مواضيع متنوعة كان قد تم نشرها في صحف ومجلات متعددة ، هكذا يشرح الكاتب ذياب بن صخر بن حمد العامري عنوان ( البومه ) الذي أطلق عليه ( ومضات من دروب الأيام ) . وأسميه بالألبوم لأن العامري يأخذنا معه بالكلمة والصورة لنقطع رحلة طولها نحو 5 عقود وعرضها 260 صفحة من القطع الكبير، والورق المصقول والصور النادرة .
يمزج العامري الشحمي بالعام ، وبعد صفحات ندرك أنها ليست مجرد سيرة ذاتية لمواطن ، بل هي سيرة ذاتية للوطن . فهو حين يتحدث عن أول صوت أحبه . يحدثنا عن نمط المدارس الأولى التي شهدت هذا الحب (مدرسة المعلمة مياء بنت راشد لتلقين القرآن الكريم ، وتعليم الألفباء … الواقعة في نهايات البيوت الطينية وعلى مشارف بيوت السعف التي كانت منتشرة ذات يوم ، في معظم حارات مدينة (مطرح العمانية ) ، وها هو يعود بعد 44 عاما على دروسه الأولى ليلتقي المعلمة بمنزلها بمدينة مطرح في صيف 1996م ليجدها تتمتع بصحة طيبة ، كما يجدها كعادتها في همة عالية وتواضع جم وتفكر في أمور الحياة والدين والآخرة . في هذا الفصل الأول .. من ألبوم العامري ندرك تماما النسق الذي صاغ به كتابه ، وكأن هذه الصفحات مفتاح الفصول كلها ، كما في عناوين مثل (مدرسو أيام زمان ونهجهم التربوي المتطور) و(الحاج سالم : اعتراف عفوي بابداع الخيال وسمو العاطفة ) و(رحلة الصيف الطويلة الطريفة )، فهو في هذه الفصول – وسواها يعيد نسج التاريخ الذي عاصره ، بشخوصه وأما كنه ، بحب شديد، إنه الحب للصبية الأولى .. وهناك أيضا الفتاة الأولى (وبينما كنت أسير بين الخيام لمحت فتاة بديعة الجمال كانت تهم بالولوج في احداها،
وأذكر أنه انتابني ، وأنا في ذلك العمر المبكر ، . شعور غريب وغامض ، وكل ما أتذكره أنه كان شعورا بالشفقة البريئة على فتاة كنت لم أر بعد مثيلا في حسنها وجمالها ، ولو أنها كانت تكبرني بعشر سنوات على الأقل .
قلت لها ما معناه "كان من الأفضل لو جعلت باب خيمتك مقابل الناحية العلوية ، لأن الريح الآن تدخل بسهولة في الخيمة ، ولكنها أجابتني بخبث لم أدرك معناه في ذلك الوقت "لا… الأفضل أن أبقي خيمتي على ما هي عليا الآن ، لأنك قد تأتيني ، إذا غيرت بابها على حين غرة من الجهة العلوية .." هكذا يدون لنا ذياب العامري مرويات عمرها أكثر من 30عاما، ويوثقها بالصور التي التقط الكثير منها بنفسه ، وكأنه يعرض لنا شريطا مصورا وموثقا ، هو يقبض على تلك . اللحظات الغاربة الفارة والغارقة في رمال التاريخ المتحركة ، يقبض عليها بذاكرة من حديد ولغة قوية ، ومثلما يجد دائما الخيط الذي يربط أول الحكاية بآخرها.. هكذا كان سيسأل معلمته بعد 44 عاما عن اسم الصبية ذات الصوت الجميل ، وهكذا كان سيبحث عن تلك الفتاة الغجرية التي حادثته على باب خيمتها ذات عام (وجاء في العام القادم والأعوام التي تلته أقوام آخرون من الغجر ، ولكن لم تكن هي بينهم ، ثم انقطع الغجر كلية عن الحلول بالوادي ، ولم يعد لهم ذكر، ولم يعرف أحد أين هم سكعوا وأين هكعوا ، وفي أغلب الظن أنهم انصهروا في المجتمعات الحديثة ، ومرت أعوام وأعوام ، ولم أر غجرية الوادي حتى اليوم ).
لكن عرض كتاب مثل (ألبوم ) ذياب العامري يعد أمرا مستعصيا ، فهو ملي ء بالتفاصيل ، تلك التفاصيل الأنثروبولوجية التي يقدمها الكاتب بسلاسة فائقة ولغة جزلة .
