إسماعيل المصدّق(2)-باحث وأكاديمي مغربي
ترجمة: حمزة فنِّين-مترجم مغربي
يَكفي أن نُلقيَ نظرةً واحدةً إلى الساحة الفلسفية في العالم العربي لكي نَقفَ على مدى حُضور فكرِ هيدِغِر فيها؛ فإلى جانب ما تُرجِم من أعماله، نَجد عددًا كبيرًا من الكتب والمقالات والأطاريح التي انشغلت وما زالت تنشغل بفكره، وهو ما يدُلُّ على مدى تأثيره. رغم هذا، فإنّ التلقّي العربي لفلسفة هيدغر يظلُّ ناقصًا ولا يفي بالغرض حتى يومنا هذا، ذلك لأنّه لا يلزمُنا أن نكتفي بمجرَّد اقتباس هذا الفكر وعرضه، وإنّما يلزمُنا أيضًا أن ننخرطَ نقديًا في مُحاورَته من خلال الغوصِ في عُمق فكره وتبصّراته ومحاولة جعلها مُثمرةً وفعّالة، وذلك من أجل فهم عالمنا المُعاصر من جهة، وفهم تراثنا الثقافي الخاصّ من جهةٍ أخرى. لهذا يبدو لي أنّ الطريقةَ السائدةَ التي يُتلقّى بها فكر هيدغر في العالم العربي لم تتوفّر فيها بعدُ مستلزمات الانخراط في حوارٍ مُثمرٍ مع فكره. سأعمل في هذا المقال، أوّلًا، على الوقوف/ الإيقاف على هذا النقد الذي أشرتُ إليه هنا؛ ثم، ثانيًا، على بسطِ بعض الرؤى التي يُمكن أن تُسعفنا على تلقّي فلسفة هيدغر تلقيًا مُثمرًا وخَصيبًا.
1. نقد التلقّي السائد لهيدغر
في العالم العربي
ثمّة اختلالٌ بين الاهتمام الكبير نسبيًا بهيدغر في العالم العربي وبين الانعدام شبه التامّ لأي تلقٍّ مُثمرٍ وفعّالٍ لفكره. كيف نُفسّر هذا الأمر؟ يُمكننا هنا أن نقف عند أربع رؤى ستُسعفنا على تقديم بعض عناصر الجواب عن هذا السؤال، لكن دون أن ندّعي أننا قدّمنا تفسيرا شاملًا لهذا الاختلال.
أولًا؛ أشير إلى الواقعة المعروفة جيدًا، وهي أنّ اكتشاف العالم العربي لهيدغر قد مرّ عبر الفكر الفرنسي؛ لا يعني هذا أن نصوص هيدغر قد قُرئت أولًا في ترجماتها الفرنسية فقط، بل يعني أيضًا، وهنا مربضُ الفرس، أن العالمَ العربيَّ لم يعرف هيدغر إلا في خضمّ النقاشات الفلسفية في فرنسا، النقاشات التي كانت محكومةً لزمن طويل بالمذهب الوجوديّ. لهذا نجد أنّ فكر هيدغر قد فُهِم وأُوِّل دون أيّ اعتبارٍ للوضعية الفلسفية في ألمانيا التي كان هيدغر مُنخرطًا فيها بقوةٍ وبشغفٍ. على سبيل المثال، فإننا لا نجدُ أيّ وقوفٍ ملائم عند علاقة هيدغر بفينومينولوجيا إدموند هوسِّرل التي ألهمته إلهامًا أساسيًا وحاسمًا كما عبّر عن ذلك بوضوح في عمله الكبير الكينونة والزمان (1927).
يَكشفُ لنا مثالٌ آخر هذا الأمر، وهو الأطروحة الشهيرة المعنونة بـ الزمان الوجودي (1943) لعبد الرحمن بدوي (1917-2002) المعروف، عمومًا، باعتباره واحدًا من أوائلِ المفكرين العرب الذين احتكّوا بفكر هيدغر؛ في هذه الأطروحة يُحيل بدوي على التحليلية الوجودانية(3) لهيدغر في الكينونة والزمان إحالةً واضحةً وصريحةً، لكنه لا يُورد قطّ، سواء في هذا العمل أو في أعماله المتأخرة، أنّ هيدغر قد اهتدى إلى طريقه الخاص في الفلسفة من خلال مواصلة فينومينولوجيا هوسّرل وتحويلها تحويلًا جذريًا. ويرجع هذا بالأساس إلى كون بدوي لم يعتبر فينومينولوجيا هوسّرل سوى مجرّد منهجٍ للبحث السيكولوجي(4). هذا الحكمُ المغلوطُ هو ما حَالَ بين بدوي وإدراكِ الرابطة الحقيقية التي تجمعُ هيدغر بهوسِّرل، بل وبين هيدغر والساحة الفلسفية لعصره.
ثانيًا؛ أشير إلى أنّ المفكرين العرب، في تعاملهم مع نصوصِ هيدغر، غالبًا ما يتجاهلون واقعةً مفادُها أنّ هذه النصوص هي خُطى في تطوُّر فكرِ هيدغر، وهي ما ظلّ يؤكّد عليها هو نفسه من خلال القول بأن تفكيره ليس نسقًا مُكتملًا، وإنما هو مُجرّد دَربٍ، الشيءُ الذي يرتبطُ أساسًا بخاصية التّسآل التي تطبعُ فلسفته. وطالما لم يتمّ الوعي بفلسفة هيدغر باعتبارها دربًا [أو دروبًا]، فإن الانخراطَ في التفكيرِ معه ومحاورتِه لن يجدَ مجلى له. هذا ما نجدُه عند المفكرين العرب الذين غالبًا ما يعرضون أقوالًا لهيدغر تنتمي إلى لحظات زمنية ومستويات مختلفة من مسار فكره، فيضعونها بعضًا إلى جانب بعضٍ دون أن يُشيروا، أو حتى أن يتنبّهوا، إلى سياقاتها الفلسفية الخاصة، بل إنَّ الأمرَ ليصِلُ بهم إلى أن يُترجموا منتخبات مختلفة لهيدغر، فيجعلونها بين دفتي كتابٍ دون أن يربطوا كل نصّ بسياقه الخاص ضمن دربِ هيدغر في الفكر(5).
