«يعتقد أنه دائما ما يجب واحد من هذه الكلمات ذات التأثير السحري،ومنها المعنى الذي لايمكن أن يحدد تحديدا» بودلير
بول كلي klee Paul [1879ـ1940]، الرسّام ومنظِّر الفنّ السّويسريّ.عُدَّ عمله، الّذي نحته بروح الفنّان الغامرة، واحداً من أهمّ التيّارات الفنية في زمنه،وأطرفها،وأكثرها إثارةً للجدل الّذي لم يهدأْ حتّى اليوم. تأثّر في أوّل أعماله الدّالّة بجماليّات الرمزية والتّعبيرية والفنّ الجديد بوصفها شكّلت أهمّ الحساسيّات الجماليّة ، وقتئذٍ.
لمّا أنهى بول كلي تكوينه بأكاديميّة ميونيخ في ورشة فرانز فون ستوك، سافر كلي إلى إيطاليا وقد وقف، مسحوراً، على عمارة النّهضة التي أبدعتها أنامل ميكيل أنْجلو وأساتذة كواتراسنتو؛ وفي معرضٍ بميونيخ يتعرّف على فان غوغ وسيزان، ويقترب من مجموعة رسّامي بلو رايتر[الفارس الأزرق]، ويعقد صداقة مع كاندينسكي،مارك،ماك وجافلينسكي ؛وفي باريس، يلتقي ديلوناي، ويكتشف أعمال روسو وبيكاسو وبراك، ثُمّ ينتهي من رسومات وضعها لرواية فولتير Candide. وبعد أنْ خالط مجموعة رسّامين كانوا منشغلين بمشكلة اللّون ،شرع كلي في إحاطة نفْسه بالفكْر والممارسة الموسيقيين {الغناء, الكمان . وفي تونس ،التي رحل إليها عام 1919،يصيح بملء فيه: «الرّسْم يمتلكني. أنا والرسمُ صرنا واحداً.أنا رسّام»،بعد رأى سلطة اللَّوْن وقوّتَه، على أعتاب القيروان. ثُمّ ، بعد ذلك، تسحره مصرالتي سوف تطبع عدداً من نجماته، كمثل «الطريق الرّئيسية والطُّرق الثانويّة» [تجدها رفقته]. ثُمّ سرعان ما صارتْ كتاباتُه تُغطّي مجالاتٍ شتّى : الإستبطان و الشِّعر حتّى الحرْب العالمية الأولى، النّظرية والتّدْريس طِوال سنوات باوهاوس Bauhaus، بين 1921و1930م.حيث أعطى دروساً منتظمة حول الشَّكْل، ويعْرِض أوّل نظريّةٍ نسقيّةٍ للوسائل التشْكيليّة المحضة، الّتي قادتْ إلى بلْورةٍ إستثنائيّةٍ للإمكانات الإيحائيّة المتضمَّنة في الطّرائق المُجرَّدة، فمثلاً يمكن أن نلْمس معرفته الديناميكيّة بالشّكْل في رُسوماته التّربيعيّة.
ولأنّ كلي كان فنّاناً حديثاً له توجُّهات يساريّة فقدْ حوصر إبّان صعود النّظام النّــــــازيّ، واتُّهــــم بـ«البولشفيــــــــــــــة الثّقافية»، قبْل أنْ يُعْزل منْ عمله، ويعود إلى مسقط رأْسه القريب من بيرن.هنا يقضي كلي سحابة فنّه الأخيرة ، راجعاً إلى الصورة المستلهمة من لغة المرْضى العقْليّين، والوحوش، والملائكة، مثلما رجع إلى هاجس الموت وقدْ شكّل العُبور التّيمة الأساسيّة لهذا الرسّام ـالشّاعر الرائيّ.
لقدْ بدت النظريّات الَّتي طوّرها، خلال هذه الفترة، واضحة ًفي فنِّه الخاصّ ممّا عدم الفصْل بين النّظرية والمُمارسة ، وبيْن البحْث النَظريّ والنّشاط الإبْداعيّ في تصوُّرِه. وهكذا شكّل استغلال الوسائل الفنية قطاعا من «فلسفة الإبداع» التي طورها في نصوص «نظرية الفن الحديث».
