من أجواء غربته الطويلة عن وطنه العراق ، يكتب الشاعر الكبيري يوسف " نمته "مثلث الدائرة " ليخوض به تجربة كتابة الرواية لأول مرة.
إحتفاء بهذا الحدث الثقافي نقدم هنا الجزء الأول من الفصل الأخير المعنون :"نيقوسيا"..،،
بين مقهى "الروضة" بالصالحية، ومقهى "الكمال " غير البعيد عن جسر فكتوريا، كانت رحلتي اليومية صباحا في "الروضة"، وعصرا في "الكمال "، في المساء أعود إلى مأواي في "مساكن برزة"، المأوى الذي يشاركني فيه ثلاثة من أمثالي .
دمشق ، بعيدة عنا.
نحن نعيش في هامشها القصي ، نأكل مثل فقرائها، وننظر بجسد إلى واجهات مخازنها ومطاعمها، مثل فقرائها.
لكن فقراء دمشق ، أيضا، بعيدون عنا، لاعلاقة لنابهم لانلتقي بهم: هم في رحلة البحث حكن الخبز، ونحن في رحلة المقهى نبحث عن معنى للأمس ، ولليوم ،وربما للغد.
أحيانا، أمر بـ "القنديل "، حيث يجلس أدباء وفنانون ، حول موائد كباب وعرق وريحان ، وحيث لوحات رسامين معروفين معلقة، أمر، ولا أجلس فالشاي هنا، ليس الشاي في "الروضة" أو "الكمال" أو "الحجاز" الشاي في "القنديل " يقدم في فنجان ، وثمن فنجان الشاي يساوي وجبة من وجباتي .
لكنني آمر. ادفع الباب الخارجي ، وأجتاز الممر، ثم أدور دورة سريعة في المكان .
آنظر الى الجالسين حول البركة. الى الفتيات المتأنقات وهن يشربن العرق إلى اللوحات المعلقة اللوحات تحديدا، ثم أغادر.
كنت ألتقي يع عادل ، وفاضل المرزوق الشهور تمضي .
لتشكل عاما، ثم أعواما.
عادل سافر إلى فرنسا وفاضل المرزوق يقول إنه قد يذهب الى عدن .
ماذا سأفعل ان ذ هب ، حقآ، في أحد الأيام ؟
أنا غير قادر على إقامة علاقات جديدة حتى في مأواي بـ "مساكن برزة "، أجد صعوبة في الاندماج مع الثلاثة الذين يشاركونني المكان هم شبان طيبون .
مرحون ، يساعدونني كثيرا، لكني أجد نفسي ، بمنأى عنهم هواجسي تنهض كالجدار بيني وبينهم . هواجسي ليست متعلقة بهم ، فهم كما قلت طيبون ، مرحون ، ويساعدونني .
هواجسي لي . لا أتحدث بها، لكنني بها مسكون ، وفي الليل ،كثيرا ما يوقظني أحدهم ليخلصني من أحد كوابيسي .
فاضل المرزوق سافر الى عدن ودعته في المطار.
وحين عدت بالحافلة، الى جسر فكتوريا، لم أمر على مقهى "الكمال ".
ذهبت الى مطعم " الريس ". جلست وحدي ، وشم ربت عرقآ.
في مقهى "الروضة" كانت الشمس تلتمع في كأسن الشاي . حولي ، يقلب الناس ، الصحف ، ثم يتركونها بسرعة.
كآس الشاي لا يزال أمامى فجأة . . تقدم افي رجل . حياني ، وجلس، كان في الأربعين، يرتدي ملابس أنيقة الى حد ما، ملابس ليست مما يرتديه الناس هنا.
قال لي ، بلا مقدمات "أأنت طاهر " طاهر المحمود" آجبته "نعم ".