إنّ ما قام به فؤاد كامل ومحمد رجب (القاهرة، 1964) ضمن الكتاب الذي جمعا فيه خمسة نصوصٍ لهيدغر، والتي راجع ترجمتها عن الألمانية عبدالرحمن بدوي نفسه، هو مثالٌ صارخٌ على الأمر. يتضمّن هذا المجموع، من بين ما يتضمن، خطاب هيدغر الافتتاحي بفرايبورغ ما الميتافيزيقا؟(6) (1929)، ومحاضرته ما الفلسفة؟(7) (1955). هذان النصّان، كما غيرهما، لم يُرتَّبا حتى حسب تسلسلهما الزمني الأصلي، ولم يُشِر تصديرُ بدوي ولا تقديمُ محمد رجب إلى كون هذه النصوص المختارة تنتمي إلى محطات مختلفة ومُتباينة من فكر هيدغر، وبالتالي فمفاهيمها قد بُنيت انطلاقًا من زوايا نظرٍ مختلفة. ورغم إشارتهم إلى أن الكينونة والزمان كتابٌ غير مكتملٍ، فإنهم لم يستفهموا قط ّعن دلالة هذا الأمر بالنسبة لفكر هيدغر، كما أنهم لم يُشيروا البتة إلى ما أصبح يُعرف في فكر هيدغر بـ «المنعطف»(8) أو إلى تحوّله الحاسم نحو التفكير في تاريخ الكينونة.
كان عبدالرحمن بدوي مُهتّما بتحليلات هيدغر لـ»الدازاين» في الكينونة والزمان، لأنه هو نفسه كان ينشغل بمقولات الوجود الإنساني. أما الشراحُ العرب، بعد بدوي، فإنّهم لم يصبّوا اهتمامهم إلا على نصوص هيدغر المتأخرة، ودون أن يعودوا إلى الكينونة والزمان. ومردّ هذا أساسًا هو أنّه لا يوجد أي مشروعٍ مشترك لترجمة أعمال هيدغر إلى العربية يُمكن أن يُراجَع من طرف مؤسسة مختصة واحدة، إذ إنّ جميع الترجمات الموجودة هي ثمراتٌ لجهود فردية، كما أنّ اختيارها كان دائما محكومًا بتفضيلاتٍ شخصية، ناهيك عن كون المصطلحات والمفاهيم المختارة عربيًا تختلف من ترجمة إلى أخرى. لهذا فقد حان الوقت من أجل تضافر جهود الترجمة في العالم العربي وتوحيدها في إطار مشروع مشترك من أجل الوقوف على معايير مشتركة لاختيار ألفاظ الترجمة. ونحنُ، حقيقةً، لا نرى كيف يُمكن لانخراطٍ مثمرٍ وفعالٍ مع فلسفة هيدغر أن يرى طريقه نحو النور في ظل الظروف الحالية.
ثالثًا؛ يلزمُنا أن نضع في اعتبارنا أنه منذ ما عُرف بالنهضة العربية في القرن التاسع عشر، كان المثقفون في العالم العربي، وما زالوا، يطرُقون سؤالًا هو: كيف نتمكّنُ من قطف ثمار الحداثة في مجالات العلم والتكنولوجيا والسياسة والأنوار دون أن نضطرّ إلى مُجابهة تراثنا الثقافي الخاصّ؟ وخلف هذا السؤال تقبع قناعةٌ مضمرة لم تُساءَل حول ما إذا كان بإمكان فكر هيدغر أن يُسعف العرب في تحقيق مَهمَّتهم هذه، وذلك نظرًا لموقف هيدغر العنيف من الحداثة.
سواءٌ اتفقنا مع هذا الطرح أو لم نتّفق، فإنه ظاهرٌ وبيّنٌ لنا أن التلقّي غير المُوفَّق لفكر هيدغر في العالم العربي قد كان، في جزءٍ منه، بسبب تأثير هذه القناعة. وفي نظري، فإن هذه الأخيرة لم تقُم إلا على فهمٍ محدودٍ للفلسفة؛ فالفلسفة لا تحيا إلا داخل وعبر التفلسف، أي إننا عندما نستحضر -كما يحدث عادةً- أفكارَ فيلسوفٍ شهير داخل تفلسُفنا، فإنّنا نفعل ذلك من أجل أن تُسعفنا هذه الأفكار في شقّ طريقنا الخاصّ. وبالتالي، فلا يُمكن أن نبتغي من وراء هذا الاستحضار مُجرّد ترديدٍ للكلام دون أيّ نقدٍ. بهذا المعنى، فإنّ تأويل هيدغر للحداثة يُمكن أن يُسعفنا كثيرًا على مَهمَّتنا رغم أننا نروم، على خلافه، الدفاع عن الحداثة وجني ثمارها. هكذا، فتحليلات هيدغر، في جميع الأحوال، يُمكن أن تُقدِّم لنا معونةً كبيرةً في مُحاولتنا لفهمِ الحداثة، نظرًا لأنها تغوصُ عميقًا في جذورها وأسُسها. لنتذكّر أيضًا، في هذا السياق، أنّ موقف هيدغر النقدي من الحداثة هو الذي جعله جذّابًا في أعين بعض الحلقات الفلسفية الإيرانية التي تقوم على رفض الحداثة وثقافتها التقنية-العلمية الشمولية، وكذا تمظهراتها السياسية(9).
رابعًا؛ لا يُمكننا أن نتجاهلَ كون هيدغر نفسه لم يُبِن عن أيّ اهتمامٍ أو فضولٍ بالثقافة الإسلامية العربية أو الفلسفة في العالم الإسلاميّ، وأقصى ما نعلمُ هو أنّه قد أشار إليها إشارةً مقتضبةً في مواضع قليلة غالبا ما ارتبطت بإعادة شرح فلسفة أرسطو في العصر الوسيط(10)، وقد قدّمها كما لو كانت دون معنى، رغم أنّ الفلاسفة المسلمين كشفوا عن مجهودات كبيرة في هذه الفترة من أجل مواصلة الفلسفة الإغريقية. وبما أن مسألة تاريخ الميتافيزيقا مركزيةٌ في فكر هيدغر، فإن انخراطه في التفكير مع الفلسفة الإسلامية العربية كان ليَحملَ كثيرًا من المعنى لولا أنّ هذا الانخراط مفقودٌ تمامًا عنده(11).