إن الفن ، بالنسبة له ، لا«يصبح مرئيا» إلّا عنْدما يصدر من أعماق الكائن ممسكا بالقوانين الطبيعية التي ماتفتأ تكون هي نفْسها قوانين العمل ،الذي يأخُذ عنْده، بصدْقٍ غامر، شكل وسائل وغايات متجانس: «إن القوة الإبداعيةـ يقول كلي ـ تنفلت من كل تسمية، وتبقى سرا يعجز عنه الوصف في التحليل الأخير. لكن لا سرّ صعب المنال ليْس بمقْدوره أن يهزّنا في سرائرنا حتّى. إنّا تحمّلنا بأنفسنا هذه القوّة حتى آخر ذرّة نخاع. ليس بإمكاننا أن نقول ماهي،غير أنّا يمكن أن نقترب من مصدرها بمقدار متغيّر. علينا أنْ نكشف هذه القوّة بكلّ الطُّرق ،وأن نجلوها داخل وظائفها كلّها كما تتجلّى فينا». ويضيف «إنّ المراحل الأساسية لمجموع المسار الإبداعيّ هي كما يأتي: الحركة الموجودة فينا سابقاً، الحركة الّتي تفعل ،تجترح، وتتوجّه نحو العمل، قبل العبور إلى الآخرين ممّن يشاهد الحركة وهي طيّ العمل. ما قبل الإبداع ، ثُمّ الإبداع فإعادة الإبداع.» [الفصْل السابع من نظريّة الفنّ الحدبث].
بهذا المعْنى، يعْتنق كلي التعبيرية معْتبراً إيّاها عملاً للذّات. إنّها نقيض الانطباعية. إذا كانت الانطباعية تعتمد على الإحساسات البصرية والانطباع الأول عن كل ما يقع عليه بصرك، فإنّ التعبيرية تنبع من انفعال باطني «أي تأثرك بحدث أو بشيء ما وانفعالك به».
وإذا نظرنا الآن في تطور الفن الأوروبي منذ واقعية أواسط القرن التاسع عشر حتى ظهور هذه الاتجاهات الجديدة نجد أنه يشبه إلى حد ما تطورًا آخر حدث في ميدان العلم وهو الانتقال من مفهوم الكتلة أو المادة إلى مفهوم «الطاقة»، فالفنان لا يصف «أشياء» وإنما يعبر عن معان نفسية أو ذهنية.
في النّصّ ،الّذي نقترح ترجمته للقارئ الكريم، يناقش الشّاعر وعالم اللّسانيات والمترجم الفرنْسي، بحواريّته النّقْديّة الّتي يرْفدها من حقْل الشّعريّة المعاصرة، جوانب مهمّة من عمل بول كلي النّظريّ والإبْداعيّ ، ويجد في تعْبيريّته عملاً للذّات، التي تتجاوز أدْعياءها وهي تيمّم بوجْهها نحْو المستقبل الذي تعْرف كيف تتجدّدُ فيه،بشكْلٍ لانهائيّ. هوذا النّصّ:
النصّ:
التعبيرية، الانطباعية- «اليتان مميزتان للعصر»، «المقترنتان بالفن الحديث»(1)، بالنسبة لكلي KLEE P. في نصه المؤرخ عام 1912 . تجاور أكثر مخاتلة من الكلمات التي تكونه. تعارض فارغ. ولتمييز «المواقف»، يتموضع كلي في «نقطة حاسمة من تكون العمل»– الزمن: «بالنسبة للإنطباعية، فهي اللحظة المستقبلة لتأثير الطبيعة، وبالنسبة للتعبيرية فهي تأتي لاحقا، ومن ثم ليس من الممكن احيانا البرهنة على تجانسها لفظيا مع الأولى، حيث يكون التأثير المتحصل واردا. داخل التعبيرية، يمكن أن تمر سنوات من التلقي والمردود المنتج على مقاطع من انطباعات مختلفة يمكن أن تعاد في تأليف جديد، أو كذلك من انطباعات قديمة تتفاعل بعد سنوات من كمونها عبر انطباعات جد متأخرة» (م.س.) .