ال ، وهو يخرج من جيب قميصه رسالة ويقدمها لي " إنها من ابن
عمك شعبان . آنا مقيم مثله " في لندن. جئت إلى دمشق لأزور
أقرباء
لي . كلفني شعبان البحث عنك ، وتسليمك الرسالة . انا أبحث عنك منذ آسبوع قيل لي انك تجلس في "الروضة" صباحآ سألت عنك صاحب المقهى. أنت محظوظ لآن صاحت المقهى يعرفك . وإلأ كان الآمر صعبا أنا عائد الى لندن بعد غد ارجوك اقرا. الرسالة، ام لآن واكتب سطرين الى شعبان . اكتب عنوانك ايضا.
**
عزيزي طاهر عرفت أنك في دمشق وكلفت حامل الرسالة البحث عنك أريد آن أقول لك شيئا مختصرا، محذدآ وأعرف جوابك المحدد لي بيت أملكه ، قرب "بافوس " في فبرص. آنا لا استعمل البيت الا نادرا، حيز أجيء إلى الجزيرة لآقضي عطلة نهاية الأسبوع، أحيانا، لا أكثر من سبع مرات في السنة، وبالمناسبةا انا ام لآن ، رجل أعمال معروف . مشاريعي في الشرق الأوسط وافريقيا. ابن عمك شعبان ، رجل ناجح في البيت حارس مقيم اقترح عليك الإقامة في هذا البيت.
ساتكفل بكل نفقاتك ، صديقي سوف يسلمك مبلغ التذكرة من دمشق إلى
"لارنكا". وهناك تاخذ سيارة أجرة إلى "نيقوسيا" حيث تنزل في فندق كليوباترا.
ساتصل بالفندق ، حال معرفتي جوابك ، لأحجز غرفة لك . إقامة كاملة. انتظرني . لن أبطيء في المجي الى قبرص . أنا مشتاق اليك . الى
اللقاء.
(شعبان ) يبدو أن الرجل كان ينتظر، بنفاد صبر، انتهائي من قراءة الرسالة، ذلك لأن عينيه واجهتاني ، فور انتهائي ، متسائلتين . لم أزد على تمتمة بضع كلمات . لكن الرجل أخرج دفتر ملحوظات صغيرا ، وقدم لي قلما، وقال : "اكتب سطرين لشعبان ، مع عنوانك ". كتبت أربعة سطور. قلت له "ليس عندي عنوان " قرأ الرجل ما كتبت . طوى الدفتر. أخذ القلم قال : "إذا، ستكون بعد شهر هناك ؟ في أوائل "آذار؟ " .
أحببته "انعم ".
قال : "لنذهب الى الخطوط الجوية القبرصية. ليسوا بعيدين من هنا. خذ
التذكرة، ليتأكد شعبان من كل شيء . هذا مبلغ اضافي لمصاريفك . خذه . انه من ابن عمك ، وليس منى".
**
في مطار "الارنكا"، كانت الاجراء ات سهلة،سريعة. المسافرون قليلون ، فالموسم ليس موسم اصطياف . دفعت ليرتين قبرصيتين ، وختموا
جوازي بتأشيرة دخول . خرجت الى الشارع ، مباشرة، احمل حقيبتي اليدوية الوحيدة. ركبت سيارة أجرة إلى نيقوسيا.
**
في فندق كيلوباترا، كان اسمي على لائحة الحجز. قالوا . "تم الحجز من
انجلترا " .
أخذت المفتاح ، وذهبت إلى غرفتي ، كانت تطل على المسبح ، الفارغ .
**
لم أمكث في الغرفة طويلا. وضعت حقيبتي اليدوية. داخل الخزانة ،
ونزلت .
أخبروني في "الاستقبال " ان اقامتي كاملة، تشمل المطعم والمشرب
أيضا. ذهبت الى البار. كان الساقى لبنانيا، اسمه سمير، كما قال ،
شربت كأسين .
قال سمير : "بامكانك أن تاكل هنا، أو في المطعم . نحن نقدم مأكولات خفيفة". . . أكلت ساندويتش جبن ، وسلطة خضراء. الموسيقى يونانية .
