محسن العوني
باحث ومترجم تونسي
«سيسمع الرّجال خفق نبضك في التّاريخ.. إنّه صوت الغزال الأصْهب في ضوء المستقبل المُلتزم»
غاستون ميرون (Gaston Miron 1928 – 1996) شاعرٌ وناشرٌ من الكيبيك- كندا. اشتهر خاصة بمجموعته الشّعريّة «الرّجل المشروخ**» «L’homme rapaillé»، نُشرت لأول مرة العام 1970، ويعتبرها النقّاد واحدة من أبرز معالم أدب الكيبيك، تُرجمت إلى ما يزيد عن عشر لغات. وكان للشاعر تأثيرٌ حاسمٌ على شعر الكيبيك في الدول الناطقة بالفرنسية وفي أماكن أخرى من العالم وها هو يشقّ طريقه إلى ذائقة القارئ العربي في هذه اللّحظة التاريخيّة الحاسمة من تاريخه. ميرون بالإضافة إلى ذلك أحد مؤسّسي «مطبوعات سداسيّ الزوايا» /Éditions de l’Hexagone، أول دار
نشر في الكيبيك مخصّصة للشعر. غاستون ميرون الشاعر/ الظاهرة ، مثقفٌ مُلتزمٌ أُمَمِيٌّ اشتراكيُّ النّزعةِ مناضلٌ تقدّميٌّ صلبٌ عنيدٌ من الكيبيك، هو أيضًا رَجلُ عملٍ ميدانيٍّ شارك في الحركات العمّالية وفي خدمة استقلال الكيبيك. أقامت له حكومة الكيبيك جنازةً وطنيّةً في مسقطِ رأسه يوم السبت 21 ديسمبر 1996. وهو الأديب الكيبيكي الوحيد الذي حصل على هذا التكريم والإشادة العالية و يُعتبر من قبل «شاعرًا وطنيًا» بارزًا في الكيبيك.
غَدًا… التّاريخُ يشهد
حزينًا كئيبًا يُشبهني تماما لم يعد يعبأ ولا يحفلُ بشيء..
إنّي أرى هذا الشّعب الذي يمضي سريعًا إلى حتفه..
حزينا كئيبا هكذا لدرجة أنّه لم يعد ممكنًا
أن يكون المرء حزينًا كئيبا إلى هذا الحدّ..
لا أحد هنا يموتُ مِيتَةً طبيعيّة..
من يعبُرُ إلى الضفّة الأخرى ويمضي.. إنّما يعبُرُ معه ويمضي شيء منّا جميعا..
ومن يُولد إنّما هو قبسٌ منّا جميعا يغدو آخَرَ..
أيّتها الإنسانيّة.. ستكونين -أنت كذلك- حزينةً كئيبةً في يوم ما..
وجَعًا تجدينه في العظام بضع قرون..
ذاك الوجعُ الغامضُ الخفيُّ نِتاجَ الشغُورِ التّاريخيِّ للأصل..
أيّها النّاس
لعلّ التّاريخ لن يُكتبَ ولن يكون أبدًا..
فاحفظوا عن ظهرِ قلبٍ أسماءَ الإباداتِ
حتّى لا تنالوا في زمانكم ومُدّتِكُم حصّتكم منها جزاءً وِفاقًا..
أيّها النّاس
كم يَجْدُرُ بكم أن تقتلوا المَوْتَ الذي يصْطَرِعُ علينا..
فوحده هذا الإنجاز يستدعي قِيَامَةَ الشّعر..
تدويناتٌ حول اللاّقصيد و.. القصيد
أنا أتحدّث عن نفسي فحسب وعن آخرين عَدَدُهُم ضئيل..
ذلك أنّ كثيرًا ممّنْ يحتلُّون المنابِرَ لا يتوقّفونَ عن إعلانِ رِضَاهُم ..
راجعوا العناوين الرئيسة..
إنّي أتكلّمُ عمَّا يلي:
حالةُ الدونيّةِ الجماعيّة.. حالةُ قلّةِ القيمةِ المشتركة المقتسمة..
حالتي التي تتملّكُنِي وتتلبّسُ بي..
إنّها تلك التي تقتحِمُني وتعتدي عليَّ
في وجودي وصفتي كإنسانٍ
نوعًا معيّنًا وقيمةً خصوصيّةً وجوهرًا…
إنها حالة اعتصار الروّحِ حتّى النّزع..
إنّها مُوَرَّثةٌ من الوَالِدِ إلى الوَلَدِ إليَّ أنا..
اللّاقصيد
هو حزنِيَ الوجوديَّ
مُعاناةُ أن تكونَ من الأغيارِ…آخرَ
اللاّقصيد
هو شرطٌ تخضَعُ له تُكابده بلا أملٍ
لغيريّة يوميّةٍ قاسية..
