لم يعد خافيا على الباحث ما وصلت اليه الجامعات العربية ، في إجمالها وعمومها، من انحطاط علميا كاديمي وأخلاقي، فلقد أخذت مظاهر هذا الانحطاط تفصح عن نفسها ربما مع بدايات السبعينات ، أي مع بروز "المرحلة النفطية" التي اقترنت بسيولة مالية متدفقة الى خزانات النظم العربية المعنية وبظهور مقدمات كبرى لمجتمع استهلاكي يستهلك ما لا ينتج من الحاجات التي لا تنتمي الى التطور الداخلي الاقتصادي والاخلاقي والجمال للمجتمع العربي.
ونضيف الى ذلك ما رافق المرحة النفطية المذكورة من إفقار للطبقات والفئات الشعبية ، وضمنها المعلمون والأساتذة والكتاب والمثقفون والعلماء والفنانون . ويدا بيد مع ذلك ، أخذت تظهر أشكال متعاظمة من الفساد والإفساد تبدأ بالواحد ولا تنتهي ، ومنعها بشكل خاص الدعارة والاتجار بها وتعميم المخدرات والرشوة واللصوصية والجاه السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي وغيره . وفي هذه الحال ، لم يكن بوسع الجامعات أن تبقى بعيدا عن ذلك كله ، خصوصا وأن عملية اختراق واسعة النطاق أخذت تخضع لها من ثلاثة مواقع رئيسية . الموقع الأول يبرز من خلال انتزاع الاستقلالية العلمية والايديولوجية للجامعات المعنية من قبل المؤسسات والمكاتب والأجهزة المنوطة بها مسؤولية "تنظيمها والتخطيط لها وتمويلها" وفي سياق ذلك راحت جموع من "الأساتذة" تقتحم الحرم الجامعي دون أن تكون لديها الامكانات الضرورية للعمل العلمي الجامعي، مكتفية بذلك ببطاقات الدعم التي تحصل عليها من خارج الجامعة ، أي من تلك المؤسسات والمكاتب والأجهزة ، وكان ذلك كفيلا بتدمير الحياة الجامعية (حرية البحث والاستقلالية الفكرية والتفرغ للبحث وتساقط الأخلاقية الجامعية ) وباختزال المناهج والمواد الجامعية الى خطاطات لا تسمن ولا تشبع .
أما الموقع الثاني لعملية اختراق الجامعات العربية فيظهر من خلال الهجرات الفردية والجماعية لكتل متسعة من الأساتذة الى جامعات تكفل لهم الكفاية المادية والكرامة الاجتماعية ، لكن المشكلة تتفاقم مع تضييق احتمالات كك الهجرة لأسباب سياسية أو اقتصادية (الأزمات الاقتصادية التي تقع فيها البلدان صاحبة العلاقة كما يحدث في بعض بلدان الخليج ، أو ايديولوجية عقيدية (الايديولوجيات التي يحملها الأساتذة أصحاب العلاقة) .
وأخيرا الموقع الثالث ويبرز من خلال لجوء أعداد متكاثرة من الأساتذة والمؤسسات الجامعية لبيع أسئلة الامتحانات ومنح الدرجات العلمية مقابل "أعطيات" من الهدايا أو المال أو – كذلك – المناصب.
ومن الجدير بالذكر أن المجتمع العربي، في معظم أقطاره وفي مرحلة ما بعد الاستقلال ، واجه مسربات كبرى حيال البناء التأسيسي الجامعي، فالتجربة حديثة عموما وإجمالا ، أما هذه الصعوبات فقد ظهرت خصوصا في المسائل الأربع التالية : تأسيس الهيكلية التنظيمية والمادية ، والبنية العلمية الأكاديمية والمنظومة الجامعية الأخلاقية ، وأخيرا الموقع من النظام السياسي القائم . ويمكن القول ، بكثير من الوضوح الواقعي المهيمن ، بأن كك المسائل لم تجد حلا دقيقا وشاملا وذا بعد استراتيجي. فهي لم تكن بعيدة عن الاختراقات من كل صوب وحدب ، فظلت معلقة ومفتوحة على كم هائل من احتمالات التراجع والترهل والتصدع . أما ما أخذ يتلاحق على هذا الصعيد منذ السنوات الماضية فقد تكفل بتسديد ضربة عميقة ومحكمة الى المؤسسات الجامعية العربية ، بجلها وبإجمالها.
لقد أتت تلك الضربة عنيفة ومثيرة لمجموعة من التساؤلات والمفارقات والاحراجات من قبل منظمات أكاديمية وثقافية دولية راحت تشكك بمصداقية شهادات ووثائق جامعية عربية . وقد أخذ باحثون وسياسيون يلاحظون أن عهد الجامعات العربية راح يتراجع لصالح عهد من عملية هائلة على صعيد بناء القصور والفيلات والشاليهات والمزارع وامتلاك سيولات متعاظمة من المال معظمها يهرب الى الخارج من قبل فئات طفيلية تعلن نعي العلم والتعلم لصاع جشع شرس لامتلاك كل شيء. وهذا ما انعكس بقوة على المصادر المادية لميزانيات الجامعات والبحث العلمي، حيث هبطت نسبها الى درجات قياسية مرعبة .