والزبائن قليلون . شربت كاسا ثالثا.
**
صعدت الى الغرفة، مدوخا "بالأوزو" وهواء الجزيرة. نمت عميقا حتى المساء… ليلتي الأولى في نيقوسيا كانت هادئة. نزلت من الغرفة . . وسألت سمير اللبناني عن مكان اسهر فيه سهرة متواضعة . أخبرني أن كل هذه المدينة أما كن ، وعلي ، أنا، أن اختار، أتمى واختار. ثم ان نيقوسيا صغيرة، ومركزها أصغر من راحة اليد. تسير قليلا لتجذ حاجز الأمم المتحدة، في وسط السوق تماما، وراء المركز، الأرض الحرام ،
والاتراك . لن أضيع ابدأ. ولو حدث أن ضعت فما علي إلا أن أوقف سيارة أجرة. فندق كليوباترا، هنا، أشهر من مديرية الجمارك .
هكذا خرجت من الفندق . كنت أريد ان اتثبت من خطواتي الأولى في هذه المدينة التي باغتتني ، في مقهى "الروضة"، عبر كلمات رسالة لم أنتظرها البتة، رسالة من ابن عم أكاد أجهله . دمشق ، لا تزال معي ، إلا أنني غير معني ، وأنا هنا، بالمقارنات ، أريد أن أرى نيقوسيا كما أراها، لا كما تبدو في المقارنة مع مدينة أخرى، غير أن الهدوء الذي فاجأني بمجرد خروجي من الفندق ، أدخلني ، رأسا، في المقارنة. في هذه الساعة من المساء، تكون دمشق في أوج حركتها الناس والسيارات والأسواق . أما هنا، فالشوارع شبه خالية . لا أحد يتمشى . حتى السيارات .. قليلة. لا أصوات . لا ضجة أبواق . لا باعة ينادون .
الخازن أغلقت ، لكن واجهاتها ظلت مضاءة.ثغت اضاءة خادعة، توهمك بان ليل المدينة حي . . بينما يكون الناس قد دخلوا منازلهم ، وأغلقوا وراءهم أبوابها… ربما حتى الصباح . المطاعم والحانات ، وحدها، مفتوحة، متألقة بالأضواء، ان سمير اللبناني على حق ، علي أن اتمشى وأختار.
**
لاحت مني التفاتة الى وكالة سيارات شهيرة. السيارات الجديدة، معروضة خلف الواجهة الزجاجية العريضة… فجأة التقطت عيناي الجرة.
كانت جرة ضخمة، بطينة، بنية اللون ، تستقر راسخة، واثقة بنفسها، في منعطف شارع فرعي يلاصق وكالة السيارات .. سرت في الشارع الفرعي ، حتى بلغت الجرة. لمستها بأناملي . جرة فخار حقيقية . كانت عند باب مشرب يحمل اسمها : "ابار الجرة " دخلت لم يكن في البار سوى صاحبه . كان شابا قبرصيا يونانيا، ثي حوالي الخامسة والعشرين .
دعاني إلى الجلوس ، مشيرا الى طاولة .
ابتسمت ، وفضلت الكرسي العالي ، عند لوح البار، أقرب اليه ، والى الرفوف الثلاثة العجيبة، حيث تتجاوز الاشربة قادمة من كل القارات .