والمعتبر أن هذا التحليل، البعيد عن أن يميز التعبيرية من خلال التفاقم الخارجي للمؤثر، كما يلاحظ غالبا، وكما تبرره المظاهر الأكثر إبهارا، إنما يدخلن intériorise التعبيرية، جاعلا من الزمن المبدأ المحدد، المؤشر. الزمن، أعني الذات. التحويل الذاتي[ما يسمح ب] التعرف على شكل آخر من الذاتية subjectivité تتخلق فيه الإنطباعية، التي يصبح معها الإحساس بالزمن لحظة داخل جمال الأشياء. وخارج أي أمر بالرضى أو الاشمئزاز، وأي انشغال بالتعريف، يبقى التمييز الذي أقامه بول كلي ، في نظري، أقوى، لأنه يسمح بفهم العلاقات بالزمن والعمل والذات، التي لا يفكر في تناولها مجموعة، والتي تبتكر تقريبا في نفس اللحظة: معنى القصيدة عند ريلكه Rilke هو معنى العبور من المقالة إلى الرواية عند بروست Proust . وما يقوله ريلكه عن العمل باتجاه القصيدة في «laurids brigge les cahiers de malte»: إن أبياتاً من الشعر «ليست، كما يعتقد بعضهم، مجرد أحاسيس (فلها ما يكفي منها إلى حد ما)، إنها تجارب. (…) ويجب أن يكون لها تذكارات (…)، ولا أن تكتفي أيضا بما لها من تذكارات، فعليها أن تعرف نسيانها، وأن يكون لها صبر شديد في انتظار عودتها، مادام أن التذكارات نفسها ليست كذلك بعدئذٍ. وهو ما لا يتم إلا عندما تصير في دمنا ونظرتنا وحركتنا؛وعندما لا يكون لها اسم ولا تتميز عنا، ولا يحدث هذا إلا فيما يمكن أن يأتي. وفي الساعة الأندر تبزغ، بين ظهرانينا، الكلمة الأولى للبيت» (2).
ذلك ما يدأب بروست عن إخبارنا بــــــــه طيلة مجموع الأبحاث في (contre Sainte -Beuve)، ضد الإحساس المباشر («أتذكر أن يوم السفر…») (3) وحول «المتعذر على التعبير»، «أبعد من استحضار الماضي أيضاً» ( م.س، ص240) بخصوص نرفال Nerval، والذي ليس كائناً» داخل الكلمات» بل «مشتبك تماما وسط الكلمات» (ص242). وهو ما يقوله باستعارة تذكار لحن موسيقيى: «إن الأشياء الجميلة التي نكتبها بما لنا من موهبة هي فينا ،نحن، غير مميزة، كمثل تذكار اللحن الذي يسحرنا من غير أن نحيط به معرفة»(ص312). يتعلق الأمر ب «القوانين الداخلية، الذهنية لهذا الإنتاج» (ص.278). وعلاقة الذات بالكتابة هي نفسها العلاقة بالزمن: «عدم النسيان: مادة كتبنا، ماهية جملنا يجب أن تكون غير مادية، لا مأخوذة كما هي في الواقع، بل يجب على جملنا نفسها والمقاطع كذلك أن تجعل من الماهية الشفافة لدقائقنا أحسنها، حيثما نكون خارج الواقع والحاضر» (ص309).
ليست هذه اللغة ،ألبتة، لغة مضادة، انزياحا عن اللغة العادية كما يكررذلك أنصار الدليل. بل إنها عمل، كما يقول به بروست عن بودلير، «مع الكلمات الأكثر قوة، الأكثر استعمالاً»(ص257). ويعد استكشاف اللغة، هذه العبارة السحرية، كالذات داخل اللغة، وأصلها : لا شيء يختفي،وما من أحد يتحدث عنها في كل آن من غير المعرفة بها. لكن يلزم أن يكون عمل كل من الزمن و الذات واللغة هو العمل نفسه.و هكذا فالزمن و الذات واللغة ما تفتأ تتحوّل.
من خلال عمل الزمن هذا داخل الذات، يتجه كلي بمعنى التعبيرية نحو البناء، «إن النتيجة الهامة للموقف التعبيري تتمثل فعلا في الإرتقاء بالبناء إلى درجة وسيلة تعبير»(4)، ولهذا تقيم التعبيرية الحداثة في الفن كنهاية للعلاقة المحاكاتية بالطبيعة، وتمنح معنى جديدا للفكرة القديمة القائلة بأن الفن إبداع. هذه المقولة غالبا ما تتأكد عند ابولينير Apollinaire «أبدع الإنسان الدولاب، الذي لا يشبه الساق».
