليس بامكاننا ان نعثر على اي قيمة من قيمنا وعلى أي عمل من اعمالنا دون ان تكون ملطخة بالدم ". ان عقلية المحاكمة هي اعادة كل شيء الى الاخلاق. انها العدمية المطلقة تجاه كل ما هو فن وأدب وابداع ".
حتى قبل ان يأتي الدخلاء لإيقافه، يلمح ك. زوجين عجوزين ينظران اليه من المنزل المقابل "بنوع من الفضول الغريب " وهكذا نحن نواجه منذ البداية الجوقة القديمة المتمثلة في البوابين. ان "اماليا" في رواية "القصر" لم تكن متهمة ولم تحاكم بالمرة غير انه معروف بما لا يدع أي مجال للشك ان المحكمة اللامرئية صدمتها بعنف. وكان هذا كافيا لكي يتحاشاها كل اهل القرية.ذلك ان المحكمة تفرض على بلد معين نظام المحاكمة وكل الشعب يجد نفسه مجندا في عملية المحاكمة ويضاعف من فجاعتها وفا عليتها. والنقد الذاتي لا يعني إلا خضوع المتهم (بفتح الهاء) للمتهم (بكسر الهاء)، وتخليه عن ذاتيته. عقب الثورة الشيوعية عام 1948، شعرت فتاة تشيكية تنتمي إلى عائلة ثرية بانها مذنبة بسبب الامتيازات التي في حورتها، ولكي تتخلص من عقدة الذنب، اصبحت شيوعية متطرفة حد انها انكرت والدها امام الملأ. اليوم، بعد انهيار الشيوعية هي تتعرض للمحاكمة ومن جديد تشعر انها مذنبة. بعد هاتين المحاكمتين، وهذين النقدين الذاتيين، لم يد وراء الفتاة نمير صحراء موحشة. وحتى اذا ما اعيدت لها جميع ممتلكات والدها الذي انكرته،فانها ليست اليوم غير كائن ملفي تماما كائن ملفي مرتين.. كائن ألفى نفسه بنفسه.
أن نقيم محاكمة.. ذلك لا يعني اننا نرغب في العدالة ولكن لكي نحطم المتهم (بفتح الهاء). ومثلما قال برود: الذي لا يحب احدا، الذي لا يعرف غير الغزل، يستحق الموت. وهكذا ذبح ك. من الوريد إلى الوريد. واعدم بوخارين. وحتى إذا ما نحن حاكمنا أصواتا فان هدفنا في آخر الامر هو اعادة قتل الأصوات وذلك من خلال حرق كتبهم واقصائهم من الكتب المدرسية وتحطيم معالمهم وتماثيلهم وحذف اسمائهم من شوارع المدن
محاكمة ضد القرن:
منذ حوالي سبعين عاما، تعيش اوروبا تحت طائلة المحاكمات. وكم هو مرتفع عدد الفنانين الكبار الذين حوكموا… سوف اتحدث فقط عن اولئك الذين يعنون شيئا مهما بالنسبة لي. في العشرينات كان هناك ضحايا محكمة الاخلاق الثورية: بونين، اندرياف، مايروهول، بيليناك، فابريك (موسيقى يهودي روسي، وشهيد منسي من شهداء الفن الحديث. وقد تجاسر على ان يدافع عن أوبرا شوستاكو فيتش الممنوعة امام ستالين فأرسل الى معسكر.. وانا اتذكر بعض قطعه الموسيقية التي كان ابي يعزفها له)، ماندلشتام، هالاس.. ثم كان هناك ضحايا المحكمة النازية: بروخ (صورته على طاولتي وهو ينظر الي وفي فمه الغليون)، شونبارج، فيرفال، برخت، توماس مان، موزسيل، فوكورا (الناثر التشيكي الذي احبه كثيرا) برونوشولتز. اختفت الامبراطوريات الشمولية ومعها محاكماتها الدموية غير ان عقلية المحاكمة ظلت موجودة كإرث قديم وهذه العقلية هي التي تقوم بتصفية الحسابات. وهكذا حوكم من اتهموا بالتعاطف مع النازية: هامسون، هايدجر (كل الفكر التشيكي المنشق مدين له، وباتوشكا في رأس قائمة المستفيدين)، ريتشارد شتراوس، جوتفريدبن، دريولار وشال، سيلين (في عام 1992، وبعد مضي نصف قرن على الحرب، رفض حاكم اعتبار بيته أثرا تاريخيا). كما حوكم ايضا اولئك الذين اعتبروا اصدقاء لموسيليني: مالامبارت، ماريناتي، عزرا باوند، على مدى شهور طويلة وضعه الجيش الامريكي داخل قفص حديدي تحت شمس حارقة كما لو أنه وحش… وحوكم جيونو، والان، ومردان ومونترلان وسان جان بيرس، ثم الشيوعيون واتباعهم: مايكوفيسكي، جوركي، ج. ب. شو. برخت، ايلوار، بيكاسو، ليجيسي، اراجون (كيف لي ان أنسى انه مد لي يده في أوقات عصيبة من حياتي؟