قبل أن يودع عام الثقافة مسقط كان لابد لقامة ابداعية مثل نجيب محفوظ أن تكون له حصة من فعالياتها فجاءت التوجيهات السامية باقامة ندوة نجيب محفوظ التي نظمتها وزارة التراث والثقافة بنادي الصحافة وهذا ما أكدته كلمة الوزارة التي ألقاها سعادة الشيخ حمد بن هلال المعمري وكيل وزارة التراث والثقافة للشؤون الثقافية في حفل الافتتاح حيث جاء فيها «إن إقامة هذه الندوة تأتي ترجمة وتنفيذا للتوجيهات السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ الذي تفضل وأمر بإقامة ندوة ثقافية عربية تليق بتاريخ ومكانة الروائي نجيب محفوظ . وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على اهتمام هذا البلد وقائده المفدى بالثقافة العربية وتقديره للمبدع العربي ، وتأكيدا على دور السلطنة في التفاعل مع المعطيات الثقافية على امتداد رقعة وطننا العربي العزيز .
وأكد سعادته «إننا إذ نحتفي اليوم بنجيب محفوظ فإنما نحتفي بنموذج راق من الثقافة الإبداعية في أبهى صورها ، وأجمل معانيها .. نحتفي بمسيرة إبداعية امتدت إلى سبعين عاما من العطاء الخصب ، والتألق الخاص الذي انفرد به نجيب محفوظ . فكان له إسهامه الريادي والبارز في مجال الرواية ، كما كان لأعماله الفضل الكبير في الارتقاء بالسينما والمسرح والدراما التلفزيونية .
لقد استطاع نجيب محفوظ ببراعة فائقة أن يعبر عن هموم الإنسان البسيط والمهمش ، الذي حمل صوته وناضل من أجله بقلمه وإبداعه وفنه ، فكان سفيرا لقضايا الإنسان كما كان سفيرا لثقافة بلده .. تلك الثقافة التي رأيناها عبر رواياته وأفلامه ومسرحياته التي جسدت ملامح الأرض وحملت رائحة الوطن وهوية الانتماء لهذه الأمة العريقة الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ . ومن هنا حُقَّ لنا أن نصف أعمال نجيب محفوظ بأنها أعمال خالدة بحق ، حيث غدت جزءا هاما من مكونات الثقافة المصرية والعربية المعاصرة ، وحظيت باحترام كافة الأمم والشعوب مما أهله لنيل جائزة نوبل في الآداب عام ٨٨٩١م بجدارة واستحقاق . »
ضمت الندوة التي أقيمت على مدى يومين ٤و٥ من شهر ديسمبر الماضي ثمانية محاور وقد ناقشت جلسات الندوة في اليوم الأول أربعة محاور تناول المحور الأول موضوع نجيب محفوظ عربيا ، وشارك في الحديث عن هذا المحور كل من الروائي حنا مينه من سوريا حيث وصفه بأستاذه وزميله في العمل الروائي وقارن بينه وبين محفوظ قائلا «إن ما كان يميز نجيب محفوظ هو الحارة المصرية نظرا لاهتمامه بها فإن ما يميزني عنه هو اهتمامي بالبحر والبحر يعطي في اتساعه اللا محدود عالمية اكبر»
وأضاف «لم يسلم محفوظ نفسه لشتات السفر ومكوثه في بلده اوجد عنده هذه الخصوصية المحلية والمغلقة بالمحلية وبالتالي اعطى فيها بصورة واضحة وفاعلة حتى غدت سمة من سمات ادبه واعماله ومحمد عيد العريمي من السلطنة الذي قدم ورقة حملت عنوان (أثر مكان روايات في الرواية الخليجية ) حيث قال «كنا طلابا في المرحلة الثانوية وفي الأقسام الداخلية حين تعرفنا على بعض أحياء القاهرة وأزقتها وناسها. وكانت روايات محفوظ ـ في ظل غياب وسائل الترفيه الحديثة ـ الملاذ الذي نلجأ إليه من قسوة كتب الدراسة لاسيما العلمية منها!