بهذا المنطق، يدرج كلي التكعيبيين داخل التعبيرية : «إن الفرع المميز للتعبيرية هو ممثل من قبل التكعيبية» (ص.11). فيما الآخر هو فرع كاندينسكي kandinsky اللاتكعيبي الذي تحدده «نزعة الحرية» (ص.13).
من البناء إلى التأليف يتعلق الأمر بدخلانية l’intériorité داخل الفن، في الوقت نفسه الذي يكون فيه الفن مؤكدا كمشارك في إبداع العالم الذي لا يزال غير تام. إنه مظهر كوني، وسحري، لدى كل من كلي والتعبيريــة. المقارنة المتواترة للفنان مع الإله. كما عند أبولينير .نزعة الإبداع.
ويترتب على استدخال L’intériorisation الفن حرية الفنان وحركيته في علاقته بالتقليد– التكرار، بقدر ما يفرض نفسه خارجا عن الذات : «وهو يتحرك إلى حد الأعماق عبر هذه التنـزّهات ما يسمح لنفسه بأن يصير محركا، سيكون الفنان قد أمّن لذاته الحرية من أجل أن يتقدم بسبله الخاصة بالإبداع»(5) ،كما قال ديسنوس Desnos: لا الشعر الحر، بل الشاعر الحر.
ومن منطلق تعريف كلي، يكون من المجدي للذات والحداثة أن تشطر التعبيرية نصفين، و تعتبر أن من خلال فهم الحركة الفنية والأدبية المرسومة فهماً حصرياً يضيق أو يزيد، داخل الأماكن، وداخل الزمن، يكون ثمّة ،داخل التعبيرية ، تعرية لمبدأ الفن. وعليه، فإن التعبيرية ليست حركة. إنها اكتشاف الشمولي، شمولي الذات. وأيضا الإرتقاء بالذات داخل الحداثة. من هنا، تسهم التعبيرية، بشكل أساسي، في بناء الحداثة في الفن بوصفها ارتقاء بالذات.
ذلك ما يجعل التعبيرية مرئية، والحداثة في الفن كاكتشاف واستكشاف لمبدأ الفن كله ، إلى حد الهستيريا أحياناً، والذاتية، المدفوع بها إلى درجتها القصوى الممكنة، كمبدأ لبناء العمل. من هنا تاريخيتها الجذرية، تذويت مقولات العلاقة بالعالم ، وبالتاريخ.
ويشرع كلي في صياغة هذا المبدأ، عام 1912، عندما يعارض الفن بالعلم، قائلا : «يرجع الفن لعالم الاختلاف : إن أية شخصية، حالما تضع يدها على وسائل تعبيرها، لها حقّ الرأي؛ ووحدها الوسائل ملزمة بأن تتلافى النواقص وهي تبحث الأحسن منها داخل الإكتمالات المنتهية عوض أن تخلّص نفسها منه ؛والحداثة هي التخفّف من الفردانية». (م.س، ص14) .إنّ الاختلاف يصنع التاريخية .
من خلال ذلك، لا مندوحة من التعدد: «إليك عني من الفكر الذي ينصب نزعة التطرف القصوى أمام الفردانيات كأمر دوغمائي» (م.س). مادامت الذات، كتأسيس للتاريخية، تعتبر العلاقة المتعددة بالتاريخ. في «عن الفن الحديث»، عام 1924، وهي نفسها السنة التي ظهر فيها البيان الأول للسوريالية، يكتب كلي : «كل واحد يهـتدي بحسب خفقات قلبه. هكذا كان التعبيريون، نظراؤنا بالأمس، لهم كل الحق في زمنهم» (م.س.، ص.30).فثمّة اختلاف بين الحداثة والطليعة : الحداثة هي فردية ومتعددة، والطليعة هي جماعية واستثنائية، وإن عدّت دوغمائية. لا يتعارض، إذن، المبدأ الذاتي للحداثة مع التاريخ، إنّما يتعارض مع التكرار. إن تلافي «النواقص»، كما يقول كلي، ليس نزعة داروينية، لكنه شجب ذاتي للتوابع.
وقد توسلت نزعة الإرادة volontarisme le الطليعية بالجديد و إرادة الجديد ببعضهما البعض. ولا تتمّ عن الجديد الذي تريد ، ولا الحديث الذي تريد.إنّما عما تريده الــذات .