يبدو هذا جليًا من خلال رسالة التحية التي وجّهها هيدغر للمشاركين في ندوةٍ انعقدت في بيروت سنة 1974 بمناسبة عيد ميلاده الخامس والثمانين؛ أكيد أن تَحيَّته هذه تضمّنت مضمونًا ذا معنى، لكن لم تتضمّن أية إشارةٍ تُفيد بأن هذه التحية مُوجّهة إلى ندوة انعقدت في العالم العربي بالضبط(12). بيد أننا، بقولنا هذا، لا نرومُ أبدًا أن نفترض أنه لا فائدة من الانخراط في التفكير مع فيلسوف ظلّ يتجاهل ثقافتنا، بل إن ثقافتنا، بما هي غير مفصولة عن أفق فكر هيدغر، يُمكن أن تُشكّل عدة نقاط مرجعية من شأنها أن تُسعفنا على إقامة حوارٍ مُثمرٍ مع فكره.
2. رُؤى من أجل انخراطٍ
مُثمرٍ مع فِكر هيدِغِر
كيف ننخرطُ انخراطًا مُثمرًا مع هيدغر؟ كيف يُمكن لفكر هيدغر أن يُحفّزنا ويُلهمنا في شقّ طريقنا الخاصّ في الفكر؟ أعتقدُ أن فكرَ هيدغر يُمكن أن يفتحنا على رؤيتين؛ سأقف بدايةً عند الأولى وقفةً موجَزة، ثم أنتقلُ إلى الثانية فأقف عندها بتفصيلٍ.
تنبعُ الرؤية الأولى انطلاقًا من واجبٍ يُلقي بظلاله علينا، نحن المُعاصرين، وهو فهمُ ما يحدُث اليومَ في عالمنا، العالم الذي يُصبحُ يومًا بعد يومٍ مُشتركًا بين عدة ثقافات؛ إنّ تبصُّرات هيدغر في الامتداد الشامل للثقافة التقنية-العلمية تلعبُ، إلى يومنا هذا، دورًا أساسيًا ومُهمّا في هذا الفهم. أما ارتباطُ هيدغر بالاشتراكية الوطنية ومواقفه من اليهود أو نزعته المعادية للسامية، أيا كانت مظاهرها، وهو ما يجب إدانته بشدة، فإنه لا يُغيّر أبدًا من أهمية هذه الرؤية(13)؛ إنّنا مَدينون لهيدغر بأن أوقَفنا على أنّ الإنسان قد ولَج عصرًا جديدًا يتميّز أساسًا بتغيّراتٍ وتحوّلاتٍ في طبيعة التقنية، وأنّ هذه التغيُّرات تُؤثّر شديدًا على الكينونة الإنسانية(14) نفسها.
ليست التقنيةُ، أساسًا، تَجميعًا لأشياء صناعية يُمكن استعمالها باعتبارها أدوات من أجل تحقيق أهداف مُحدّدة مسبقًا، إذ إن ما يحدث في عصر التقنية، حسب هيدغر، هو مُحدّدٌ انطلاقًا من نمطٍ معينٍ للكينونة(15) يُؤطّر ويُحيطُ بالكائن الإنساني نفسه، وهو ما له آثار وخيمة على نمط كينونتنا. لهذا فمَهَمّتنا اليوم يجب أن تتمثّل في الوقوف على تبصُّرات هيدغر بما هي مرآةٌ تعكس لنا التطورات الأخيرة التي عرفها العالم. لتحقيق هذا، يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الاكتشافات الأخيرة في ميدان التقنية، أي ما أصبح يُعرف بالثورة الرقمية، وكذا أحدث وسائل التواصل؛ كما يجب علينا أن نضع في أذهاننا أن أناس هذا الكوكب المختلفين قد أصبحوا قريبين من بعضهم البعض أكثر من أي وقتٍ مضى؛ وأن نُفكّر في هذا الأمر، في عصر العولمة، هو ما يجب أن يحمله المفكرون الذين يتحلّون بحسّ المسؤولية على عاتقهم، ليس فقط مُفكّرو ثقافة ما بحدّ ذاتها، وإنما مُفكّرو جميع الثقافات، بما أن «الخطر»(16)، كما لاحظ هيدغر، قد أصبح شاملًا وشموليًا لا تُستثنى منه أية ثقافة. لهذا فتحليلاتُ هيدغر للتقنية الحديثة تظلّ صالحة إلى يومنا هذا، لكن يجب أن يتمّ تحيينُها.
أما الرؤية الثانية، والتي تصبُّ في جوهر موضوع المقالة، فإنها تجد مُنطلقها من مَهمَّةِ جعلِ تبصُّرات هيدغر مُثمرةً ومسعفة لنا على فهم تراثنا الثقافي الخاص، وألخّصها هنا في موضوعتين: تقولُ الأولى إنه يُمكننا أن ندرس الفلسفة الإسلامية العربية من خلال التوسُّل بطريقة هيدغر في التفكير. هكذا نكون قد أعطينا الرجل حقّه ما دمنا نعتبر أنّ الإشكال الأنطولوجي للكينونة والكائنات هو في صلب فكره. في مرحلته المتأخرة، أوقفنا هيدغر على أطروحة مفادُها أنّ الميتافيزيقا عبر تاريخها، منذ أرسطو إلى اكتمالها مع هيغل، ظلّت «أنطو-ثيولوجية»؛ يعني هذا أنّ الأنطولوجيا، أي دراسة الكينونة بما هي كذلك وبما هي كلٌّ، والثيولوجيا الفلسفية (القولُ بالكائن الأسمى وكذا الإلهيّ) قد ظلّتا تُشكّلان وحدة غير قابلة للانفصال. يُمكننا في هذا الصدد أن نفحص هذا الطرح لنقف على مدى وجاهته عندما نؤوّلُ تاريخ الفلسفة عامة، وتاريخ الفلسفة العربية الكلاسيكية خاصة؛ أما الموضوعةُ الثانية فتتمثّل في أنّ هيدغر قد فكّر بعمقٍ في العلاقات والروابط التي تجمعُ بين العالَم واللغة والشعر(17)، وكلّ ما قاله في هذا الصدد يُتيح لنا آفاقًا رحبةً لكي نقيم جُسورًا بينه وبين الثقافة العربية.
تستلزم كلتا هاتين الموضوعتين بحثا خاصا من أجل إظهار إذا ما كانتا تُفضيان إلى تساؤلاتٍ مُثمرة أم لا، وهو ما سأحاول هنا، في حدود المُتاح، أن أنجز جزءًا منه، موقفًا بذلك على بعض الإشارات القوية التي تدلّ على مدى خصوبة أفكار هيدغر في كلتا الموضوعتين بالنسبة للعالم الإسلامي العربيّ.
