شعرة تسقط أحيانا من رأسك ويسقط معها من الأمور ما لا يعد وما لم تلحظه على مر الوقت والأحداث بخفة الهواء، وبحدة ما في المأساة والذكرى. وقد لا يعفيك هذا الحدث من عناء التأمل والتبصر قدر ما تعفيك سماء صافية في الصيف. من نسيانها. لكن الفاجع أن تجهل المدى الذي أدركه الليل أو النهار في تعاقبهما التلقائي، أو في تصادمهما المدوي، عليك، حتى يصبح العالم على مخافة وتوجس وتواطؤ مع عبث غامض، وكبو في لا شيء مجهول، بخفة أن تسقط شعرة عليه، وبلا مقدمات منطقية، فيتساقط معها بلا وعي محسوب، ولا تتبع متماسك، حتى تلك المسافة غير المحددة التي تحتضن السقوط بقسوة الجماد، أو برهبة من يتذكر الموتى ولا يدري.
وهنا يمكن أن ترفع تلك الشعرة تتفحصها بعين مجهرية، لا لترن وجودها الأخير غير المسمى، وغير المبثوث، أو عمرها أو لونها، أو جمالها، إنما لترن عينيك ويديك وتعقد تلك المقارنة بين ما يتولى وما لا يبقى أو يبقى على أحواله. وعندها قد ترى أن تؤبن وتختار جيدا من تؤبن. تسحبه من محيطه، ونقاط تماسه، ومن أقوامه، ومن تواريخه، وتجعله واجهة من واجهات مأهولة، أو ذريعة ملتبسة لتبين هشاشة ما في الكائنات وما في الكلام والحصائر والعتبات. لكن ما تتلقفه يداك، ويقلبه بصرك، وما ترنه وما لا ترنه، جدير بالموت وبأهله، أو بتجسيد أدوار تجمع بين احتفالية لفات بمصادرها الينبوعية وبين لحظات فنائها. فالمنقلبات في تواريخ الشعوب والموجودات من صفاتها اللازبة، ومن ثوابت عناصرها، وأصلاب جذورها، وهي المادة الأولى المتحركة في اتجاهات غامضة ومكشوفة، تشرق أحيانا وهي تلفظ مواليدها وهوياتها وأحفادها وكتبها إلى عتمات سفلى، أو إلى ذاكرات تتكدس على حطامها النبيل.
ومن يدري، وقد يطلع من حرائق مدن مجتاحة ومن لهبها ورمادها وصريح أبنائها وصريفهم ذلك المتوج بالخوذة العالية والمذهبة، ويعلن ما يعلن من ميتات كاذبة لا يصدقها أهلوها. ومن يدري فقد تسحب من مرآة، كل مرآة، ما تشاء من مصادفات التكوين والفراديس وبدايات الشهوات واللعنات الخلابة، وما علق من غبرة ألفية مسكونة على ذقنك ودفاترك، وما خلت على حواسك من غابات أفلت مولية في نزعاتها السادية. وهكذا عليك أن تختار عندها، كتلة تاريخية محددة، أو شريحة جغرافية أو غيمة عابرة تسحبها كشعرة، ثم تقلبها في أمورك وبصائرك وتعبث بها، حنونا بعبثك، وتسفحها شجيا، بميل ميلودرامي عميق. ويمكن عندها، وبلا وعي أكيد، وبلا حواس منتبهة، أن تتسلق شجرة لا تراما، وتنصت إنصات الحجر الى الماء، إلى انزياح الأشياء عن ممتلكاتها فإلى أسرارها وفواجعها، إنما بدمع فائض، كما يرحل أطفال وكائنات وموجودات من الجبال، وتشهق وتشهق، لا لترى سهلا، أو تتكهن برحيل، بل كما تنمو الحصائر تحت الجلد، وفوق أظافر الأقدام، وكما تنفتح نوافذ دفعة واحدة، ولا من يدفعها، في الليل، لترتفع حشرجات صاخبة تزفر حناجر لا تتسع لها المدن والدساكر، في ميل ملتبس وربما خاص، لكنه جامح جموح الثيران المطعونة، إلى ما يشبه العدم.