العامري.. الرحالة .. الشاعر.. الكاتب .. المصور الأنثروبولوجي ؟ حاول أن يرصد في سيرته الذاتية هذه السمات فهو يورد فصولا لا يجمعها إلا إحدى سمات تلك الشخصية ، معارك الاثير وفريد الأطرش السفر الى كوكب الشعر ، ومضات من كتاب العمدة ، ذكريات حضومية ، السير ويلفريد ثيسجر : من حنين القافلة الى هدير الحافلة ، النشيد الفريد للنظام الجديد، جوانتانا عيرا في بلاد الصباح الهاديء ، شارلوت برونتي وبعض شعراء اليوم وتحت هذه العناوين سيجد القاريء شخصية العامري في إحدى سماتها وفي السطور التالية تلك العين السينمائية الموثقة لتاريخ أمالت عليه السنون غبار النسيان لكن ذاكرة ذياب العامري تعيده لنا ، وبالألوان :
في صباح اليوم الموعود يستيقظ الجيران على صوت السيارة الهادر، وهي تخيم بهيكلها العالي الكبير الطويل العريض ، على زقاق الحارة الضيق ، بعد أن تتسبب أكتافها الفولاذية الضخمة ، في كشط واجهات الجدران الطينية الواهية . ويسارع أطفال الحارة الى مشاهدة أفراد الأسرة الهامة
بالرحيل ، وهم يسوقون أمتعتهم المتباينة حجما وشكلا ومضمونا وغرضا، كل على حسب طاقته وسنه ، ليملؤوا بها الجزء الخلفي من السيارة ، فهنا رجل ينقل صناديق السمن والسمك المجفف ، وأكياس الأرز والطحين والسكر ، التي تكفي لمؤونة أشهر الصيف القادمة ، وهناك أخر يحمل أسلحة مختلفة من بنادق و(محازم ) وسيوف وتروس وخناجر وسكاكين ، بالاضافة الى السلاح الثقيل المتلبب به أساسا ، وهناك امرأة تحمل ركوات (مطارات ) ملئت ماء عذبا ، ومزاود بها طعام وفير يكفي لسبعة أيام وليس للساعات السبع التي سوف تستغرقها الرحلة ، وهنا رجل مسن يحضن بكلتا يديه صندوقا خشبيا شبه مغلق نتيجة كمية الأدوية الهائلة والمشكلة ، والتي يبدو أنه كان قد اشتراها بلا وصفة طبية من أحد دكاكين سوق (خوربمبة ) الشعبي، فصندوق الشفاء حافل اليوم بضروب من الأدوية التي تبتديء بصابون (لايف بوي) مقاوم البشور الناجمة عن حرارة الطقس ، وصبغة اليود (الآ يودين ) بلونيها الأزرق الحارق والأحمر الحاني، وضمادات الجروح ، وقطرات شافية للأذن والأنف والحنجرة ، بل وللعين أيضا، ولصقات (جونسون وجونسون ) المضمونة لتخفيف آلام المفاصل وعرق النسا، وما يتبعها من الام روماتيزمية أخرى، وتنتهي بأقراص الأسبرين وحبوب (الكينين ) ذات المذاق المر، والمؤملة أن تحقق نصرا مبينا في معركة بعوض الأنوفيليس Anopheles المرتقبة ، وأنابيب وقوارير (كرازات ) صغيرة تحتوي على أدوية تقاوم بأعجوبة السموم الناتجة عن لسع ولدغ ما هب ودب من حشرات وزواحف المكان القادم . فاستعدادات السفر هنا في أشدها .. أو لم يقل لقمان الحكيم لابنه في أحدى مواعظه : "سافر بسيفك وقوسك وجميع سلاحك .. وابرتك وخيوطك . وتزود معك الأدوية تنتفع بها، وتنفع به صحبك من المرضى والزمني (أي المبتلين )"؟!
وهكذا تتحول صورة ذلك الزقاق الهاديء الى صور أخرى تدب فيها الحركة غير العادية ، وتنبض فيها الحياة بالنشاط غير المعهود منذ انقضا0موسم الصيف الماضي.
وما أن يكتمل تحميل السيارة بالأمتعة حتى يبدأ الأطفال في الصعود والتكوم فوقها ، أما رب الأسرة فإنه يتخذ له مكانا بالمقدمة الى جانب سائق السيارة.