بدايةً؛ وجدَت تأمُّلات هيدغر بصدد الخاصية الأنطو-ثيولوجية للميتافيزيقا صيغتَها الأكمل في نصّه الهوية والاختلاف (1957)(18). وهو في كلّ مرة يطرُق فيها هذه الخاصية الأساسية والمؤسِّسة للميتافيزيقا، يُشدّد على العنصر الأخير (لوجيا)، لأنّه بالنسبة للفكر الغربي، كما يقول هيدغر، فالكينونةُ(19) هي مبدئيًا أساسٌ(20-(21).
هذا الأخير، حسب هيدغر، مشتقٌّ من الـ»لوغوس» المُكتشَف في الفكر الإغريقي، والذي عرف، عبر تاريخ الميتافيزيقا، مُنعطفًا خطيرًا في معناه عندما أصبح يعني «العقل» بمعناه اللاتيني (ratio). هكذا أصبح مشروعُ الميتافيزيقا عبر تاريخها هو تحديدُ هذا «الأساس» والكشف عنه(22): الكينونةُ بما هي الكلُّ الشاملُ للخصائص العامة للكائنات هي الأساسُ الذي قامت وتأسَّست عليه هذه الكائنات. هكذا، من جهة، فالكينونة هي «مانحة الأساس» للكائنات؛ بيد أنّ الميتافيزيقا، من جهة أخرى، تدفعُ بالتفكير نحو البحث عن كائن أسمى باعتباره الأساس الأعلى، ومن ثمّ عن الكائن الأسمى بما هو الكائن الأعلى المُشكّل للكينونة باعتبارها كُلا. هكذا تُحيطُ الميتافيزيقا بالكينونة بما هي أساسٌ، وبالكائن(23) بما هو قائمٌ على هذا الأساس(24) ومُشكِّلٌ له باعتباره كُلا(25)، أو كما يصوغ ذلك هيدغر قائلا: ’’بما أنّ الكينونةَ تظهرُ بما هي أساسٌ، والكائن يظهر بما هو قائمٌ على هذا الأساس؛ فإنّ الكائن الأسمى، رغم ذلك، هو المُؤسِّس بالمعنى الذي تُفيده العلة الأولى‘‘(26). إنّ حلَقةَ القيام على الأساس من جهة وتشكيل هذا الأساس بما هو كلّ من جهة أخرى هي التي تشكّل الخاصية الأنطو-ثيولوجية للميتافيزيقا.
يؤكّد هيدغر أن هذا التحديد يشملُ كلَّ ميتافيزيقا دون استثناء، أي إنه ليس مجرد تمظهرٍ من تمظهراتها أو فتراتها التاريخية. وإذا كان هذا صحيحًا، فإنه يجب علينا تأويلُ كامل الفلسفة الإسلامية العربية طبقًا للخطّ الهادي لـ»الخاصية الأنطو-ثيولوجية للميتافيزيقا»، لأنها، بهذا المعنى، ليست سوى مجرد فترةٍ من تاريخ الميتافيزيقا يجب أن تُدرج داخل هذه الخاصية المُميّزة لكل ميتافيزيقا بما هي كذلك. بيد أن هذه المقاربة للفلسفة الإسلامية العربية، كما هو واضح، تبقى عقيمة ولن توصلنا إلى أي تجديد أو إبداع. هكذا فلكي نقبض على إمكانية جعل هذه المقاربة مثمرة، لا يتوجَّب علينا أن نُؤوّل هذه الفلسفة تأويلًا يقبل بإلزام هيدغر بصدد الميتافيزيقا دون مُساءلةٍ له، وإنما يتوجَّب علينا أن نعتمده فقط باعتباره مبدأ هاديًا يَلزمُ اختبارُ منفعته بالنسبة إلى بعض التمظهرات الخاصة للميتافيزيقا أو بعض فتراتها التاريخية.
إنّ خيرَ مثالٍ على إعمال طرح هيدغر بصدد الخاصية الأنطو-ثيولوجية للميتافيزيقا هو المقاربة الجديدة لتاريخ الفلسفة التي ظهرت في العقود القليلة الماضية مع باحثين فرنسيين مثل ريمي براغ(27) وجون-فرونسوا كورتين(28) وأوليفيي بولنوا(29). وهو ما سأحاول الوقوف عليه فيما سيأتي(30).
يرى هؤلاء أنه واجبٌ علينا أن نُميّز بين أشكال مختلفة أو صيغ أساسية للميتافيزيقا، وهو ما يجعل الخاصية الأنطو-ثيولوجية مجرّد صيغةٍ من هذه الصيغ، بل إن جون فرونسوا كورتين، ضمن آخرين، قد نفوا إمكانية الحديث عن أنطو-ثيولوجيا في الميتافيزيقا الأرسطية. ولكي يدافعوا عن طرحهم هذا تساءلوا عن مدى الوحدة الأصيلة التي يُشكِّلها علم الوجود وعلم الموجود الأسمى في نسق أرسطو؛ إذ رغم أنّ هذا الأخير ينعتُ الموجود الأسمى بـ «المحرّك الأوّل»، فإنه لا يعتبره علةً فاعلةً، وإنما علةً غائيةً فقط. هكذا فحلَقةُ القيام على الأساس من جهة وتشكيل هذا الأساس بما هو كلّ من جهة أخرى، كما فهمها هيدغر، لا تجد صياغةً كاملة عند أرسطو، وبالتالي فإنه لا يستقيمُ أن نصف الميتافيزيقا التي بلورها بأنها أنطو-ثيولوجية.
في تحديده لبنية الميتافيزيقا الأرسطية، يقتبس جون فرونسوا كورتين تعبيرَ ريمي براغ التي ينعت بها هذه البنية، أي تعبير «كاثولو-بروتولوجية»(31)، فما الذي تعنيه؟ تعني أنه لكي تُحدّد الفلسفة مميزات شيء ما تحديدًا عامًا (كاثولو)، فإنه يجب عليها أن تُوجِّه نظرها إلى حيثُ تتمظهرُ هذه المميزات تمظهُرًا جليًا، أي إلى «البدء» (بروتي باليونانية). يُعرّف فرونسوا كورتين البنية الكاثولو-بروتولوجية باعتبارها ’’القاعدةَ المتضمّنة في طريقة المقاربة التي ترومُ القبضَ على الخصائص الأساسية المشتركة لواقعٍ ما أو أكثر أو لجهة أنطولوجية ما، من خلال تركيز الاهتمام على الصورة أو الشكل البراديغمي الذي يُوفّر توفيرًا نموذجيًا هذه الخصائص الأساسية المُميّزة للمجال قيد السؤال‘‘(32).
