خالد أمَزَّال
شاعر وباحث مغربي
(1)
بَيْنَ طَيْشِ الْْفَرَاشَاتِ وذَاكِرَةِ النَّهْر
كُنْتُ بَاسِقًا
كَالصَّمْتِ خَلْفَ نَافِذَتَِيْن،
انْتَبَذْتُ بِأَصْوَاتِي الْمُضَرَّجَةِ
عَنْ تَجَاعِيدِ السَّاقِيَة
وَقَدْ تَكَلَّسَ سَاعِدِي رُوَيْدًا رُوَيْدًا
عَلَى شَفِيرِ النَّدَى،
حِينَ انْثَنَتْ خَرَائِطُ بَدَنِي
وَهِيَ تَسِيلُ يَمِينَ السَّهْوِ
سَاحَتِ الْغَابَاتُ فِي هَدْأَةٍ عَاتِيَةٍ
وَالْكُثْبَانُ زَاغَتْ أَوْبَتُهَا
فَسَكَبْتُ عَلَى قِمَاطِ الأقَاحِي جَهْرًا …
سَأَمَ الرِّمَالِ الشَّاغِرَة.
لَطَالَمَا انْدَلَعَتْ أَنْفَاسِي فِي الأَخَادِيدِ
فأَبِيْتُ أَنْ تَتَبَلَّلَ الْمَسَاءَاتُ النَّحِيفَةُ
بِيَدَيَّ الْمُهْتَرِئَتَيْنِ،
وأَيْنَمَا دَبَّتِ الْفَلَوَاتُ
تَجَلَّدْتُ عَلَى فِرَاقِ لَوْنِي الضَّنِين،
إِلاَّ أَنَّ الْجُسُورَ لَمَّا رَأَتْنِي
جَفَلَتْ كَدَأْبِهَا
مِثْلَ رَذَاذٍ خَذَلَتْهُ الْمُرُوجُ
فَجَعَلْتُ وَعْثَاءَ عُبَابِي
خَلْفَ جَلَبَةِ الْعَابِرِين.
هَهُنَا الْيَنَابِيعُ الْمَارِقَةُ تَعْوِي
فَيَتَلَثَّمُ فَوْقَهَا رُعَافُ غَيْمَةٍ،
أَمَّا تِلْكَ الصَّنَوْبَرَةُ شَفِيعَةُ الْغِرْبَان
الْوَاقِفَةُ حِيَالَ خَاصِرَتِي
والَّتِي تَجَافَتِ الغُدْرَان عَنْ مَضْجَعِهَا
فلَمْ أَمْسَسْهَا بَعْدُ،
فَقَدْ كُنْتُ أَتَحَسَّسُ حَنَايَا ضُلُوعِي
بَيْنَ حَشْرَجَةِ جَدْوَلَيْنِ.
هَهُنَاكَ الْوِدْيَانُ تَفْرُكُ رَغْبَتَهَا
وَهِيَ تَعُضُّ غِيَابَ التَّيَّارِ،
تُوَضِّبُ صَوْتَ خَرِيرِهَا
عَلَى مَسْمَعٍ مِنْ لَيْلٍ خَانَتْهُ نُجُومُهُ،
وتَخِرُّ عَلَى سَرِيرٍ بَلَّلَهُ الصَّفْصَاف …
بَيْنَمَا الضِّفَافُ تَتَسَرَّبُ وَاجِفَةً
عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ هُجُوعِي
كَأَنَّهَا تُمَحِّصُ مَا خَلَّفَتْهُ تُخُومُهُ.
هَهُنَالِكَ جَدَاوِلُ تَهَدَّلَ صَوْتُهَا
تَنْدَلِقُ وَحْدَهَا في هَمْسٍ لَيْلِيٍّ
وبِحَسِيسِ دُمُوعِي تَتَرَبَّصُ،
حِينَمَا بَدَّدَ انْحِدَارُهَا
بَعْضًا مِنْ سُكُوتِي
طَاشَتْ أَلْوَانُ صَدْرِي …
فَزَجَرَتْهَا صُفْرَةُ الأكَاسْيَا
حَتَّى اسْتَكَانَتْ قُرْبَ الشَّفَقِ الْحَزِينِ
وانْحَبَسَ عَنْهَا صَخَبُ الْكَلِمَاتِ الزُّجَاجِيَّة.