كان يَنْقِلُنا بين تفاصيل الحارة المصرية حرفيا إلى درجة أن المرء يشعر فعلا كأنه يعيش في خان الخليلي أو في زقاق المدق، وكأنه فرد من أفراد الحارة يعرف سكانها وحوانيتها ودكاكينها وتفاصيل الحياة اليومية للمكان والإنسان.
وقد تزامنت تلك التجربة مع تدفق أعمال محفوظ الدرامية من خلال شاشة السينما وجهاز التلفزيون لتعزز ملامح المكان والشخصيات في انفسنا مُؤكِدة قدرة الفن الروائي على التواصل المباشر من خلال النص المُصَوَّر بينه وبين المتلقي بغض النظر عن خلفيته الثقافية.
ولم يكن من المُستغربْ أن نذهب إلى مكتبة المدرسة في اليوم التالي بعد مشاهدة الرواية في السينما لاستعارة «ثرثرة فوق النيل» لقِرَاءتِها مرة ثانية ومُقَارَنتِها بما شاهدناه في الفيلم. فيغدو المرء منا أكثر ألفة مع جماليات المكان وخصوصية الإنسان. وقد يتماهى بَعْضُنا مع شخوص الرواية فيقلد أحدهم في مشيته أو في طريقة حديثه مستخدماً مفردات لغة الحارة المصرية.
شخصيا كنت أشعر بألفة شديدة مع حارات وشخوص بعض روايات نجيب محفوظ تصل إلى حد المعرفة لا أشعر بمثلها حين أقرأ لكبار كتاب العالم!
ولا أبالغ حين أقول أني كنت أتطلع بلهفة إلى الانتهاء من الدراسة الثانوية لا لمواصلة دراستي الجامعية في مصر فحسب، وإنما لزيارة حارات نجيب محفوظ، والجلوس في احدى مقاهي خان الخليلي اشرب «الشاي المعسل»، وأتجاذب أطراف الحديث مع «جرسوناته» وزبائنه أو أصغي لحكواتي «أولاد حارتنا» وهو يتحدث عن الجَبَلاوي قائلا: «هو أصل حارتنا، وحارتنا أصل مصر، ومصر أم الدنيا».
وأكد العريمي «مما لا شك فيه أن الرواية العربية تأثرت بتجربة نجيب محفوظ بغض النظر عن موقعها على خارطة الوطن العربي. ولا أتصور روائيا عربيا أو قاصا زار القاهرة وتجاهل ما رسمه نجيب محفوظ عن المكان في رواياته، أو فكر في زيارة موقع أثري من دون أن يذهب أولا إلى الأماكن الحية التي نقشها محفوظ في ذاكرتنا من خلال ثلاثين رواية ومئات القصص القصيرة. وسيجد هذا الزائر أن المكان المتخيل في ذهنه مجسدا بصدق وبكثافة أبعاده الاجتماعية.
هذا الحديث يقودنا إلى التساؤل عن تأثير فضاء روايات نجيب محفوظ وأصدائه، وحضوره في الرواية العربية خارج مصر.. لا سيما أن أهمية المكان في بنية الرواية تأتي من كونه قاعدة في صلب المعمار الروائي ولا يكتمل بناء الرواية من دونه. فالزمن والشخوص وغيرهما من عناصر الرواية لا تتحرك إلا داخل فضاء المكان.
سـأتطرق في حديثي هذا إلى أثر مكان روايات نجيب محفوظ في الرواية الخليجية حيث ظهرت في الخليج أسماء تعاملت مع المكان واستنفرت طاقاته وأحسنت توظيفه في السرد الروائي، متأثرين ـ بلا ريب ـ بتجربة نجيب محفوظ.