، سارتر… البعض حوكم مرتين، مرة بسبب خيانتهم للثورة، ومرة أخرى بسبب الأعمال التي قدموها لها: جيد (رمز كل شر بالنسبة للبلدان الشيوعية القديمة)، شوستاكوفيتش (لكي يبيع موسيقاه كان يعد اشياء حمقاء لحاجيات النظام)، برتون، مالرو (اتهم بخيانة المثل الثورية، وقيما بعد اتهم بحوالاته لها)، تيبور ديري بعض نصوص هذا الكاتب الشيوعي الذي سجن بعد احداث بودابست كانت بالنسبة لي الجواب الادبي الاول المثالي، وغير الدعائي على الستالينية). حتى الزهرة الاشد جمالا، أي الفن الحديث خلال العشرينات والثلاثينات تعرض لثلاث محاكمات: المحاكمة النازية التي حاكمته كـ "فن منحل "، ثم المحاكمة الشيوعية التي حاكمته كـ "فن متعال على الجماهير"، واخيرا محاكمة الرأسمالية المنتصرة التي ادانته بـ "الموالاة للاوهام الثورية ".
كيف يمكن أن يظل مايكوفسكي، الذي دافع دفاعا مستميتا عن روسيا السوفييتية، واخضع الشعر لاهداف دعائية حتى ان ستالين وصفه بـ"اكبر شاعر في عصرنا الحديث " ان يظل شاعرا كبيرا، بل واحدا من اكبر شعراء العالم ؟ بسبب قدرته على الحماس، وبسبب دموع التأثر التي لا تسمح له بان يرى العالم الخارجي بوضوح، الم يكن الشعر الغنائي، هذا الالهة التي لا تمس، مؤهلا ان يصبح ذات يوم مشؤوم، مجمل الفظائع و"خادمتها ذات القلب الكبير"؟ تلك هي الامثلة التي خامرتني حين كتبت قبل ثلاث وعشرين سنة: "الحياة في مكان آخر". في هذه الرواية، يصبح جاروميل، وهو شاب في العشرين من عمره الخادم المطيع والمتحمس للنظام الستاليني. وقد شعرت بالخوف، حين رأى بعض النقاد المعجبين بكتابي ان بطلي شاعر مزيف، بل اعتبروه كائنا منحطا وسافلا.. أما انا فقد كنت اعتبر جاروميل شاعرا اصيلا، وروحا بريئة، ولولا هذا لما وجدت فائدة في كتابة الرواية أصلا. هل انا المسؤول عن سوء التفاهم هذا؟ هل عبرت عن مقصدي بشكل سييء؟ لا اعتقد ذلك. ان يكون الإنسان شاعرا حقيقيا وينتسب في نفس الوقت (مثل مايكوفسكي وجاروميل) الى شيء فظيع.. تلك فضيحة كبيرة.. بكلمة فضيحة "يشير الفرنسيون الى عمل غير مقبول، وليس له أي تفسير وأي مبرر عمل يتناقض مع المنطق، ومع ذلك هو عمل واقعي. نحن نسعي جميعا وبشكل لاراع. ان نتحاشى الفضائح، وان نتصرف كما لو انها ليست موجودة. لهذا نحن نفضل ان نكتفي بالقول بأن الرموز الكبيرة للثقافة التي تورطت في علاقة مع الانظمة البشعة خلال هذا القرن، كائنات منحطة وسافلة. غير ان هذا ليس صحيحا ذلك ان الفنانين والفلاسفة يسعون دائما بسبب تأكدهم من ان اغلب الناس يراقبونهم، ويحكمون على أعمالهم وتصرفاتهم، الى ان يكونوا نزهاء وشجعانا، وان يكونوا دائما الى جانب الحق، وفي الناحية الايجابية. وهذا ما يجعل "الفضيحة " غير محتملة، وغير متوقعة. واذا ما نحن رغبنا في ان نخرج من هذا القرن دون ذلك الحمق الذي دخلنا به اليه فانه يتحتم علينا ان نتخلص من اخلاقية المحاكمات السهلة، وان نفكر في الفضيحة، ان نفكر فيها الى النهاية، حتى لو ادى بنا ذلك الى ان نضع جميع قناعاتنا بخصوص الانسان كما هو موضع تساؤل… غير ان امتثالية الرأي العام تحولت الى قوة انتصبت مثل محكمة. وهذه المحكمة ليست هنا لكي تضيع وقتها مع الافكار، وانما لكي تعد محاكمات. ومع تواصل دخول القضاة والمتهمين قاعة المحكمة، تزداد الهوة اتساعا، ودائما تقوم التجربة الصغيرة بمحاكمة التجربة الكبيرة. يقوم رجال غير ناضجين بمحاكمة ضلالات سيلين دون ان ينتبهوا الى ان روايات سيلين، بفضل هذه الضلالات، تحتوي على معرفة وجودية اذا ما هم نهموها ازدادوا نضجا ورصانة ذلك ان سلطة الثقافة قادرة ان تستخرج من الاشياء الفظيعة حكمة وجودية عالية. واذا ما استطاعت عقلية المحاكمة القضاء على ثقافة هذا القرن، فانه لن يتبقى وراءنا غير ذكرى لسلسلة من الفظائع تغنيها جوقة من الاطفال… […].