إنّ الصراع مع القديم أكثر دقّة. بهذا المعنى، لم يكن الجديد هدفاً، بل كان معْبراً. يكتب كلي في عام 1923 : «الجدة بالنسبة للأمس هي دليل تثويري، حتى وان كانت لا تزال غير كافية لرج العالم القديم المتعاظم. ليس ثمة ما يحط من الفرح الذي تستوحيه السبل الجديدة، لكن على الحقل الرحب للذاكرة التاريخية أن يحرسنا من البحث المضطرب عن الجدة على حساب الطبيعي» (ص.43). وفي عام 1928، وهو يعارض الحدس بالشكلانية: «نتعلم هذه الطريقة الخاصة بالتقدم الذي يتمثل في العودة إلى الداخل، من حيث يصدر هذا الذي يأتي» (ص.49) . من الداخل إلى الخارج، إنها الذات التي تعدد التقليد، «داخل منظور متعــدد الجوانب» (ص54) ،والتي تجعل من الفن الزنجي شكل حياة.
ويبدو لي أن علاقة الذات هاته بالتاريخ هي مايسميه كلي «المبدأ التحتي الدائم في تعاقب الأزمنة» (ص.54). «الطبيعة»، التي «تقاوم الشيخوخة» (م.س.). وتشيخ الشكلانية. وفي نظر كلي، «فإن الشكلانية بمثابة الشكل دون الوظيفة»(م.س.). وبمصطلحات بنيوية، التي تتضافر مع مصطلحات هايدغر Heidegger : اللسان،ذاكرة اللسان، مع إنكار الذات. هذه الصيغة ما تزال بقاياها. وهو مايحاكي الحداثة ، «الكل على نقيض: الشكل الحي» (م.س). وأقول : الشكل – الذات.
وبما هي رفض لإعادة إنتاج العلم، فإن الذاتية كمبدأ بنائي في الفن تعتبر تأليفا للذاتية. وهذا ما يجعل الصياغة المعروفة عن كلي ممكنة في الجملة الأولى من «قانون إيمان المبدع» عام 1920: «إن الفن لا يعيد إنتاج المرئي، بل يصير مرئيا» .في «عن الفن الحديث» عام 1924، طفق كلي، الذي يريد «الغوص في الأعماق – ما ندعوه مثلما شئنا حلما، فكرة، تخييلا» و «الوسائل التشكيلية» ، يجعل من هذه الوحدة شرطا لكي «تصبح الطرائف حقائق، حقائق الفن التي توسع حدود الحياة مثلما هي تظهر عادة. / مادامت أنها لا تعيد إنتاج المرئي مع قليل أو كثير من المزاج، بل تجعل الرؤية السرية مرئية» (م. س.، ص.31). في عام 1928 يكتب كلي: «نتعلم ما قبل تاريخ المرئي» (م. س.، ص49).
إن تاريخ الحداثة، في الفن والأدب، يظهر، إذن، غير قابل للفصل عن تاريخ الذاتية، وبشكل متبادل. ولهذا يظل المسار النظري لكلي حديثا، أي يخصنا تحديدا. ضدا على التقسيمات التاريخانية لمن لا يعرفون إلا الإيات les ismes ، ويسهمون في مضاد الحديث. مضاد الحديث – عدم فهم الفن جوهريا .
وعن ذاتية الرؤية ينتج ،في الحال، إلغاء المقولات المجردة – الموضوعية: «الوهم العارف» يقول كلي (م. س.، ص37).
وتذويت هذه المقولات إنّما يعني أنْ تجعل تاريخية،وأنْ تجعل القيم تاريخية. وهو العمل الإجتماعي ـ المفاهيمي الذي يقيمه، بالدرجة نفسها، همبولدت humboldt بالنسبة للعلاقة بين نظرية اللغة ونظرية المجتمع، والذي يظل برنامجا غير مكتمل تماما، وقد همشه الفكر اللغوي الذي هيمن في القرن التاسع عشر مثلما في القرن العشرين – رغم سوسير saussure -، الفكر الذي يقسم الكلمات من جهة، والقواعد من جهة أخرى.تشكّل هذه «التقسيمات التقليدية» للسان، التي رفضها سوسير، عائقاً لنظرية الخطاب.