فيما تناول المحور الثاني سينما نجيب محفوظ وشارك في هذا المحور الدكتور مدكور ثابت الذي تحدث عن أول تجربة له مع محفوظ وكانت في فيلم ( حكاية الأصل والصورة ) وكشف عن موسوعة تحمل اسم ( نجيب محفوظ والسينما ) يعمل بها منذ عشر سنوات جمع بها كل ماكتب عن محفوظ في مجال السينما الا انه لم يخرج لمحفوظ سوى فيلم ( شباب امرأة ) الذي أثار زوبعة عند عرضه الا أن الكاتب الراحل طمأنه وقال له «ان هذا الفيلم لن يفهمه أحد الا بعد مرور ثلاثين سنة من الآن» وهذا ماكان اذ كتبت عنه فيما بعد العديد من الدراسات.
وتحدث الدكتور خالد الزدجالي حول (أنساق نجيب محفوظ الابداعية بين الادب والسينما ) قائلا «قد تفتح وعي وقلب نجيب محفوظ على السينما وعالمها العجيب في فترة مبكرة للغاية من عمره ففي حوارات الناقد الكبير رجاء النقاش مع أديبنا والذي ضمنه النقاش كتابه»نجيب محفوظ- صفحات من مذكراته«الصادر في عام ٨٩٩١م يقول محفوظ: علاقتي بالسينما بدأت في سن مبكرة جدا.. كنت لا أزال طفلا في الخامسة من عمري عندما دخلت سينما «القلوب المصري» في خان جعفر المقابل لمسجد سيدنا حسين.. ومنذ اللحظة الاولى عشقت السينما وواظبت على الذهاب إليها.. وكانت كلمة «النهاية» على آخر الشريط من أشق اللحظات على نفسي، فقد كنت اتمنى أن أقضي اليوم كله داخل دار العرض..» .
أما المحور الثالث فطرح موضوع نجيب محفوظ والنقد ، وشاركت فيه الدكتورة عفاف عبدالمعطي من مصر حيث رأت «ظلت علاقة نجيب محفوظ بالنقد الادبي غائبة في سنوات ابداعه الاولى خاصة في وقت اصدر روايتين «عبث الاقدار ٩٣» و«رادوبيس ٢٤ وما قبلهما مجموعته القصصية الاولى «همس الجنون» التي صدرت عام ٨٣ وكان من الممكن ان يستمر تجاه الحياة الثقافية ببعدها النقدي لاعمال ذلك الشاب صاحب التجربة الوثابة حتى في كتابته للرواية التاريخية والتي اعتبره مجددا فيها على اكثر من مستوى وان ظهر تأثره في منحى الكتابة» والدكتور أحمد الطريسي من المغرب الذي قال «ان نجيب محفوط المبدع الروائي قام بخلخلة الشخصيات الاسطورية خلخلة ازاحتها تماما عن الشخصيات الدينية جعلت منها شخصية روائية ذات ابعاد اسطورية بل واكثر منه فإن شخصية عرفة ذات ليس لها أي اسقاط إلى اي شخصية يحيل إليها وهي ترمز إلى المعرفة والدكتور محمد لطفي اليوسفي من تونس الذي تحدث حول رواية ( ثرثرة فوق النيل ) وقال «تفضح الرواية ما يتكتم عليه التاريخ. وبذلك أيضا تظل الرواية وفية للرؤية الفلسفية الوجودية التي تصدر عنها، فيما هي تومئ إلى أن الخلاص مشروط بالنظر إلى قدام والسير على الطريق نفسه، طريق الحياة الذي لا نهاية له» .