طرقات من الضباب:
كان معاصرو روبرت موزيل يعجبون بذكائه اكثر مما كانوا يعجبون بكتبه. وكانوا يرون انه كان من الافضل له ان يكتب دراسات وليس روايات. ولكي نرد هذا الرأي على اعقابه، يمكننا ان نكتفي بحجة سلبية واحدة: قراءة دراسات موزيل. واذا ما نحن فعلنا ذلك فاننا سرعان ما نتبين ان هذه الدراسات جد ثقيلة وجد مضجرة ودونما فتنة تذكر! ان موزيل مفكر كبير في رواياته فقط.
ان فكره يحتاج ان يتغذى من أوضاع ملموسة لشخصيات ملموسة أيضا باختصار.. انه فكر روائي وليس فكرا فلسفيا…
كل فصل من فصول الاقسام الثمانية عشر في "توم جونس " لفيلدينج هو دراسة مختصرة. وقد قام المترجم الفرنسي في القرن الثامن عشر بحذفها بحجة انها لا تتجاوب مع ذوق الفرنسيين. وقد اعاب تورجنيف على تولستوي المقاطع التي تطفى عليها روح المقال أو الدوامة والمتعلقة بفلسفة التاريخ في رواية "الحرب والسلم ".وتحت تأثير ذلك، أخذ تولستوي يرتاب في نفسه، ثم بضغط من اصدقائه حذف هذه المقاطع في الطبعة الثالثة للرواية. ومن حسن الحظ انه اعادها فيما بعد…
هناك فكرة روائية كما ان هناك حوارا وحدثا روائيين. إن الأفكار الواردة في "الحرب والسلم" لا يمكن باي حال من الأحوال أن نجد لها مجالا خارج الرواية، كان يتم نشرها مثلا في مجلة علمية وذلك بسبب اللغة المليئة بالمقاربات والاستعارات الساذجة قصديا، ثم ان تولستوي نفسه لا يهتم كما هو حال المؤرخ، بوصف الاحداث بدقة، ولا بانعكاساتها على الحياة الاجتماعية، والسياسية، والثقافية ولا بتقدير دور هذا او ذاك.. انه يهتم فقط بالتاريخ كبعد للوجود الانساني.
ان التاريخ اصبح تجربة ملموسة لكل واحد خلال بداية القرن التاسع عشر، اي خلال تلك الحروب النابليونية التي تتحدث عنها رواية "الحرب والسلم ". وقد افهمت هذه الحروب كل أوروبي من خلال الصدمة التي احدثتها ان العالم من حوله هو في حالة تطور متواصل يتدخل في حياته الشخصية، ويغيرها ويحركها باستمرار. قبل القرن التاسع عشر، كانت الحروب والثورات تحس كما لو أنها كوارث طبيعية، أي مثل الطاعون والزلازل. ولم يكن الناس يرون في الاحداث التاريخية وحدة ولا تواصلا ولا يفكرون انه في مقدورهم ان يغيروا هجراها. لقد جند "جاك القدري" في كتاب ديارو الشهير، ثم جرح جرحا بليغا في احدى المعارك. وبسبب ذلك ظل يعرج طوال حياته، وظل ذلك الحدث مرتبطا به ارتباطا وثيقا. ولكن اية معركة شارك فيها "جاك القدري" الرواية تجيب على هذا السؤال. ولماذا تريدون ان تجيب عليه ؟ ان كل الحروب متساوية في روايات القرن الثامن عشر، بامكاننا ان نعاين ان اللحظة التاريخية لا تتحدد إلا بشكل تقريبي. فقط في بداية القرن التاسع عشر، انطلاقا من سكوت وبالزاك، بدأت الحروب تختلف واصبحت الشخصيات الروائية تعيش ضمن زمن محدد.
