إليزابيث شامبون- ناقدة فنية فرنسية
ترجمة: أحمد لطف الله- ناقد فني مغربي
يعد عبدالكبير ربيع، من أبرز الفنانين المغاربة العصاميين، عرفت حياته مسارا حافلا بالتجارب الفنية والاحتكاك بالفنانين المغاربة والأجانب، مما جعل مشروعه الفني ثريًا، فلوحاته سخية بشاعريتها وعفويتها، حركات فرشاته التي تنطبع سوادًا فاحما على بياض القماشة يمنح النور معناه ويكشف عن روحانيته. في هذا المقال تتأمل الناقدة الفرنسية إليزابيث شامبون Elisabeth Chambon، أعمال الفنان ربيع عن قرب مجسدة مقولة «ليس من رأى كمن سمع»، مصغيةً إلى حركة الفن وهي تصدر عن جسد الفنان. وشامبون التي تدير بعض المؤسسات الفنية في فرنسا أو تساهم في إدارتها، أشرفت على العديد من المعارض الفنية، ودبّجت الكثير من المقالات في الكاتالوغات التي قدّمت من خلالها الفنانين العارضين إلى الجمهور.
أشعرُ أن الليل قد أرخى سدولهُ
تخطّي النهار يدعوني إلى المواجَهة.
أندريه فيلتر André Velter
في الثالث من أيار (مايو) 2019، كنتُ موجودة في الدار البيضاء داخل مرسم الفنان عبدالكبير ربيع. عندما ندخل محترف الفنان، ينبثق كل شيء من العواطف. حيث يجب أن نكون قد خلقنا علاقة حميمية بالمكان، قبل أن نبدي اهتمامنا بالأعمال الفنية. لا تزال تراودني ذكرى ذاك الوهج الذي لا يوصف لتلك اللحظة. في البدء، هناك الاستمتاع، فنحن في محترف ربيع. الاستمتاع بشعور السّكينة، بمتعة التحرك داخل الفضاء بشكل تلقائي، باغتنام فرصة وجود الأعمال الفنية أمام أعيننا، بالتوجه رأسا نحو منبع حقيقة معينة. تميّزتْ تلك الساعات المخصَّصة للإحاطة بهذا اللغز الذي لا ينضب للوحة بقدر كبير من الحرية. خاصة وأن هذا يتمّ خارج الكاتالوغات، الكتب، والحوارات المنشورة. إنها محاولة لفكّ شفرات ذاك اللغز من خلال هذه الزيارة.
نحن الآن هنا، نقف في صمت مشرق كبدايات صباح جديد، تتملكني انطباعات قوية في هذه اللحظة بالتحديد. جاذبية اللوحات والرسومات التي أعدّها ربيع، تسيطر على حواسي كلّها. يجب تلقي العمل الفني بأجسادنا وحواسنا. هذا ما سنراه لاحقًا، حيث التصوير والرسم بالنسبة لربيع هما ممارسة واحدة. ما هو الفعل الإبداعي الذي ينخرط فيه الفنان؟ إنه اشتغال اللامرئي على المرئي. فالمرسم هو مكان «الجوّاني اللامتناهي» الذي تحدث عنه إيف بونفوي Yves Bonnefoy، مكان الخصب والانغلاق في مواجهة ضجيج العالم، ومظاهره البرّاقة. هناك، ينسحب الفنان نحو جوّانيته، ويقضي ساعات طويلة من الليل. إنها تجربة شخصية وفردية ينسجها هناك، نحو مجهول سيتم خلقه، وسنُعمِّده نحن بتسمية «عمل فني».
الفنان كائن يتأهب للحلم بالظل. يجب أن تتم داخل هذا المرسم تلك الملاءمة بين اللغز ووسائل الإنجاز، وأن يمنحنا ذلك شكلًا ماديًا، وقوة تواصل، تلك القوة التي يدعوها غايتن بيكون Gaétan Picon «شحنات لفظية صغيرة»، تنفجر بالبوح عن المذهل في هذا اللقاء. يدعونا المرسَم إلى التدبّر، وهو لفظ لا غنى عنه للتعبير عن عُزلة متأصّلة. لا ننسى أيضا رائحة الأصباغ الزيتية، لحظات الصمت، وقفات الزمن، الضوضاء المكتومة، والموسيقى التي انتقاها الفنان بعناية. نظرت في الرسومات واللوحات، فأذهلني وجودها الصارخ. لقد لاحظت حامل أسناد غريبًا (من تصميم ربيع، وهو في أصله منضدة مهندس معماري متحركة)، بالإضافة إلى مجموعة كاملة من الفراشي، أنابيب الصباغة، خِرق، أدوات مختلفة في متناول اليد، ولكن أبصرتُ أيضًا ذلك الفضاء الذي يحيط بنا، فضاء المدينة بأكملها.
هناك، تنبض الأعمال الفنية وتُنتزع انتزاعا. المرسَم، الإيماءة، الحركة، كأننا أمام مُحترَف للفكر الإبداعي. لقاء حقيقي لا يستجيب كلية لأفق انتظاري، فهناك أشياء غير متوقَّعة تباغتني. يمنحني هذا الانتظار الجزاء الكافي، فهو انتظار غني. كان ذلك اللقاء فعلا حدثا يستوجب قدْرًا من المجهول، والذي وحده يسمح بالعطاء. لن يدعني هذا اللقاء أُفلِت. أصبحتُ عاجزة، في هذه اللحظة بالطبع. يفرض المرسم التوقف في كل محطة، إذْ لا شيء يسمح بالتسرّع. لقد استجابت لي شخصية الفنان الذي أرقبه. وسنمضي سويّا للبحث عن شيء لا زلت أجهله. اللوحات أمامي الآن. ويبدو لي وكأن الرسام يهمس: «ها أنا ألقي هذا أمام ناظريك». لكن حذارِ! فالعين لا تكفي. وحدها الرؤيا، كفيلةٌ بالغوص نحو الداخل لتجعلنا من المُبصرين.