(2)
بَيْنَ طَيْشِ الْفَرَاشَاتِ وخَاصِرَةِ الْبَحْر
كُنْتُ حَانِقًا
كَالْحُلُمِ قُبَالَةَ خَيْبَتَيْنِ،
أَوْرَثْتُ قَسَمَاتِ الْبُحَيْرَةِ لِلْبُخَار
ولِلْجَليدِ أَخْرَجْتُ من وَرِيدِي سَرَابًا
فَصَارَ يَبَابًا لِعُشْبِ الأيَّام،
أَوْحَيْتُ إِلَى الغَمَامِ أَنْ يَدَعَ سَقْفَ الجَدَاوِل
وَيَنْحَرِفَ يَمِينَ ذَلِكَ الْفَيْءِ السَّقِيم
لَعَلَّهُ يُلاقِي مَا انْفَصَمَ مِنْ أسْرَاري ..
بَيْدَ أَنَّ أَوْزَارِي
انْبَرَى لَهَا رَهْوًا سُفُورُ الضَّبَاب،
قُرْبَ بِئْرٍ عَقِيم جَلَسْتُ
ثُمَّ ذَرَفْتُ حِكَايَةَ زَنْبَقَةٍ
كُنْتُ قَدْ مَرَرْتُ بِتَنْهِيدَتِهَا،
سَأَلْتُهَا بِهَوَادَةٍ حِينَذَاكَ
وَقَدْ انْبَطَحَتْ أَوْسَطُ أَفْكَارِي:
“يَا نَدِيمَةَ الصَّلْصَالِ الْمَطَرِيِّ
هَلْ حَقًّا لِلْحُزْن طَعْمٌ
لأَنْجُوَ بِأَوْتَارِي مِنْ رَخَامَةِ الْجَرَيَان؟”
… بَغْتَةً سَالَ بَيْنَنَا وُجُومُ الْفَوَاصِل
فَانْفَلَقَ غَيْرَ بَعِيدٍ بَيَاضُهَا …
لَوَّحَتْ لِي بِجُثَثِ الطَّحَالِبِ
وَذَهَبَتْ أَنْهَارًا فِي تَلافِيفِ الأكَالِيل،
بَعْدَئِذٍ الْتَأَمَ تُرَابُ انْكِسَارِي
سَرِيعًا حَوْلَ سِيقَانِ الْعَطَش
وأَسْفَلَ لَعْنَةِ الْبَجَعِاتِ انْهَمَرْتُ،
مَا أَرَدْتُ ..
لَكِن انْدَحَرْتُ إِلَى قَيْلُولَةِ الشَّمْس
صُحْبَةَ شُعَاعٍ خَاصَمَتْهُ الظِّلال،
مَكَانِي جِرَارٌ يَطَّوَّفُ بِهَا النِّسْيَان
زَمَانِي دِثَارٌ مَا عَادَ يَغْشَانِي،
أَمْشِي وَسِيعًا فِي وَضَحِ الْغُبَارِ
عَسَاهُ يَجْتَثُّ بِمَهَارَةٍ مَا يَنْبَثُّ
حَوْلِي مِنْ صُدَف،
مُنْذُ الْوَهْلَةِ الأخِيرَةِ
هَجَرْتُ هَذِهِ الْبِحَارَ الْمُخْمَلِيَّةَ
بَعْدَ أَنْ غَمَسْتُ مَرَايَاهَا في قَلْبِي
وَلا عَلامَةَ لِلْمِلْحِ عَلَى أَصَابِعِي
أَوْ عَلَى النَّهَارِ
فَمَاذَا فَعَلْتُ حَتَّى صِرْتُ لِلأَمْوَاجِ نَعْشَهَا؟
فَأَنَا لَمْ أَشْهَدْ قَطُّ حَتْفَ سَحَابَةٍ
وَلا حَضَرْتُ زُرْقَةً أَوَانُهَا أَزِف،
مَا ارْتَجَفْتُ عِنْدَ انْصِرَامِ السُّفُوحِ
إِذْ أَكْثَرُ الدِّلاءِ شَهْوَةً
لا تَنْفُذُ بِعَزْمٍ إِلَى غَبَشِ أَوْصَالِي،
أَجَلْ …
خَاصَمْتُ الْبَرَارِي الطَّافِحَةَ بِاللاَّزَوَرْد
وَمَعَهَا الأمْطَارُ الْمَكْسُوَّةُ بِرَنِينِ الْفِضَّة،
مِنْ كُوَّةِ الزَّفِيرِ انْبَثَقْتُ …
ودَوْمًا اعْتَنَقْتُ هَذِهِ الدُّرُوبَ الرَّعَوِيَّةَ
لَمَّا أَضْحَى هِجَاءُ الْغُيُومِ مِهْنَتِي.
