حسن أوزال
باحث ومترجم مغربي
«كل ما يقوم به أخيل من أعمال، دائما ما تكون متقنة الصنع بالرغم من أنه ينجزها بلا وعي»
سوفوكل
في فصل من كتابي “العيش بصحبة الفلسفة” بعنوان:«في ارتباط الفلسفة والشعر بميلاد التراجيديا»، حاولت قدر المستطاع أن أقوض ذلك التناقض الفج الذي أقامه أفلاطون بين الفلسفة والشعر، على اعتبار أن الفيلسوف بحسبه أكثر احتكاما للعقل والواقعية من الشاعر المعروف بشطحاته الخيالية ونزوعاته الغريزية. ذلك أن هذا التحديد نفسه، هو ما أدى بسقراط لا إلى الاستخفاف بالشعر من حيث كونه محاكاة موجَّهة إلى الأذن1 فحسب بل والنظر أيضا إلى الشاعر نظرة احتقارية، يغدو معها مجرد مقلِّد، يجيء في المرتبة الثالثة بالقياس إلى عرش الحقيقة. وأكثر من ذلك، يمضي لسان حال أفلاطون حد تعميمه لهذه الصفة مؤكدا على أن “كل أولئك الشعراء منذ أيام هوميروس إنما هم مقلدون فحسب: فهم يحاكون صور الفضيلة وما شابهها، أما الحقيقة ذاتها فلا يصلون إليها قط. إن الشاعر كالرسام الذي تحدثنا عنه منذ برهة والذي يرسم إسكافيا دون أن يعرف شيئا عن إصلاح الأحذية و يقدم صورته إلى أناس لا يعرفون عن الأمر أكثر منه ولا يحكمون على الأمور إلا بمظاهرها وألوانها”2. بَدَهي إذن أن يؤثر سقراط على أفلاطون الذي ما أن أقدم في عز شبابه على إحراق أشعاره علّه يحظى برضا أستاذه ويصبح بالتالي تلميذه المبجَّل؛ حتى مضى على منواله يُفضِّل المهندسين عن الشعراء ويقر بالتنافر ما بين الشعر والفلسفة، مُصرّا على إظهار التناقض الذي يسكن الشعر ذاته، مؤكدا على أنه تناقض إن كان يعود إلى شيء ما فإنما يعود بالأساس إلى كونه إبداعا لا عقلانيا، مما سيجعل “يوربيديس” في عبارته الشهيرة ينفي صفة الجمال عن فن الشعر تماما مثلما سحب منه سقراط صفة الخير. هكذا ينطبق المبدأ الجمالي الأوربيدي مع أكسيوم التفاؤل الثلاثي السقراطي، لينتهيا معا إلى وأد التراجيديا وإعلان موت كل ما يعود للذات والأنا باعتبارها معقل الرغبة بامتياز. تقويضا لهذه النزعة الدياليكتيكية إذن نقر من جهتنا أن التفلسف مران دؤوب بقدر ما ينهض على استدعاء تقنيات الذات بقدر ما يستوجب القطع نهائيا مع طقوس الجموع والتجرؤ على طرح تصورات شخصية تحمل بصمة مفكر يفترض فيه أن يتكلم باسمه بدل أن يتكلم باسم الجماعة. وإذا تبدى أن المجازفة على هذا النحو، ليست بالأمر الهين خاصة عندما تجيء معاكسة لقناعات أمة تكره الحديث باسم الأنا وتبخس كل من يبدأ قوله بضمير المتكلم، فالتفلسف عموما والإبداع خصوصا لا يستحضر الأنا لكونه غارقًا في النرجسية والأنانية بل يستحضرها لضرورة وجودية محضة قوامها قبل كل شيء آخر هو نحت الذات وبناؤها la sculpture et la construction de soi. لكن هل من نحت للذات دون معرفة وإلمام بها؟ أبدا، وهذا ما يرمي إلى إبرازه صديقي الشاعر مصطفى غلمان الذي يبدو لي أنه في هذا الديوان بخاصة يكتب مصرًّا على إقامة نوع من المفاضلة التي تنتهي بالانتصار لأولئك الذين يتكلمون بلسانهم عن أنفسهم عوض الكلام عن الآخرين. إن الرجل بهذا الشكل إنما يثمن الشعر البسيط والجاد كفرصة حقيقية للتفلسف. وضد ثقافة “الكوتشينغ” التي تنهض على التقليد والمسايرة، نجده يحتفي بطريقة متمردة بكل ما عاشه وكابده في الحياة فرحا كان أو حزنا، انكسارا أو نجاحا، مرضا أو صحة. وفي خضم حرج استكناه الذات ومعرفتها يتجلى لي أن الرجل يواكب المشي على نحو “هنري دافيد ثورو” ليغدو مادة قصائده حيث لا يتردد قيد أنملة في الجواب على كل من يسأله عمن يكون؟ قائلا: “ما أنا إلا ظلمة في خلل النور أو شاهد في عين إبرة..”3. لعل هذا الديوان ليس كما قد يخال البعض مجموعة من الوصايا أو سلسلة مواعظ يتوجه بها مصطفى إلى عامة الناس، بل هو إقرار صريح بخصوصية حياة كل إنسان على حدة، باعتبارها ما يستدعي الإبتكار والإبداع لا التقليد والإرشاد. فما سؤالي يضيف في موضع آخر، هل أنا أنا أم أناي اختلاف في المعنى بالعلو والانخفاض”4. كأني به يرد في هذا البيت على محاوريه، ليخبرهم بأنه عاش كما قدر له، وله في ذلك مبرراته ومسوغاته. لكن يبقى على الآخرين أن لا يقلدوه أو يبقوا تابعين له؛ عليهم بالأحرى أن يعملوا جاهدين على إبداع حيواتهم الخاصة بدل أن يستنسخوه. وبنفحة نتشاوية تنأى به بعيدا عن كل انتماء، يؤكد دونما لف بلاغي أو دوران: “لست قومجيا ولا شعوبيا ولا أمير حرب ولا مشعوذا سياسيا ولا فقيها كهنوتيا… أنا قضية تتجاوز الهويات والتيارات والعلاقات الإنسانية العابرة..”5 وبهذا الشكل إذن يمضي في تقديم نفسه إن لم أقل تصويرها ورسمها تماما كما يرسم الرسام بورتريها ذاتيا. لتتقاطع بالتالي كتابة الشعر بفن الرسم ويعلن زواجهما في سياق خاص هو سياق بيوغرافي محض. ومن ثمة يغدو سؤال الشعر هو سؤال الرسم ما أن شرع هذا الأخير كفن يهتم بالبورتريهات. وها هنا يحلو لنا أن نتساءل عما يرسمه الرسام بالضبط عندما ينجز بورتريها؟ أليست عمليتا التمثيل Représenter والتصوير Figurer اللتان تحكمان حركاته وهو يرسم معالم وجه ما تزال غير واضحة بعد، هما نفسهما ما يؤسس للصورة الشعرية ولو بشكل مختلف؟ مما يدفعني إلى وضع تصنيف جزافي لفن الشعر باعتباره تصويرا حكائيا بامتياز Figuration narrative. أي إنه يكاد لا يتميز في شيء عن فن الرسم طالما بات يقرن بين التصوير والحكي (السرد) في نفس الوقت. بدَهي إذن بعد هذا البسط أن نقر بتداخل المجالات الإبداعية بحيث يغدو الرسام فيلسوفا أو شاعرا ما إن ينكب على تقديم بورتريهات للفلاسفة؛ بورتريهات لا تعرض الوجوه فحسب بل تصور الأفكار، وتجسدها لتضحى مرئية بعد أن كانت مخفية وباهتة. وتوكيدا لهذا الأمر لا بأس أن نستأنس ببورتريه ديكارت المنسوب للرسام الهولندي (Frans Hals (1581-1666؛ وكذا لوحة ديوجين الكلبي وهو يرمي بإناء للشرب بعيدا، للفنان الفرنسي (Nicolas Poussin (1594-1665 أو بالأحرى لوحات6 (Arcimboldo (1526-1593. وقوفا عند اللوحة الأولى وهي التي تعنينا هنا، يتبدى لنا جليا أن الفنان يعرض وجه فيلسوف الحداثة بمعالمه الصارمة، وهو يمسك بيده اليمنى قبعة. لعل الرسام والحالة هاته يقصد ما يرسمه، إذ بدل الرجل فضل اليد؛ ذلك أن هذه اليد الماثلة أمام الناظر هي اليد كما نعلم التي كتبت “خطاب المنهج”. قد يتساءل أحدنا محقا وما علاقة كل هذا بموضوع نحتفي فيه بديوان صديقنا الشاعر مصطفى غلمان؟ لكننا لن نتوانى عن الرد عليه بتنبيهه بكل بساطة إلى هذه التقنية التي بموجبها جرى اختزال اللوحة في وجه لا يعدو أن يختصر بدوره جوهر فلسفة الكوجيتو على مر التاريخ. عندها فحسب سيتبين له أن براعة الرسام الهولندي ترجع أول ما ترجع إلى تمكنه بالفعل من أن يتلقف بريشته جوهر فلسفة ظلت للأسف متمنعة ومنفلتة عن المتخصصين من الفلاسفة أنفسهم. وإذا كان الأمر كذلك، فبوسعي القول بأن ما أقدم عليه الفنان الهولندي يكاد لا يختلف في شيء عما أقدم عليه صديقي الشاعر. فعلى نحو ما فعل الرسام الذي رسم الكوجيتو، فوجئت في لحظة ما بصاحب “نمش على مائي الثجاج” ينحو ذات المنحى، مصرا هو الآخر، على استحضار الكوجيتو كعنوان لإحدى قصائده المُدرجَة في هذا الديوان؛ ليتبين لي بالتالي أن ما يجمع بين الاثنين أكبر بكثير مما يفرق بينهما، إذ ليس من العبث في شيء أن يتم التنسيق بين شاعر مغربي معاصر ورسام هولندي عاش في المنتصف الأول من القرن السابع عشر؛ ليعلنا ميلاد الفلسفة