أنا بحاجة للحفاظ على حيويتي وكبريائي أمام هذا الانفتاح. والمسافة دائمًا موجودة لتشجيعك على أن تكون متواضعًا أمام هذا «المرئي» من الأعمال الفنية، والذي يقلب كل موازينك. ينطلق الحوار مع ربيع بصورة تلقائية، حوار مصبوغ بالتحالف. وفي ثنايا حديثه تبدو أحكامه الأكيدة والدقيقة. إنه يدعوني إلى لغة أكثر رحابة. حيث تغوص الذاكرة بعيدا في الزمن. إنه تقليد شفاهي، استلهمه الفنان من جوانب تلك الأرض التي احتضنته بكل حفاوة. وهو تقليد يتيح الولوج إلى خارج الزمن، نحو علامات تنتمي لحضارة موغلة في التاريخ، حيث تم تشكيل الوضع الأول للإنسان في العالم. ينقلني الفنان إلى حميمية أعماله النابعة من فكره. التقليد الشفاهي حاضر بكل قوة، ثم فجأة «هل هناك كلمات تصلح للحديث عن فن التصوير؟»، يقول فرانسيس بونج. ما المعنى الذي يمكن منحُه لما يظلّ صامتا؟ الحديث عن أو حول (الفن) هو دائما تصنيف، اختزال. حسنًا، دعونا نبحث عن الكلمات، عن تلك القوى التي تتجاوز الكلمات، تلك التي تتحدى فعل الاختفاء، فعل التآكل. الكتابة نفسها التي تترسخ، ما تلبث أن تنمحي، وهو الأمر الذي لن يسرّ ربيع، فمن يرغب في مقاربة أعمال فنان يجب أن يشاركه هواجسه. هل يجب على ربيع، كما هو الحال بالنسبة لأي فنان داخل مرسمه، أن يكون مأخوذا بفكرة «إصلاح العالم» * حريصا على ترويض شيء أكثر أهمية من الجمال؟ وكما سنكتشف ذلك، فالعمل الفني يمتلك قوته من جذوره. فربيع لا يتحدث عن أي شيء آخر، غير القماشة أو الرسم، عن تلك الأحاسيس التي تساهم في وضع تصميمهما، ساعيا نحو ما يُدرك بغير الحواس، نحو المطلق، وهو بحث مشدود باستمرار إلى الحياة. إنه مهتم دائمًا بفعل التصوير، ذلك الفعل الذي نستنشقه، والذي يتردّد صداه بمرور الأيام، وما نفتأ نطوّره في ذواتنا.
لقد دعاني عبدالكبير ربيع لهذه التجربة الفنية الآنية وغير القابلة للاختزال. في هذا المحترف-الورشة، الذي يعتبر عنصرا أساسا لكائن بصري متحرر من جميع ارتباطات العالم. لقد حان الوقت لإحياء فكر التصوير. في هذه اللحظة بالذات، أشعر أنني بعيدة عن كل الصخب الذي يملأ عالم الفن، عن مناهجه، وعن الضجيج المرافق لهذه الحقبة العصيبة. ربيع يصرّ بدلًا عن ذلك على حاجته للشعر، وحاجته إلى الحقيقي. ومثل الصدى المنبعث من حوارنا، تحضرني الكلمات القوية لسيزان: «أنا مدين لك بالحقيقة في اللوحة، وسأخبرك بها».
اقتفاء الأثر، أو عبْر دروبٍ نُدمِن السير فيها
والآن ستتناسل الأسئلة: من الذي يصوّر ويرسم هنا؟ من أين يأتي كل هذا؟ لم التصوير الصباغي بالضبط؟ هل ما تزال للتصوير والرسم أهمية اليوم؟ أيكون التقشف في التصوير هو ذلك الوجه الآخر للرغبة في وضع حد للعلاقة به، تماما مثلما نتحامل على ماضٍ نرغب في التخلّص منه؟ ليس الأمر بهذه البساطة! يجب المُضي أبعد من ذلك في الموضوع، لذلك، هل يُعتبر مغامرة ما سأقوم به من تخطيط لرسم بورتريه للفنان؟ إن الموقع المميّز الذي أنا فيه الآن يدعوني لذلك. من مقامه العالي، يحصل ربيع على قوة تملّك الذات، وعلى الأنفة التي تميّزه، والتي تحقق له الشعور بالاكتمال والبراعة. نظراته القوية والجادّة، توشك أن تكون متفحّصة، نظرات وازنة تنفذ إلى أعماق من يرغب في أن يكون رائيا جيدا، أو من يستطيع ذلك. نظرات تفرض نوعا من الجاذبية، وتنبعث منها قوة هادئة تجليها الحياة كما يجليها الفن. لقد أدركت بسرعة أنه لا يمكن الفصل بين عمل ربيع وشخصيته. هناك حوار متبادل، حوار تلقائي ومثمر بين المرسم، الرسم، والصباغة، وجميع الأشياء القريبة من الفنان. ويظل جسده وروحه متاحين للتنقل وتمييز ما يصغي إليه. اليد جاهزة كفاية لخدمة اللوحات والرسومات، حيث تنقلها من موضع لآخر بنُبل أصيل، نابع من السموّ الذي يطبع شخصيته. تجربته وذاكرته بارزتان هنا أمامي، اليوم والآن. لا شيء سوف يُحبطني، أو يعارض فكرة تحديث معرفتي بأعماله، والتي يعرضها أمامي تدريجيا.