وهنا ، أخذ الأستاذ الجامعي يظهر كضحية قد تكون آيلة للانقراض فهذا الاستاذ الذي بدات الأرض تهتز تحت قدميه بسبب مأساته الاقتصادية
وكرامته الجامعية المهدورة ، راح يدفع دفعا باتجاه أن يضيف الى عمله "الجامعي" المستباح نشاطين اثنين ، واحدا يتمثل في تحويل الامتحانات الجامعية ونتائجها الى بازار يقوم مبدؤه عل أن النجاح "مشروط" بالحصول على "مقابل" يكتسب اسم "التسعيرة" . أما النشاط الثاني فيبرز على صعيد الحياة الاقتصادية الطاحنة خارج الجامعة ، وذلك بأشكال متعددة ومفتوحة ، العمل سائق سيارة أجرة أو كتاجر مهربات أو الدخول ل منافسة العمل في مكتب تجاري أو مطعم أو فندق .
وفي هذا وذاك ، تتحول طرائق العمل الجامعي الى أدوات رثة تخرج طلابا وطالبات علاقتهم الأساسية تتحدد مع نصوص تمل عليهم إملاء، بحيث تجد نفسك أمام كتل من "حمقى الكتب والنصوص" يقدمها لهم أساتذة غير متفرغين دون جهد بحثي إبداعي. ونكتشف في سياق ذلك أن البنية الاكاديمية للجامعات المعنية تفقد شيئا فشيئا انتماءها لحقل البحث والانتاج العلمي أولا ولاحتياجات المجتمع العربي ثانيا. ومن ثم تتحول تلك الأخيرة الى عبء ضاغط على المجتمع المذكور اقتصاديا ومعرفيا وأخلاقيا.
هاهنا ، نواجه العلاقة بين الأساس المادي ، الاقتصادي والمنظومة القيمية – العلمية عبر السؤال التالي : هل هذه العلاقة أدت طابع الي (ميكانيكي) بحيث يرتبط العنصر القيمي العلمي بالعنصر المادي الاقتصادي ارتباطا مباشرا وقطعيا؟ سنلاحظ أن القول بأن تلك العلاقة ذات طابع الي ، يؤدي الى قبول انصياع الاستاذ الجامعي لشروطه المادية الاقتصادية المهترئة قبولا غير مشروط بأخلاقية العلم والعمل الجامعي ، حينذاك سنبرر ما يلجأ اليه أساتذة من بيع أسئلة موادهم الجامعية ونتائجها لطلاب يدفعون راضين أو صاغرين . ولكن الأمر ليس كذلك والأستاذ الذي يقترفه لا يغتفر له ولا يسامح عليه .
بيد أن معاقبة أساتذة من ذلك النمط ليس إلا حلا بسيطا للمشكلة ، أما الحل الأعمق فيقوم على اعادة النظر في الجامعات بصورة جذرية وبأوجهها المختلفة ، الاقتصادي المالي والعلمي الاكاديمي والأخلاقي والسياسي ، ذلك لان إبعاد هذا الحل سيعمل على ابقاء الأستاذ والطالب والمؤسسة الجامعية ضحية في أيدي مخربي الوطن برمته . ومن ثم ، فإن القيام بإصلاح جامعي شامل وعميق وزي بعد استراتيجي سيعيد للجامعات العربية دورها الكبير في إطار عملية المواجهة المعقدة للمشروع الصهيوني الامبرمالي العولمي، أي في تخريج الاطارات العلمية الضرورية على أصعدة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية وكذلك – وهذا الآن هام جدا – على صعيد معركة التنوير الفكري العربي ضد الظلامية الاعتقادية والسياسية الواهنة .
وقد يلاحظ أن مقومات العمل على تحقيق مثل ذلك الاصلاح الجامعي مرتهنة بإشاعة حوار ديموقراطي عقلاني في أوساط الجامعيين والسياسيين المعنيين حول شؤون هذا الاصلاح من داخل الجامعات ومن خارجها، حيث نكون قد وضعنا المسألة على هذا النحو من التفكير ، فإننا نكون قد كشفنا عن العلاقة الوثيقة بين الاصلاح المذكور وما تدعو اليه الطلائع العربية من مشروع نهوض عربي جديد. وبذلك تبرز الأسئلة الكبرى التي يطرحها مصير الجامعات العربية بمثابة أسئلة تمس واحدا من أكبر التحديات التي يواجهها مشروع النهوض المذكور.
طيب تزيني (مفكر من سوريا)