يعود تولستوي الى حروب نابليون بعد مرور خمسين عاما عليها. وفي وضع كهذا، لا يمكن لإدراكه الحسي للتاريخ ان ينخرط فقط في بناء الرواية الذي بدأ شيئا فشيئا يصبح على استعداد (من خلال الحوارات والاوصاف) ان يمسك بالطبيعة التاريخية للاحداث المسرودة. ان ما يهمه بالاساس هو علاقة الانسان بالتاريخ (قدرته على السيطرة عليه، أو الافلات منه، وعلى ان يكون حرا تجاهه أو لا يكون حرا). وهو يبسط هذا الموضوع مباشرة كشيمة للرواية، شيمة يفحصها بمختلف الوسائل الممكنة، بما في ذلك التفكير الروائي…
يجادل تولستوي ضد فكرة ان التاريخ تصنعه رغبة الشخصيات الكبيرة وارادتهم. وهو يرى ان التاريخ يصنع نفسه بنفسه، مطيعا قوانينه الخاصة التي تظل غامضة بالنسبة للإنسان. ان الشخصيات الكبيرة ددكانت ادوات غير واعية للتاريخ. وهي تقوم بعمل لا تدرك مهناه ولا هدفه ". وبعيدا يضيف تولستوي: "ان العناية الالهية تفرض على كل واحد من هؤلاء الرجال ان يتعاون مع الأخوين دون ان يكف عن تعقب اهدافه الشخصية، للو صول الى نتيجة عظيمة لم يكن في مقدور نابليون ولا الكسندر ولا أي واحد من الاخرىن ان يمتلك مجرد فكرة حولها"…
ومن جديد: "الإنسان يعيش بشكل واع لنفسه غير أنه يساهم بصفة لا واعية في الاهداف التاريخية للإنسانية بأسرها".
واخيرا يصل تولستوي إلى النتيجة التالية: "التاريخ، أي الحياة الط واعية، العامة، الجماعية للإنسانية ".
من خلال هذا المفهوم للتاريخ، يرسم تولستوي الفضاء الميتافيزيقي الذي تتحرك فيه شخصياته. ودون ان تعرف معنى التاريخ، ولا تطوراته المقبلة، ولا حتى المعنى الملموس لأفعالها الخاصة (التي تساهم من خلالها بشكل غير واع في تلك الاحداث التي لا تدرك معناها) تتحرك هذه الشخصيات في حياتها كما لو أنها تتحرك وسط الضباب. أقول "ضباب " ولا أقول "عتمة". في العتمة نحن لا نرى شيئا. نحن عميان. نحن تحت رحمة شىء ما. نحن لسنا احرارا. في الضباب، نحن احرار. لكن بحرية من هو داخل الضباب: هو يرى على بعد خمسين مترا أمامه. وباستطاعته ان يميز بوضوح ملامح مخاطبه، ويمكن ان يتمتع بجمال الأشجار التي تنتصب على جانبي الطريق وحتى ان يعاين ما يحدث بالقرب منه وان يرد الفعل. ان الانسان هو الذي يتقدم وسط الضباب. غير انه حين ينظر الى الخلف لكي يحكم على أناس الماضي، لا يرى أي ضباب على الطريق. من حاضره الذي كان مستقبلهم البعيد، يبدو له طريقهم واضحا جليا على امتداده. ناظرا إلى الخلف، يرى الإنسان الطريق، يرى الناس يتقدمون، يرى اخطاءهم، غير ان الضباب لم يعد هناك. ومع ذلك هم جميعا، هايدجر، مايكوفيسكي، اراجون، عزرا باوند، جوركي، جوتفريدبن، سان جان بيرس، جيونو… كل هؤلاء جميعا كانوا يمشون في الضباب. ونحن بامكاننا ان نتساءل: من هو الأشد عماء؟ هل هو مايكوفسكي الذي كتب قصيدة عن لينين دون ان يعلم إلى أين تسير اللينينية ؟ أم نحن الذين نحاكمه بعد مرور عشرات السنين دون أن نرى الضباب الذي كان يغلفه.
إن عمى مايكوفيسكي ينتمي إلى المصير البشري الأبدي…
ان لا نرى الضباب على طريق مايكوفيسكي، يعني اننا ننسى من هو الإنسان، ومن نحن…
***
* هذا النص مأخوذ من كتاب كونديرا: "الوصايا المغدورة " الصادر عام 1993 عن دار "جاليمار" بباريس.
*ملاحظة:تعمدنا حذف بعض المقاطع في هذه الدراسة نظرا لعدم جدواها بالنسبة للقارىء العربي..
ترجمة: حسونة المصباحي (كاتب من تونس مقيم في المانيا)