هكذا يبدو أنّنا عندما نُحدِّد بنيةَ الميتافيزيقا الأرسطية بهذه الطريقة، فإننا لا يُمكن أن ننعتها بأنها أنطو-ثيولوجية، أما إذا فعلنا ذلك فإننا نكون قد ألحقنا بها خاصية لم تظهر، وفقط تدريجيا، إلا لاحقًا(33)، أي تاريخيًا على حد قول فرونسوا كورتين(34). بل إنّ هذه البنية الكاثولو-بروتولوجية، حسب فرونسوا كورتين وأوليفيي بولنوا، لا تزال حاضرةً بأتمّ معناها عند توما الأكويني (1224-1274) نفسه؛ إذ بالنسبة له، رغم أن الموجودات بعامة هي موضوع الميتافيزيقا، إلا أن هذه الموجودات تنحدّ فقط في الموجودات المخلوقة، أما وجود الله فيظلّ ممتنعا عن الفهم(35)؛ ورغم أن الميتافيزيقا ترتبطُ بالإله، إلا أنها لا تعتبره موضوعًا لها، فهي مقتصرة على دراسة الموجودات المتناهية فقط. أما طَرقُ سؤال الإله فلا يمكن تجنّبه إلا لأنّ حركة هذه الموجودات تستلزمُ علةً فاعلةً أولى، وهي ما يُسمّيها الجميعُ بالإله كما يقول الأكويني. من هذا المنظور إذن، فإن الميتافيزيقا التوماوية ليست بعدُ أنطو-ثيولوجية.
إنه فقط مع جون دونس سكوت (1266-1308)، كما يوضّح بولنوا، حيث أصبح الحديث مُمكنا لأول مرة عن الصيغة الأنطو-ثيولوجية للميتافيزيقا؛ إذ حسب دونس سكوت، فإن موضوع الميتافيزيقا (العامة(36)) هو الموجودُ بما هو كذلك، أي الإله الخالق والموجودات المخلوقة على حدٍّ سواء. هكذا يكون الإلهُ هو أحد مواضيع(37) الميتافيزيقا (العامة)، وهو ما لم تعرفه ميتافيزيقا الأكويني قطّ. يأخذ دونس سكوت مفهوم الوجود بما هو مفهوم واسع ورحب، فيُشير من خلاله إلى كلّ ما هو موجود، سواء ما هو متحقِّقُ الوجود بالفعل أو ما هو إمكانٌ محضٌ دون وجود(38) واقعي. هكذا فالميتافيزيقا العامة هي مذهب الموجود بما هو كذلك (aliquid في اللاتينية وti في الإغريقية). انطلاقا من هذا اللفظ الإغريقي صاغ بولنوا مفهوم «التينولوجيا»(39) إلى جانب «الكاثولو-تينولوجيا»(40) بما هما مُميّزين لهذا النمط الجديد من الميتافيزيقا الذي يجدُ بدأه مع سكوت(41)، وهو النمط الذي نقف معه لأول مرة، حسب بولنوا، على البنية الأنطو-ثيولوجية للميتافيزيقا(42).
إننا لواجدون أن بولنوا، ضمن آخرين، قد أخذَ على هيدغر قراءته للخاصية الأنطو-ثيولوجية للميتافيزيقا عند دونس سكوت ثم إسقاطها على تاريخ الميتافيزيقا بأكمله دون أي تبرير(43). وبقراءته هذه يكون هيدغر قد أخذ أفكار سكوت بما هي متصلة بأفكار الأكويني، وهو ما جعله غير قادرٍ على رؤية وإدراك المنعطف أو الثورة التي بدأها سكوت في تاريخ الميتافيزيقا(44). إنّ ما نريدُ أن نؤكد عليه هو أنّ هذا المثال الذي سقناه هنا يوقفنا على كيفية جعل أطروحات هيدغر، من قبيل الخاصية الأنطو-ثيولوجية للميتافيزيقا، مثمرةً إذا ما توسّلنا بها بما هي مبادئ مُوجِّهة وهادية، لكن بطريقةٍ نقديةٍ.
أعتقدُ أنه يُمكن لهذه المقاربة أن تُسعفنا كثيرًا من أجل تأويلٍ مجبولٍ بروح فكر هيدغر للفلسفة الإسلامية العربية؛ وذلك إذا ما استحضرنا أنّ طرحَ سكوت الجديد قد تأثّر بتأويل ابن سينا (980-1037) للميتافيزيقا الأرسطية. فما هو، إذن، هذا الضرب من الميتافيزيقا الذي نعثر عليه عند ابن سينا؟ كيف يربطُ ابن سينا بين علم الموجودات(45) وعلم الموجود الأسمى؟ للإجابة عن هذه الأسئلة يجب أن ننتبه إلى أنّ الموجود الأسمى، حسب ابن سينا، يختلف عن باقي الموجودات في كونه واجبَ الوجود. هكذا طوّر ابن سينا الخاصية الميتافيزيقية المُميّزة للإله التي وجدها عند أرسطو؛ إذ بينما باقي الموجودات هي مُمكنة الوجود فقط، أي كان بالإمكان ألا توجد، فإن الإله هو الموجود الوحيد التي يلزم وجوده عن ماهيته، ففيه وحده يتطابق الوجود مع الماهية.
نجدُ خلف هذا الفكر فهمًا خاصا للماهية والوجود يلزمُ البحثُ في أصوله ومنابعه؛ هل يجد هذا الفهمُ جذورَه في مذاهب إسلامية بعينها أم يجدها في خصائص مميزة للغة العربية بما هي كذلك؟ هنا يُمكن لطرح هيدغر أن يُسعفنا في تقصّي هذه المسألة؛ رغم أن هيدغر أوقفنا على مدى التحوّل الذي طرأ على المفاهيم الإغريقية بعد انتقالها إلى العالم الروماني وفَهمِها من داخل فكر هذا العالم، إلا أنه لا يَلزَم أن نحذو حذو هيدغر فنقول إن جميع هذه التحوّلات المفاهيمية قد وجب أن تكون انغلاقًا وتضييقًا وإفقارًا، إذ رغم صحّة أن المفاهيم معرضة لتحوّل في المعنى عند انتقالها إلى سياقات لسانية وثقافية مُغايرة عن سياقها الأصلي، فإنه لا يلزم عن ذلك أن يكون هذا التحوّل ضرورةً تضييقًا وإفقارًا، فقد يحدُث للمعاني التي تمّ كبتُها في السياق الأصليّ أن تظهر في السياق/ السياقات الجديدة، أي التي تمت إليها الترجمة. هكذا يُمكن لتحوّل المفاهيم أن يكون انفتاحًا لا انغلاقًا، توسيعًا لا تضييقًا، إغناءً لا إفقارًا. وهو ما قد يكون حال ابن سينا في تلقيه لمفاهيم أرسطو.