هناك من يعتقد أن اللوحة عمل تجاري مُربح، أو هي فقط عملية إخراج مجموعة من الصور. في حين لا علاقة للفنان بمضاربات الاستهلاك للعالم الحالي، أو للصور المتطفلة التي تهاجمنا من كل حدب وصوب. فالعمل الفني لربيع ينأى عن إحداث الضجة، مثل رقصة الساراباند المحمومة، كما يبتعد عن قبضة وسائل الإعلام. لكن دون الانسحاب الكلي، فهو يتمسك بذلك الوهج الهادئ المشع من لوحاته. إن العمق الفني والكثافة، اللتان تميزان أسلوب ربيع، تجعلانه يدمج في مقاربته للّوحة عددًا من التحفظات، للتخفيف من الحدة العقلانية، الشكلانية أو التاريخية. يتعلق هذا التحفظ بالمصادر الأولية لإلهامه. التثاقف والاستلهام أمران ضروريان، وهما يطبعان الحديث عن الفن، والتاريخ الكامل للتصوير.
أحيانا تبدأ سيرورة تاريخ الفن، وتُنشئ تصنيفات، تسلسلات، وعلاقات متشابكة. خانات بسيطة جدا، تجعل الفعل الإبداعي شائعا. لذا يجب أن نطرح دائمًا مسألة التأثيرات، سواء كانت على شكل حساسيات، أو تأثيرات معترف بها. مع وجود الأسلاف الذين يحملهم الفنان معه، هل نضمن وجود تعلّمات اكتسبها في فضاء فني؟ هل يمكنه أن يزعمها؟ ماذا يعني بالنسبة لربيع هذا التسلسل الهرمي لتاريخ الفن، حيث تظهر الوجوه الرسمية والثابتة في عالم الفن مثل سيزان وماتيس وبيكاسو، والتي لا تفتأ تشغل بال الفنانين، حتى يتساءلون عما إذا كان ينبغي نسيانها، أو إضافة لذلك تجاوز الدروس المتسلِّطة التي تعلموها منها؟ حقا لا يمكن لأي كتابة لتاريخ الفن (وهو تاريخ هائل) أن تتم دون ذكر هؤلاء.
بالنسبة لربيع، فقد جرت حوارات متخيلة وغير متخيلة مع فنانين آخرين، خاصة بعد اللقاء الذي تمّ في فاس سنة 1968، مع برنارد دوريفال Bernard Dorival، والذي دعاه إلى باريس في مناسبات عديدة، وقد كان لهذه الإقامات الغنية دور كبير في أن يُطلق العنان لمتخيَّله، كي يخلق مسارات موازية للمشهد الفني الباريسي. وقد قام دون شك بدمج النماذج الجمالية لهؤلاء الرواد، أو الفنانين المغاربة الذين يضاهونهم. إنه يتعامل بنزاهة مع جذوره. في الواقع، لقد اشتغلت المرجعيات الفرنسية بصمت في العمل الفني لربيع. فهل نأخذ بعين الاعتبار هذا التقارب الشكلي لتلك المرجعيات، والموجود ضمنيا في أعماله، ونؤسس انتظاراتنا على تلك المعالم التي تسبق تاريخه؟ لا ريب في ذلك. ولكن ينبغي أن نضع في الاعتبار أن ربيع، وانطلاقا من حدَّته المفرطة، وذكائه التصويري، استطاع أن يفرض فكره الجمالي الخاص. فلا يمكن أن يسيطر على ربيع ذلك القلق العقيم لإثبات ما ينبغي إثباته. ربيع قرَّر فقط أن يصبح هو نفسه. هكذا يضيف إلى ذلك الإرث الفني لمسته المنعِشة، المتميزة بالخصوبة والرضى. إنها لمسة عاشق للثقافة والطبيعة التي تروي بنسغها الحيوي أعماله. عبرَ كل هذا تمكن ربيع من تطوير شخصيته الفنية. وما من أحد يشك في ذلك.
تبدأ المحطات الزمنية الثاوية في الذاكرة بالتفاعل. صور المقررات المدرسية، مراحل التمدرس، التعلّم في فاس والتدريس به، العلاقة المثمرة مع الفنانين المستشرقين، وحياة الفنان (المعارض، الصداقات والرحلات)، كلها من الأسباب المهمّة التي جعلته منتبها على وجه الخصوص، لهذا النداء الثقافي القادم من أوروبا، ولحداثتها. ومنتبها أيضا لتقاليد الخط العربي الإسلامي. كانت سنوات البداية مطبوعة ببصمات لا تُمحى. إنه قدَر بعض الفنانين لتعميق الماضي، بل وأيضا لإعادة إبداعه فطريا. ربيع واحد منهم. فهو يُجسّد توليفة طموحة بين الشرق والغرب. وعند إجراء فحص دقيق، لا يوجد شيء يقارَن بالفنانين المتوقَّع أن يكونوا «إخوة» لربيع، مثل سولاج Soulages، دي ستايل De Staël أو تال كوت Tal-Coat، باستثناء تلك الرغبة في تعرية فعل التصوير، كما لو كانت اللوحة منفذا نحو المستحيل، مكانًا محظورًا لا يمكن ولوجه أبدًا.