**
في العاشرة صباحا، حين نزلت أتناول فطوري في مقهى الفندق ، ستمني الموظف رسالة بالفاكس من ابن عمي . يقول شعبان انه سيصل اليوم ، مساء، وأن في أن اظل في الفندق أنتظره . يبدو ان الأمور حقيقية جدا، ما دامت تتلاحق ،-هكذا، متلازمة مع بعضها. كنت في حلم المغامرة، ان اكون وحيدا في فندق مدينة أدخلها لأول مرة. أن أسير في المساء الملتبس ، في طرق أجهلها، ثم اهتدي الى حانة أصادف فيها أناسا لطفاء، أن … أن … لكن رسالة الفاكس ، أمامي ، على الطاولة. تنظر الي غامزة، بين فنجان القهوة والخبز. وشعبان ، ابن عمي ، ينظر الي ،
بكامل حروف اسمه الخمسة، انا عاجز عن تذكر ملامحه . لقد ترك البلد، منذ عشرين عاما، ولم يعد اليه ولو مرة واحدة. وأنا، في الأساس ، لم أكن أراه الا بصورة متقطعة . . الا انه آت ، وبهده السرعة، بل في هذا اليوم بالذات مساء . تناولت فطوري ، ودسست رسالة الفاكس في جيبي . خرجت من الفندق ، ومشيت حتى مركز المدينة، أعني حتى السوق. توقفت عند بائع صحف ، أقرأ العناوين البارزة.. انعطفت الى اليمين . جنود الأمم المتحدة يشربون الجعة على مصطبة عند باب أحد
المثارب . دخلت . شربت زجاجة. كان جنود آخرون يتناولون
وجبات خفيفة وأيديهم
ممسكة بالكؤوس . لا فتيات هنا.
***
خرجت من مشرب الجنود، ظهرا.
وبدأت مسيرة العودة إلى الفندق .
ومثل ما التقطت عيناي ، الجرة، فجأة، البارحة، التقطت
عيناي عبارة "بابل "، محروفة على لافتة خشبية ثقيلة.
كان المطعم صغيرا، فيه أربع طاولات فقط . سيدة بدينة،
يبدو أنها صاحبة المطعم ، تشوي اللحم في الخارج .
سلمت عل السيدة .
جلست .
طلبت سلطة خضراء، وجبن حلوم مشويا، ونبيذا ورديا .
قالت السيدة ان الوردي غير مبرد. فهل آخذ أبيض ؟
جاءت بالنبيذ أولا فرشت شرشف ورق . وعادت لتهيأ ما
طلبته . كانت تدبر أمور المطعم الصغير وحدها، وتتحرك
بخفة دمية معتأة النابض .
لا أدري ، لماذا أخرجت قلمي ، وبدأت أخربش تخطيطات على
الورق الأبيض .
كنت مشغولا بالتخطيطات . حين جاءت صاحبة المطعم .
هتفت . "آنت رسام ؟ ابني "مكريوس " رسام أضا ! … انه مقيم
في "بولس "..
وضعت على الطاولة، وبعيدا عن خطوطي ، السلطة الخضراء،وجبن الحلوم المشوي . للمرة الأولى يقول شخص
عني إنني رسام .
يبدو ان للنبيذ الآبيض القبرص مفعوله . هكذا، حين
صعدت الى غرفتي ، تمددت رأسا عل الفراش ، وآغمضت
عيني . أناعلى شاطيء البحر.
البحر هاديء .. وصوت المويجات ناعم مثل حفيف الصنوبر،
الشمس في الأفق ، تهبط كالبرتقالة الكبيرة على وجه
الماء. الماء برتقالي . البحر كله برتقالي . الرمل تحت
قدمي ليس رملا. انه يخشخش مثل ورق
الصنوبر اليابس في ممر غابة مهجور. لكن ، من أين جاء ورق
الصنوير ؟ من أين جاء الحفيف " أخرجت سمكة رأسها،
وانقلبت في الماء، قرب الشاطيء ، قربي حيث أجلس ، قبل
ان تنتصب على ذيلها وتكلمني ، وهي تنظر الي بعينين
واسعتين ندبتين ، ثابتتين
"لماذا جئت إى هذا الشاطيء " ؟
لم أجبها. كنت احذق في عينيها الجميلتين . اقتربت
السمكة أكثر. كأن ذيلها قدمان . اقتربت حتى شممت رائحتها.