وقبل أن تبدأ الرحلة المنتظرة تختلط الدموع الذوارف بعضها ببعض ، فيما تتواصل العواطف الجياشة ، من قبل الظاعنات المترحلات ، وجاراتهن المودعات على حد سواء، فلا يستطيع المرء في تلك الحالة أن يفرق مطلقا بين المودعات (بكسر الدال لم والمودعات (بفتحها)، فالكلى في يوم الرحيل يبدو مترحلا راحلا، مما يجعل قول أبي الطيب المتنبي في تلك اللحظات العاطفية الحاسمة صعب التفسير والمنطق :
إذا ترحلت عن قوم وقل لاروا
ألاتفارقهم فالراحلون هم
وبعد ذلك الوداع الحار تسير السيارة متثاقلة بأزقة المدينة ، ناثرة وراءها هباء ، تتخلله رائحة نادرة لبنزين محترق ، يحسبه بعض المدرة ، نوعا جديدا من مستحضرات ماء الكولونيا الغربية الغريبة ، التي كانت قد وصلت حديثا الى السوق ، كيما تزاحم العطور الشرقية الطبيعية بآسها ووردها وياسمينها ومسكها وعودها وصندلها، والتي طالما ضمخت جنبات الأزقة وواجهات الحوانيت المتراصة ، عندما كان العطارون التقليديون يعرضونها على المدرة جلوسا على قارعة طرقات سوق المدينة .
وبعد مرور تلك السيارة عبر بوابة بلدة (روي) التقليدية تصل الى بلدة (الو طية ) ، وهناك يوقفها سائقها الحصيف مقابل الجهة التي يهب منها الهواء ، ولضمان وصول أكبر كمية من الهواء البارد الى أجزائها الداخلية فإن مساعده يشرع في فتح غطائها الأمامي، ثم يفتح غطاء تخزان الماء (التانكي) الذي كان الماء قد بدأ يغلي بداخله . وبعد أن يتأكد من هبوط درجة حرارة ماكينة السيارة الى مستواها الطبيعي يبدأ في صب ماء بارد في الخزان كان قد اغترفه من فلج (الوطية ) الدافق .
ثم تواصل السيارة سيرها الوئيد عبر طريق وعر، الى أن تصل الى نقطة قريبة من (السطوة ) المعروفة حديثا بشاطيء القرم ، فيوجهها سائقها صوب علا~ طريق بدائية تم نصبها على مشارف الساحل لاشعار سائقي السيارات بخاصية الطريق الرملي القادم ، وهناك يفكر السائق مليا في الرمال الهشة الممتدة أمامه التي مسوف تمر عليها مركبته ، إذ أن كثافتها قد تعرض سيارته للغوص فيها، لذا قبل الشروع في القيادة صوب الساحل يتخذ قرارا بوقف سيار ته تماما ، ويطلب من جميع الركاب النزول منها، فيما يقوم (المساعد) بإخراج كمية محددة من الهواء من إطاراتها.
ثم يفعلي (المساعد) الرمال التي يعتقد أنها ستتسبب في عرقلة السيارة بصفائح معدنية ذات دوائر مجوفة . وبعد أن يستبصر طريقه الرملي ينطلق السائق بسيار ته في اندفاع شديد. أما الركاب المهر ولون خلف السيارة فحينما يدركون أن سرعتها آخذة في التباطؤ، أو أن عجلاتها بدأت تفور في الرمل ، فإنهم يهبون في الحال لدفعها الى أن تصل الى الطريق الساحلي الصلب ، مردد ين كلاما مقفى وموزونا ، نصفه الأول بلا فاصلة ولا واصلة ولا يعني شيئا، بينما نصفه الثاني يفيد عل الأقل بأن الهواء الساخن الجاف (الغربي) يهب على مدينة مطرح ، بينما الهواء الساخن الرطب (الكوس ) يهب على مدينة مسقط .
أيام النرد .. السينما والشعر
في (أيام النرد). ديوانه الثاني، يمزج ناصر العلوي تقنيات السينما بالرؤية الشعرية ، ليدشن لنفسه موقعا على خارطة التجربة الشعرية العمانية الحديثة.
سنجد القطع المفاجيء ، توزيع الاضاءة ، تقسيم المشاهد ، تحديد لقطات الكادر، وربما لن نجد النهايات السعيدة ، لكننا لن نجد في الوقت ذاته تلك (السكتة القصصية ) التي تصيب جل قصائد النثر التي يقدمها المبدعون الآن.