طوال هذه المقابلة كانت ترتسم معالم التجربة الوجودية لحريته الفنية. ما الذي يمكن أن نسمعه ممّن يفضل ملاذ الصمت؟ فالقصد من هذا اللقاء، هو النزول إلى أقاصي المرجعيات. لا يمكننا أن نضع العمل الفني لربيع في حالة من عدم الاكتمال. في الوقت الحاضر، هو عمل دائم العبور من الماضي نحو المستقبل. ومن المهم أن نعرف كيف هو في هذا الحاضر. يبدو لي أن هناك شيئًا ما متشابكًا في جذور الكينونة، في ذلك النبع المجرّد للأحاسيس الذي نسميه الطفولة، والتي لا يزال ربيع يحملها بداخله. انطلاقا من بولمان، تلك المنطقة القاحلة في الأطلس المتوسط، شمال شرق المغرب حيث وُلد، وحيث أنشا علاقة حيوية بالحجارة وبالمساحات البرية، الرياح، أشجار الصنوبر والبلوط، وبانبلاج الضوء. هذه اللحظات الآنية، هي لحظات مشبعة بأفكار مذهلة، وربيع يعلم ذلك. إن البحث عن أقصى إمكانات المصادفة بين العمل الفني وقصة حكايته الخاصة، يؤكد الإقبال الحاسم والمبكّر على التصوير والرسم «أشق طريقي رفقة طفل» هكذا توشوش أعماله. في ذلك الأصل الذي يعجز عنه الوصف، حيث تتقاطع المسارات الذاتية للإبداع. إنها آلة الزمن الهائلة الخاصة بذلك الطفل السرمدي، طفولة مستعادة، لأنه قد تمّ التخلي عنها من قبل، وبين البراءة وخطر الوجود، تتم لعبة التنوير التلقائي، لرسم خطوات إبداعية رائعة.
الكتابة، التخطيط، والتفكير
الحركة البَدْئية
لابدّ لأية مهمّة إبداعية أن تلبَس لبوس الرحلة والاستكشاف. فلا يمكن أبدًا لفكرة الإبداع أن تتجلّى دون أن يكون هناك إحساس ما. وهو ما يُعتبر بالنسبة للفنان إشكاليته الخاصّة. إشكالية تطرح نفسها من خلال عمله الفني، ولا تجد حلّها إلّا فيه. فالمفتاح يأتي فقط من اللوحة نفسها. وعند ربيع، يشكّل العمل الفني كُلًّا متماسكًا، فالرسم والتصوير نفَسٌ واحدٌ. يعيشان معًا في وِفاق، يجمعهما حوار دائم. هناك شاغل وحيد فقط، يتزامن مع وجودهما معًا. يتعلّق الأمر بالتخلص من تلك الفوارق، لفتح أبواب مملكة الواحد منهما. أن نفهم أكثر، يعني أننا نفهم أفضل، نفهم بشكل مختلف رسما غرافيكيا Graphisme مشدودا وجافًّا، مهتزًّا كأنشودة بدائية يردد صداها وتر القوس. بين الرسم والتصوير، هناك إيقاع حيوي، كأنه تجوال سريع بين البطيء والمباغت. هناك رغبة دفينة، تتجلى في الخيط الواصل بينهما. ليست هناك حدود فاصلة، يمتزج أحدهما بالآخر، دونما حاجة لمعرفة أيهما السَّبّاق. لم يسبق في أعمال ربيع أن اقترب التصوير هكذا من الرسم ومن الكاليغرافيا والعلامة. «التصوير أو الرسم، بالنسبة لي، هما نفس الشيء»، هكذا أسرّ لي، إنهما مثل «الوجه والقفا للعُملة». هناك تراسل بين التصوير والرسم. اليد نفسُها التي تنزلق على سطح اللوحة، سواء أكان سندها من القماش أو من الورق، فيتّقد النبض الأولي الذي تخطّه اليد هناك، حيث تصطدم الحركة الوحيدة بعدّة أشياء قصد ملامسة الكوني. دون تصويب أو رتوش يسهر الفنان على تلك العفوية التي أصبحت لغته الخاصة. التصوير والرسم بالنسبة لربيع، هما المكان الذي يتم فيه التعبير عن لغة الجسد. بمجرد الحديث عن فعل التصوير، فإننا نتحدث عن الرسم والكتابة. إنه يرسم ويصوّر ما يُدرك أنه أمر مهم بالنسبة له. هناك صفاء مذهل للخط، حيث الغرض الوحيد منه هو ترويض النور، وإضفاء الألفة على إشعاعه. الخط يخلّص النور من كهفه، ويخرجه لوَضح النهار. ما الذي يتوارى خلف الفضاء والزمن؟ خلف الفراغ الخالص الذي يميل إليه الفنان، والذي لم يكن أبدًا فجوة؟ في الأساس، لم يكن الرسام هو الذي بدأ، بل هي اللوحة دائمًا.
في البدء، هناك النسيج الحيوي للقماشة المشدودة على الإطار، أمام هذه المساحة البيضاء يبدو ربيع مشتعل الرغبة. ويشكّل الفنان والسند توأمين. وعندما ينفد بياض النهار، يسائل الفنان هذا البياض ليلا (أو في الظل)، عندما تحاكي كل ليلة، ما قبلها.