كانت رائحة غابة صنوبر بعد المطر. قالت ثانية : " لم
تجبني . لقد سألتك ، لماذا جئت الى هذا الشاطيء " ؟
ضحكت ، حتى ابتلت عيناي بالدموع . ضحكت هي الأخرى،
وتمايلت وهي تضحك ، وبانت أسنانها ناصعة، مرتصفة،
لطيفة :
"أنا اعرف لماذا جئت " قلت لها، وأنا اضحك بر "لماذا" ؟ ضحكت
طويلا، حتى ارتمت في الماء الذي طرطش وبلغ رذاذه وجهي ،
ثم
انتصبت ، ومالت برأسها نحوي ، وقالت :"لأنك سمكة. انت
جئت الى هذا الشاطيء لانك سمكة". عادت السمكة تسبح .
لكنها لم تبتعد،
وظلت عيناها تواجهانني . قلت . "إذا، سوف تأخذينني معك ".
..
قالت "بكل س ور. الا أن عليك أن تنزل في الماء، أولا".
سألتها "كيف انزل ، وملابسي هذه " ضحكت ،منقلبة"بسيطة
10 خلع ملابسك وانزل في الماء"
***
رن جرس الهاتف . سمعت رنينه طويلا . لم أستيقظ . عاد
الرنين . فركت عيني تناولت السماعة ذاهلا . "طاهر.. أنا
شعبان . وصلت الآن . أنا في الفندق " . انفتح باب
المصعد. قال لي موظف الاستقبال هامسا "ها هو ذا". نظرت .
فكرت ، وقلت في نفسي ان الموظف قد يكون واهما. هذا، ليس
ابن عمي طاهر. قطع المسافة القصيرة بين المصعد ومكتب
الاستقبال . واجه الموظف . سأله عني . كنت بجانبه . يبدو
آنه . لم يعرفني – أتكون صورتي ، آنا آيضآ، تغيرت الى
هذا الحد . ،
ابتسم الموظف . أومآ بيده الي . نظر افي طاهر بعينين
محمرتين قليلا. كاف الشيب متمكنآ من مفرقه طاهرأصغر
مني سنا مددت يدي إليه مصافحا الا انا شعبان ، كيف أنت يا
طاهر" . ،. لم يرد يئ ، رأسا، مذ يده الي وصافحني لمحت في
عينيه أوائل الدمع . قال : "اكما تراني . وأنت ، يا شعبان ؟
قلت له : ،ابخير. هل نجلس في المشرب "؟ أومأ برأسه ،
موافقا . دخلنا وجلسنا الى طاولة . جاء النادل . ابتسم لطاهر
: "أوزو" ؟ أنا أيضا طلبت أوزو قال طاهر : بعد ان ذهب النادل
ليأتي
بكأسينا . "ااسمه سمير. انه لبناني ". لحظت الهدوء الغريب ،
في حركات طاهر، وكلامه . لم يكن هكذا. قلت له . "لم أكن
أتصور أن صديقي سيلقاك بمثل تلك السهولة . كما لم أكن
أتصور أنك ستلبي دعوتي ، تلبيها فورأ. أنا سعيد لأن
الأمور تطورت هكذا". قال طاهر : "أشكرك ، يا شعبان ". وعاد
الى صمته ، لكنه بين وقت وآخر كان
يثتت في نظرته طويلا. لم تعد عيناه مبتلتين .
جاء سميربالكأسين . شربنا نخب لقائنا.
قلت "انقطعت عني أخبارك ، لكن صديقا لك ، اسمه عادل ، وهو
مقيم الآن في باريس ، كان الشخص الذي علمت بواسطته ،
وبصورة غير مباشرة، انك في بيروت ، وبعدها في دمشق .
المصادفة، وحدها، هي التي دلتني على أرضك . كان صديقك
يتحدث في مطعم عراقي ، عنك ، أحد معارفي كان في الجلسة.
وهو أخبرني ". ابتسم طاهر، وانفرجت اساريره لأوة مرة بعد
لقائنا.
قال "عادل ، صديق عزيز. . كيف أحواله " قلت "لا أدري
بالضبط ".
عاد سمير يسألنا إن كنا نريد شيئا. هز طاهر رأسه ، نفيأ.