ويشتد بكاؤك عندما تقيس المسافة الصامتة التي تتأرجح عليها تلك الشعرة الدقيقة، في ديكور مخيف: يداك، عيناك، ثيابك، الكتب، المنفضة، اللمبة، الحجرة المقابلة، الباب…
ديكور ربما لا يليق بهذه النهايات الميلودرامية ذات الغصص والتشفي والثأر، لكنه مكان ما تسوغ حدوده وأشياءه كما يصوغك ألفاظا عابرة، وتروضه كما يروضك، وتستل منه ما يخدم إدبارك أو تلك الأحداس الحادة بالمغادرة الساكنة والإقبال الواضح وضوح الشمس. وما عليك في هذه الحالات المتدافعة على مجاملها إلا أن تنحني على ما يحيط بك انحناءة الخاشع، والخاسر، والمصدوع في تكاوينك الداخلية، وفي قسماتك، وتروح تحصي، بلسانك، واصابعك، وغيابك، كمن يحصي اسرابا غامضة تتساقط على البحر والسطوح والرؤوس، أو كمن يحصي بزات عادت بلا جنودها من الحروب.
هنا بالذات تتذكر، والمكان تذكر، والباب كذلك. تتذكر كيف لم تمت مرات وكدت مرات تحيا، وكيف تكهنت بالصحائف والصفائح، وبالمنديل، وضراب الدفوف، وشاهر اللعنات، لكن عبثا، فالشعرة المقطوعة قاطعة، ترثي ما لم تتمكن أنت من رثائه، وتؤبن المظفر ين في عز انتصابهم. لكن لحظة! لحظة! أتكون لك لحظة واحدة، لا تستكثر بها أن ترى من النافذة ما سراه، وما تودع من الأمور ما يأتيك ويهذيك كالومضة والعطر والنسمة والمرأة والسروة، وما يضمخك، غارا عليك، وينبوعا، وزيزفونا، وما يقطر ضعفا خلابا من عينيك. آه ! لحظة. وكيف لهذا الديكور أن يعابثك ولا تحاذره، مستسلما بالجوارح والأنفاس؟ وكيف لتلك الفتاة ذات القامة والظل، والبياض الفاقع أن تهف عليك كملايين السنوات الحزينة، وتلتحف رغباتك ثم… وكغيوم تتمازج، وغصون تهتز وتهتز في فاكهتها العجلي. آه ! فلتنعشك الذاكرة، بقدمها الفاتن وسمارها الأغبياء، كمن يذر رمادا في عينيك وتنام، أو يرفعك كمهرج ميلودرامي نساء بلا قسوة ولا عذوبة ولا حتى بدمع مرسوم. وعليك أن تشفي غلة ثم غلة عللتها وعللتها وتتآكل في أحشائك حتى المرارات. حتى المزق. آه ! وأي مزق وأنت تصبغ بالقرمزي تهاويل ميدان ارتفع بلا نهاية على منصات التصفيق والقتل والانتحار ثم النشيج، ثم النشيج، وسوره فوق الجلد جلد قديم، وعلى الشفاه شفاه قديمة، وفي البصر بصر، وعلى الجسد قناع مرتاب.
لكن ما الذي يتردد متنكرا بماضيه وأفوله وبحقائبه الفارغة، وبخزائنه المنبوشة، في هذه الغرفة الخلية، الساكنة، ليطن حينا على كتاب مهلهل، وأخرى على صحن مهمل، حتى يدرك جبهتك واوصالك وبقي السر في حشاك وخلف أذنيك وفي همهماتك ! وهنا لا تكفي فزاعة، أو ارتفاع مذياع، أو هذر مبكر، لتطرد ما يتعاظم في انتفاخ الهواء، وسريان الغبار، وزفير الجماد في مكوثه الميلودرامي. وهل للاسترسال عمدا في التذكر، أو الانخراط في غياب، أو حتى السعال الحاد، استعادة لتلك العزلة الزئبقية، الخارجة على نواميس الوقت؟ لكن كيف تتدرج عيناك من السقف الى البلاط فإلى الرفوف فإلى الملابس فإلى اللمبة، والولاعة، قبل أن تقرر إعلان أنك قبلت الرهان، ولم يبق إلا أن تنكر، وتلتم في أفكارك، وأن تنفي ما تخاف نفيه من شغور الأمكنة والروح من كل غبار إلهي مبثوث طي حواسك وهواجسك؟ ولن تكون وحدك. هكذا وبيد حاسمة تقطع الجذر الأول، ثم الجذر الثاني، ثم تفصل الحاسة عن الحاسة، والتذكر عن التذكر، والحنين عن أبهته العاطفية، والصلوات عن ينابيعها الحارة، وتكاد تصرخ آه ! الهواء بلا جهات، آه الوقت بلا فصول، حتى يفاجئك ما ليس في الحسبان، وما ليس في الترقب والتنصت، لتزفر بصريح يجرم جلدك، وقشورك، وعماك، ويرميك بلا حول ولا قوة ككلب عثر فجأة على نباحه. لكن حتى في النباح والصريخ والجعر تكاد تتحرر من شيء ما ومن مكان ما ومن وجوه ما لولا ما يمض فجأة كمنارة في ظلمة غير مكشوحة، أو كنداء يرتطم بالأصوات والجدران، والشعرة التي كادت تقصم ظهر النهر تلاشت لحظة ثم تقطعت بخفة الملائكة على تقاطع عينيك وأرجاء الغرفة. لكن ماذا؟ وأي هدوء مريض ينتابك كسرة كسرة لتراهن به الرهان السري: هذا لخير كثير عليك. إذ كيف ترصف على وجهك الهش، حجرا ثم جذعا ثم جبلا، وتثن أنين الواهن واليائس والخاسر والموطوء. هذا كثير عليك ولن تدحرج صخرة، أو تزيح ثقلا، كأنما من هذا الهبوب السادي في أحوالك، تلتذه، كأنما، من آخر أقوام رذلتهم، ومن طفولات بصقت في براءاتها. لكن هذا كثير. والألم أكثر، والغياب أعم: حجر، طابة، لعبة، شليك. قربان، كاهن. سروة. مقبرة. أحوال. أعمام. غبيط. حرش. كينا. دفتر. مدرسة. أف! هذا كثير: بلاطة فوق عشبة، وشموع أشعلتها في جنازاتهم، ومأتمهم، وصورهم، وأعراسهم وعاداتهم وأمهاتهم وجداتهم وسيوفهم وعباءاتهم وطرابيشهم وبطونهم. لكن هذا كثير، لخير عليك، الجذر دفء، وتربة، وسرير ووسادة، وضعف، وشعر، وقلب، وشوق، لكن هذا كثير عليك أن تفرغ جسمك من دمه كمن يفرغ غابة من غرائزها، هذا كثير، الحرية برد وعزلة وقسوة ورهان المقبل على الهاوية ولو خلابة، والحرية كسر التذكر. والارتماء في ميتات بلا تاريخ، وبلا وداع. وبلا وجوه. أف! لكن كيف لهذا التراكم الألفي الا تزحزحه ! وماذا تفعل هذه الكتب وراءك وقدامك، ومن الصنف الذي اخترته وأسرك. وماذا تفعل في هذه الغرفة التي كونت قسماتها من قسماتك، وصمتها من صمتك. وفوحها من فوحك. وألوانها من عينيك.. وأزهارها من الصنف الذي اخترته أيضا.. وأسرك. كيف أعبث بحواسي! كيف أنفي خطاي. كيف أدمع كي أنكر دمعي. والدمع سر القبور وكاشف بوابات السجن. كيف أتدارك ضوءا خلفي وينير أمامي. وكيف أغمض عيني عن أمامي ويظلم خلفي وقدامي. قل لي يا ضراب المصادفات الكبرى، من أين يأتي كلب بقوة الا يقوده شميمه، أو يفرج عنه نباحه؟ سيان يشرط الوقت كستار حرير.. وسياف يقطع جسدا حيا لينصف الموتى. هاك اللعبة الخاسرة أبدا. وهذا ما يسيبك كل لحظة وأنت السابي بلا حول ولا قوة ولا سحر. وهنا يمكن أن تحتكم إلى ألفاظك وقوانين منصوبة كالأعمدة وتصرع بها من تشاء، لكن، من يدري كيف يختزل الموتى في عز أحيائهم، وأنت منهور برغباتك السود، وعباراتك المتهادية وحدها نحو القاع، وأنت مطعون بالعرافات والكهنة والآيات والألواح الممهورة جميعا بمعارف الموت والقيامة والنواميس والجلاميد والعلامات والأختام والنبوءات والجرذان والغرائز البائتة، والعذاب الأليم.