أولًا وقبل كل شيء، وبلمحة عين تتجلى مساحة القماشة. لا شيء سوى الرغبة، أو بتعبير أدق فكرة اللوحة. مساحة تحمل في طياتها لقاء بين «الداعي والمدعو»، وكأنه ترصّد قوي يتمّ بينهما. السرعة والزخم يسيران نحو هوّة حاسمة، وهي عبارة عن ثقب أسود تعبرُ منه الرؤية من الجانب الآخر. تحرّر هذه المساحةُ الأثرَ الذي سوف تتمخّض عنه الأشكال. ومن تلك المشاعر العابرة، ومن ذلك الارتباك، ينطلق «ربيع» في إعداد عدّته نحو ما لا ينكشف. هناك طاقة تُبذل من أجل رؤية شبيهٍ لِلاّمرئي، لكي يتحقق فقط لمعان جوهره المضيء. يؤكد الفنان ذلك بقوة، فبياضه لا يزال بِكرا، إنه بياض النشوء. بياض لا يُساوَم، ثائر، يُمطر العينَ بوابل من الرؤى. إنه نفَس الفراغ الذي يتوسط اللوحة. هناك بالفعل شعور بهذا الفراغ قبل إدراكه. سينشأ فعل التصوير عندما يتم الانعطاف داخل الانتظار الضروري للحظة البزوغ. أمام هذه الخلفية البيضاء المستعصية على الاقتحام، مما يثير وهَجا مفاجئًا تتمّ مطاردته بشكل فوري وآني، هناك جسدان صامتان يقف كل منهما ندّا للآخر. تبحث النظرة الآن عن أثرها الخاص بها. يجب على هذا السند السابق لفعل التصوير (رغم أنه جزء منه) أن يبرهن على بداية عملية التصوير. في جولة تسخين طويلة، يُعَدّ الدُّهنُ، الطلاءُ، التجفيف، الصّقل، أو الورق المشمّع، أو المصبوغ بالقهوة، بالشاي، أمورًا ضرورية للعمل، لحركة صباغية مُقبِلة، مهما كان حجم السند، وحسب ما تمليه حُدوس اللحظة. يتفحّص الفنان هذه المساحة، يعرف جيدا أنه يتضاءل أمامها أحيانًا. وعلى أرضية هذه القماشة أو الرسم الذي يسكنه، يحشد ربيع هواجسه، يتجوّل متقدّما، وأحيانًا يتراجع. إنه لا يقبض على أي شيء، إنه فقط يودِع الأشياء في أماكنها.
الخط الأسود يقول كل شيء، وهو يرتعش ويشتعل بين ما اكتسبه وبين ما يبحث عنه في الصّدع المترجرج للمادة. سواد حالك كأنه الجحيم، ومع ذلك فهو ساكن، خامٌ مثل الريح، ودسِمٌ مثل الطين. الأسود الذي يدعونا ويحتوينا، ويرمي بشَرَرِه في مناحي الفكر. إنه ليس سوى نزوة محمومة، ممزوجة بالعناد. إنه علامة ومادة تجدّدان مشهد الملموس، وحقيقة الأشياء. إنه قطعة نسيج، مجرى تتدفّق فيه الصورة النهائية للعالم. اللوحة والعالم يتفاعلان في جوّانية متبادلة.
لا يمكن تحديد بداية للعمل الفني (رسما كان أو تصويرا) إلا في نهايته، ليس هناك أي استباق. اللوحة محكومة، وربيع يقود تفاصيلها بشكل ملحوظ. يقوم بالتعديل، المحو. إنه انبلاج الضوء الذي يفتح عالمًا له فيه مكان خاص. وداخل أسْره، يَنعم هذا الضوء متحررا. يحاول الفنان أن يتعلم من الضوء دلالته. يروم العمل الفني الوصول إلى الشكل الذي يعتقد أنه الأكثر ملاءمة، دون تزيين. الشكل الذي يعدّ حيويًا في حركته، وانسيابه. (ما كانت تحظى به فرشاة الفنان شيتاو Shitao في الصين خلال القرن الثامن عشر)، وقد ذكرتُ هذه المرجعية هنا، لأشير إلى سلسلة الرسومات التي أنجزها ربيع على الورق بعجالة وتلقائية لا نظير لهما، جميع اللوحات الصينية حيث ترتعش «طيور الحبر» على أسطح القماشة، نجد لها صدى في كاتالوغ عبدالكبير ربيع الموسوم بـ «علامات الظل 3» **. لقد شكّلت هذه الخلفية على الدوام هوَسًا للفنان. «الشكل هو صعود الخلفية إلى السطح»، كما يقول فيكتور هوجو. هل يتعلق الأمر بوضع ممرّ ينفذ منه الضوء الممزّق، أم بانسلاخ الوضوح حيث تنبثق الصباغة؟ لمْ نشاهد هذا الضوء وهو قادم إلينا، لكننا شعرنا به مثل نسمة، مثل لا شيء، مثل حُلم. يجب أن يكون بوسعنا الترحيب بهذا المجهول، بهذا الجزء غير المتوقّع من الواقع.
عندما لا تستقيم قماشة ما، يَنظر إليها، يَبتعد عنها. إنها تفاجئه، لذلك يريح نفسه منها، أو ربّما يفكر في تدميرها. يتراجع، فيم كان يتأمل؟ أساسا في الإنجاز. الجمال سهمهُ بطيء. إنه التزام داخل النفس، يتولّد من تأمل عميق مصبوغ بالسكينة والرضا المُنبعثيْن من المساحة التصويرية. يتحول الفنان بكامل جسده نحو ما يحدث بينه وبين اللوحة، من أجل أن يعيش شيءٌ ما أو العكس، أو يتمّ اختراعه بموازاة اتخاذه شكلا معيّنا. لا يمكن رؤية الجزء المشعّ إلا خارج نطاق النظر. بمعنى أنه لا يزال غير مرئي، منسحبا نحو باحة داخل الظل الخصب. الخط، والأثر، يشيران إلى نظام كتابة إيقاعية، كتابة لاهثة، شبه فطرية، لها منطقها الخاص. إنه احتفال بصري يعمل على تحطيم الحواجز التي ترغب في الحد من حريته. تراخي الحركة، أو ما ندعوه سلاسة أو تحررا، بعيدا عن أي شعور بالثِّقل. تخط الحركةُ طريقها بكل أريحية وبسرعة، وتزيل أشكال الأفكار من طريقها بتحويلها إلى دفقة حيوية. ومع الضربات المتعمَّدة للفرشاة الصغيرة (زيت أو حبر)، أو ضربات فرشاة كبيرة، يصبح هذا الهيجان الذي يكاد يكون جَسورا، دليلا على وجود ما قبل لغة خاصّة. إنها لغة الكينونة الباطنية.