ومثل كاتب سيناريو حاذق سيؤكد ناصر العلوي على نوعية المشاهد التي يقدمها ، ويعرض التفاصيل التي على المخرج أن يعني بها ليكتمل المشهد.. ومع تلك (الاضافات ) و(التواترات ) النصية ، نتابع معا حركة الكاميرا الحر وفية وهي تقطع هذا المشهد. (وجه ورق / وجه فتاة / ما كان لي أن أصمت / كلمة في السطر / تفتت ولعي/ وعلمة هي الخلق / في شرفة مستحيلة ) ص 38 ولكن الشرفة المستحيلة هي التي ربما يتعذر على السينما أن تقدمها كما يقدمها الشعر :
(الستائر تهمس للقاطن لم في العتمة الضوء يفتح النافذة / الضوء يقفل ما عداه لم الظل شمس أخرى/ كاد لونه أن يقع / في مرآة الليل ) ص 39. هكذا يسوغ ناصر العلوي بحرفية المصور، وبراعة كاتب السيناريو أركان المشهد ، لكنه يمنحنه الطاقة الشعرية التي لا تكتفي بنسخ الواقع ، إنما تؤدي الى شعرتنه ليصبح الظل تلك الشمس الأخرى الواقع لونها _أو يكاد _ في مرآة الليل . (تنبت المصادفات / في ركن الحديقة / حيث مصباح غرفتي يخفت / في الضوء الذي بات بالأمس خارج ظله / تمثال الطبيعة يناطح فتور الشمس / حينما يدي باردة / في أبار يق الضوء/ في هذا الفجر/ العالق في الجسد/ مثل رطوبة الأسلحة / واضحة كالفتنة / أمام النور/ المنبعث من عيون الأرق / لا أسمع إلا دقات القلب / ونحيب الحراس ) ص 78.
هكذا يقدم عائلتين من الألوان ، التي تمثل الضوء : مصباح / الضوء / الشمس / واضحة / الفجر / النور والأخرى التي تمثل العتمة : يخفت / ظله / فتور / الأرق لكنه لا ينسى أن يقدم الموسيقى التصويرية _الشاعرية : دقات القلب / نحيب الحراس .
ولع الشاعر ناصر العلوي بالرؤية الأخرى للأشياء يجعله يعيد تسميتها بل ومنطقتها ، ليقدم لنا بكاميرا الشعر تلك الصورة – المتحركة _التي ستعيد ، بالتالي ، صياغة مفاهيمنا عنها:
(امرأة أخف وطأة / من عبيرها لم تحكم نومي / تعيد نورا في ذاكرتي / وسعيرا/ وتظل أكبر من كونها / قرية مطلة على سكانها) ص 43.
تبقى كلمة _ لا أعتقد أن للشاعر يدا فيها _حول الأخطاء المطبعية الكثيرة التي حفل بها الديران ، وهو ما يمثل اعداد فيلم جديد تتعذر رؤيته لرداءة نسخة العرض ، ولولا تصحيحات الشاعر ، لوجدت صعوبة في الاستمتاع بتلك النصوص . (توقف النور / برهة في الأعالي / غبت / تذكرت الطريد الغائب / كنت قصيا / مكشوفا كسطح البحر لا ص 14.
مسرح الشباب:
مرثية وحش الوهم
مخاض البدايات صعب لكنه برزخ العبور بالحلم الى الحقيقة ، هكذا كانت
الخطوة الأولى لمسرح الشباب في مقره الجديد، بالمسرحية العمانية (مرثية وحش ) ، وبعد شهور من الاعداد الفني للمسرح واجراء البروفات للمسرحية ترفع الستار ويعانق التجريب فضاء المسرح العماني.
منذ أيام شاهدت فيلم Sphere للممثلين داستن هو فمان وشارون ستون ، ورغم انتماء هذا الشريط الى سلسلة الخيال العلمي إلا أنه يعرض بشكل نفسي فكرة موجزها أن الخوف الذي يسيطر علينا مجرد وهم نصنعه نحن ، واننا اذا تجاوزنا هذا الوهم فلن يعرف الخوف طريقه الينا ، والمدهش أن تعالج المسرحية نفس الفكرة ولكن بنكهة عمانية ، لا تسبغها عليها اللفة فحسب ولكن عبر نمط الخرافة التي تهدد تطور مجتمعاتنا العربية . من هنا جاءت أهمية المعالجة السيميائية ، باستخدام الأقنعة واشارات الجسد وعنا هو الديكور الموجزة والاضاءة . ويدعونا تجهيز هذا المسرح الجديد، بتقنياته العصرية ، ال حلم بحجم الطموح ، بالا يكون هذا العرض سحابة صيف ، وأن تتلوه عروض ، بل وربما مهرجان مسرحي على المستوى الخليجي أو العربي أو العالمي. إن احتفاء المسؤولين ورعا يتهم لهذا النشاط الشاب يدفع المتحمسين العاملين في هذا المجال الى تكريس جهد أكبر للنهوض بتلك الحركة المسرحية ، ومع دعم المهتمين ونشاط الفنانين وتواصل الجامعة والهيئة العامة لأنشطة الشباب ، نعم يمكننا أن نحلم ، فربما يتمخض هذا الحلم عن نهضة مسرحية عمانية تجتذب جمهورها الخاص ، وتنمي ذائقتها المتخصصة .