المحور الرابع ناقش المسرح والقصة عند نجيب محفوظ . وشارك في هذا المحور كل من الدكتور عبدالكريم جواد من السلطنة الذي رأى «ان الدور الذي لعبه نجيب محفوظ في الرواية العربية وبشكل متوازن في السينما على مدى اكثر من نصف قرن دور تأسيسي وفاعل على مختلف الاصعدة ولعل اكثر تلك الادوار بروزا من وجهة نظرنا هو ترسيخ العديد من الظواهر الدرامية في الرواية العربية المصرية الامر الذي سهل انتقال تلك الروايات إلى السينما والمسرح وقد امتازت تلك الظواهر بطموحات ورؤى وخواص ومضامين كان له فضل بذر بذوره الاولى في عالمنا العربي والتي نمت وايعنت وآتت ثمارها فيما بعد ومنها ما ظل شامخا في مرحلته الدينيمية الاولى التي جاءت على يدي ولم ترمي الرواية السينما اللاحقة ولربما المعاصرة ايضا على مجاراته في اصالته وجرأته وغور طرحه والدكتورة وجدان الصائغ التي تحدث حول (أصداء السيرة الذاتية ) ورأت ان هذا العمل يختلف عن كل أعمال محفوظ لغة وأسلوبا وقارنت بين نموذج من هذه الأحلام وآخر ومقطع ورد في (ملحمة جلجامش ) بلغة نقدية فيها الكثير من الشعرية والعمق في التحليل النصي وبدأت الجلسة الرابعة بشهادات في تجربة نجيب محفوظ وقد شارك في هذا المحور كل من محمد بن سيف الرحبي من السلطنة الذي قدم ورقة حملت عنوان (رئيس دولة الرواية العربية نجيب محفوظ ) أو (الساحر الذي أهداني شمعة) ومما جاء فيها» ، كان رفيقي هذا النجيب، كأني أشاهده في قهوة الفيشاوي يتأمل البشر من حوله يصنع شخصيات روايته منهم، فتأتي الرواية واقعا، ويصير الواقع رواية، أحسست بها ذات الوجوه التي كتبها نجيب محفوظ في رواياته، سرت الى الجمالية وبت بالقرب من أطلالها ليلتين، رأيت شخصياته تسير بعيدا عن الورق هذه المرة، رأيت الصبي الفقير، رأيت المرأة بالملاءة اللف، رأيت احمد عبدالجواد يعود الى بيته ليكون سي السيد، ورأيت ملامح الناس الذين كتبهم نجيب محفوظ، اقتربت أعماله من الناس، فصارت الملايين ترى نفسها كشخصيات حقيقية تعصرها الحياة فلا يعودون يفرقون بين رواية الواقع، وواقع الرواية.
يقول عنه الناقد فاروق عبد القادر إن محفوظ قدم لونا من التأريخ الفني لأهم نقاط التحول في مصر المعاصرة من مجيء الحملة الفرنسية (1798 – 1801) إلى اغتيال الرئيس الراحل انور السادات (١٩٨١)، مؤكدا أن هذا التأريخ لا يروى من خلال وقائع جافة بل نسيجه شخصيات من لحم ودم ومشاعر.
منذ أن شيعته مصر الى مثواه الأخير على الحياة الدنيا، والحياة الثقافية في العالم العربي مشغولة بالحديث عن نجيب محفوظ، تذكروه كثيرا حينما فاز بجائزة نوبل، وتذكروه أكثر حينما مات، كأنما الموت جائزة أيضا، انما هي حياة أخرى لأعمال هذا النجيب، انبعاث آخر سيحتاج الى زمن طويل لادراك عوالمه، فهو متنبي الرواية، مالىء الدنيا وشاغل الناس، فكانت روايات نجيب محفوظ كتابة عميقة عن حياة الناس ومشاغلهم.
أحاول جاهدا أن لا أقع في فخ الكتابة عن نجيب محفوظ وتحليله روائيا وفنيا، لا أضيف شيئا الى ما قيل وسيقال، أقف على هذا المنبر لأقص حكايتي كما قلت لكم بداية..للمرة الأولى تعرفت على نجيب محفوظ روائيا في تلك المكتبة التي تحدثت عنها، لكنها كانت قراءة مراهقة لم تفتش كثيرا في تفاصيل ما بعد الحكاية..