وآنا كذلك . حين ، نزلت ، بعد المكالمة، وتوجهت الى مكتب
الاستقبال ، لم أتصور
ان الشخص الواقف هناك ، يتحدث إلى الموظف ، هو ابن عمي
شعبان .
انا اتذكره بالى شداشة دائما، الدشداشة البيضاء. كان حين
يركض خلفي في البستان يمسك أذيالها بأسنانه ، ويندفع
خلفي ، يقفز الجدول وثبا، بينما
اترنح أنا على القنطرة . ومرة سقطت في الماء، وعلاني
الطين والوحل ، وهو واقف عند حافة الجدول ، يضحك مني …
الشخص الواقف ، متحدثا مع موظف الاستقبال ، لحم يكن
عبان انه مكتنز الجسم مستدير الوجه ، متورد، حتى سمرته
مالت الى البياض
ملابسه غالية، لكنها ليست مسرفة في المظهر .
أعتقد انه يظل يتذكر دشداشته .
لى الا. لم تذكرني ؟
الحقيقة، افي لم أعرف كيف اتصرف معه ، في البداية. كان
من المفترض أن اعانقه .
ترددت ، ولهذا مد يده افي مصافحأ.
وأقول صراحة انني تأثرت لرؤيته ، وكدت أبكي . لا بسبب
أني رأيته ، لكن بسبب أنه رآني .
اكيد ان صورتي تغيرت ، وان تعب السنين ظاهر على
ملامحي . لهذا رأيت في وجهه علائم إشفاق قي أنا اعتبر الأمرطبيعيا، وكذلك رد فعلي إزاءه . من ناحية أخرى، يمكن
لي القول انني ظللت متوترا عند مكتب الاستقبال .
ترى، هل ادرك شعبان هذا، فاقترح ان نجلس في البار،
بعيدا عن عيني موظف الاستقبال الدقيقتين في مراقبة ما
كان يجري بيننا ، في البار اطمأننت أكثر.
خف توتري .
وعندما ذكر اسم عادل ، ارتحت ، ذلك أين عرفت أن في عروق
رجل الأعمال دما لا يزال حقيقيا.
وبعد كأس الأوزو. بدأت أرى ابن عمي شعبان .
انه يرتدي الدشداشة، يعض على أذيالها بفمه ، ويجري ورائي
، محاولا
الإمساك بي .
في تلك الأيام ، كان جزائى على امساكه بي ،ضحكة مجلجلة.
أما هنا، في نيقوسيا…
هنا، بعد أن امسك بي …
فقد كان جزائي نظرة حنان دامعة.
**
قلت لطاهر . "أنا أعرف نيقوسيا جيدا.
أفر بها عدة مرات في السنة . أحيانا لمتابعة أعمالي ، وأحيانا
في زيارة سريعة عندما أكون في " بافوس " لهذا سنقضي
ليلة ممتازة فيها، قبل الذهاب الى بافوس ".
سألني طاهر "متى تظننا ذاهبين إلى بافوس " ؟
كان يبدو متلهفا للذهاب الى هناك .
أجبته " متى أردت " . . .
قا ل :" غدا ، مثلا " ؟
لم أكن اتصور انه يريد مغادرة نيقوسيا، قي مثل هذه العجالة،
مع إحساسي برغبته في الذهاب سريعا، الى بافوس .
قلت : ("ليكن إلكننا سنقضي ليلة ممتازة هنا، على أي حال
".
قال "عرفت مطعما صغيرا اسمه بابل . دخلته مضادفة، وخرجت
منه
سعيدا". سألته . ا"هل عرفت فيه امرأة" ؟
قال مبتسما ، ابتسامة مكتومة : "نعم .
امرأة في الستين . قصيرة بدنية . تشوي اللحم والجبن " .
.
قلت : "وكنت سعيدا" ؟
أجاب . "سعادة عجيبة. أتعرف ماذا قالت لي . ، قالت أنا رسام
مثل ابنها
ماريوس " !