(3)
بَيْنَ طَيْشِ الْفَرَاشَاتِ وَمِرْسَاةِ الْفَجْر
كُنْتُ رَائِقًا
كَالْهَجِيرِ أَدْنَى شَجَرَتَيْنِ،
وَضَعَتِ الأَسْمَاكُ الْعَارِيَةُ فِي كَأْسِي عِنَاقَهَا
فَتَرَاهَا وَبِشَكْلٍ صَحِيحٍ
تَتَهَاوَى في نَفْسِي بِلا أَكْفَان،
ومَرَاكِبُ الْغُرَبَاءِ أَخْطَأَهَا الْحَنِين
حَيْثُمَا يُلامِسُ شُقُوقَهَا الأُرْجُوَان
يُنْكِرُ رُسُوَّهَا بَعْضٌ مِنْ حَدْسِي،
وَبِإِمْعَانٍ بَدَّدَت الْعَصَافِيرُ سَمَاءَهَا
فَأَمْسَتْ وِجْهَتُهَا سَهْلَةَ الْمِرَاسِ
إِذْ سُرْعَانَ مَا صَبَّتْ فِي عُيُونِي أَلْوَانَهَا،
لا أُعَاتِبُ السَّرْوَ الَّذِي تَنْفُرُ أَفْيَاؤُهُ
عِنْدَمَا يَرَى خُفْيَةً أَثْلامِي،
لَكِنَّنِي أَرْتَابُ مِنْ الْقُبَّرَةِ الْمُتَدِلِّيَةِ
بِمُيُوعَةٍ عَلَى حِجْرِ السِّنْدِيان،
كُلَمَّا يَنُوءُ خَطْوِي بِأَحْلامِي
تَنْتَابُنِي ذِكْرَيَاتُ الْحَطَبِ
وَتَحْتَ وَابِلٍ مِنَ الأقْحُوَان أَغْفُو،
ثَمَّةَ حَجَرٌ بَلْ هُوَ سَهَرٌ يُرَاوِدُنِي
فَأَنْسَلُّ بِلا تَلَكُّؤٍ إِلَى مَسَامِ الغَّسَقِ
قَبْلَ أَنْ تَجِفَّ دُونَهُ شَمْسِي،
مَنِ الْقَادِمُ إِلَيَّ مِنَ السَّؤَالِ الْبَرِيِّ إِذَنْ؟
مَنِ الْعَابِقُ بِكُلِّ ذَلِكَ النُّعَاسِ الرَّمَادِيِّ
الَّذِي أَثْخَنَ في أَسْمَالِ أَجْفَانِي؟
أَحْزَانِي بِإِلْحَاحٍ تَنْسَابُ
قُرْبَ لَحْمِ الشُّطْآنِ الْمُمَلَّحِ بِالْمَوْتِ الطَّرِيِّ،
وَجُثْمَانُ القُطْرُسِ يَنْبُتُ كَالْبِلََّوْرِ
مِنْ ثَنَايَا الرَّذَاذِ الْمُكَسَّر
عَلَى طَمْيِ أَشْجَانِي،
إِذَا أَخْطَأَ النَّرْجِسُ سَحْنَتَهُ
ظَمَأً في أَدِيمِ صَفَحَاتِي
وتَنَادَتْ الْخُلْجَانُ في مَسَامِعِ الْمَحَارِ
تُغَازِلُ أَصْوَاتُهَا بَقايَا رُفَاتِي
آنَذَاكَ شَاهَتْ تَقَاسِيمُ جَبِينِي
رَيْثَمَا انْبَجَسَتِ الأَغَانِي بِلا تَرَانِيم
مِنْ قُرُوحِ الرِّيَاحِ ..
هَدْهَدَتْنِي لأُصْغِيَ إِلَى الأَشْجَارِ الآبِقَةِ
ثُمَّ هَدَّدَتْنِي بِسِرْبٍ مِنَ الذِّكْرِيَات،
كُلُّ هَذَا وَأَنَا أُدَانِي السُّحُبَ الضَّيِّقَةَ
الَّتِي تَغُضُّ فُتُورَ الأُوقَيَانُوس
والْبُخَارُ يُطَرِّزُ الْعَرَقَ الْمُتَنَصِّلَ سَهْوًا
مِنْ أَقَاصِي جَسَدِي الْمَرْجَانِيّ،
فَاسْمَعِي أَيَّتُهَا الْبَرِّيَّةُ ضَجِيجَ كَلِمَاتِي
فِي أَكْمَامِ اللُّوتَس وجُيُوبِ الْجِبَال
وَاحْمِلِينِي مَكَانًا قَصِيًّا
لَعَلِّنِي أُرَاوِدُ ارْتِعَاشَ الْفَرَاشَاتِ
أَوَلَمْ يَكُنْ عَرْشُهُ عَلَيَّ؟