اللّاقصيد
هو تاريخيّتي
المُعَاشةِ بطريقِ التّعويضِ والاستبدال..
اللّاقصيد
لساني الذي أضعته ولم أعُد أتعرّفُ عليه*
سرابٌ بقيعةٍ لفكري الضّبابي المتداخل
علاماتٌ مُلازمة لواقعي المُعتم الغائم..
اللّاقصيد
هو انتزاع الصفة السياسيّة المثبّتة القائمة
لاستمراري وبقائي..
والحال أنّ القصيد لا يغدو مُمكنا
سوى ضدّ اللّاقصيد
لا يمكن أن يُكتب إلّا خارج اللّاقصيد..
لأنّ القصيد انبثاقٌ..
لأنّ القَصيدَ رِفْعَةٌ وسُمُوٌّ
وسط وحدة شعبٍ متجانسٍ يُحرّرُ
بقاءه المُجَمَّد المحكوم بالتّغييب والسّجن..
القصيدُ القصيد قائمٌ هو..
في الرَّحِمِ الرَّحِيم لثقافة وطنيّة أصيلة
إليها ينتمي انتماء الجذر للثَرَى..
مع قارئ واحد أو عشرة آلاف من القرّاء..
إن لم يكن كذلك فهو لا يعدو أن يكون حالة من الشكوى المُسترسلة
لقصوره الذاتي وعجزه عن الوجود..
إن لم يكن كذلك فإنّه يتبدّدُ ويتلاشى في احتضار الكُلِّ..
هكذا أغدو غيرَ مقروءٍ وفق شروط الغيريّة..
*** ? what do you want يقولون ..
هكذا أُصبح اِسْمَ عَيْنٍ لشَعْبٍ وكيان..
أيها القصيد.. إنّي أحيّيكَ
في الوحدة المغشوشة للداخل والخارج..
أيتها المعاصرة الملتهبة الجديدة..
إنّي أحيّيكِ.. قصيدًا/ تاريخًا/ نوعًا
وحُضُورًا للمستقبل..
هنا ابتدأ القصيدُ
في التَّحَقُّقِ..
هنا استهلَّ القصيد
سيادتَهُ..
قصيدي..
تماما مثل نَفَسِ عالَمٍ خائرٍ في مقابل موته
الذي لا يَأتي..
الذي لا يَعبُر..
الذي لا يُحَرِّر..
مِثلَ تَتِمّةِ كلماتِ مُحتضر يُوزّع حِصص ميراثه..
مِثلَ رقاقات ثلج صغيرة حول شفاه ظامئة صادية..
كما في أرجاء مساحات جسدي المنتشرة
قصيدي..
بين التَنَفُّسِ والإغماء..
تنفّس واهن خافت يستعصي على الموت كأنّما هو طائر الفينيق..
لرجل مُطوّقٍ مُحَاصَر بكلِّ وهمٍ وخيال..
في استئصال صوت شعب يُطلب منه أن ينتظر مصير الهباء المنثور
وسط تخلٍّ مُطلقٍ مُنتظمٍ يشبه تعاقب الفصول..
كأنّما هو بُخارٌ غيرُ قابلٍ للإصلاح في مرآة العالم..
يا قصيدي..
يا قصيديَ المنشودِ ذاك ..
سلامٌ على رَمَادِكَ!..
الهوامش
* يشير النص إلى معاناة الناطقين باللّغة الفرنسية في كندا من غزو وحصاراللّغة الإنجليزية التي يعتبرونها وجها من وجوه الاستعمار والسيطرة والتّبعيّة للغير..على الأقلّ في الفترة التي كتب فيها الشاعر نصّه . «يقول ميرون الذي أقام سنوات بباريس وخالط الجزائريّين والمغاربيين عموما وكان مُدركا مُقدّرا معاناتهم مع الاستعمار الفرنسي: «على سبيل المثال هل أن عشرات الآلاف من الجزائريين الذين لم يعودوا قادرين على تكلّم العربيّة وباتوا يتكلّمون الفرنسيّة فحسب، هل كانت الفرنسيّة لسانهم بسبب كونهم لا يتكلّمون سوى هذا اللّسان؟ اليوم وهم يُزيلون الاستعمار يعودون إلى تعلّم اللغة العربيّة، كونهم لم يعودوا قادرين على تكلّم لسانهم كان نصرا للمستعمر.. فلنواصل الكلام بالكيبيكيّة، أو لنتعلّم الكيبيكيّة من جديد!» الكيبيكيّة من الفرنسيّة بالتأكيد Bien sur le québécois c›est du français
**غاستون ميرون «الرجل المشروخ» قصائد منشورات تيبو مونتريال 1996
Gaston Miron « L’homme rapaillé » poèmes Éditions TYPO Montréal 1996
*** «ماذا تريد ؟ « وردت في النص الأصلي بالإنجليزية ..