قدّمتُ موضوعتين من شأنهما أن تجعلا أفكار هيدغر مُثمرة في فهم تقليدنا الثقافي الخاصّ. الأولى تتعلّق بـ»الأنطو-ثيولوجيا»؛ أما الثانية فتتعلّق بالرابط بين اللغة والشعر، وهي موضوع حديثنا فيما سيأتي.
أوقفنا هيدغر على أن الفهمَ الذائع للغة، الفهم الذي يبدو واضحًا في ذاته ولا يحتاجُ إلى مساءلة، أي فهمُ اللغة بما هي أداة أو وسيلة يستعملها بنو الإنسان من أجل التواصل فيما بينهم وفهم بعضهم البعض، يجعلُ اللغة مستقلةً تمام الاستقلالية عن مضمون ما تُبلّغه، ما تقوم منه مقام الوسيلة، وهكذا تكون مجرّد بنية صورية لا أقل ولا أكثر. هذا الفهمُ هو الذي اعتبره هيدغر سطحيًا وغير ناضج بعد لكي يوقفنا على ماهية اللغة بما هي كذلك؛ فماهية اللغة ليست في كونها وسيلةً للتواصل أو التبليغ، بل إنّ هذه الخاصية لا تكاد تكون من هذه الماهية في شيء، إذ إنها ليست سوى نتيجة لها؛ فبعيدًا عن أن تكون اللغة مجرّد أداة في مُتمكّن الإنسان، فهي، عند هيدغر، ما يخلُق إمكانية أن يكون الواحدُ إنسانًا، هي التي تُمكّن الإنسان من أن يكون على ما هو عليه. حسب الفهم الرائج، فإن اللغة تأتي لكي تُسمّي الكائن الظاهر سلفًا، وبالتالي فمَهمّة اللغة، في ظل هذا الفهم، هي أن تمُدّ الكائن الظاهر والمعروف مُسبقًا بالكلمات. يُعارض هيدغر هذا الفهم قائلًا: ’’إنّ اللغة عندما تُسمّي الكائن لأوّل مرة، فإنها تجلبُه إلى الكلمة وإلى الظهور، لكي يتكلّم ويظهر، وفقط من خلال هذه التسمية يدخُل الكائنُ بيت كينونته انطلاقًا من هذه الكينونة نفسها‘‘(46)؛ ثم ’’بفضل اللغة، بفضلها وحدها فقط يحكُم العالم– كائناته‘‘(47).
’’إنّ ماهية اللغة، يقول هيدغر، تكمن في عملها بما هي قوةٌ مشكِّلةٌ للعالم، أي عندما تُشكّل قِبلًا كينونة الكائنات وتولجُها داخل البنية‘‘(48). لكن أين يحدُث هذا؟ يجيب هيدغر: إنه يحدُث في الشعر؛ إذ ’’عندما يتكلّم الشاعرُ بالكلمات الأساسية، فإن الكائن يتعيّن بما هو كائن عبر هذه التسمية، وهكذا يُصبح معروفًا باعتباره كائنا. إن الشعر هو الذي يصوغُ الكينونة من خلال التوسّل بالكلمة‘‘(49). يُمكن لهيدغر أن يقول بهذا المعنى إن ’’اللغة الأصلية هي لغة الشعر‘‘(50)، وفي توسّله بالشعر يؤكّد رفضه لفهم اللغة بما هي أداة. إن الشعر، حسب الفهم الرائج، ليس سوى نشاطٍ إبداعيّ يهدف من خلاله الشاعر أن يُشاركنا تجاربه الذاتية، أي إنه ليس سوى شكلٍ معين من اللغة يُستعمل عامة وفي الحياة اليومية. يرفض هيدغر هذا الفهم رفضًا باتًا، ويأخذ الشعر بما هو ’’ذلك النمط الخاص والمخصوص‘‘، على حدّ قوله، ’’الذي يُمكِّن كلَّ ما نتحدث فيه ونتعامل معه في اللغة اليومية من أن ينفتح ويظهر‘‘(51)؛ هكذا فالشعر لا يتوسّل باللغة القائمة بما هي مادةٌ للاستعمال الساذج والمبتذل نتوفر عليها مُسبقا، بل إن ’’الشعر، يقول هيدغر، هو الذي يجعل من كلّ لغةٍ لغةً مُمكنةً. إن الشعر هو اللغة الأولى، لغة البدء، لكل شعب تاريخي‘‘(52)؛ إن الشعر، طبقًا لهذا الفهم، ليس ترفًا يلهو به الخيال، كما أنه، قطعًا، ليس محسّنا أو زخرفا للواقع غايته تحصيل متعةٍ جماليةٍ ما؛ وإنما هو، على النقيض من ذلك، الذي يجعل عالم شعب تاريخي ما ينفتحُ أمامهم، فيستطيعون بالمقابل أن يفعلوا فيه فعلًا نشيطا.
طبعًا، يُمكن لهذه التأملات التي عرضناها هنا بصدد العلاقة بين العالم واللغة والشعر أن توضَع موضع تساؤل، كما أنه يُمكن الشك في ما إذا كانت جميع الحضارات التاريخية قد لعب فيها الشعر هذا الدورَ الأساسيّ والمُؤسِّس كما أوقفنا عليه هيدغر. بيد أنه بإمكاننا أن نترك هذه الملاحظة جانبًا ونقول إنّ ما أوقفنا عليه هيدغر في هذا الصدد يُمكن أن يحمل الكثير من المعنى لأي مقاربة تروم مقاربة الشعر العربي، خاصة الشعر الجاهلي، وإنه لجليٌّ أنه في هذا العصر، لم يكن يُنظَر إلى الشعر باعتباره تعبيرًا عن تجارب الشاعر وإيقاظًا لخبرات جمالية في نفس المتلقي، أي إنه لم يكن مُختزلًا في بُعده الجمالي فقط، وهو ما يُمكن أن نقف عليه بوضوح إذا ما استحضرنا ما كان يُنظَّم آنذاك من لقاءات جماعية يستعرض فيها الشعراء أشعارهم فينافسون بعضهم البعض من أجل تشريف قبائلهم، بل إنّ هذا هو ما عُبِّر عنه في أقوال مأثورة من قبيل: «الشعر ذاكرة العرب» و»الشاعر صوت قبيلته». كما أنه لا يجب أن ننسى، في هذا الصدد، أن الشعر الجاهلي قد ظلّ لأمد طويل المرجعَ الأساسي لكل المناقشات النحوية والمعجمية للغة العربية.