بدأت لحظة القراءة الأعمق حين تعرفت عليه في سوق الجمعة، وجدت مجموعة من الروايات القديمة تباع بمائة بيسة للرواية الواحدة، وكانت بينها روايات دار الهلال المعروفة، وبينها ميرامار، قادتني هذه الرواية الى شيئين: الندم على تفريطي في شراء كل تلك الكمية من الروايات، والى البحث عن الثلاثية التي بحثت عنها حتى وجدت أجزاءها، منذ عشرين عاما، ولا زالت العراقة تفوح من روايات نجيب محفوظ التي اشتريتها في ذلك العام، كنت أكتب اسمي على كل رواية كعلامة على التملك، استعارها كثيرون، لكنها قادتني الى عالم لا أستطيع أن اسميه سوى بسحر الواقع، ولأنني من هواة الاعجاب بكل ما هو أجنبي قلنا عن ماركيز أنه يكتب الواقعية السحرية، ترى أي واقعية سحرية وضعها نجيب محفوظ؟ انها الدهشة العميقة، هي أن تقرأ الواقع فترى فيه لفرط سحره نفسك وجيرانك وأقاربك، يمشون على الأوراق، هي حكايتهم وليست هي، تطوف كالخيال على واقعهم، ويطوف واقعهم حولهم كخيال شفاف، يرى ولا يرى، كالهواء الساخن، يحرقنا رغم أننا لا نراه، أو يكون كالصفعة تلتصق بالوجه، تبقى بعدها حرقة الاهانة للروح، ولسعة الألم للجسد.ثم توقف عند رواية ( اللص والكلاب)
في المحور الخامس ( مجالس نجيب محفوظ ) تحدث الكاتب جمال الغيطاني عن ذكرياته مع الأديب الراحل «بحكم صلتي القريبة به أصبحت أقدم أصدقائه لأن كل أصدقائه انتقلوا الى رحمة الله وكان مسموحا بالزيارة لثلاثة هم يوسف القعيد ومحمد السلماوي وأنا وقد شاء القدر أن أكون آخر من قام بزيارته واللقاء به وكان ذلك في المستشفى اذ وجدته في غرفة العناية المركزة فأدركت انه يمر بأزمة حقيقية فاقتربت منه وخاطبته نقلت له سلام محبيه فأضاء وجهه هنيهة ثم اكتسى نفس الملامح السابقة فعرفت انها النهاية» وعن ذكرياته مع الأديب الراحل وبدايات معرفته بمحفوظ وأول لقاء له به عام ١٩٥٩ وكان عمر الغيطاني ١٥ سنة حيث تقدم اليه وعرفه بنفسه فرحب به ودعاه الى جلسة في المقهى ثم توطدت علاقته به حتى صار من أقرب الناس اليه وظل قريبا منه حتى وفاته وكان معه يوسف القعيد ومحمد السلماوي في هذه الجلسات»وأضاف «لقد درس محفوظ على اساتذة كبار من امثال الشيخ مصطفى عبدالرزاق وهو من عائلة كبيرة ورشح نجيب محفوظ لدراسة الدكتوراه في فرنسا، ولكنه ظروف بسيطة لم يسافر وعين أمينا عاما في مكتبة القاهرة ،ومنه اتجه إلى الكتابة الواقعية.