هناك علامات الطبيعة، وحركات الجسد، وكلها تكشف عن السجل البياني لأسلوب الفنان ونهجه. لا توجد حركة يمكنها أن تضاهي الفضاء، الحركة تُفضي إلى رقصة يتوارى فيها أي نوع من التصادي. فبالنسبة لربيع، هذه الحركة هي بمثابة رحلة. الرسم أو القماشة هما حزمة من التصاديات بين الأنا والآخر. البرّاني والجوّاني، يجبران نسيج البياض في القماشة أو الورق على الانفتاح. ما بين حركات الفراغ والملء. فالحركة التي تُحدِث الأثر، يجب أن تصبح هي نفسها أثرا. إنها مثل نصْل حاد الطرفين. يرسم ربيع عن طريق العلامات، عن طريق ما قبل اللغة التي تتطور وتنمو بواسطة فعل الاختزال، لتصل إلى دينامية الحركة الأوّلية. يخلق ربيع كائنا موهوب الصفو. يخلق تلك الرؤية المنبعثة من تمزق الضوء الذي يُربكنا.
أقول الفضاء، وليس السطح. حيث هناك عمق لكلّ من السطوع والظل، وإشعاع عائم في لا مُنتهى البصر. خطوط مسترقّة وحادّة، تتراكب فوق بعضها البعض. تنفلت هاربة، وكأن كل واحد منها يبحث عن الآخر. التقنية عند ربيع ليست هدفا، وفي الآن نفسه ليست حذلقة لإنجاز يتخوّف منه. فهو ليس صانعا تقليديا، وفي قرارة نفسه لا يريد أن يُقحم ذاته بشكل كبير فيما يصنعه، بل يحاول أن ينزع وينتزع من ذاته كل ما هو زائد عن اللزوم. يده لا ترتعش، تقف صامدة، في بعض الأحيان، دون أن تكون قادرة على اجتراء البدء. لم تعُد تلك اليد موجِّهة، بل أصبحت مدفوعة بالرغبة في الاستجابة. لقد أضحت صدى لحركة العالم. يمرّ هذا عن طريق المعصم، ثم الذراع التي تنصتُ إلى رقصة يتقاسمها الإيقاع والتحكّم. هل هناك تحكّم خفي لتلك الحركة التي تخطّ الأشكال؟ إنها جزء من الحركة-الرغبة التي توجد بداخل الذات. إنها عنوان للمقاومة الداخلية. هنا بالضبط، منبع العمل الفني لربيع، في تلك الرغبة المتقصِّية عن معادل آخر للذات، عن وجهها الآخر.
هكذا يقرر الفنان داخل دائرة وعيه أن لا شيء مسموح به للتفاعل على سطح القماشة، ما لم يكن منتميا بصورة خالصة للتصوير. كالعلاقة مع اللون، الأسود أساسا، مثل سيف مكسور مواجه للسماء. إنها رغبة مهيمنة ومتواصلة، في استكشاف ما يحمله الأسود من قوّة ثم تكثيفها. خطوط تشتعل رغبة، تعبُر لوحاته في أشكال مختلفة من حيث الكثافة، العرض، الاتجاه، والتأرجح. تخلق هذه الأشكال حركة الكرّ والفرّ. إنها سلسلة من الآثار، يأخذ فيها كل أثر بتلابيب الآخر. أصبحتُ مندهشة من هذا الأسود الفاحم المُطبَق، والذي لا يسدّ الفضاء. إنه الطريق الذي ينطلق عبره العالم وينفتح. وها هي الخلفية وقد تم انتهاكها، فأصبحت مختَرقة، حيث الأشكال تنسج لحمتها. إنها معركة مرتّبة، إنها لحظات محمومة، وحاسمة بالنسبة لربيع الذي يواجه الأسطح الملساء، بالمحو ووضع الأشكال الشفافة والخشنة. أشكال نابضة تختلف طولا وعرضا، وتنشر حيويّتها في الفضاء، يظهر هذا في اللوحات التي تحمل الرموز التالية: EP/1B-2010 ou HT/1D-2013، HT/1C-2011 ؛ أشكال تصاعدية أو تنازلية، تعبُر مجتاحة بصورة مائلة، في مواجهة الارتفاع الشاهق، في مواجهة اللوحة قبل أي تصور ممكن. أثر حازم ومراوغ، هكذا يتم تثبيته، وكأنه مدعوّ للتجلي. فيما يقدمه الفنان هنا ليس هناك تطابق مع شيء أو مفهوم مسبق. هناك «الحركة-الجسد»، وهي تنتقل عن طريق الفكر واليد. ووحده ربيع يضمن أن يحافظ سوادُه المصقول بقوة في الفراغ المندلع، على فضيلة الظهور هذه.