تجدر الإشارة هنا أيضا إلى كتاب الشاعر الجاهليّ والوجود(53) لباسم إدريس قاسم الذي خرّج المسألة فينومينولوجيًا؛ توسّل المؤلف بمفهوم هيدغر عن الوجود(54) مع إقامة تعديلٍ عليه، فعمل على الاشتغال بالمفاهيم والأفكار الأساسية الخاصة بتحليلية الوجود(55) مثل «الكينونة من أجل الموت»(56) و»الأصالة»(57) و»القلق»(58). توضح هذه الدراسة الكثير من السمات الأساسية للشعر العربي وتُفسّر وضعه بالنسبة للعالم العربي الجاهلي؛ كما توقفنا كذلك على الأثر المُحرِّر للشعر ودورِه في تعالي الشاعر نحو الوجود الأصيل(59)، وكذا مدى زخم المعرفة في الشعر ودوره في تحصيل الوعي الذاتي واكتشاف الوجود(60)؛ إلى جانب أنها توقفنا على أن الشاعر عندما يُعدّل من اللغة العادية/ اليومية، فإنه يُحرّرها من استعمالاتها العامة ويفتحُها على إمكانات جديدة ومختلفة(61). لكن، رغم كل هذا، فإن المؤلِّف لم يتوسّل كما يجب بأفكار هيدغر وتأملاته الغنية التي بدأت منذ أواسط الثلاثينيات، خاصة عن الفن واللغة والشعر، وهو ما حال دون جعل هذه الدراسة تامة على نحو مُرضٍ. على أيٍّ، فإني أعتقد أنه يُمكن أن نجني ها هنا ثمارًا كثيرة ونافعة إذا ما استلهمنا واهتدينا بهذه التأملات الغنية في فكر هيدغر بعد «المنعطف»(62).
إن موضوعتَي الأنطو-ثيولوجيا من جهة، والعلاقة بين اللغة والشعر من جهة أخرى، ليستا سوى مثالين على ما يُمكن أن نبحث فيه بالاستعانة بما فتح عليه هيدغر دون أن نعمل على التأكيد فقط على ما خلص إليه، وإنما، أساسًا، أن نتحرى ونختبر مدى إثماره ونجاعته، وهو ما قد يُؤدي -إذا لزم الأمر- إلى الحدّ من نتائج بعض ما وصل إليه هيدغر. إنه من أجل تحقيق تلقٍّ مُرضٍ لفكر هيدغر في العالم العربي، فإننا لا نحتاج إلى أية أرثوذكسية لهيدغر، وإنما إلى انخراطٍ وحوارٍ معه يحفظ «الأشياء ذاتها» في مجال الرؤية، لا يحجُبها عن الرؤية.
الهوامش
هذه ترجمةٌ لمداخلة البروفسور إسماعيل المصدق التي ألقاها باللغة الألمانية في الندوة التي عُقدت بجامعة بيرن بتاريخ 02-04 نوفمبر 2016، تحت عنوان: ‹›هيدغر في العالم الإسلاميّ››، ونُشرت، مترجمةً إلى الإنجليزية، ضمن الكتاب الجماعي الذي خُصّص للندوة:
انظر:Ismail El Mossadeq، «Against Heidegger-Orthodoxy in the Arab World»، in: Moser، Kata & Gösken، Urs & Hayes، Josh (eds). Heidegger in the Islamicate World، (London-New York : Roman & Littlefield، 2019).
انظر أيضاَ تقريرًا عن الندوة أعدّه سيلفان كاميلري الذي كان أحد المشاركين فيها أيضًا:
Sylvain Camilleri، « ‹›Heidegger in The Islamicate World››. Chronique du colloque de Berne، 2-4 novembre 2016 »، in : Bulletin Heideggérien، No7 (2017)، pp. 8-16.
وأشير إلى أنّ العنوان الأصليّ للمداخلة هو: ‹›هيدغر في العالم العربيّ›› (Heidegger in der arabischen Welt)، وقد أُجري عليه تعديل في الترجمة الإنجليزية، كما قمنا، نحن أيضًا، بإجراء تعديل عليه على صيغة إضافةٍ تُبيّن مسعى المقالة الأساسيّ. (المترجم)
أشكُر أستاذي البروفيسور كلاوس هِلد (Klaus Held) على مراجعته وضبطه لهذه المقالة.
Existenzialanalytik.
يكتب بدوي: ’’ولم أكن أعرف لسارتر قبل سنة 1945 أي علاقةٍ بالوجودية. لقد قرأت له قبل ذلك كتابه الأوّل في علم النفس وعنوانه: ‹›التخيّل›› (سنة 1936)، ومقالًا عن ‹›علو الأنا›› […] ولا صلة لكليهما بالوجودية، بل هو تأثَّر فيهما بعلم النفس عند هسرل. وأول كتابٍ لسارتر في الوجودية هو كتابه: ‹›الوجود والعدم›› (سنة 1943)، ولم أشاهده ولم أقرأه، إذن إلا في باريس في صيف سنة 1946 لما أن زرتُ باريس لأول مرة. ولما قرأته وجدته بعيدًا كل البعد عن وجودية هيدجر، وخليطًا من التحليلات النفسية. فدهشت من زعم سارتر وحوارييه أنّ هذا الكتاب هو إسهام في المذهب الوجودي، خصوصًا في الأنطولوجيا (=علم الوجود). ومنذ قراءتي له لم أشعر نحو سارتر بأي تقديرٍ من الناحية الفلسفية. وعددتُه مجرد أديب، وباحث نفساني يستند إلى منهج الظاهريات‘‘.
عبد الرحمن بدوي، سيرة حياتي، ج. 1، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000)، ص. 183-184.
بيد أن هذا لا يعني أنه ليس هناك بعض الاستثناءات، فمثلا هناك ترجمة عبد الغفار مكاوي: نداء الحقيقة (القاهرة: دار الثقافة للطباعة والنشر، 1976)، حيث قدّم مكاوي ترجماته هنا بتقديمٍ شامل وملخص لفكر هيدغر وموضوعاته الأساسية.