في عام 1948م ترك مصطفى عبدالرزاق وزارة الاوقاف ونقل نجيب محفوظ إلى «قبة الغول» واوضح الغيطاني أن محفوظ كان يحب الكتابة بشكل غير طبيعي حتى أنه اذا اراد ان يعطي احدا نسخة من مؤلف أحد اعماله لا يبحث عن ناسخه لكي ينسخ هذا العمل وانما كان يكتبه من جديد، ويقدمه بهذه الطريقة، كما أكد الغيطاني أن الثلاثية التي يطلق عليها اليوم هذا الاسم هي ليست رواية واحدة وانما كل واحدة تحمل خصوصيتها وهي رواية «بين القصرين» ورواية «قصر الشوق» ورواية «السكرية».في الفترة من 1952م وحتى ١٩٥٩م لم يكتب نجيب شيئا جديدا وأكد الغيطاني انه لم يعرف أي أحد سبب هذا التوقف»
أما المحور السادس فتناول ترجمات نجيب محفوظ الى لغات العالم حيث قدم الدكتور عبدالله الحراصي ورقة حملت عنوان ( ترجمات نجيب محفوظ : تجارب وقضايا «جاء فيها» لا ريب أن نجيب محفوظ هو عملاق الرواية العربية ورمزها الأول غير أن البعض ربما سيتفاجأ حينما يعرف أن أول كتاب صدر لنجيب محفوظ لم يكن رواية كتبها بل ترجمة قام بها من اللغة الانجليزية عام 1932م وكانت لكتاب جيمس بيكي «مصر القديمة»، ولعل هذه الترجمة مؤشر على أمرين أساسيين يتعلقان بخصوصية نجيب محفوظ المصرية العربية وعالميته في آن، ذلك أن فعل الترجمة ذاته يعني مع ما يكتبه الآخر وسعيا لنقله إلى ثقافة المترجم وهو شكل من أشكال الانعتاق من المحلية الضيقة وفي الآن ذاته فإن محفوظ قد انتقى كتابا له علاقة بمصر، وانتقاء المترجم للعمل الذي يترجمه لا يأتي خبط عشواء وأنما يتم وفق رؤية ولتحقيق غرض، وهنا فإن ترجمة هذا الكتاب المتعلق بمصر القديمة يمكن أن تفسر على أنها محاولة للتقرب من المكان المصري- الفرعوني- من خلال ما كتبه الآخر.
وإن انتقلنا إلى ترجمات نجيب محفوظ فإنه يمكن الإشارة سريعا إلى أن رواياته قد ترجمت إلى نحو ٤٠ لغة من لغات العالم المختلفة، وتعد مطبعة الجامعة الأمريكية بالقاهرة هي الناشر الرئيس لترجمات نجيب محفوظ حيث نشرت ترجمات لأعمال محفوظية في ٢٨ لغة من لغات العالم وفي نحو ٠٠٤ طبعة، وكانت أكثر من ربع تلك الترجمات في اللغة الانجليزية التي بيع فيها أكثر من مليون نسخة من أعمال محفوظ وهو رقم يزيد على العدد الكلي لنسخ أعماله التي طبعت باللغة العربية ذاتها). ويقول مدير قسم النشر بالجامعة الأمريكية في القاهرة مارك لنز أن رواية «زقاق المدق» قد صدرت في ٥٢ طبعة في ٢١ لغة فيما طبعت روايتي «اللص والكلاب» و«ميرامار» في ما يربو على ٠٢ طبعة في ٠١ لغات»
المحور السابع ناقش روائية نجيب محفوظ ، وشارك في الحديث عن هذا المحور كل من سعيد يقطين من المغرب حيث قدم ورقة حملت عنوان (روائية نجيب محفوظ ) ركز فيها على محفوظ الروائي وتطرق خلالها الى التجارب التي خاضها في هذا المجال مبرزا أهم خصائصها الفنية والأسلوبية وقال «الحديث في الرواية العربية هو الحديث عن نجيب محفوظ هذا العربي الذي اعطى للرواية العربية بعدا روائيا واثره في العطاء الكبير في العطاء وفي الرواية واضح حيث استطاع أن يضع لها اطرها وخصائصها الفنية.مؤكدا أن الرواية المغربية خرجت من معطف نجيب محفوظ، فالفضاء المكاني الذي اوجده نجيب محفوظ في اعماله الروائية غير موجود في الرواية المغربية، واصفا فضاءات نجيب محفوظ بأنها عربية مصرية، وإن كانت مغرقة في الخصوصية المحلية.