هناك، أي حيث لا ينتظرها أحد. الأول بتشكيكه في واحدية الكوجيتو قائلا: “من أجل كوجيتو واحد سيتعثر الإحساس بالأمل آلاف المرات”7؛ أما الثاني فبرسمه فقط لوجه يبدو فيه رائد الفلسفة الحديثة منشغلا بالسؤال. ذلك أن ديكارت المرسوم هنا، هو الفيلسوف عينه الذي يفكر ويوجد Descartes peint ici ,pense et existe. يوجد لأنه يفكر ويفكر لأنه يوجد. بديهي إذن أن نعرج بعد هذا كله للتوكيد على أنه لا وجود لفارق شاسع يفصل المجالات الإبداعية عن بعضها البعض، بحيث إن الشاعر قد أفلح كما الشأن هنا، في تقويض ميتافيزيقا الذات أكثر ممن يَدَّعون التفلسف وذلك بفضل شذرة مبرومة تكاد تختزل مؤلفات بالجمع، يمهد لها قائلا: “سأشك لحظة في غيرية لا تحيا.. في كائنية عديمة الجدوى.. أستبدل أناي بما تهواه وهي تعبث ساخرة بعتاد الروح.. أفكر في كوجيتو آخر.. غير ذلك الممهور الثاقب في حائط مغرق في التشاؤم..”8. هل أضيف والحالة هاته أن عملية التفكيك والتقويض التي يتبناها غلمان عملية صعبة المراس، لا لشيء إلا لأن الرجل كما يظهر من كلامه يرمي إلى التأسيس لفلسفة تخصه هو ذاته في الحياة، فلسفة كما ألح في أكثر من مقام، لا صلة لها لا بالتشاؤم ولا بالتفاؤل. إنها تلك الفلسفة التي يحل فيها كوجيتو بديل محل فلسفة لا تحمله إلى زمن خارج العالم الخلفي لحياة عادية..”9 أتكون هذه الفلسفة يا ترى التي ما انفكت تشغل بال شاعرنا منذ أن ولع بنظم القصيد؟ قد أزعم دون أدنى تردد أنها فلسفة تراجيدية بامتياز، تختلف كليا عن فلسفتي التشاؤم والتفاؤل. ذلك أن فلسفة التشاؤم فلسفة تنهض على تبخيس الحياة على اعتبارها لحظة تكفير وابتلاء، أما فلسفة التفاؤل فهي على نقيضها تماما بحيث تشرع في بناء الحاضر على وعود مستقبلية مفارقة للفرد على الدوام مما يجعل اللحظة في كلتا الحالتين مؤجلة باستمرار. وإذا كانت فلسفة التشاؤم مثلا تقر بأن الشقاء والتعاسة هما قوام الحياة كما كان يصرح شوبنهاور، ففلسفة التفاؤل ما فتئت تبني فرضيات العيش على أنقاض حالمة من قبيل الوعد بزوال الفقر وانتهاء الصراعات الطبقية انسجاما مع منطق التاريخ المشمول بجدلية مادية كما يعتقد بعض الماركسيين. هكذا إذن ننتهي إلى التوكيد على أن الفلسفة التراجيدية -خلافا لما سلف- فلسفة تؤسس لمنظور مغاير بموجبه يقبل المرء بقدره في الحياة مدركا بأن لا شيء يحكم الكائنات عدا إرادة القوة؛ إرادة تقحمنا في حتمية طبيعية تغدو معها الحرية مجرد أكذوبة ما لم ندرك كيف نجعل من الضرورة فضيلة. لنلوذ بالتالي بفسحة للاستلذاذ والفرح، موظفين الزمن توظيفا مُتعويا. زمن يضحى فيه كما أكد صديقي الشاعر:
“الكوجيتو رحيما بالجسد والغياب
عديلا للإيتيقا وهي تجلو بورودها للمغارات الشاهقة”.10
الهوامش
1 أفلاطون، الجمهورية، ترجمة الدكتور فؤاد زكريا، راجعها على الأصل اليوناني الدكتور سليم سالم، فضاء الفن والثقافة للتوزيع والنشر، ص.345
2 نفسه، ص.341.
3 مصطفى غلمان، نمش على مائي الثجاج، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمّان، الطبعة الأولى 2020، ص.19.
4 نفسه، ص.20.
5 نفسه، ص.63.
6 يرسم «أرسمبولدو» الوجوه وفصول السنة، مقترحا منظوره الحلولي – الوثني للعالم، لأن الطبيعة بحسبه هي خزان القوى التي منها تنشأ الأشكال والعكس صحيح؛ لذلك فهو تارة تجده يرسم وجه كتبي بواسطة الكتب لا غير، وتارة أخرى يرسم الطباخ بما يستعين به هذا الأخير من أدوات الطبخ، وينهج الشأن نفسه مع البستاني وغيره… أما عندما يرسم فصول السنة فهو يستعمل الفواكه والخضر للتعبير عن الخريف والأزهار بالنسبة لفصل الربيع .
7 مصطفى غلمان، مرجع مذكور، ص.81.
8 نفسه، ص.82.
9 نفسه، ص.82.
10 نفسه، ص.83