أف! وأنى لي أن أحمل هذه الشعرة المقطوعة المنتصفة في ظهيراتها العجلي أو في أغساقها البطيئة. وكل هذه الأثقال، خفية بخفتها الماكرة، مليئة بشغورها المخيف، رصينة في تجوالها الغامض.. أف ! وكيف لي الا أزفر دفعة واحدة هذه القشور والعظام والجثث الألفية على مجامل أنساها وتبتعد. وكيف لي الا أزفر ملايين السنوات المتكلسة المؤكسدة بكيانها وأنسالها وأرحامها وخطاياها ومواليدها وجناتها وأنسابها، تطبق على صدرك، كطناجر تغلي فيها الحجارة والبصاق والعزة والشهادة والإيمان العميق.
أف! كيف لك أن تمزق وشائج وأعباقا وورودا دامت طويلا على مسامك وثيابك، وعلى حفافي الكراسي، وألوان الستائر، والمزاليج، والكتب؟ كيف لك، وأنت الضامر، كخيط مهلهل، أو كتلك الشعرة الخالصة، المبثوثة بين عامين، لتقصم ظهر النهر، عليك وعلى وجهك، ودمعك، وما يجف قبل موته، وما لا يجف بعد موته، أن تعابث الموت في أوج ترفه عل عينيك؟ إذا تبادره كمن يسبق الربيع بورد الشتاء، ولا من يتعتع نياته، ولا من يصبو إلى خطي من جليد الوضوح، ومن إرث انقشاع الحواس على اندثارها المبكر.
وحنانيك على السبل الصافية في عرائها الفارغ، ووقع قديم، وأرصفه مهملة، وذات شوق، وماء، ومطر وقبعات، ومظلات، وورد فتيت، ولقاءات خجلي، وخطي بلا أسباب.
آه ! وحنا نيك، وتفاح الأعالي من شروق النهارات وذهب العيون، واهتزاز الأخضر وتدرجات الشحوب في المنزلقات والأودية، وكيف لك، الا تختزل ذاكرة في قطاف مجاني، وفي هز غصون ملأي وخلية في مساحاتها الخلية.
لكن أينك؟ وأين، وما تخلف قدامك، وفي حدود الصدر، وفي التمام الزبد المتدافع في بياض منفي وأخير. وأينك، من كبو أحصنه أثقل من جبال، وأخف من ورق الصفصاف، وفي البراري صهيل مفتتح المواسم، والنحاس، والتربة السائدة العجان المقبلات، وما يتبعه الفصل والوصل، وكسر الوثقي، والعروة، وسلخ الجلد، تحت هر الملح والحامض والنصلة الحاسمة.
وأينك، منسحبا، كجرو أو شلو، ومن هواء رآك كثيرا حافيا على فضاءات حافية، غرا مسلولا من فيض الأعوام، وتصابي البدايات. وأينك مسحوبا، تضرج الأروقة والوديان والشجر والمدن، بدعاء طويلة، مقطع الأوصال، مهدر الأمصال، مسحورا بالسموم الكبرى، معجونا بغرائز الموتى وآياتها الكبرى، مسحوبا، عاصبا جبينك بعلامات القبائل، واشارات الأعراق، وصفوف القتلى في هيباتهم وأيقوناتهم وبريق خوذهم، مسحوبا، بنياتك القرمزية، وصفاءاتك المبثوثة، ومهاراتك الجامحة في أوقات الجموح والخلل والأمراض التي تصنع مجد الشجر، وتواريخ السواحل، مدججا بحقائقك الكبرى الصارمة، الثابتة، عديمة الليلك، بهية الأعمدة، سميعة الموتى، تحمي بواباتها بما يبيد الجرذان، والطير، ويرفع الموج سورا بلا مواقيت، وبلا حثالة، وبلا فواصل. هكذا، ويرمش معدن وبخفة من نوافل الحواس، تتقدم حاسرا، وطاغيا، وميتا صافيا في ميتاته الصافية. إنها الأقدار الكبرى! وها أنت، حاذفا فراغ النسمة، تشرئب على هضبة، اختلط فيها العشب بالروث، والجذوع بالمخيلات التعبى، والليلك بزبالة الحروب والبول والدم والقيح والانتصارات.