في تلك الأثناء، نحس بنشاط القوى الغريزية، وهي تنتج فنّا ينشأ ما بين الوميض والظلمة. فالحركة ليست أداة تحليل بل هي وسيلة ترسيخ. إنها تُقيم في نهاية الفعل الصباغي كما في الأثر الذي يخلِّفه. حيث تعبرُ العلامات والخطوط الصورةَ في نفَس واحد. هنا وهناك، تقوم القطرات السيّالة، والبقع المعلَّقة (في رسومات الحبر كما في اللوحات الزيتية) بتكثيف الحركة بطريقة متقشّفة جدا، لكن دون أن يكون ذلك غلوًّا أو إقلالًا. على طرف فرشاة الحبر أو الصباغة الزيتية، ينبض الفنان والعالم كلاهما بنفس الإيقاع. يتداخل الفعل الصباغي بالأحاسيس. إنه شبق الحياة. وينضم نفَسُ الفنان إلى نفَسِ الكون. ثم فجأة، بقعٌ ملوَّنة، شرارات، أزرق داكن، أحمر قانٍ، أو أصفر برتقالي (مثل فسيفساء رافينا)، خاصة في مجموعات 2010، 2011، 2012 والتي تحمل العناوين التالية: HT/6B، HT/5C TL/1C، (tempera sur linoleum). إنها مثل خدوش معلّقة، تكاد تكون منتَشية، تحافظ على ذلك التوتر المتبادل في الفضاء «المنفتح» ما بين لُعبة الأسطر والخطوط التي تجعل القماشة مُشعّة. تمنح هذه الألوان للوحة ألقَها الوجودي، في بساطة مُحيِّرة، دونها تصبح اللوحة في أزمة. إنها نقاط منتشرة على القماش، وهي تصون علاقتها المرهفة بالسواد المكتوم. تساهم هذه البقع اللونية في الإقفال النهائي للعمل الفني. وبموجب إجراء اختراق حساسية هذه النغمات الملونة. يتدفق كل شيء في حركة واحدة، حركة تجعل العمل منجزًا.
لقد تمكّن ربيع منذ فترة طويلة من الابتعاد عن الارتباك الذي تخلقه سلطة التمثيل في التصوير. محطّما أية تراتبية في وسائل التعبير الخاصة به. فهو يعطي معنى لحركته، لكل ما يوجد أمامه. مصرّا على استدامة نفس الرؤية، ونفس التفكير في ثنائية رسم/تصوير. يقوم بتوسيع نطاق ما يكون عبارة عن لمحة فقط، مؤخِّرا أي خسوف للبصر. يتحقق مسار اللوحة عبر الحركة. وربيع يريد أن يصوّر، لا أن يصف عن طريق التصوير. لا يوجد التجريد في ناحية، والتشخيص في أخرى. وهذه مسألة وجيهة للغاية، وقد ينتهي الخوض فيها بكلمات خالية من المعنى. فمصطلح التجريد ظلّ دائما مشكلة جوهرية. هو الفن اللاتشخيصي، اللاموضوعي، هو الفن الخالي من فكرة تمثيل شيء ما. هذه المعاني كلها تظل قاصرة عن الوصول إلى المقصود بالتجريد. التجريد هو نمط من الانفتاح على عالم اللوحة.
التجريد هو حضور للصورة، وابتعاد عنها في الآن نفسه، الصورة التي دفعت بعض الفنانين إلى الرغبة في الهروب من اللوحة. «نحن لم نقم بتشطيب كل شيء وإزاحته، من أجل أن نفسح المجال لعلاقة مثالية بين الفضاء واللون. لقد أزحنا كل شيء حتى لا يكون هناك أي عائق أمام فعل الصباغة» (…) (هارولد روزنبرغ Harold Rosenberg، خلال سنوات الأربعينيات).
كان التجريد دائمًا منذورا لتلبية متطلبات التصوير. إن دور الفنّان، كما قال ستريندبيرج Strindberg سنة 1896 «لم يكن أبدا تكرار الطبيعة، بل السماح لها بالمرور…». كانت هذه العبارة بمثابة وصفة لطيفة للبدء في مغامرة القرن العشرين، فلقد خلق التجريد تجربة جمالية متفرّدة، (وهي تجربة لم يكن من الممكن أن تمُارس وتُناقش دون الوعي بغيرها من الطرائق الفنية الطلائعية التي عرفها القرن العشرون، وبالفن التشخيصي). التجريد ليس طريقة ولا نسقًا، بل هو على الأصحّ أسلوب للوجود. إنه يعدّ بالنسبة لربيع، حدثا مليئا بالحيوية. التجريد ليس هو فن اللاتشخيص. من الضروري تجاوز هذه الفكرة لمقاربة أعمال ربيع. ليس فقط بسبب السياق التاريخي والاجتماعي، ولكن بسبب رهافة هذا «الجميل» الذي يكشف عن نفسه. فاللوحة تشق طريقها عبر فكرة الصمود، ثم تقوم بدمج هذه الفكرة، لتجعل منها مركز قوتها.
إن اللوحة غير قابلة للاختراق بسبب الخطاب التشخيصي أو التجريدي، أو بسبب الأفكار الجاهزة. أمام هذه اللوحة نحن غارقون في اللامكان، في عالم مليء بحد ذاته بضوء متحرّر من الارتباك. العمل الفني ليس إلغاءً للمشروع الإنساني. إنه يباغتنا ليجعلنا نحسّ بوجودنا. وربيع لم يتوقف عن مواجهة هذا الجدار (الذي تحدث عنه دي ستايل) واختراقه، للعبور بلا هوادة، نحو فضاء واحد، يتم فيه ترتيب الأشياء واستعمالها باسم الصفاء الخالص. يرتكز اختبار العمل الفني (خارج أي نقاش) على فكرة توقُّع الحقيقة، حيث امتداد الحركة، سواء أكانت مجرّدة أو قريبة جدّا من التشخيص. وربيع يميل نحو حقيقة واحدة، وهي تلبية هذا «المنفتح»، للوصول إلى الحقيقي والتسامي فيه، هناك حيث يكون للمقدس زمنه ومكانه الخاصان به، داخل اللحظة، وبتَسامٍ شديد عن الواقع المُعتاد. ولعلّ الصلة في ثنائية الرسم/التصوير، تتميّز بهذا التقاسم الحميم مع العالم اللاّمرئي. التجريد ليس سحْبا لأشياء أو اختزالا لها. كما أنه لا يمتدّ انطلاقا من وجهة نظر، ولكن عبر دمج خُطط لتنظيم التوترات القائمة بين السواد واللون، إنها مؤامرة بين التكوين الأوّلي والتزمُّن. يجتهد ربيع في وضع المشهد الحقيقي للأشياء في كل عمل تصوير أو رسم، وضع تلك الطريقة التي تؤثِّر في الروح: شروق الشمس بين الأشجار التي تبدو قلقة على الجانب الآخر، الزهور المبثوثة على عشب بئيس في بيداء مشلولة، والمجرى الجاف للنهر. رفقة هذه الأعمال، لا يمكن لأي شخص أن يستريح.