سألته : "اهل رسمتها"؟
قال . "لا. كنت اخربش تخطيطات على ورق الطاولة " .
قلت . "الكنك كنت ترسم في تلك الأيام … كنت تريد أن
تكون رساما قبل أن يتلقفك السجن ". . .
علت وجه طاهر مسحة من كآبة . ..
حاولت ، س يعأ. ان أغير موضوع الحديث . شعرت ان ذكر كلمة
سجن
أزعجه .
قلت : "سنسهر الليلة في ملهى الحصان المختل " سألني .
"ماذا يقدمون هناك " ؟
أجبته ضاحكا : "أغاني ورقصات جميلة، وراقصات أجمل ، منذ
متى لم
تدخل إلى ملهى" ؟
قال . "لم أدخل الى ملهى، البتة".
كانت غرفتي تجاور غرفته .
وكنا نتحدث ، أمام باب غرفته .
قلت له : "يجب ان نستعد قبل الذهاب الى الحصان المختل .
نرتاح هنا قليلا. وبعد نصف ساعة ننطلق . سأدق عليك
الباب .
نقرة واحدة فقط ".
**
في حوالي الساعة العاشرة، سمعت نقرة شعبان على الباب .
فتحت الباب . دخل بكامل أناقة الرجل المنطلق الى سهرة.
نظر الي . "ماذا ألم تغير ملابسك . ، نحن ذاهبون إلى السهرة،
إلى الحصان المختل .. . حسنا، تعال معي الى غرفتي ".
ذ هبت إلى غرفته . فتح دولاب الملابس .
قال "جرب . صحيح أنني سمنت قليلا، لكني اعتقد أنك
ستجد بين هذه الملابس ، بدلة تلبسها في سهرة ".
ترددت .
آنذاك ، شرع يخرج الملابس من الخزانة، ويرميها على الفراش
. . . البدلات ، القمصان ، أربطة العنق . . . تناول بدلة
غامقة. رفعها. نظر إليها، ثم الي ، قال : "لا، لا"
تناول أخرى، ثم أعاد رميها على الفراش التقط ثالثة، فاتحة
اللون ، نظر إليها متفحصا . "اعتقد ان هذه تناسبك . اليس
كذلك ؟ جربها، لا. ليس في غرفتك . جزبها هنا. أمامي . اخلع
اسمالك … غدأ، على أي
حال ، ستشتري ملابس . لن أعطيك واحدة من بدلاتي … لا
تخف !
**
بمجرد اجتيازنا باب الحصان المخبل ، لصرت حركة بين
المكلفين بحراسة الملهى .
رحب احدهم بشعبان ، واسرع آخر الى الداخل ، وجاء براقصة
يعرفها شعبان من قبل . رافقتنا الراقصة الى الصالة.
اختارت لنا طاولة في ركن قريب من خشبة العرض ، وجلست
معنا، ملتصقة بشعبان .
جاؤونا بشراب ، وعشاء .
الراقصة طلبت ويسكي .
قال لي شعبان : " أتريد راقصة تجالسك ؟ ستختار لك
صاحبتنا
جملهن . . . " .
شربت نخبه .
قلت له : "اأريد ورقا".
**
بدأ استعراض راقص .
أظن الفرقة جاءت من وسط أوروبا.
أخرجت قلمي ، وبدأت أرسم ، في العتمة الشفيفة، حاولت أن التقط حركة فتاة ممن كن يرقصن .
رسمت تخطيطا لوجه صاحبة شعبان .
أعطيته التخطيط ، دقق فيه النظر. قدمه الى صاحبته :
"انظري كيف رسمك ابن عمي . لقد أحتك بالتأكيد" . . .
أيققظت طاهر في الساعة الحادية عشرة. فتح لي الباب ، وهو يفرك عينيه . قلت له "هيا. نحن ذاهبان إلى بافوس ، اليوم .