Was ist Metaphysik?
Was ist das – die Philosophie?
Die Kehre
انظر: Daryush Shayegan، ‹›Heidegger en Iran، in››: Le Portique، 18/2006، mis en ligne le 15 juin 2009. URL: https://journals.openedition.org/leportique/817
انظر مثلًا: Martin Heidegger: Sein und Zeit، Max Niemeyer Verlag، 16، Auflage، Tübingen 1986، S. 214; Grundprobleme der Phänomenologie، Gesamtausgabe Bd. 24، hrsg. von W.-F. von Herrmann، Klostermann Verlag، 2. Auflage، Frankfurt a. M. 1989، S. 113; Grundbegriffe der Metaphysik. Welt – Endlichkeit – Einsamkeit، Gesamtausgabe Bd. 29/30، hrsg. von W.-F. von Herrmann، Klostermann Verlag، Frankfurt a.M. 1983، S. 65; Grundfragen der Philosophie. Ausgewählte «Probleme» der «Logik»، Gesamtausgabe Bd. 45، hrsg. von W.-F. von Herrmann، Klostermann Verlag، Frankfurt a.M. 1984، S. 221.
في هذا السياق يُؤاخذ أوليفيي بولنوا هيدغر على تجاهله التام للشروح والتأويلات العربية في فهمه للميتافيزيقا، إذ يكتُب:« L›interprétation heideggérienne de la philosophie médiévale est incomplète dans la mesure où elle n›a jamais considéré pour lui-même le complexe des interprétations arabes de la métaphysique ]…[ L›intégration de cette dimension aurait également permis à Heidegger de voir le poids du néoplatonisme dans la tradition occidentale de la métaphysique ».
Olivier Boulnois، ‹›Heidegger، l›ontothéologie et les structures médiévales de la métaphysique››، in: Le Philosophoire، 3/1999 (n° 9)، p. 27-55.
http://www.cairn.info/revue-le-philosophoire-1999-3-page-27.htm، p. 53.
Martin Heidegger. Reden und andere Zeugnisse eines Lebensweges، Gesamtausgabe Bd. 16، hrsg. von Hermann Heidegger، Frankfurt a.M. 2000، S. 742-743.
في دراسته Heidegger und der Mythos der jüdischen Weltverschwörung (Frankfurt am Main: Vittorio klostermann، 2014)، يُدافع بيتر ترافني عن الأطروحة التي أثارت جدلا كبيرا حول أننا نجد عند هيدغر كينونةً تاريخيةً معاديةً للسامية.
Menschsein
Art des Seins
Gefahr
Welt، Sprache und Dichtung
Martin Heidegger، Identität und Differenz، 11. Auflage، Stuttgart 1999، S. 47.
Sein
Grund
Ibid.، S. 48.
Ibidem.: «Das Sein des Seienden entbirgt sich als der sich selbst ergründende und begründende Grund».
Seiende
Gegründete/ Grounded
Martin Heidegger، Identität und Differenz. S. 48.
Ibid.، S. 63.
Rémi Brague
Jean-François Courtine
Olivier Boulnois
درس الفيلسوف László Tengelyi هذه المقاربة جيدا. وسأعتمد فيما سيأتي على تفسيراته. انظر: László Tengelyi، Welt und Unendlichkeit. Zum Problem phänomenologischer Metaphysik، Verlag Karl Alber، Freiburg / München 2014، S. 25-168.
Rémi Brague، Aristote et la question du monde. Essai sur le contexte cosmologique et anthropologique de l›ontologie، Paris، 1988، pp. 110، 194، 271، 351، 513.
Jean-François Courtine، Les catégories de l›être. Etudes de philosophie ancienne et médiévale، Paris، 2003: « la règle implicite d›une démarche qui prétend saisir les traits communs fondamentaux d›une réalité، d›un ensemble de réalités ou d›une région ontologique en portant prioritairement son attention sur la forme ou la figure paradigmatique en laquelle se recueillent exemplairement les principaux traits caractéristiques du domaine en question ». p. 192-193.
Ibid.، p. 191-192.
Ibid.، p. 192.
Verstand
Allgemeinen/ General
Gegenständen
Existenz
Tinologie
Katholou-Tinologie
Olivier Boulnois، Heidegger، l›ontothéologie et les structures médiévales de la métaphysique، p. 46.
Ibid. : « Le dédoublement de la métaphysique en ontologie et théologie n›est donc pas l›essence de la métaphysique comme tel. Il a une histoire، et le concept d›ontothéologie doit lui-même être historicisé ». p. 53.
وهو ما سبق لآلان دوليبيرا أن قاله. انظر:
Alain de Libera، La philosophie médiévale، col. Que sais-je، 5. édition، Paris، 2001، pp. 72-73.
وقد أكد كتاب آخرون على دلالة هذا المنعطف، فلودغر هونّيفيلدر مثلا قد ناقش البدء الثاني للميتافيزيقا مع دونس سكوت وأكذّ على الدور الحاسم الذي لعبته في تلقي الميتافيزيقا في العصور الحديثة وفي النقود الحديثة للميتافيزيقا كذلك.
انظر: Ludger Honnefelder، Der zweite Anfang der Metaphysik. Voraussetzungen، Ansätze und Folgen der Wiederbegründung der Metaphysik im 13./14. Jahrhundert، In: Jan P. Beckmann، Ludger Honnefelder، Gangolf Schrimpf und Georg Wieland (Hrsg.): Philosophie im Mittelalter. Entwicklungslinien und Paradigmen، Hamburg، 1987، S. 165-186.
Seienden
Ludger Honnefelder، Der zweite Anfang der Metaphysik. Voraussetzungen، pp. 165-186.
Martin Heidegger، Logik als die Frage nach dem Wesen der Sprache، Gesamtausgabe Bd. 38، hrsg. von Günter Seubold، Frankfurt a. M. 1998، S. 168.
Martin Heidegger، Logik als die Frage nach dem Wesen der Sprache، S. 170.
Ibid.، S. 41.
Ibidem.
Martin Heidegger، Erläuterungen zu Hölderlins Dichtung، S. 43.
Ibidem.
قاسم، باسم إدريس. الشاعر الجاهلي والوجود. دراسة فلسفية ظاهراتية. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014).
Existenz
Existenzialanalytik
Sein zum Tode
Eigentlichkeit
Angst
Martin Heidegger، Erläuterungen zu Hölderlins Dichtung، S. 103.
Ibid.، S. 111، 112.
Ibid.، S.157.
Kehre