أستحضر هنا بصورة خاصة رسم الصخور السوداء سنة 1985، واستعراض الأشجار سنة 1984، واللذين أنجزهما الفنان بواسطة الفحم على الورق، وهي تقنية يحن إليها كثيرا. ربيع «يرسم على الموتيف» (وهي كلمة مشتقة من Motivus، أي الباعث على الحركة على التوّ، دون وسيط، وفي الهواء الطلق ثم في المرسم)، شاغلا جميع الأماكن، وفي أقرب مكان إلى ذاته. فهو يؤْثر أماكن بعينها (جبل، بمحاذاة أشجار الصنوبر، غابة) كما يؤثر الوجود بحدّة في قلب العالم، أمامه وداخله، لاستشعار المطلق والتمكّن منه. ومن هناك يتزوّد برؤاه الخاصة. إنه الحماس الذي يصاحب رحلة البحث عن النظرة الخالصة المشحونة بالذكريات، التي تتدفق من ذاكرة عميقة. وتكفي تلك العناصر المألوفة في الذاكرة، والتي تم تأملها بعناية، ولفترة طويلة، لإحداث لقاء بين المحسوس وغير المدرَك. الحقيقة الأوّلية التي يمرّ بها الإنسان في رؤياه. في مكان أبعد قليلًا عن مرمى بصري. إنه الحديث السرمدي الذي يجريه ربيع مع أحجار طفولته، بصرف النظر عمّا مرّ من الوقت، رفقة الطريق الذي تملؤه الأخاديد. حيث للحجر وزنه، كما أنه يكشف عن جسامته، وإلغازِه هناك في الهسيس الخافت للورق الذي يحضُنُه.
طبيعة صامتة تُعْزى إلى أحلام بعيدة. يخلق ربيع المشهد الطبيعي داخل فكره، عندما يحلّ المساء، في عمق السكون الذي يلفّ الحياة، والمنبثق من قلب نباتي كبير، مستعاد ومرافق لصاحبه. يقوم ربيع باستحضار حماسة الأشواك، والخدوش التي تتركها، والبراعم المعقودة والنسغ الذي يجري بداخلها. إنه يغرق كليّة في هذا التأمل، حيث قدوم الريح في الأيام الربيعية المبكِّرة. تمنح هذه الدراسة الطويلة للطبيعة، لرسوماته حقيقة غير متوقعة، لما هو لحْظَوي بشكل دائم. ربيع يصوّر ويرسم تدفق الزمن. خط، نقطة، أثر، بقعة، كلها عناصر تُجبر المساحة البيضاء على الانفتاح، ما بين الحركة والاستكانة. اليد تتكيّف مع شكل العالم القادر على إخراج مصادر الأحداث، مهما كانت أقدميتها، من الذاكرة. هناك هذه اللحظة المقتَطَعة من العالم الذي يمرّ أمامنا، تلك اللحظة التي يجب أن تُرسم كما هي في واقعها. فالطريق الحقيقي يتشكّل من أرض مغلّفة «مأهولة شعريا».
ومثل النعمة التي تربط ما بين السحابة بالبرق، ما بين الحنين والوعد، وما بين التوازن والانهيار، تتكدّس المناظر الطبيعية والرسومات واللوحات كلّها في مكان معقد وهائل، وهي تواجهنا كخيط من شعاع يشرق من الأعلى، ويَفتح الطريقَ أمام المقدس.
لا يلزم سوى خط واحد (ربما أثر واحد) ليبدأ كلّ شيء من جديد، كما يقول فرانسوا شينغ François Cheng. فالعمل الفني لربيع، هو عبارة عن جذور ممزوجة في صوت واحد. وهو يمتلك السرّ المتوهج الكامن في النظرة الأولى. كما تَعرف معدّاته الرائعة كيف تقوده نحو الظمأ الحقيقي: الظمأ الذي لا يغادرنا أبدًا، والذي يفتح الطريق أمامنا. فمن خلال هذا اللقاء بالفنان، في الدار البيضاء، أصبحت أكثر اقتناعا بعبارة كيتس، التي تؤكّد أن «الأرضَ عبارة عن وادٍ تنمو فيه الأرواح».
الهوامش
*Francis Ponge، L’Atelier contemporain، NRF Gallimard، 1977
**علامات الظل، معرض فردي، ساو آرت غاليري، So Art Gallery، الدار البيضاء، 2016
العنوان الأصلي للمقال: Elisabeth Chambon، L’ATELIER DU VISIBLE
المصدر: Abdelkébir RABI’
L’ŒUVRE À L’ABSOLU
Sous la direction de Mohamed Rachdi
Éditions H2/61.26، Casablanca – Maroc، 2019