بعد ساعة بالضبط . سيارة الأجرة ستكون عند باب الفندق ، في الثانية عشرة تماما".
لم نتوقف في لارنكا.
توقفنا في ليماول ، تغدينا في مطعم لبناني ، تنم واصلنا الطريق الى بافوس . في بافوس درنا دورة سريعة في الميناء.
البحر رائق ، والشمس ساطعة .
كان طاهر يتأمل الميناء، والسفن ،
والنوارس ، بعينين دهشتين ،
قال : "بافوس " ميناء أسطوري ".
**
كان البيت الذي اشتريته ، قبل سنوات في قرية تبعد كيلومترات قليلة عن بافوس .
القرية حديثة، أقيمت على أنقاض قرية قديمة. معظم مالكي البيوت لا يسكنونها، وانما يجيئون ، مثلي ، لقضاء ايام عطل قد تطول او تقصر. القرية ذات بيوت صغيرة بنيت في حدائق كبيرة ليس فيها سوى طريق واحد يؤدي الى الشارع العام اكفي يربط بين بولس وبافوس وليماسول
و لارنكا .
**
قلت لطاهر "ها هو ذا البيت ، بيتك الجديد. فيه هذه الصالة. والبار. المطبخ في البار. لن تتعب . وهذه غرفة النوم الوحيدة.
أنت تنام فيها. الحارس ينام في الصالة دائما.، هو يحت ذلك . بإمكانك أن تكلفه اعداد الطعام . هو طباخ خيد. كل ما تريده يأتي لك به من دكان القرية. حين تحب الذهاب الى بافوس أو أي مكان آخر، دعه يتصل بمكتب سيارات الأجرة في القرية.
ستأتيك السيارة بعد دقائق . انظر .
الحديقة واسعة. هل تحب أن أريك اياها لا، الحارس نفسه يعتني بها. هذا فرن قروي للشواء… ستمتلىء الحديقة بالازهار . أعتقد انك ستقفي كثيرا من وقتك فيها " ..
كان طاهر يبتسم باستمرار.
ملامح وجهه شرعت تسترخي .
اعتقد أن توتره الى حد كبير.
ابن عمي ، شعبان ، لا يخفى ابتهاجه بما يقدمه لي .
المنزل ، والحديقة، حتى بافوس نفسها، أشياء يحس بها تتقدم افي .هو مبتهج أيضا، لأنني أتعامل معها، أتقدم إليها.
في الميناء القديم لبافوس ، كان يشير الى النوارس ، ويذكرني بالبصرة ونوارسها، بسفن مينائها الأكثر عددا، وببحارتها الآتين من كل مكان
أحببت بافوس ، منذ النظرة الأولى، منذ دورتنا السريعة في الميناء، وأعتقد انني سأكون قي الميناء كثيرا، وأقضي فيه ساعات طوالا
من حسنات المسكن انه فري قرية قريبة من الميناء.
***
جاء الحارس .
إنه قبرصي يوناني ، من أهل القرية .
اتسمه " جيورجيادس " .
جاء يحمل أشياء متنوعة: أكياسا، و علبا، وقناني . . .
قال له شعبان . "هذا، ابن عمي طاهر، سوف يسكن هنا. . اخدمه كما تخدمني .
وأكثر .
صافحني جيورجيادس .
كان في الاربعينات من العمر. وجهه لوحته الشمس وريح البحر. حركاته
هادئة، أقرب إلى البطء . وكلامه مختصر كان يتكلم بالانجليزية العملية المحدودة التي يتكلم بها من تحدثت معهم من القبارصة اليونانيين .
**
قال لي شعبان "ما دام جيورجيادس هنا، فبامكاننا الذهاب الى ليماسول . أنا أحب مطاعم السمك في مينائها سأريك مطعما جيدا عند مبنى الجمارك هناك . لا تنس . يجب أن تشتري ملابس الملابس في
ليماسول أفضل من تلك التي في نيقوسيا".
**
اتصل جيوريجادس بمكتب سيارات الاجرة .