الخاطفة، حتى يشعرك، كومض نحاس، برق غادر، ويقصف ما في نجومك اللماعة، وما في بزاتك الزاهية، وما في تيجانك.. هكذا، وحولك، ما يتداعى، ويصدع رأسك، ويخفي عبورك المتطاول ويتفانى كجذر عريض. وعندها، تسبقك أمراضا وأطلالك ومشارقك المخسوفة على المدن، والدساكر، نذائر ومجاعات، وكوليرا، وطاعونا، وسرطانا، وأيدزا وسلا، وتلوثا، وجفافا، وعهرا وهروبا ومجازر وآلهة تتدافع في انتحاراتها الخلابة على أطراف البحيرات والصحاري والجبال. إنه العدم الخالص ! الحقائق التي تفترس قوانينها تلحس دعاءها ليصفو حولك خواء بلا هالات، ولا جذر، ولا قبح، ولا جمال، خواء كمن يقطع شعرة ويتركها تتأرجح أمامه حاملة سقوطها الأخير بلا ندامة ولا متعة ولا عذاب. ولا مال ولا تذكر. خواء مسلول من خوائه، يبصق حياته رغبة رغبة، فرجا فرجا، ثمرة ثمرة، بصقة بصقة. خواء من أجسام تنش كجدران متداعية، ورطبة، ومهجورة، ومنخورة، وبشعة، ترشح ميتاتها الكسلي، تزفر هنيهاتها الموبوءة والمبتذلة، بعوضها المعدي خلاياها المنهوشة، أبصارها اليتيمة، كاتدرائياتها الطافية المتهادية على طوفان الغرقى والشجر والفلين والزيت والبول والتحلل وروائح الأبدية المنتنة، ولا ما يرج، ولا أسطورة، ولا معجزة، ولا وهم، ولا سراب، ولا صخرة تتدحرج ولا من يهدي، ولا من يأتي ولا من يذهب ولا من يحصي التواريخ وغياباتها وانقراضاتها ولا هن يعلم الجغرافيا المتناسلة من عجول ذهبية مصقولة، ومن أرقام غطت القارات والدساكر والمدن والقمم والثلوج والصحاري، وأنبتت زهورا، ولا فوحا وفاكهة، وصديدا تلوكه بلا مذاق، وبلا فوضى، وبلا عرفان وبلا زبد.
وكيف لهذا الخواء الأخير الا يستعذب نيابات الموتى أمام شاشات الموتى، وغيابات الآلات الماهرة في كرها اليومي بلا حساب ولا آت، في أو كار المدن، وصناعات المعدن، وترميم الفضاء، وتلويث الأنسال والهواء وشغور الأمكنة وخرابها. هكذا، ولا ما يسود غير ذلك العدم الأبيض، العدم اللامع بمعادنه وذهبه وظلاله. إنها الفتنة العابرة، لكن لتتراكم مسيراتها العابرة ولكن لتقص الرمق الحي، والاختلاجة، والخفق، حتى الدمعة المستورة وراء بؤبؤ مازال بؤبؤا، حتى ظلال الآلهة المدججة بالإرث، والخمر، والمدائح المطيبة، وان أهملتك بخوذاتها البرية، وألواحها الصاخبة، المعلقة بين الهاويات والسماوات، وسلالة مسقوفة بآياتها الصغري والكبرى ومن تلك الآلهة المتراكمة في شراستها ما يهملك وممهلك، فتنسدك، في زحمة الحروب، وتنسدها في اندفاعك الفاجع، وعندها، الى هبوب بلا أزمنة، هبوب مجرد من عناصره، وغباره، وكلماته، وذاكر ته، هواء طازج يلقي مراعيك من زغب الفجر، ومن أسرة الأحياء الحارة، والمنبوشة، المبقعة بالماء، والعرق، وعض الو سادات والشراشف، ومن وبر التفاح، وحفيف الجنات، وتمادي ما تتنفسه، وما يتنفسك حتى الصرخة المغلقة، الزاخرة، القاشرة لعاب الموتى، ومن املاس الجلد، وما تنز في شبقها، وولوجها، تنفض، رافعا هامة كالسرو والنعناع، غبار الهياكل، ترمي نقوش الكلام، تسبيك، وأنت السابي بلا مقابل، لعنات حرى خلابة، وعلو في البصر الحاد الصافي المتسع.
ومن، عندما تنسدك آلهة بلا مراجع، ولا أنساب، ولا رايات، سواهن الموغلات في نهر الغيب، وفي أطايبهن، ضرابات الدفوف، يسبقنك إلى لحظات من وحشة اللذاذات، ومن عزلة الضم، واللثم، والشم واكسير الغياب، ليساقط منهن المن الأبيض والحليب المهراق، والمتع المشهورة كصاحبات الأعالي، ورذاذ الأنساب الجاهلة، الحية في جهلها، ولغو يذكر بالمواعظ والسير وصهيل الخيول المطهمة فوق الهاوية.
بول شاؤول (شاعر وناقد من لبنان)