ثم تحدث الكاتب عبدالرحمن مجيد الربيعي من العراق الذي قال في ورقته الموسومة ( قراءة تنشد الدنو من نجيب محفوظ )» تعرفت على نجيب محفوظ شخصيا وجالسته في مقهى ريش وزرته في مكتبه بجريدة الاهرام أي أنني عرفت الانسان والكاتب رغم أن كلمة عرفت كبيرة فالرجل ينام على كنز من الاسرار والحكايات ومن يقرأ (حكايات حارتنا) مثلا سيدرك أن الصبي الشقي الحيوي الذي رأى ما رأى ما هو إلا نجيب محفوظ ولا يمكن ان يكون احدا غيره»وأضاف «كان لنجيب محفوظ الفضل في حل بعض المعضلات في الكتابة السردية وعلى رأسها الحوار وأؤكد على هذه المعضلة بالذات لأنها هكذا فعلا بالنسبة للقصاصين العراقيين»
وقال «كانت فتوته الابداعية خير محفز لنا ..كان نجيب محفوظنا الذي أنجبته مصر
ولم تستأثر به وحدها»
وعاد الكاتب جمال الغيطاني ليواصل رحلة ذكرياته مع محفوظ ليكون آخر المتحدثين في الندوة .
وقد رفع المشاركون في الندوة برقية شكر لصاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -جاء في البرقية :«نحن المشاركين في ندوة نجيب محفوظ التي نظمتها وزارة التراث والثقافة في الرابع والخامس من شهر ديسمبر عام 2006م نتشرف بأن نرفع أسمى آيات الشكر والعرفان لصاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه- وذلك لتفضله بالتوجيه السامي نحو اقامة هذه الندوة الامر الذي اضاف إلى قيام مسقط بدورها كعاصمة للثقافة العربية عام 2006م مذاقا خاصة وألقا ورواء فعواصم العرب هي من ترعى النابهين في كافة الاقطار العربية وتحتفل بإنجازاتهم ونبوغهم.
ان التاريخ يخبرنا بأن القادة العظام وحدهم القادرون على صناعة الحضارة والرقي
ذلك عندما تسطع فضائلهم كالشمس المضيئة سماء أمتهم.
حفظك الله يا جلالة السلطان عاهلا وراعيا لعمان وابنائها الكرام ،المشاركون في ندوة نجيب محفوظ»
وقد خرج المشاركون في الندوة بالعديد من التوصيات الهامة ولعل أبرزها التأكيد على أهمية طباعة كافة البحوث المشاركة في هذه الندوة في كتاب كامل من اجل توثيقها ونشرها وكذلك أوصى المشاركون بأن تنظم السلطنة في العام المقبل 2007م اسبوعا سينمائيا لعرض الأفلام التي كتب لها نجيب محفوظ السيناريو والحوار او التي اعدت عن رواياته ونوه المشاركون إلى اهمية ان تعقد في مسقط كل سنة أو سنتين ندوة للرواية العربية تحمل اسم نجيب محفوظ كرائد للرواية العربية على ان تتناول الندوة في كل دورة احدى اعلام السرد العربي وتخصص محورا محددا عن تجربة نجيب محفوظ واوصى المشاركون بأهمية ادراج بعض الأعمال القصصية لنجيب محفوظ في مناهج التعليم الثانوي والجامعي ورأى المشاركون ان اطلاق اسم نجيب محفوظ على بعض القاعات والمراكز الثقافة على امتداد الوطن هو تقدير مستحق لهذه الشخصية التي اعطت وساهمت مساهم كبيرة في اثراء الادب الروائي العربي.
لقد جاءت هذه الندوة لتؤكد ان مسقط هي أول عاصمة عربية احتفت بهذا المبدع الكبير منذ رحيله عن عالمنا في يوم الأربعاء الموافق 30 أغسطس من العام الماضي في مستشفى الشرطة بحي العجوزة وسط القاهرة عن عمر يناهز 95 عاما .