إنّ الفضاء والزمن جعلا لأجل الذات وعبرها،فحسب. وتظهر العلل التي يقدمها كلي مقترنة أولا بالشروط المادية. فهي تصوغ شبكة من الذاتيات البرانية عن العمل ( إعداده، تأمله) التي تظل، مع ذلك، ضرورية حتّى يكون هناك عمل وعلاقة بالعمل؛ لأنّ «الفعالية الأساسية هي زمنية عند المتفرج بالقدر نفسه» (ص. 38)؛ ولأنّ عقلانية المرئي للتمثيل الواقعي أو المثالي ضد«العقلانية القديمة»،حيث «أصبحت نسبية المرئي،اليوم ، بداهة» (ص. 39).
وقد كانت التزامنية la simultanéité المطابقة جدا لروح 1912، من أبولينير وصندرار Cendrars إلى كلي، باعثا مميزا : الإمساك بالزمن والفضاء واستجماعهما، ذاتيا. ويوجد في حافز التزامن، كما في التعبيرية، مبدأ عصري وشمولي يجب المعرفة به.
يعدّ التزامن صورة تأليف الذات، يكتب كلي في يومياته عام 1917: «الأمس واليوم كتزامن. وتستجيب البوليفونية في الموسيقى لهذه الحاجة بمقدار ما. إن مقطوعة دون جيوفاني Don Giovanni هي أقرب منا من الحركة الملحمية لتريستان Tristan .وموزار Mozart وباخ Bach هما أكثر حداثة من القرن التاسع عشر» ( م. س.، ص. 40 ). وهذا التزامن عند كلي ليس هو نفسه عند مارينتي Marinetti، أو حتى أبولينير.أمّا الجزء الذي يتقادم إنّما هو التنافس مع التقنية الحديثة. لكن العقل الموسيقي، الداخلي للعمل، من خلال تأليفه، يجعل التذاوتية La trans-subjectivité، ذاتية الزمن – الفضاء كحركة للذات. ولا يوجد في نظر كلي «رسم بوليفيني» : «لذا، وهو يسعى إلى إسناد النبر على الزمنية حيال نموذج الهروب التشكيلي، يختار ديلوني Delaunay شكلا يستحيل عليه من ناحية الطول الإحاطة بالمشهد (صنف الجامع)» (م. س.، ص. 41. ). وهو ما يخلق العزاءات، تماماً، اليوم.
إن الذاتية والحداثة متلازمتان. المغامرة نفسها. والحداثة هي ، بالنتيجة، قدرة الحاضر. تحويل الحاضر. وهي تعني في الفن آتي العمل. مستقبل الذات. وحدها لها الآتي ولها الحاضر. والماضي أيضا. أما الذين يتكئون على الماضي ضد الحاضر، فليس لهم فيما يأتي إلا ماضيهم. لكن الحداثة ليست خطية. ولا تقدمية. ولا تسجن في الزمن المعطى. إنها تتجاوز نفسها. مادامت أنها تتنقل مع الذات.وما بعد الحديث، الذي كتب له أن يلحق بالأسلوب الحديث يوماـ مع مرجعه المؤرخ، النهائي ـ هو مسبقاً حركة في الماضي. والحداثة ليس لها مرجع، ليس هناك إلا الفن والأدب اللذان يظهرانها للمجتمع. فقط الذات. المختلفة دائما، و المختلفة عن الذوات الخاصة. إنها التلافظ La trans-énonciation نفسه. تلك قوتها. قوة الكلمات الفارغة.هي أكثر قوة مادامت لاتفيض إلّا بما يوضع فيها، و يتغير بشكل لا محدود.
المراجع:
النصّ مقتطف من كتاب:
Meschonnic ;.henri : :modernite modernite,ed.verdier,1988,p.289-295.
بودلير، «حيثما كانت الواقعية», الأعمال الكاملة, ج.1, ص.526.
1. بول كلي, نظرية الفنّ الحديث, جنيف, غونتيي,1964,ص.9.
2.راينر ماريا ريلكه, دفاتر مالت لوريدز بريج, ترجمه م. ميتز, الناي الفرنسي للكتاب,1951,ص.20ـ22.
3.مرسيل بروست,ضدّسانت بوف,لابلياد,ص.213.
4.نظرية الفنّ الحديث, ص.10.
5.في «عن الفنّ الحديث», نصّ 1924,ص.29.
تقديم وترجمة:عبداللّطيف الوراري شاعر وكاتب من المغرب